sona78
06/10/2008, 22:00
جان عزيز
لافت جداً هذا التوازي في المواقف الفرنسية، من القوقاز إلى لبنان، بين سنوات ثلاث مضت، وبين اللحظة الراهنة. قبل أعوام قليلة، كانت باريس مربط خيل الثوار الورديين والبرتقاليين، من تبيليسي وكييف. يعبرون منها إلى واشنطن، ويعودون منهما بأحلام السيادات الكاملة والاستقلالات الناجزة، ولو في ظل سلطات عاجزة. وفي تلك الفترة، كانت باريس نفسها، صقراً بيروتياً. حتى إن شيراك طلب مرة من إسرائيل، الاستمرار في حربها حتى قلب دمشق، نصرةً لثوار بيروت.
تلك الصورة، مقارنة باللحظة الراهنة، تجعل محاولات 14 آذار التخفيف من وقع الانقلاب الفرنسي، مراوحة بين العبث والعيب. والأهم أنها محاولات تُعمي وتلهي وتُنسي الأهم، وهو الاعتبار مما حصل، ومن الأخطاء نفسها، من كييف إلى بيروت.
فثمة دروس كثيرة لنا أن نتعلّمها من دول القوقاز، وهي لا شك أبلغ من عطاءات رقيقها الأبيض، المتحوّل إحدى علامات عارنا على شاطئنا الأسود.
ففي جورجيا وأوكرانيا وسواهما، كما عندنا، تعددية حضارية. حتى إن هانتنغتون مرّر خط حدوده «الصدامية» الشهيرة في قلبها بالذات، بين الأونيات غرباً والأرثوذكس شرقاً، كما بين المسلمين والمسيحيين في آسيا الصغرى. وكما عندنا، فلديهم أيضاً «أخ أكبر» لا يعترف بهم. ولهم غرب لا يعترفون به، إلا في سرّ توقهم وتطلّعهم وتغرّبهم.
وكما عندنا، نجح الأخ الروسي الأكبر في ابتلاعهم وضمّهم وترسيخ هضمهم طيلة قرون، بدءاً باستراتيجيا «التجنيس» على الطريقة القيصرية، بنقل جماعات سكانية روسية اللغة والإثنية والولاء، وتوطينها في تلك الدول، وصولاً إلى أممية فلاديمير ايليتش المعمّمة على كل الجنس البشري، فكيف ببشر مجاورين...
المهم أنه بعد قرون من واقع «الانصهار الوطني» ومن الشعب الواحد في دولة «النسر ذي الرأسين»، حصل التقاطع التاريخي: انهارت موسكو، واهتم الغرب بتركتها، وقامت أوروبا تنافس ناشئة، فولدت اللحظة وصارت لواشنطن «سياسة قوقازية، وفق قاموس جفري فيلتمان». هكذا بين ليلة وضحاها ولدت «الثورتان الوردية والبرتقالية».
تقاطع الضغط الغربي مع «المومنتوم» الأميركي ومع الفشل الروسي وانهيار السلطة المن صنيعته في تلك الدول، فنزل الشباب إلى ساحات حريتهم. بعدها، احتفلوا بانتصارهم. وكما كل وقود الثورات وحطب مراجل وصوليّيها، أهدوا انتصارهم إلى الطبقة السياسية الموجودة، وعادوا هم إلى صفوفهم وبيوتهم وأعمالهم... أقل من سنتين كانتا كافيتين لإجهاض المعجزة. أقل من سنتين من مماحكات الطبقة الحاكمة الجديدة ــ القديمة، رافقها تبدّل في أولويات الغرب كانتا كافيتين لتعود روسيا إلى تلك الدول، بقوة الجغرافيا السياسية، وبقوة ضفاف أنابيب النفط والغاز، وحتى عبر صندوق الاقتراع، ولتعيد أرضها المجاورة جرماً سابحاً في فلك هيمنتها.
ووسط تلك التحوّلات، تجد باريس نفسها، مترجماً وسيطاً لتراجع الثورات الأميركية في القوقاز، وناصحاً لوفد 14 آذار، بتحسين العلاقات مع دمشق.
في واشنطن هذه الأيام، يُروى أن خبيراً مالياً سئل أن يبسط للناس العاديين أسباب الكارثة الحاصلة في أسواق البورصة. فقال لهم إن رجلاً ذهب إلى قرية نائية، عارضاً على سكانها شراء كل حمار لديهم، بعشرة دولارات. فباع قسم كبير منهم حميرهم. بعدها رفع السعر إلى 15 دولاراً. فباع آخرون. فرفع سعره إلى ثلاثين، حتى نفدت الحمير من لدى أهل القرية. عندها قال لهم: أدفع 50 دولاراً لقاء الحمار الواحد. وذهب لتمضية نهاية الأسبوع في المدينة. فجاء مساعده عارضاً على أهل القرية أن يبيعهم حميرهم السابقة بأربعين دولاراً للحمار الواحد، على أن يبيعوها مجدّداً لمعلمه بخمسين يوم الاثنين. فدفعوا كل مدّخراتهم ثمناً لحميرهم، وبعدها لم يروا الشاري ولا مساعده أبداً. جاء الأسبوع التالي، وفي القرية أمران: ديون، وحمير.
وما يصحّ على بورصة الأسواق المالية، قد يصح أيضاً وأكثر، على بورصة السياسات الدولية، حيال دول صغيرة وساسة، لا يعدّ الذكاء ميزتهم الأولى.
جريدة الاخبار اللبنانية
لافت جداً هذا التوازي في المواقف الفرنسية، من القوقاز إلى لبنان، بين سنوات ثلاث مضت، وبين اللحظة الراهنة. قبل أعوام قليلة، كانت باريس مربط خيل الثوار الورديين والبرتقاليين، من تبيليسي وكييف. يعبرون منها إلى واشنطن، ويعودون منهما بأحلام السيادات الكاملة والاستقلالات الناجزة، ولو في ظل سلطات عاجزة. وفي تلك الفترة، كانت باريس نفسها، صقراً بيروتياً. حتى إن شيراك طلب مرة من إسرائيل، الاستمرار في حربها حتى قلب دمشق، نصرةً لثوار بيروت.
تلك الصورة، مقارنة باللحظة الراهنة، تجعل محاولات 14 آذار التخفيف من وقع الانقلاب الفرنسي، مراوحة بين العبث والعيب. والأهم أنها محاولات تُعمي وتلهي وتُنسي الأهم، وهو الاعتبار مما حصل، ومن الأخطاء نفسها، من كييف إلى بيروت.
فثمة دروس كثيرة لنا أن نتعلّمها من دول القوقاز، وهي لا شك أبلغ من عطاءات رقيقها الأبيض، المتحوّل إحدى علامات عارنا على شاطئنا الأسود.
ففي جورجيا وأوكرانيا وسواهما، كما عندنا، تعددية حضارية. حتى إن هانتنغتون مرّر خط حدوده «الصدامية» الشهيرة في قلبها بالذات، بين الأونيات غرباً والأرثوذكس شرقاً، كما بين المسلمين والمسيحيين في آسيا الصغرى. وكما عندنا، فلديهم أيضاً «أخ أكبر» لا يعترف بهم. ولهم غرب لا يعترفون به، إلا في سرّ توقهم وتطلّعهم وتغرّبهم.
وكما عندنا، نجح الأخ الروسي الأكبر في ابتلاعهم وضمّهم وترسيخ هضمهم طيلة قرون، بدءاً باستراتيجيا «التجنيس» على الطريقة القيصرية، بنقل جماعات سكانية روسية اللغة والإثنية والولاء، وتوطينها في تلك الدول، وصولاً إلى أممية فلاديمير ايليتش المعمّمة على كل الجنس البشري، فكيف ببشر مجاورين...
المهم أنه بعد قرون من واقع «الانصهار الوطني» ومن الشعب الواحد في دولة «النسر ذي الرأسين»، حصل التقاطع التاريخي: انهارت موسكو، واهتم الغرب بتركتها، وقامت أوروبا تنافس ناشئة، فولدت اللحظة وصارت لواشنطن «سياسة قوقازية، وفق قاموس جفري فيلتمان». هكذا بين ليلة وضحاها ولدت «الثورتان الوردية والبرتقالية».
تقاطع الضغط الغربي مع «المومنتوم» الأميركي ومع الفشل الروسي وانهيار السلطة المن صنيعته في تلك الدول، فنزل الشباب إلى ساحات حريتهم. بعدها، احتفلوا بانتصارهم. وكما كل وقود الثورات وحطب مراجل وصوليّيها، أهدوا انتصارهم إلى الطبقة السياسية الموجودة، وعادوا هم إلى صفوفهم وبيوتهم وأعمالهم... أقل من سنتين كانتا كافيتين لإجهاض المعجزة. أقل من سنتين من مماحكات الطبقة الحاكمة الجديدة ــ القديمة، رافقها تبدّل في أولويات الغرب كانتا كافيتين لتعود روسيا إلى تلك الدول، بقوة الجغرافيا السياسية، وبقوة ضفاف أنابيب النفط والغاز، وحتى عبر صندوق الاقتراع، ولتعيد أرضها المجاورة جرماً سابحاً في فلك هيمنتها.
ووسط تلك التحوّلات، تجد باريس نفسها، مترجماً وسيطاً لتراجع الثورات الأميركية في القوقاز، وناصحاً لوفد 14 آذار، بتحسين العلاقات مع دمشق.
في واشنطن هذه الأيام، يُروى أن خبيراً مالياً سئل أن يبسط للناس العاديين أسباب الكارثة الحاصلة في أسواق البورصة. فقال لهم إن رجلاً ذهب إلى قرية نائية، عارضاً على سكانها شراء كل حمار لديهم، بعشرة دولارات. فباع قسم كبير منهم حميرهم. بعدها رفع السعر إلى 15 دولاراً. فباع آخرون. فرفع سعره إلى ثلاثين، حتى نفدت الحمير من لدى أهل القرية. عندها قال لهم: أدفع 50 دولاراً لقاء الحمار الواحد. وذهب لتمضية نهاية الأسبوع في المدينة. فجاء مساعده عارضاً على أهل القرية أن يبيعهم حميرهم السابقة بأربعين دولاراً للحمار الواحد، على أن يبيعوها مجدّداً لمعلمه بخمسين يوم الاثنين. فدفعوا كل مدّخراتهم ثمناً لحميرهم، وبعدها لم يروا الشاري ولا مساعده أبداً. جاء الأسبوع التالي، وفي القرية أمران: ديون، وحمير.
وما يصحّ على بورصة الأسواق المالية، قد يصح أيضاً وأكثر، على بورصة السياسات الدولية، حيال دول صغيرة وساسة، لا يعدّ الذكاء ميزتهم الأولى.
جريدة الاخبار اللبنانية