sona78
11/09/2008, 12:23
قالت محدثتي المستعربة:
يبدو أن لغتكم تعاني من ضمور في صياغة المستقبل، مقارنة بالفرنسية مثلا، التي تعجّ بتصاريف عديدة لتحديد المستقبل (مباشر، قريب، بعيد، بسيط، شرطي..) فلولا "سوف وابنها سين التسويف" لأصبح المستقبل العربي في خبر "كان" ثم أضافت بدعابة ساخرة: وماذا تفعلون بالمستقبل، مادمتم تملكون "إنشاء الله".
لا أنكر أن هذا الحوار الطريف استفزني، وبدأت أقلب الذاكرة عن تصاريف لغوية لزمن المستقبل، وكان الأمر عبثيا وسخيفا، ففي لهجاتنا المحكيّة!! تبدو الحالة أشد بؤسا ومرارة، وكأن تلك اللهجات، تبرأت حتى من "سوف وابنها سين"!! فاللهجة المصرية ابتكرت دينامية خاصة للتعبير بإدغام "حـ" (حـ نقول، حـ نمشي، نأكل..) والشامية ألزمت الفعل بـ "راح نأكل" راح نروح.. إلخ ماعدا ذلك تصبح لغتنا خرساء. حتى عبارة (إنشاء الله) التي تملك شحنة مستقبلية للتعبير، فدلالتها، متلوّنة وحربائية، وذات طبقات دلالية مركّبة؟
إنشاء الله، تعني الهيمنة اللاهوتية على المستقبل، والإيعاز بتركه إلى مقدر الأقدار، الذي لن يصيب إلا بما كتب. والحديث عن المستقبل هو مادة للمنجمين وراجمي الغيب، والتحكم فيه وتقريره هو اعتداء سافر على المشيئة الإلهية!! من هنا تقول كتب الرياضيات الوهابية: الخطان المستقيمان المتوازيان لا يلتقيان إلا بمشيئة الله؟لكن الحياة العملية، والتكرار، جعل من العبارة، لازمة لغوية، تعني في أحسن الأحوال: (لا شيء). وأحيانا تعني الرفض المؤدب، أو التهرب من المسؤولية، وهنا تمارس لغة الضاد، وظيفتها كأداة للتمويه والمخادعة، وتتستر على الكسل والعشوائية، بمزيد من التوكّل والتثاؤب.هذا عن الطبقات الأركيولوجيا القديمة "لإنشاء الله"، لكن الحقبة الأخيرة، قامت بتسييس العبارة، ومنحها مسبحة الصلاة، وزجّها ضمن مفردات الصحوة وفي قواميس بنوك النهب الحلال.
لقد صعقت في زيارتي الأخيرة للقاهرة، فإنشاء الله أصبحت تحشر نفسها في كل مكان، وأذكر أني سألت صاحب كشك لبيع الصحف والكتب عن مكان الفندق الذي أضعت طريقه. أجابني (بعد أن مسح لحيته بيده، وصلّى وسلم وتعوّذ وشكر وحمد): على اليمين إنشاء الله؟لا أدري، قلت في نفسي سأتذرع ببعض البلاهة، كوني سائحا غريبا، وأثرثر معه، ما استطعت سبيلا قلت:
لماذا على اليمين إنشاء الله؟ فإما أن يكون على اليمين أو لا يكون تلك هي المسألة (عذرا لشكسبير) ولا أظن أن الله سينقل مكان الفندق إلى شارع آخر؟ابتسم الرجل بمكر، وأحس من هندامي وبحلقتي المستمرة في عناوين كتبه، بأني زبون افتراضي (وصيد ثمين) ومهما بلغت التقوى والعفة والورع، فإن الإنسان لا يريد أن ينام بمعدة خاوية، والدين الذي يدل على تجارة تنجي من عذاب أليم، أصبح دكانا لتجارة تنجي من أمور أخرى.
قال الرجل (بعد أن اختصر ابتسامته وأعاد زبيبته المزدوجة إلى مكانها الطبيعي):
إن الله قادر على كل شيء يا أخي، ولو أراد أن ينقل الفندق لفعل؟
قلت له بخبث: أنت متأكد أن الفندق على اليمين؟ أم أن الله نقله إلى شارع آخر !؟
أجاب: بالتأكيد هو على اليمين، ولم ينقله أحدقلت له: وما أدراك أن الله لم ينقله إلى شارع آخر! أليس هذا تدخلا بمشيئة الله ورجما بالغيب؟شيئا فشيئا، ازدادت أريحية الرجل، وازداد ثقة، ومرحا، وأخذ يعرض أمامي بعض الكتب المفقودة في الأسواق، وما يخفيه الباعة من كتب الملاحدة الملاعين، وبالصدفة وقع نظري على عنوان فقررت أن أشتريه، وعندما سألته عن السعر قال لي: ستون جنيها إن شاء الله.
نادر قريط
يبدو أن لغتكم تعاني من ضمور في صياغة المستقبل، مقارنة بالفرنسية مثلا، التي تعجّ بتصاريف عديدة لتحديد المستقبل (مباشر، قريب، بعيد، بسيط، شرطي..) فلولا "سوف وابنها سين التسويف" لأصبح المستقبل العربي في خبر "كان" ثم أضافت بدعابة ساخرة: وماذا تفعلون بالمستقبل، مادمتم تملكون "إنشاء الله".
لا أنكر أن هذا الحوار الطريف استفزني، وبدأت أقلب الذاكرة عن تصاريف لغوية لزمن المستقبل، وكان الأمر عبثيا وسخيفا، ففي لهجاتنا المحكيّة!! تبدو الحالة أشد بؤسا ومرارة، وكأن تلك اللهجات، تبرأت حتى من "سوف وابنها سين"!! فاللهجة المصرية ابتكرت دينامية خاصة للتعبير بإدغام "حـ" (حـ نقول، حـ نمشي، نأكل..) والشامية ألزمت الفعل بـ "راح نأكل" راح نروح.. إلخ ماعدا ذلك تصبح لغتنا خرساء. حتى عبارة (إنشاء الله) التي تملك شحنة مستقبلية للتعبير، فدلالتها، متلوّنة وحربائية، وذات طبقات دلالية مركّبة؟
إنشاء الله، تعني الهيمنة اللاهوتية على المستقبل، والإيعاز بتركه إلى مقدر الأقدار، الذي لن يصيب إلا بما كتب. والحديث عن المستقبل هو مادة للمنجمين وراجمي الغيب، والتحكم فيه وتقريره هو اعتداء سافر على المشيئة الإلهية!! من هنا تقول كتب الرياضيات الوهابية: الخطان المستقيمان المتوازيان لا يلتقيان إلا بمشيئة الله؟لكن الحياة العملية، والتكرار، جعل من العبارة، لازمة لغوية، تعني في أحسن الأحوال: (لا شيء). وأحيانا تعني الرفض المؤدب، أو التهرب من المسؤولية، وهنا تمارس لغة الضاد، وظيفتها كأداة للتمويه والمخادعة، وتتستر على الكسل والعشوائية، بمزيد من التوكّل والتثاؤب.هذا عن الطبقات الأركيولوجيا القديمة "لإنشاء الله"، لكن الحقبة الأخيرة، قامت بتسييس العبارة، ومنحها مسبحة الصلاة، وزجّها ضمن مفردات الصحوة وفي قواميس بنوك النهب الحلال.
لقد صعقت في زيارتي الأخيرة للقاهرة، فإنشاء الله أصبحت تحشر نفسها في كل مكان، وأذكر أني سألت صاحب كشك لبيع الصحف والكتب عن مكان الفندق الذي أضعت طريقه. أجابني (بعد أن مسح لحيته بيده، وصلّى وسلم وتعوّذ وشكر وحمد): على اليمين إنشاء الله؟لا أدري، قلت في نفسي سأتذرع ببعض البلاهة، كوني سائحا غريبا، وأثرثر معه، ما استطعت سبيلا قلت:
لماذا على اليمين إنشاء الله؟ فإما أن يكون على اليمين أو لا يكون تلك هي المسألة (عذرا لشكسبير) ولا أظن أن الله سينقل مكان الفندق إلى شارع آخر؟ابتسم الرجل بمكر، وأحس من هندامي وبحلقتي المستمرة في عناوين كتبه، بأني زبون افتراضي (وصيد ثمين) ومهما بلغت التقوى والعفة والورع، فإن الإنسان لا يريد أن ينام بمعدة خاوية، والدين الذي يدل على تجارة تنجي من عذاب أليم، أصبح دكانا لتجارة تنجي من أمور أخرى.
قال الرجل (بعد أن اختصر ابتسامته وأعاد زبيبته المزدوجة إلى مكانها الطبيعي):
إن الله قادر على كل شيء يا أخي، ولو أراد أن ينقل الفندق لفعل؟
قلت له بخبث: أنت متأكد أن الفندق على اليمين؟ أم أن الله نقله إلى شارع آخر !؟
أجاب: بالتأكيد هو على اليمين، ولم ينقله أحدقلت له: وما أدراك أن الله لم ينقله إلى شارع آخر! أليس هذا تدخلا بمشيئة الله ورجما بالغيب؟شيئا فشيئا، ازدادت أريحية الرجل، وازداد ثقة، ومرحا، وأخذ يعرض أمامي بعض الكتب المفقودة في الأسواق، وما يخفيه الباعة من كتب الملاحدة الملاعين، وبالصدفة وقع نظري على عنوان فقررت أن أشتريه، وعندما سألته عن السعر قال لي: ستون جنيها إن شاء الله.
نادر قريط