sona78
23/09/2008, 13:04
خالد صاغية
رافقت أخبار الأزمة المالية مبالغات كثيرة حول مستقبل النظام الرأسمالي، واستطراداً الدور الأميركي في العالم، وخصوصاً أنّ تلك الأزمة قد وقعت بعد أحداث جورجيا التي بدا فيها العملاق الأميركي عاجزاً عن الدفاع عن حلفائه. ذابت المسافات بين انهيار يصيب العالم ويقود إلى نهاية النظام الرأسمالي، وأزمة تفرض على الرأسمالية إجراءات تكيُّف تتمّ عادة على حساب السمك الصغير الذي يودّع اللعبة، تاركاً الملعب لأسماك القرش. فالأزمات جزء من طبيعة النظام الرأسمالي، وليست دلالة على تعثّره، عدا عن قرب نهايته.
فلنبدأ من المعادلات البسيطة للرأسمالية: رأس مال وعمّال يبيعون قوّة عملهم ومواد أوّلية... يجتمعون معاً في عمليّة إنتاج يحصل فيها العامل على راتب يقلّ عن قيمة عمله، ويحصل فيها ربّ العمل على أرباح لا علاقة لها بعرق جبينه. هذا الاجتماع السعيد، حتّى لو كان مرضياً للجميع، لا يتحقّق دائماً. كثيراً ما تواجهه ظروف غير ملائمة. وهذا ما يمثّل المشكلة الأبرز للرأسمالية. فقد يكون رأس المال متوافراً، وعمّال كثيرون مستعدّين للعمل، ومواد أوّلية متوافرة، لكن ما من فرص استثمار مربحة تدفع أصحاب الرساميل للدخول في استثمار من أي نوع كان. فلنسمِّ ذلك رأس مال عاطلاً من العمل.
كثيراً ما يلجأ النظام إلى اختراع الأزمات ليحلّ مشكلته هذه. وكلمة «اختراع» قد تعني هنا تعمّد افتعال الأزمات من قبل القوى المهيمنة على النظام، وقد تعني أيضاً ولادة طبيعيّة للأزمة، يفرزها النظام بين الحين والآخر، تماماً كما تفرز الورود عطراً وشوكاً.
لا يعني ذلك أنّ الأزمات ضرورية دائماً لحلّ المشكلة. قد توجد حلول أكثر سهولة. المهمّ، بحسب بعض مفكّري الاقتصاد السياسي، التفتيش عن الآخر، عمّا هو خارج النظام، أي الدول التي لم تدخل تماماً بعد في الدورة الرأسمالية. هناك تكثر فرص تحقيق الأرباح، شرط إقحام هذه «الدول العذراء» في النظام. هكذا تتدخّل عادة المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد مثلاً، لفرض سياسات على دول العالم الثالث يكون الهدف منها خلق فرص عمل لرأس المال المتراكم، والعاطل من العمل، في العالم الأوّل. يمكن إدراج عمليّات الخصخصة في هذا السياق. إنّها «نصائح» توجَّه إلى، أو تُفرض على، الدول النامية من أجل بيع ممتلكاتها بأسعار متدنّية على الأرجح، فينقضّ رأس المال الجائع عليها ويحوّلها إلى فرصة استثمار مربحة. إنّه واحد من الحلول التي يلجأ إليها رأس مال دول المراكز لحلّ مشكلته.
لكنّ الأمور لا تجري دائماً بهذه «السلاسة»، ما قد يفرض نشوب حروب ونزاعات تنتهي بإذعان الطرف الأضعف. وقد كُتب الكثير عن اغتيال رؤساء دول أو انقلابات في أميركا اللاتينية وغيرها، انتهت بفتح الأسواق أمام رأس المال الجائع.
مع ازدهار الأسواق المالية، بات بالإمكان اللجوء إلى أساليب لا تقلّ أذية عن الحروب، لكنّها أقلّ خدشاً للذوق العام ولحساسيّة المدافعين عن حقوق الإنسان. أحد هذه الأساليب افتعال الأزمات المالية، كما حصل مثلاً في دول شرق آسيا نهاية التسعينيات. مئات الآلاف من الضحايا وجدوا أنفسهم فجأة في العراء. وفي المقابل، ثمّة من سطا على الأصول التي فقدت قيمتها، من عقارات وأسهم، وحقّق أرباحاً خيالية. عمليّة «نظيفة» وفريدة من نوعها. ثمّة ضحايا كثيرون، لكن ما من مجرم واحد. حققت أزمة الأسواق المالية «حلّاً» لرأس المال الباحث عن فرص رابحة، وقامت بنوع آخر من توزيع الدخل المعكوس، تماماً كالذي تحقّقه السياسات المالية والضريبية للنيوليبرالية. بخلاف ما جرى في شرق آسيا، إنّ ما جرى في الأسواق المالية أخيراً لم يُفرض من الخارج. لم يُفرض أيضاً على «خارج» ما. لقد ابتدع النظام، هذه المرّة، «خارجه» الخاص. إنّها عملية «إعادة ترتيب للبيت الداخلي». عملية مؤلمة من دون شك، لكنّها تنتهي أيضاً بإعادة توزيع معكوس للدخل. ثمّة من خسروا بيوتهم أو عجزوا عن تسديد القروض للمصارف. وثمّة من سيحقّق أرباحاً من الصفقات التي تمّت على ظهر الإفلاسات. لقد تدخّلت الدولة طبعاً، تدخّلت حين شعرت بأنّ الأمور قد تفلت، وبأنّ الإفلاسات قد تتوالى على طريقة تهاوي حجارة لعبة الدومينو.
لقد ربحنا عقلنةً للنظام الرأسمالي. أمّا الرأسماليّة، فقد ربحت نفسها.
جريدة الاخبار
رافقت أخبار الأزمة المالية مبالغات كثيرة حول مستقبل النظام الرأسمالي، واستطراداً الدور الأميركي في العالم، وخصوصاً أنّ تلك الأزمة قد وقعت بعد أحداث جورجيا التي بدا فيها العملاق الأميركي عاجزاً عن الدفاع عن حلفائه. ذابت المسافات بين انهيار يصيب العالم ويقود إلى نهاية النظام الرأسمالي، وأزمة تفرض على الرأسمالية إجراءات تكيُّف تتمّ عادة على حساب السمك الصغير الذي يودّع اللعبة، تاركاً الملعب لأسماك القرش. فالأزمات جزء من طبيعة النظام الرأسمالي، وليست دلالة على تعثّره، عدا عن قرب نهايته.
فلنبدأ من المعادلات البسيطة للرأسمالية: رأس مال وعمّال يبيعون قوّة عملهم ومواد أوّلية... يجتمعون معاً في عمليّة إنتاج يحصل فيها العامل على راتب يقلّ عن قيمة عمله، ويحصل فيها ربّ العمل على أرباح لا علاقة لها بعرق جبينه. هذا الاجتماع السعيد، حتّى لو كان مرضياً للجميع، لا يتحقّق دائماً. كثيراً ما تواجهه ظروف غير ملائمة. وهذا ما يمثّل المشكلة الأبرز للرأسمالية. فقد يكون رأس المال متوافراً، وعمّال كثيرون مستعدّين للعمل، ومواد أوّلية متوافرة، لكن ما من فرص استثمار مربحة تدفع أصحاب الرساميل للدخول في استثمار من أي نوع كان. فلنسمِّ ذلك رأس مال عاطلاً من العمل.
كثيراً ما يلجأ النظام إلى اختراع الأزمات ليحلّ مشكلته هذه. وكلمة «اختراع» قد تعني هنا تعمّد افتعال الأزمات من قبل القوى المهيمنة على النظام، وقد تعني أيضاً ولادة طبيعيّة للأزمة، يفرزها النظام بين الحين والآخر، تماماً كما تفرز الورود عطراً وشوكاً.
لا يعني ذلك أنّ الأزمات ضرورية دائماً لحلّ المشكلة. قد توجد حلول أكثر سهولة. المهمّ، بحسب بعض مفكّري الاقتصاد السياسي، التفتيش عن الآخر، عمّا هو خارج النظام، أي الدول التي لم تدخل تماماً بعد في الدورة الرأسمالية. هناك تكثر فرص تحقيق الأرباح، شرط إقحام هذه «الدول العذراء» في النظام. هكذا تتدخّل عادة المؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد مثلاً، لفرض سياسات على دول العالم الثالث يكون الهدف منها خلق فرص عمل لرأس المال المتراكم، والعاطل من العمل، في العالم الأوّل. يمكن إدراج عمليّات الخصخصة في هذا السياق. إنّها «نصائح» توجَّه إلى، أو تُفرض على، الدول النامية من أجل بيع ممتلكاتها بأسعار متدنّية على الأرجح، فينقضّ رأس المال الجائع عليها ويحوّلها إلى فرصة استثمار مربحة. إنّه واحد من الحلول التي يلجأ إليها رأس مال دول المراكز لحلّ مشكلته.
لكنّ الأمور لا تجري دائماً بهذه «السلاسة»، ما قد يفرض نشوب حروب ونزاعات تنتهي بإذعان الطرف الأضعف. وقد كُتب الكثير عن اغتيال رؤساء دول أو انقلابات في أميركا اللاتينية وغيرها، انتهت بفتح الأسواق أمام رأس المال الجائع.
مع ازدهار الأسواق المالية، بات بالإمكان اللجوء إلى أساليب لا تقلّ أذية عن الحروب، لكنّها أقلّ خدشاً للذوق العام ولحساسيّة المدافعين عن حقوق الإنسان. أحد هذه الأساليب افتعال الأزمات المالية، كما حصل مثلاً في دول شرق آسيا نهاية التسعينيات. مئات الآلاف من الضحايا وجدوا أنفسهم فجأة في العراء. وفي المقابل، ثمّة من سطا على الأصول التي فقدت قيمتها، من عقارات وأسهم، وحقّق أرباحاً خيالية. عمليّة «نظيفة» وفريدة من نوعها. ثمّة ضحايا كثيرون، لكن ما من مجرم واحد. حققت أزمة الأسواق المالية «حلّاً» لرأس المال الباحث عن فرص رابحة، وقامت بنوع آخر من توزيع الدخل المعكوس، تماماً كالذي تحقّقه السياسات المالية والضريبية للنيوليبرالية. بخلاف ما جرى في شرق آسيا، إنّ ما جرى في الأسواق المالية أخيراً لم يُفرض من الخارج. لم يُفرض أيضاً على «خارج» ما. لقد ابتدع النظام، هذه المرّة، «خارجه» الخاص. إنّها عملية «إعادة ترتيب للبيت الداخلي». عملية مؤلمة من دون شك، لكنّها تنتهي أيضاً بإعادة توزيع معكوس للدخل. ثمّة من خسروا بيوتهم أو عجزوا عن تسديد القروض للمصارف. وثمّة من سيحقّق أرباحاً من الصفقات التي تمّت على ظهر الإفلاسات. لقد تدخّلت الدولة طبعاً، تدخّلت حين شعرت بأنّ الأمور قد تفلت، وبأنّ الإفلاسات قد تتوالى على طريقة تهاوي حجارة لعبة الدومينو.
لقد ربحنا عقلنةً للنظام الرأسمالي. أمّا الرأسماليّة، فقد ربحت نفسها.
جريدة الاخبار