باشق مجروح
04/10/2008, 03:28
د. رشيد الحاج صالح
كاتب من سوريا ..
عندما تضيع الأمة في تيه الهويات .
يبدو أن الوعي السياسي العربي بات يعاني هذه الأيام من تداخل انتماءات سياسية ودينية متناقضة، يحاول التوفيق بينها بطريقة لا توحي بوجود أي تعارض. وأكثر من ذلك، فإن بناء تلك الانتماءات يتم بحيث يؤيد بعضها بعضا، لدرجة نجد فيها أن هناك من يؤيد القومية بطريقة طائفية، ويدافع عن العلمانية من منطلق، ويعتقد أن لقبيلته دورا قوميا عليها الاضطلاع به.
فاليوم كثيراً ما نجد انتماءات عدة تتنازع وجدان الشخص الواحد. إذ تجده في الوقت نفسه وطنيا في داخله، لأن طائفته هي التي تحكم هذا الوطن وتوزع أرزاقه، وعلمانيا في توجهه السياسي لأنه ينتمي لأقلية دينية.. وعشائريا لأن عشيرته تتمتع بمكانة سياسية رفيعة.. واشتراكيا لأنه فقير يتمنى أن ينال زملاؤه الفقراء حقوقهم الاقتصادية. وفوق ذلك كله تجده أيضاً معارضا للديمقراطية لأنه يعتبرها خدعة غربية تريد الإمبريالية من خلالها أن تفرقنا وتثير من خلالها النعرات الانفصالية بيننا، أو بحجة أن شعبه غير مؤهل لها. كما تجده أيضاً متحمسا للأحزاب الطائفية، لأنها تتصدى للقوى الاستعمارية، وتدافع عن حقوق الأمة، وفي الوقت نفسه قومجيا مؤمنا بأن لا طريق للخلاص إلا بوحدة الأمة ولم شملها.
إن هذا التناقض في الانتماءات، أو«الهويات القاتلة»، كما يسميها أمين معلوف، أدى إلى ظهور توافقية خادعة وساذجة تعود إلى حالة التشويش والضياع التي يعاني منها مواطننا. فقد دفعته حالة الضياع هذه للتعلق بكل الانتماءات الدينية والسياسية لتحقيق أهداف مختلفة وأحياناً متناقضة. فإنساننا اليوم يشعر بالأمان في أحضان عشيرته أو طائفته لما تحقق له من مكاسب ومزايا نفسانية واجتماعية وأحياناً سياسية.. وهو في الوقت نفسه يعتز بانتمائه لوطنه من دون أن يدرك أن العشائرية والطائفية قد تدفعان بوطنه إلى الهاوية والتمزق. وأكثر من ذلك قد نعثر على مقاوم نبيل مستعد للتضحية بحياته في سبيل تحرير وطنه، وإخراج المستعمر منه، ولكنه مستعد في الوقت نفسه للتضحية بهذه الحياة في سبيل أحقاد طائفية ضد أبناء شعبه.
إن المتأمل في هذا التناقض الانتمائي وتشرذم الوعي السياسي العربي يمكن أن يستنتج النقاط الآتية:
أولاً: إن الانتماء إلى هوية معينة ليس تعبيراً صادقاً عن إيمان ديني أو سياسي معين، بقدر ما هو أداة تستخدم للحفاظ على مكاسب وامتيازات اجتماعية وسياسية محددة.. ناهيك عن حسابات النفوذ والمكانة والتراتبية الاجتماعية.
ثانياً: إن غياب الحريات وانسداد الأفق السياسي والهزائم الداخلية والخارجية المتلاحقة أوجدت لدينا حالة من اليأس والقلق دفعتنا للتعلق بأي هوية يمكن أن تخرجنا من هذه الحالة وتبعث فينا الأمل. يضاف إلى ذلك أن تدني مستوى الحريات السياسية والاستئثار المطلق لأنظمة الحكم بالساحة السياسية والثقافية، أدى إلى تراجع مستوى التواصل السياسي الفعَال بين فئات المجتمع، ما زاد من درجة خشية فئات المجتمع بعضها من بعض، الأمر الذي أدى في النهاية إلى نشوء نوع من التخرص الهوياتي.
ثالثاً: إن البيئة النفسانية الداخلية لفئات المجتمع المختلفة في العالم العربي هي بنية معارضة لأنظمة الحكم، لأنها، على الأغلب، أنظمة فاسدة لا شرعية، وغير مهتمة بمصالح شعوبها بقدر اهتمامها بمصالحها الخاصة. ولذلك تجد هذه الفئات تحمّل تلك الأنظمة مسؤولية فقرها وضياع مصالحها الوطنية وحقوها القومية.. وطالما أن الإنسان في هذه المجتمعات لا يستطيع التعبير عن هذه المعارضة بسهولة، ودون تعرضه لقدر من المخاطرة، فإنه يلجأ إلى تفريغ تلك الرغبة في المعارضة من خلال تبني هوية مسموح بها رسمياً تشغله سياسيا،ً وتحقق له توازنا نفسانيا يحرره من حالة تأنيب الضمير السياسي.
رابعاً: إن الفشل الذريع لـ «الدولة شبه الموجودة » في الحلول، اجتماعياً وقانونياً واقتصادياً، محل الطائفة والقبيلة والعائلة، أدى إلى تمسك الناس بانتماءاتهم التقليدية. فالمواطن اليوم لا يشعر بالأمان تجاه هذه الدولة، لأنها لم تتحول إلى دولة للجميع تضمن مصالح وحقوق الجميع. لذلك، وطالما أن الدولة لا تؤمن لهم العدالة والمساواة والرفاه الاقتصادي، فقد لجأ ويلجأ الناس إلى الاحتماء بانتماءاتهم التقليدية لحماية أنفسهم من نوائب الزمن.
بعد ذلك كله نجد أنه بات ملّحا التنبه لهذا التيه الهوياتي الذي أصبح يهدد، وأكثر من أي وقت مضى، وجود الأمة ومستقبلها. من هنا لابد من العمل على مسألة دمج مختلف الهويات في هوية واحدة تستوعب الجميع، وتراعي خصوصيات الهويات الأخرى وتفردها.. بحيث يتم إشراك الجميع في الحياة العامة والاعتراف بكامل حقوقهم.
فالهوية التي لا تستوعب الجميع تبقى هوية خادعة، إن لم تكن قاتلة!
:D
كاتب من سوريا ..
عندما تضيع الأمة في تيه الهويات .
يبدو أن الوعي السياسي العربي بات يعاني هذه الأيام من تداخل انتماءات سياسية ودينية متناقضة، يحاول التوفيق بينها بطريقة لا توحي بوجود أي تعارض. وأكثر من ذلك، فإن بناء تلك الانتماءات يتم بحيث يؤيد بعضها بعضا، لدرجة نجد فيها أن هناك من يؤيد القومية بطريقة طائفية، ويدافع عن العلمانية من منطلق، ويعتقد أن لقبيلته دورا قوميا عليها الاضطلاع به.
فاليوم كثيراً ما نجد انتماءات عدة تتنازع وجدان الشخص الواحد. إذ تجده في الوقت نفسه وطنيا في داخله، لأن طائفته هي التي تحكم هذا الوطن وتوزع أرزاقه، وعلمانيا في توجهه السياسي لأنه ينتمي لأقلية دينية.. وعشائريا لأن عشيرته تتمتع بمكانة سياسية رفيعة.. واشتراكيا لأنه فقير يتمنى أن ينال زملاؤه الفقراء حقوقهم الاقتصادية. وفوق ذلك كله تجده أيضاً معارضا للديمقراطية لأنه يعتبرها خدعة غربية تريد الإمبريالية من خلالها أن تفرقنا وتثير من خلالها النعرات الانفصالية بيننا، أو بحجة أن شعبه غير مؤهل لها. كما تجده أيضاً متحمسا للأحزاب الطائفية، لأنها تتصدى للقوى الاستعمارية، وتدافع عن حقوق الأمة، وفي الوقت نفسه قومجيا مؤمنا بأن لا طريق للخلاص إلا بوحدة الأمة ولم شملها.
إن هذا التناقض في الانتماءات، أو«الهويات القاتلة»، كما يسميها أمين معلوف، أدى إلى ظهور توافقية خادعة وساذجة تعود إلى حالة التشويش والضياع التي يعاني منها مواطننا. فقد دفعته حالة الضياع هذه للتعلق بكل الانتماءات الدينية والسياسية لتحقيق أهداف مختلفة وأحياناً متناقضة. فإنساننا اليوم يشعر بالأمان في أحضان عشيرته أو طائفته لما تحقق له من مكاسب ومزايا نفسانية واجتماعية وأحياناً سياسية.. وهو في الوقت نفسه يعتز بانتمائه لوطنه من دون أن يدرك أن العشائرية والطائفية قد تدفعان بوطنه إلى الهاوية والتمزق. وأكثر من ذلك قد نعثر على مقاوم نبيل مستعد للتضحية بحياته في سبيل تحرير وطنه، وإخراج المستعمر منه، ولكنه مستعد في الوقت نفسه للتضحية بهذه الحياة في سبيل أحقاد طائفية ضد أبناء شعبه.
إن المتأمل في هذا التناقض الانتمائي وتشرذم الوعي السياسي العربي يمكن أن يستنتج النقاط الآتية:
أولاً: إن الانتماء إلى هوية معينة ليس تعبيراً صادقاً عن إيمان ديني أو سياسي معين، بقدر ما هو أداة تستخدم للحفاظ على مكاسب وامتيازات اجتماعية وسياسية محددة.. ناهيك عن حسابات النفوذ والمكانة والتراتبية الاجتماعية.
ثانياً: إن غياب الحريات وانسداد الأفق السياسي والهزائم الداخلية والخارجية المتلاحقة أوجدت لدينا حالة من اليأس والقلق دفعتنا للتعلق بأي هوية يمكن أن تخرجنا من هذه الحالة وتبعث فينا الأمل. يضاف إلى ذلك أن تدني مستوى الحريات السياسية والاستئثار المطلق لأنظمة الحكم بالساحة السياسية والثقافية، أدى إلى تراجع مستوى التواصل السياسي الفعَال بين فئات المجتمع، ما زاد من درجة خشية فئات المجتمع بعضها من بعض، الأمر الذي أدى في النهاية إلى نشوء نوع من التخرص الهوياتي.
ثالثاً: إن البيئة النفسانية الداخلية لفئات المجتمع المختلفة في العالم العربي هي بنية معارضة لأنظمة الحكم، لأنها، على الأغلب، أنظمة فاسدة لا شرعية، وغير مهتمة بمصالح شعوبها بقدر اهتمامها بمصالحها الخاصة. ولذلك تجد هذه الفئات تحمّل تلك الأنظمة مسؤولية فقرها وضياع مصالحها الوطنية وحقوها القومية.. وطالما أن الإنسان في هذه المجتمعات لا يستطيع التعبير عن هذه المعارضة بسهولة، ودون تعرضه لقدر من المخاطرة، فإنه يلجأ إلى تفريغ تلك الرغبة في المعارضة من خلال تبني هوية مسموح بها رسمياً تشغله سياسيا،ً وتحقق له توازنا نفسانيا يحرره من حالة تأنيب الضمير السياسي.
رابعاً: إن الفشل الذريع لـ «الدولة شبه الموجودة » في الحلول، اجتماعياً وقانونياً واقتصادياً، محل الطائفة والقبيلة والعائلة، أدى إلى تمسك الناس بانتماءاتهم التقليدية. فالمواطن اليوم لا يشعر بالأمان تجاه هذه الدولة، لأنها لم تتحول إلى دولة للجميع تضمن مصالح وحقوق الجميع. لذلك، وطالما أن الدولة لا تؤمن لهم العدالة والمساواة والرفاه الاقتصادي، فقد لجأ ويلجأ الناس إلى الاحتماء بانتماءاتهم التقليدية لحماية أنفسهم من نوائب الزمن.
بعد ذلك كله نجد أنه بات ملّحا التنبه لهذا التيه الهوياتي الذي أصبح يهدد، وأكثر من أي وقت مضى، وجود الأمة ومستقبلها. من هنا لابد من العمل على مسألة دمج مختلف الهويات في هوية واحدة تستوعب الجميع، وتراعي خصوصيات الهويات الأخرى وتفردها.. بحيث يتم إشراك الجميع في الحياة العامة والاعتراف بكامل حقوقهم.
فالهوية التي لا تستوعب الجميع تبقى هوية خادعة، إن لم تكن قاتلة!
:D