-
دخول

عرض كامل الموضوع : عَصرُكَ يا ابن باز


sona78
20/09/2008, 12:43
سعوديّون يشاهدون برنامجاً دينيّاً في الرياض خلال شهر رمضان (أرشيف ــ رويترز)قد يُقال إن عبد العزيز ابن باز هو مجرّد رجل واحد، وإن موته خفّف من تأثير فتاواه. ينسى القائلون هؤلاء أن المدارس الإسلاميّة حول العالم تتبع مناهج دراسيّة مبنيّة على تفسيره وفتاواه. وهو كان لا يعتمد من كتب الفقهاء إلا على فتاوى ابن تيميّة وابن القيّم الجوزية، وكلاهما من غلاة التزمّت

أسعد أبو خليل*
عبد العزيز ابن باز: لم نأخذ هذا الرجل على محمل الجد. لم نأخذ خطر السعوديّة الوهابيّة على محمل الجد. كانوا يُمثّلون التعصّب والتزمّت والانغلاق. كان في القرن العشرين بوادرُ لانفتاح وتنوّع وعلمانيّة وتحرّر المرأة، قبل أن ينجحَ الملك فيصل في محاربتها بعد هزيمة 1967 الشنيعة. شعاراتُ المرحلة كانت تقدّمية وتحرّرية وتنويريّة. وكانت الوهابية السعودية متقهقرة وفي موقع الدفاع. لم يستحوذوا على قلوب الناس وعقولهم، وانزووا في خندق الدفاع عن موقع أميركا والاستعمار في الحرب الباردة. في عقدي الخمسينيات والستينيات (حتى هزيمة 1967)، وجدت السعودية صعوبةً في شراء الصحف والضمائر. وحدها جريدة «الحياة» البيروتيّة ماشت السياسة السعودية في المنطقة، ولم تحِدْ. جمال عبد الناصر لم يكن في موقع المنازعة مع نظام كان يُنظر إليه كمخلّفات القرون الوسطى. كانت الأحزاب العربيّة (المُخلصة منها والكاذبة) تتنافس في تقديم برامج التطوّر والنمو والتحديث وحتى التنوير. أما شيوخ النفط وشيوخ الوهابية فكان يُنظر إليهم مثل النظر إلى أصحاب الطرابيش آنذاك (يجب أن نَرجع إلى مقالة جبران خليل جبران عن الاستقلال والطرابيش)، وكانت السخرية من هؤلاء الشيوخ لازمةً في الأدب السياسي العربي وحتى في كلام المقاهي. هذا ما عناه ياسين الحافظ في اصطلاحه عن «الشخبوطية» في الصعود السياسي السعودي: كان يُدلِّل على إيغالِهم في الرجعيّة (يحاول بعض ليبراليّي الإعلام السعودي اليوم أن يستعينوا بتراث ياسين الحافظ لتعزيز مواقف السلفية «الوسطيّة»، والحديث عن السلفية الوسطيّة هو مثل الحديث عن السباحة الجافة). لكن المفتي السعودي عبد العزيز بن باز (الذي لم ينحدر من آل الشيخ، أي من سلالة مُؤسِّس الوهابية) كان بارزاً جداً في الحكومة السعودية منذ البداية. هو الذي بلور وهابيّة القرن العشرين التي لا نزال نرزح تحت وطأتها في القرن الحادي والعشرين. قاضٍ سعودي يقول قبل أسبوع إن قتل أصحاب المحطات التلفزيونيّة «الضالّة» جائز. استرشدَ كما يسترشد فقهاء الظلامية والتحجّر بابن باز.
هناك مشهد لافت من الستينيات: الملك فيصل يحضر حفل افتتاح تبرّعات لجامعة الملك عبد العزيز، لكنه يلاحظ حضورَ الشيخ عبد العزيز بن باز فيقول: «وأنتهز هذه الفرصة لوجود الأخ الأكبر... الشيخ عبد العزيز بن باز... أعتبره والداً لي... وإن على عاتق الشيخ عبد العزيز بن باز مهمة جليلة ومسؤولية كبيرة في ما يقوم به من أعمال لخدمة الإسلام والمسلمين، ليس في هذه البلاد فقط، ولكن في جميع بلاد العالم الإسلامي. وإنني أتقدم إليه راجياً أن يتحفَنا ولو بكلمتيْن في هذه المناسبة السعيدة» («البلاد»، 16 تشرين الأول، 1964). هذا كان تأثير ابن باز على فيصل. الملك فهد وصفه عند وفاته بـ«أعز الناس»، وكان يناديه بـ«الوالد». (روى لي سفير أميركي سابق في السعوديّة أن الملك عبد الله يحرص على عدم التدخين في العلن حرصاً على تعاليم ابن باز). وها نحن نتبيّن تأثيره اليوم أكثر من أي يوم آخر. العصر عصره، والزمان زمانه، وفتاواه تنهال علينا من كل حدب وصوْب، وهي تستهدف الفرد، وتهجسُ بالتضييق المتزايد على المرأة. ويحاول الإعلام السعودي أن يشغلَنا بشاشات الروتانا والسوقيّة والابتذال، لعلّنا نغفر لهم فتاوى التزمّت. يتذاكون، بكلام آخر، وعلى قناة أخرى.
وابن باز مَثَّل الوهابيّة التي أسَّسها محمد بن عبد الوهاب، وزاد عليها تَعصّباً وتزمّتاً وانغلاقاً ومعاداة للمرأة. تبوَّأ منصب القضاء في سنّ السابعة والعشرين، ما أهَّله ليصدر كمّية من الفتاوى ترزح تحت تأثيرِها أجيالٌ من بعده، في السعودية وفي تلك الدول التي توالي الوهابية في إسلامها مقابل أكثر من حفنة من الدولارات ـــــ مثل الأزهر، التي حاول محمد عبده ومن بعده جمال عبد الناصر إصلاحه. يستحقّ عبد الناصر الثناء لتبنّيه نموذجاً إصلاحياً ومُنفتحاً للإسلام، وخصوصاً في قضايا المرأة وما سمَّته الزميلة مرفت حاتم «نسويّة الدولة»، من دون أن يتبنّى المرء بالكامل البرنامج الناصري. ابن باز المُتطرّف، تَطرّفَ في التطرّف الوهابي، وجعله ديناً رسمياً للبلاد وعماداً لسياسة نشر الدعوة حول العالم بالتحالف (الرجعي) مع الولايات المتحدة. كَنّ أسامة بن لادن شديدَ الاحترام له، وما انتقدَه (وبلطف) إلا مُتأخراً. قال ابن باز بإهمال كل المذاهب السنيّة، ونفى في حديث نادر لمجلة «المجلة» السعودية أن يكونَ قد حلّل تقليد الحنابلة «أو غيرهم». قال بالعودة إلى الحديث، والتفسير له. وكلما تَزمّت التفسير وكلما تَطرّفَ التأويل، تناسبَ مع فكره وهواه. وكان لا يميل إلى كتب الفقه، واعترف بأنه لم يُكمل قراءة سنن أبي داوود وابن ماجة وحتى مسند الإمام أحمد. يكتفي بالقرآن والسنّة، كما كان يقول ويُكرّر. واعترض على تعليم المذاهب الأربعة في الإذاعة لأنها تؤدي إلى «التقليد الممقوت» (ص. 349 من كتاب «جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز»).
تأثيرات الفقه الموالي للسلطان

قد يكون ابن باز من ألدّ أعداء المرأة في القرن العشرين. كان في ما يكتب ويصرّح ويخطب ويُفتي في موضوع المرأة يبدو متقزّزاً منها. أي إنها كانت كلّها عورة في نظره، وهذا يفسّر عداوة المرأة المُقنَّنة في مملكة القهر السعودي، وهي تظهر في إعلام التزمت الديني السعودي، في إعلام الإباحية السعودية التي تُسلِّع المرأة. قال ابن باز في حديث مع جريدة «عكاظ»: «أما نشر صور النساء على الغلاف أو في داخل المجلات أو الصحف، فهذا منكر عظيم وشر كبير يدعو إلى الفساد والباطل، وهكذا نشر الدعوات العلمانية المضلة أو التي تدعو إلى ما حرّم الله، فكل هذا منكر عظيم».
ويمكن ردّ البرنامج المُعاصر للفتنة بين السنّة والشيعة التي أصبحت سياسة سعوديّة رسميّة (بمباركة أميركية في البداية مع أن الولايات المتحدة، قياساً بنموذج طرابلس، وَعت المحاذير التي تتحكَّم في عمليّة إطلاق الفتنة لسهولة خروج السلفيّة عن السيطرة)، إلى العقيدة الوهابية، وإلى فتاوى ابن باز (المُعتمدة على فتاوى ابن تيميّة) بصورة محدّدة. فالانغلاق الوهابي لم يكن عرضياً، أو موقفاً مؤقّتاً، بل كان مدروساً ومُباركاً من المؤسّسات الدينيّة في المملكة. وابن باز أفتى بأن «التقريب بين الرافضة وأهل السنّة غير ممكن، لأن العقيدة مختلفة... كما أنه لا يمكن الجمع بين اليهود والنصارى والوثنيّين وأهل السنّة، فكذلك لا يمكن التقريب بين الرافضة وأهل السنة لاختلاف العقيدة التي أوضحناها». («مجموع فتاوى ومقالات متنوعة»، جزء خامس).

ومن تأثيره القشريّة، أو تقديم الفروع على الأصول في الدين. وكان عندما يُسأل عن سبب عدم تمشيطه للحيته الكثّة يقول: «أخشى أن يسقط منها شيء»، وفي هذا مخالفة للسنّة في رأيه. وقد أفتى، مثلاً، بعدم جواز لبس المرأة للكعب العالي: «لبس الكعب العالي لا يجوز لأنه يعرّض المرأة للسقوط، والإنسان مأمور شرعاً بتجنّب الأخطار... كما أنه يظهر قامة المرأة وعجيزتها بأكثر مما هي عليه، في هذا تدليس وإبداء لبعض الزينة التي نُهيت عن إبدائها المرأة المؤمنة...». (فتوى رقم 1678 مثبتة في كتاب صالح الورداني، «فتاوى ابن باز»). وقد نهى عن لبس ما هو من «سيما الكفار» (فتوى رقم 1620). أما في موضوع الحجاب، فكان واضحاً في رسالته في «السفور والحجاب» عندما أفتى بأن وجه المرأة وكفّيها «عورة». وفي قضايا الزواج والطلاق، لم تؤثّر فيه العاطفة على ما روت سيرة هاغيوغرافيّة عنه: «وربما قال الزوجان: عندنا أولاد، فيقول: ولو كانو مئة، لن يضيعوا... وربما قالت الزوجة: سأموت، فيقول: الموتى قبلكم كثير، طاعة الله، وحكمه مقدم». (ص. 289 من سيرة بن باز). وقد وضع ابن باز كتيّباً خاصاً لتحريم التصوير.
وكان في دعواه هذه يحضّ المسلمين (المسلمات عورات في نظره) على هجر بلاد «الشرك» والعودة إلى بلاد المسلمين. كان في هذا لا يزال يدور في إطار الفهم القديم للفصل بين دار الإسلام ودار الحرب (التي يرى بعض المستشرقين ـــــ مثلهم مثل البن لادنيّين ـــــ أنها لا تزال تتحكم في طبيعة العلاقات الدوليّة بين المُسلمين وغيرهم). لا مكان للعلم في فقه ابن باز: كانت الرقية بديلاً من الطب عنده، وكان «سماحته كثيراً ما يرقي نفسه، وينفث على موضع الألم في جسده» (ص. 511 من سيرته). وكان في بعض فتاواه يستقي من عادات الوثنيّة الجاهليّة، مثل الدعوة إلى الغفران عند احتباس المطر. ولا ندري كيف يوفِّق آل سعود بين احتفالهم بعيدهم الوطني وإصرار ابن باز الفقهي على أنه «ليس للمسلمين أعياد سوى الأعياد التي شرَّعها الله لبعاده» (ص. 346 من سيرته). لكن متى كان آل سعود يتعثّرون أو يسترشدون بالدين أو المنطق أو العلم في سياساتهم؟
إن ابن باز هو المسؤول عن الترويج (المدعوم بالمال النفطي) لثقافة التزمُّت والانغلاق والتحجّر والكآبة. وهو الذي حَذّر «من حضور مجالس اللهو والغناء، وسماع الإذاعات الضارة، مجالس القيل والقال»، وأضاف: «وأشدّ من ذلك وأضرّ حضور مجالس السينما، وأشباهها، مشاهدة الأفلام الخليعة، الممرضة للقلوب، الصادّة عن ذكر الله، وتلاوة كتابه، الباعثة على اعتناق الأخلاق الرذيلة، وهجر الأخلاق الحميدة». (النصّ موجود في كتاب «سيرة ابن باز») هذه بالضبط هي الثقافة التي يعمل آل الحريري (عن قصد أو عن غباوة أو عن استهتار) على جلبِها إلى لبنان، ونذكر الحملة التي قادها فقهاء قريطم ضد أغنية لمارسيل خليفة هي قصيدة لمحمود درويش. هم زملاء لحارقي الكتب في الأزهر، الذين يسكتون عن معاناة شعب فلسطين وعن مشاركة حكومة الرئيس المُحنّط في شرم الشيخ في حصار غزة، يتلهّون عوضاً عن ذلك في رصد الكتب التي تتضمّن فكر العلمانيّة والتنوير والفكر النسوي، وفي إثارة حماسة الجماهير ضد الرسوم الكرتونيّة الوافدة من الدنمارك.
كان ابن باز فعّالاً في الحرب الباردة باللغة العربيّة والإسلاميّة حول العالم. هو الذي كان يُفتي ضد «المذاهب الهدّامة» في إشارته إلى فكر اليسار والفكر التنويري بصورة عامّة. وهناك كلمة أجنبيّة من أصل لاتيني (والجذر يعني حجب النور) تُترجم عادة عندنا بـ«الظلاميّة»، وهي إشارة إلى معاداة فكر (وحتى عصر) التنوير، وهذا ينطبق بحذافيره على الوهابيّة السعودية التي تنفرُ من التقدّم والتطوّر، حتى بالشكل، وهي في ذلك تتفق مع ظلاميّات المسيحيّة واليهوديّة. وكان الكاتب المصري أحمد بهاء الدين قد اتهم ابن باز في الستينيات بنفي كرويّة الأرض، بناءً على مقالة كتبها الأخير. لكن ابن باز في ردِّه على أحمد بهاء الدين قال إنه لا يقول «بنفي ولا إثبات» كرويّة الأرض، إلا أنه كرّر معزوفته المعهودة (وهي المعزوفة المطابقة لخطاب الملك فيصل) عن المذاهب الهدّامة وعن الاشتراكيّين و«إمامهم (ماركس) اليهودي الملحد». (راجع الردّ في موقع ابن باز الرسمي على الإنترنت). لكن ابن باز كان صريحاً في نفيه لدوران الأرض، وهو يزعم أنه يثبتُ ذلك بالقاطع. أما ما نُشر عن نفيه لهبوط الإنسان على سطح القمر، فالواقع أن ابن باز انتظر الدليلَ (أي دليل هبوط الإنسان على سطح القمر) طوال حياته.
لكن فائدة ابن باز لآل سعود كانت سياسيّة بامتياز. هو الذي قال إن طاعة الأمير واجبة («ومن أطاع الامير فقد أطاعني»). واستمرّت طاعة ابن باز لآل سعود رغم المراحل المختلفة التي مرّت بها سياسة المملكة. ولم يكن أمراء آل سعود يستشيرونه في كل الأمور الدينيّة أو التعليميّة: فاستيراد علماء الإخوان المسلمين وقادتهم إلى المملكة، وتعيينهم في مناصب رفيعة، ومساهمتهم في وضع برامج تعليميّة ومناهج مدرسيّة مُقرّرة، جرت كلها من دون رضى ابن باز. ابن باز لم يكن متيّماً بالإخوان لأنهم غير سلفيّين، وهذا يكفي لحكم التكفير الوهّابي ضدّهم. وأطاع ابن باز آل سعود ودعا المسلمين إلى طاعتهم. وفي أخطر قرار اتخذته المملكة بدعوة القوات الأميركيّة (وإن بدأت القوات الأميركيّة بالتحرّك قبل حصول وزير الدفاع الأميركي آنذاك، ديك تشيني، على الدعوة الرسميّة)، وقف ابن باز في صفّهم، ودعا المسلمين إلى دعم الحرب على العراق (ومن دون أن يشير إلى هويّة القوات الأجنبية التي أشارت إليها الصحافة السعودية آنذاك بـ«القوات العربيّة والإسلاميّة والصديقة»). والصديق الأميركي... وقت الضيق السعودي.
قامت ثورة سلفية على ابن باز في تلك السنة، من القاعدة وحتى من بعض التيّارات الإصلاحيّة في المملكة التي عابت على ابن باز مماشاته للأسرة الحاكمة في كل شيء. تغيّر ابن باز عندما بادر ملوك آل سعود وأمراؤهم إلى المُجاهرة بسياساتهم التي كانت سريّة نحو أميركا ونحو إسرائيل. نحن نعلمُ اليوم أن كل ما اتهمهم به عبد الناصر في الخمسينيات كان صحيحاً، وأكثر. والفقيه السعودي الذي كان يرغي ويزبد ضد اليهود «والصليبيّين» (بلغة القاعدة نفسها)، والذي كان يتوعّد ضد «أخلاق كفار بني إسرائيل المذمومة» ويدعو إلى لعنهم، عاد في آخر أيامه ليقبل بالصلح مع إسرائيل، على طريقة شيوخ الأزهر. لكن دعاء ابن باز إلى الذم كان أكثر شمولاً، فهو دعا المسلمين إلى «الدعاء على الكافرين، من الشيوعيّين، واليهود، والنصارى، وسائر المُشركين». (ص. 320 من سيرة ابن باز).
ولا ننسى، ويجب أن لا ننسى، دور ابن باز في الحث على «الجهاد» في أفغانستان. كان ياسر عرفات في التسعينيات، عندما توقَّف المال الخليجي عن الوصول إليه، يذكر الأرقام الهائلة عن حجم الدعم السعودي بالمليارات لفرق التعصّب الإسلامي التي كانت تقاوم الحكم الشيوعي في أفغانستان. (من يستطيع أن يُنكر اليوم أن الحكمَ الشيوعي هناك مثّل حقبة ذهبيّة في تاريخ أفغانستان، على الأقلّ من ناحية حقوق المرأة وفصل الدين عن الدولة وإن كان قمعيّاً، مثله مثل أنظمة «التحرّر الأميركي» وفق عقيدة بوش؟). ابن باز سوّغ سياسة آل سعود التي كانت رافداً في السياسة الأميركيّة في الحرب الباردة: كانت الحكومة السعوديّة تدفع نفقات السفر لكل سعودي راغب في محاربة أعداء أميركا. فتواكَ، يا ابن باز، وحربكَ وحرب أميركا يا فقيه السلطان الشخبوطي. لم تحرّك آل سعود وفقهاءهم قضيّة مثلما حرّكتهم قضيّة أفغانستان لأنها مثّلت نقطة التلاقي بينهم وبين أوليائهم في واشنطن (يتطرّق فيلم «حرب تشارلي ولسن» إلى ذلك، وإلى انصياع آل سعود لمشيئة رونالد ريغان ـــــ عصر الملك فهد).
السفير الأميركي الأسبق في السعودية، هيوم هوران، الذي كان ضليعاً باللغة العربية (وخدم في ما بعد في سلطة الاحتلال بالعراق) عرف أهميّة ابن باز، وحرص على لقائه، لكن الملك فهد امتعض من هذا اللقاء وطلب من الرئيس الأميركي سحب سفيره، وهذا ما حصل (تذكر المراجع مثل كتاب «المستعربون» لروبرت كابلان أسباباً أخرى متفرّقة لاعتراض الملك فهد على السفير هوران). وقد يقول قائل إن التزمّت سمة في كل الأديان والعقائد والمذاهب، وهذا قول حقّ، لكن التزمّت الوهّابي استعان بالثروة النفطيّة ليثير العداوات والكراهية بين الناس، وليقضي على إمكان التعايش السلمي بين العرب، كذلك أدى دوراً مخرّباً في محاربة أفكار التنوير. وهناك يساري سابق (رُقّيَ أخيراً ـــ شكراً هاني ـــــ إلى رتبة أمين عام شؤون المحلّيات والدموع والماركسيّات في نشرة «المستقبل السلفي»، أي إنه الساعد الأيمن أو الأيسر لفارس خشان ـــــ والأخير يأخذ راحته على الإنترنت فيستعمل لغة الشتائم الجنسيّة الرخيصة في وصف خصومه، وإن كان لا يعيد نشر مقالاته في مديح إميل لحود وبشّار الأسد لظنّه أننا نسيناها) يحاول أن يعطي تبريرات وتسويغات لفكر التكفير الوهابي عبر الإشارة إلى كتابات عن النجاسة عند الشيعة (أصبح اليساري السابق طرفاً في الحرب المذهبيّة)، لكن مفتي صور المَطرود، علي الأمين، عاجله بردّ مفحم على الهواء، فأسكته لأنه أعلى مرتبة منه في مؤسّسة الحريري السياسية. ومواجهة الكراهية الوهابيّة لا تكون بكراهية مذهبيّة مضادة، طبعاً.
الفقه الموالي للسلطان لا ينحصر في مذهب أو طائفة أو زمن أو تيّار. فهناك فقهاء للسلطان في إيران، مع أن الخميني (قبل وصوله إلى الحكم طبعاً) دانهم في كتابه عن الحكومة الإسلاميّة. وهناك فقهاء النجف المُوالون للاحتلال الأميركي في العراق، والذين لا يتعرّضون لأي نقد من حزب الله، ويصعب تفسير ذلك إلا من باب التعاضد الطائفي، وهناك فقهاء رجعيّون مثل ابن حنبل الذين رفضوا (أو يرفضون) أن يُقَولِبوا أفكارهم وفتاواهم حتى لو تعرّضوا للتعذيب. وهؤلاء، وإن اختلفتَ معهم في النظرة والمُنطلق، قد يكونون بين المئات الذين تفخر جريدة «الحياة» بأن الحكومة السعوديّة طردتهم من وظائفهم بعد 11 أيلول. وقد يكون بعضهم أذنب لأنه نادى بتحرير فلسطين، أو جمع تبرّعات لأهلها المُحاصرين. أما عن فكر القاعدة فهو لا يزال العقيدة الدينيّة الرسمية لمملكة القهر، وإن اختلف بن لادن متأخراً مع آل سعود (الذين عرفهم ملكاً ملكاً، وأميراً أميراً) في تفاصيل السياسة الخارجيّة. وابن باز يحيا في عقيدة المملكة التي تتحكّم في النظام العربي الرسمي بالنيابة عن أميركا وحليفتها إسرائيل. العصرُ عصرُه، والزمان زمانُه، وفتاواه تثقل كواهلَ نساءِ العالم الإسلامي (ورجالَه) لكن حجبَ النور لا يمكن أن يدوم: «لا بدّ لليل أن ينجلي». لا بدّ.
جريدة الاخبار

suryoyo
20/09/2008, 15:29
مقال جميل ...

هذا اوضح مثال على التدين البديل ... للسيطرة على عقول الناس لصالح الحكام !