حسون
11/08/2005, 17:35
ترافقت الإصلاحات السياسية التي وعد بها الحزب لحاكم بعد مؤتمره القطري العاشر في يونيو الماضي بسلسلة من المواقف والإجراءات التي تستهدف حركات الاحتجاج السياسي الناشئة خاصة المثقفين الذين دفعهم القلق على مستقبل بلادهم إلى الانخراط في العمل الوطني من دون حساب للمخاطر. ويبدو أن هذه المواقف الجديدة تستجيب لقرار اتخذ في مؤتمر الحزب الأخير يدعو إلى "تعرية المعارضة" ومواجهتها. ويدخل في باب التعرية والمواجهة هذا، حسب ما تجلى خلال الأشهر العديدة الماضية،
التراجع عن موقف غض النظر النسبي عن بعض النشاطات الفكرية التي تطورت في السنوات القليلة الفائتة، والعودة إلى سياسة الاعتقالات التأديبية التي تطال الآباء وأبناءهم وتوسيع دائرة الملاحقات الأمنية للمثقفين والناشطين المدنيين وإغلاق ما تبقى من المنتديات الفكرية (منتدى جمال الأتاسي الديمقراطي) ومنع أي شكل من أشكال التعبير المستقل على أي مستوى كان وفي أي مكان. وفي هذا الباب يدخل أيضا التخوين المنتظم للمخالفين في الرأي وكيل التهم لهم والتشهير بهم وتشويه سمعتهم وتهديدهم علنيا على لسان بعض المسؤولين وفي الصحافة الرسمية، المكتوبة والمسموعة.
تعكس هذه المواقف الجديدة الحساسية المفرطة لبعض المسؤولين تجاه النقد الموجه لأداء النظام من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام، من داخل الحزب الحاكم وخارجه. وهي تشكل رد فعل مفهوم على المخاوف التي يعيشها الحكم نتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها بعد خسارته جميع حلفائه العرب والدوليين وتراجع آماله في تحقيق الإصلاح الاقصادي والإداري الذي راهن عليه لتبرير استمراره وتجديد شرعيته وكذلك نتيجة انحسار هامش مناورته الاستراتيجية، وهو الذي اعتاد طويلا العمل ضمن هامش واسع جدا من حرية الحركة والتفاهمات العربية والاقليمية والدولية سمحت له بأن يتجاوز حتى الأمس، من دون صعوبات وتكاليف كبيرة، جميع المآزق والمزالق وأخطاء التقدير على المستويين الداخلي والخارجي.
لكن هناك أسباب عميقة تدعو إلى القلق من ان تتحول هذه الحملة المستمرة منذ أشهر إلى تحويل المعارضة السورية، وعلى رأسها المثقفين، إلى كبش فداء قد تستخدمه السلطة لتحقيق أهداف عديدة مثل تنفيث غضب الشارع السوري واحتقاناته العميقة وحرف الأنظار عن مسؤولياتها الخاصة في ايصال الأوضاع إلى ما هي عليه والتغطية على العجز عن مواجهة الخصم الحقيقي الذي لا تطاله، أعني التحالف الاوروبي الامريكي الذي يقود حملة ضغوط مستمرة عليها، وأخيرا لإخفاء استجابة دمشق المتزايدة أيضا للمطالب الأمريكية التي تتهم المعارضة بارتكابها. هكذا تستخدم السلطة ما تدعي أنه تآمر المعارضة الناشئة إن لم نقل الجنينية عليها، بسبب انتقاداتها السياسية، ذريعة لإعفاء نفسها من واجبها في تقديم خطة عقلانية وناجعة لمواجهة المخاطر الحقيقية وللتصدي للأطراف المعادية الفعلية. وهذا ما يفسر الاستخدام الموسع لمفردات الخيانة والتآمر والتعاون مع الأجنبي. فنظرية المؤامرة لا تهدف في الواقع، سواء استخدمت في مواجهة المعارضة أو في مواجهة القوى الأجنبية، إلا إلى التهرب من المناقشة العقلانية للخيارات الاستراتيجية والسياسية ومراجعتها وبالتالي إلى تبرئة النفس من المسؤولية.
لا يكمن خطر مثل هذا التوجه مما يولده من إجراءات ومضايقات جديدة تزيد من آلام السوريين وعذاباتهم فحسب ولكن أكثر من ذلك من تهديده بتعميق الأزمة الوطنية وقطع الطريق على أية برامج إصلاحية. إنه يجسد السير في عكس الاتجاه المطلوب ويقود لا محالة إلى عكس النتائج المتوخاة منه ويصب في طاحونة القوى الاجنبية الضاغطة على سورية والمهددة لها. فهو يزيد من مخاطر القلق والشك والانقسام داخل الصف الوطني ويضعف من مقدرة البلاد على مواجهة التحديات الفعلية. فبدل أن تكون الضغوط الخارجية مناسبة لإعادة بناء الوحدة الوطنية وتعزيز التضامن والتفاهم والحوار بين التيارات المختلفة لتوحيد الإرادة والجهد وتعبئة المجتمع بأكمله لمواجهة الأخطار الحقيقية تستخدم السلطة هذه الضغوط لتوجيه قطاعات الرأي العام السوري واحدها ضد الآخر على أمل قطع الطريق على المطالب الديمقراطية والتعددية وتبرير الإبقاء على الإجراءات الأمنية الاستثنائية. إن نقل المعركة إلى الداخل الوطني وضد قوى المعارضة الفتية هو أكبر هدية نقدمها لتلك القوى الخارجية الاستعمارية نفسها التي نسعى إلى التخلص من ضغوطها او إلى فك الخناق الذي تضربه علينا. ليس ذلك بسبب ما تؤمنه الانتهاكات المتزايدة لحقوق الانسان من ذرائع إضافية لتعزيز الضغوط الموجهة إلينا فحسب ولكن بسبب حرف أنظار مجتمعنا أيضا عن المهام الحقيقية المطلوبة لمواجهة التدخل وفي مقدمها الوحدة والتفاهم والثقة المتبادلة وتسويد لغة الحوار الحضارية لتحقيق أي مشروع إصلاح داخلي أو ذاتي.
ليس للمعارضة الجنينية ولا للمثقفين المهمشين والمحرومين من أي وظيفة أو سلطة إجتماعية أي نصيب من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع السورية من تراجع لا على المستويات الاستراتيجية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية. فليست المعارضة، بما في ذلك الخارجية، ومن باب اولى المعارضة الداخلية، بما تشمله من احزاب وطنية ديمقراطية ومنظمات وهيئات مدنية ومثقفين نقديين، هي المسؤولة عما أصاب النظام من ضعف في المعادلة الاقليمية والوطنية. فهي لم تكن طرفا في صوغ السياسات التي قادت إلى الصدام بين سورية والولايات المتحدة حول العراق. وليس لها أي ناقة ولا جمل في دفع الأمور نحو الأوضاع التي استدعت خروج القوات السورية تحت الضغط الدولي من لبنان. وليست هي المسؤولة من قريب او بعيد عن حصول القطيعة المدوية مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كان قد جعل من فرنسا، كما كانت تكتب صحافة النظام، الحليف الاستراتيجي لسورية وفتح لها أبواب أوروبة بل والولايات المتحدة. وليس للمعارضة أي ضلع في البطء إن لم نقل في التعثر الذي شهدته ولا تزال عملية الاصلاح الاقتصادي ولا من باب أولى في الاختناق السياسي الذي تعيشه البلاد. وليس لسياساتها وسلوكها وتصريحاتها وتحليلات كتابها أي نصيب في استشراس الفساد واكتساحه جميع مؤسسات الدولة ودوائرها ولا في الخروقات المتزايدة لحقوق الانسان وحرياته الأساسية.
بل، بالعكس، لم تكف هذه المعارضة منذ انبعاثها في السنوات القليلة الماضية عن تأكيد تضامنها مع النظام في جميع القضايا الوطنية ورفضها القاطع للتعامل مع أي قوى أجنبية لأي هدف كان. وباستثناء تلك المجموعات الصغيرة الطارئة التي اكتشفت لنفسها في واشنطن رسالة معارضية في السنتين الماضيتين، على أثر اتخاذ الولايات المتحدة موقفا معاديا للنظام السوري من دون شك، ظلت المعارضة السورية، ولا تزال أجزاء كبيرة منها تتبنى حتى اليوم موقف الحوار مع السلطة القائمة، والمراهنة على رئيسها وفريقه في سبيل إنجاح مشروع للاصلاح والتغيير من الداخل وبالتفاهم مع السلطة. وهي تدعو ليل نهار إلى مصالحة وطنية وتناشد النظام العمل من أجل مؤتمر وطني يجمع كل الأطراف وفي مقدمها الحزب الحاكم حتى تتجنب العنف وتجنب البلاد التدخلات الأجنبية.
بالتأكيد لم تكن المعارضة في توافق دائم مع السلطة في جميع مواقفها، وهذا أقل ما يمكن انتظاره من معارضة مهما كانت ظروفها. فقد كانت تطالب بالفعل بتصحيح العلاقات مع لبنان وتلح على ضرورة ربط الاصلاح الاقتصادي بالاصلاح السياسي وتدعو إلى وقف انتهاكات حقوق الانسان ووقف العمل بقوانين الطواريء والأحكام العرفية وفتح الباب أمام المشاركة السياسية والعمل على تعميق الحوار في اتجاه المصالحة الوطنية. لكن ذلك يصب جميعا في تعزيز الجبهة الداخلية ولا يشكل أي تهديدا ولا إضعافا للموقف السوري بأي حال.
قد يقول البعض إن المعارضة قد أساءت لصورة سورية لأنها نشرت الغسيل الوسخ عندما تحدثت عن غياب الحريات وعن الخروق المتكررة لحقوق الانسان وساعدت بذلك اعداء البلاد على استخدام انتقاداتها لتبرير الحصار المضروب اليوم على سورية. لكن بالإضافة إلى أن الكشف عن انتهاكات حقوق الانسان هو واجب وطني وإنساني لا يمكن محاسبة احد بسبب تأديته ولكن شكره عليه، فهو بالأساس تذكير بحكم القانون والدستور لصالح احترام الشعب السوري وكرامته، فإن المسؤول الحقيقي عن إساءة سمعة سورية يكون عندئذ اولئك الذين ينتهكون بالفعل حقوق الانسان ومن الحري بالسلطة أن تحاسبهم على إسائتهم لبلدهم وتشويههم لصورته. وبالمثل، لم يكن لأولئك السوريين القلائل الذين دعوا إلى بناء علاقات متوازنة وطبيعية مع بيروت أي دور في خلق الظروف الدولية التي أجبرت القوات السورية على الخروج من لبنان، وفي مقدمها التحالف الفرنسي الأمريكي، وإنما الأعمال والممارسات غير المسؤولة وغير الطبيعية التي ألبت مشاعر اللبنانيين ضد سورية ودفعت مئات الألوف منهم إلى الخروج مطالبين برحيل القوات العربية. وأخيرا لم تكن المعارضة هي العقبة التي حالت دون تقدم عملية إصلاح الأحوال الاقتصادية والسياسية والإدارية ولكن هذه العقبة كانت، على ما لم يكف المسؤولون السوريون أنفسهم عن ترداده، في الداخل والخارج، وما عبروا عنه في مؤتمر الحزب الأخير، حرس النظام البعثي القديم نفسه ومراكز القوى وشبكات المصالح الكبرى التابعة للنظام والمكونة له معا.
ثم كيف يمكن تحميل المعارضة مسؤولية الإخفاقات والمآزق والتحديات الصعبة التي يعيشها النظام وفي الوقت نفسه قبول ما يردده المسؤولون أنفسهم، على سبيل تبرير عدم الاعتراف بها ورفض الحوار معها، حول محدودية نفوذها بل ضآلة عدد أعضائها الذين يعدون بالعشرات ولا فاعليتها، وعجزها، كما قال وزير الخارجية فاروق الشرع في احد تصريحاته، حتى عن "إدارة مدرسة ابتدائية". لا يمكن لمثل هذه المعارضة الموسومة بالغياب والضعف واللاعقلانية والركض وراء أهداف وهمية أن تتسبب في محاصرة النظام أو إضعافه أو عزله عن حلفائه أو منعه من الاصلاح حتى لو أرادت ذلك ومن باب أولى أن تنجح، وهي التي لا تزال ترفض حتى اليوم أي حوار مع أي طرف خارجي عربي أو أجنبي، في تأليب الدول الكبرى عليه.
لا يعني هذا ان المعارضة السورية غنية عن النقد. العكس هو الصحيح. لكن النقد الذي يوجه إليها يتعلق بالضبط بضعف معارضتها أي بغيابها عن صنع الحدث وبالتالي بعدم نجاحها في القيام بوظيفتها وواجبها في خلق التوازن السياسي الذي كان من الممكن أن يحد من نزعة النظام الإرادوية ويضغط عليه في اتجاه أن تكون خياراته الاستراتيجية والسياسية أكثر اتساقا مع الحقائق الموضوعية وبالتالي أكثر نجاعة وعقلانية من وجهة نظر المصالح الوطنية. وسبب هذا الضعف هو إخفاقها في جذب أصحاب المصلحة في التغيير والاصلاح من ملايين السوريين، من داخل النظام وخارجه، إلى العمل الايجابي والناجع وتنظيمهم وقيادة حركتهم حتى يمكن زيادة فرص التغيير بالطرق السلمية وتجنب الاحتقان الذي يدفع نحو تزايد الأزمات والتفجرات التي لا يستطيع احد أن يتحكم بمسارها. بمعنى آخر إن المعارضة تنتقد لتقصيرها في بذل الجهد النظري والعملي حتى تكون معارضة حقيقية مؤثرة في الواقع الوطني وليس لإعلانها مواقف وتبنيها سياسات مختلفة عن النظام أو نقدها لما تعتقد أنه خيارات خاطئة. لكن ضعف المعارضة أو عجزها لا يبرران ولا ينبغي أن يبررا إضطهادها او تحويلها إلى كبش فداء يغني عن البحث المشترك عن الحلول الناجعة المطلوبة أو يكون بديلا عن بناء سياسة وطنية. فبالرغم من جميع الاعتقادات المترسخة في جدوى القمع، لن يساهم القضاء على المعارضة أبدا في تعزيز وجود النظام في وجه خصومه بقدر ما سيضاعف من عزلته واضطرابه. ولن يزيد من قدرته على مواجهة التحديات وإنما على إضعافها. وهو، قد يدفع بالمجتمعات، بقدر ما يلغي أفق التغيير السلمي وآماله، بالقوة إلى العنف. وللأسف، لا يدرك الكثير من المسؤولين أن من الممكن أن يكون ثمن القضاء على المعارضة أو بالمصطلح الحزبي "تعريتها"، وهي اليوم المتنفس الوحيد للاحتقانات الشعبية العميقة الناجمة عن الإخفاق والإحباط وانعدام الآفاق، تعرية النظام نفسه وربما تعرية البلاد وتعريضها لجميع المخاطر والانفجارات.
"الرأي / خاص
التراجع عن موقف غض النظر النسبي عن بعض النشاطات الفكرية التي تطورت في السنوات القليلة الفائتة، والعودة إلى سياسة الاعتقالات التأديبية التي تطال الآباء وأبناءهم وتوسيع دائرة الملاحقات الأمنية للمثقفين والناشطين المدنيين وإغلاق ما تبقى من المنتديات الفكرية (منتدى جمال الأتاسي الديمقراطي) ومنع أي شكل من أشكال التعبير المستقل على أي مستوى كان وفي أي مكان. وفي هذا الباب يدخل أيضا التخوين المنتظم للمخالفين في الرأي وكيل التهم لهم والتشهير بهم وتشويه سمعتهم وتهديدهم علنيا على لسان بعض المسؤولين وفي الصحافة الرسمية، المكتوبة والمسموعة.
تعكس هذه المواقف الجديدة الحساسية المفرطة لبعض المسؤولين تجاه النقد الموجه لأداء النظام من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام، من داخل الحزب الحاكم وخارجه. وهي تشكل رد فعل مفهوم على المخاوف التي يعيشها الحكم نتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها بعد خسارته جميع حلفائه العرب والدوليين وتراجع آماله في تحقيق الإصلاح الاقصادي والإداري الذي راهن عليه لتبرير استمراره وتجديد شرعيته وكذلك نتيجة انحسار هامش مناورته الاستراتيجية، وهو الذي اعتاد طويلا العمل ضمن هامش واسع جدا من حرية الحركة والتفاهمات العربية والاقليمية والدولية سمحت له بأن يتجاوز حتى الأمس، من دون صعوبات وتكاليف كبيرة، جميع المآزق والمزالق وأخطاء التقدير على المستويين الداخلي والخارجي.
لكن هناك أسباب عميقة تدعو إلى القلق من ان تتحول هذه الحملة المستمرة منذ أشهر إلى تحويل المعارضة السورية، وعلى رأسها المثقفين، إلى كبش فداء قد تستخدمه السلطة لتحقيق أهداف عديدة مثل تنفيث غضب الشارع السوري واحتقاناته العميقة وحرف الأنظار عن مسؤولياتها الخاصة في ايصال الأوضاع إلى ما هي عليه والتغطية على العجز عن مواجهة الخصم الحقيقي الذي لا تطاله، أعني التحالف الاوروبي الامريكي الذي يقود حملة ضغوط مستمرة عليها، وأخيرا لإخفاء استجابة دمشق المتزايدة أيضا للمطالب الأمريكية التي تتهم المعارضة بارتكابها. هكذا تستخدم السلطة ما تدعي أنه تآمر المعارضة الناشئة إن لم نقل الجنينية عليها، بسبب انتقاداتها السياسية، ذريعة لإعفاء نفسها من واجبها في تقديم خطة عقلانية وناجعة لمواجهة المخاطر الحقيقية وللتصدي للأطراف المعادية الفعلية. وهذا ما يفسر الاستخدام الموسع لمفردات الخيانة والتآمر والتعاون مع الأجنبي. فنظرية المؤامرة لا تهدف في الواقع، سواء استخدمت في مواجهة المعارضة أو في مواجهة القوى الأجنبية، إلا إلى التهرب من المناقشة العقلانية للخيارات الاستراتيجية والسياسية ومراجعتها وبالتالي إلى تبرئة النفس من المسؤولية.
لا يكمن خطر مثل هذا التوجه مما يولده من إجراءات ومضايقات جديدة تزيد من آلام السوريين وعذاباتهم فحسب ولكن أكثر من ذلك من تهديده بتعميق الأزمة الوطنية وقطع الطريق على أية برامج إصلاحية. إنه يجسد السير في عكس الاتجاه المطلوب ويقود لا محالة إلى عكس النتائج المتوخاة منه ويصب في طاحونة القوى الاجنبية الضاغطة على سورية والمهددة لها. فهو يزيد من مخاطر القلق والشك والانقسام داخل الصف الوطني ويضعف من مقدرة البلاد على مواجهة التحديات الفعلية. فبدل أن تكون الضغوط الخارجية مناسبة لإعادة بناء الوحدة الوطنية وتعزيز التضامن والتفاهم والحوار بين التيارات المختلفة لتوحيد الإرادة والجهد وتعبئة المجتمع بأكمله لمواجهة الأخطار الحقيقية تستخدم السلطة هذه الضغوط لتوجيه قطاعات الرأي العام السوري واحدها ضد الآخر على أمل قطع الطريق على المطالب الديمقراطية والتعددية وتبرير الإبقاء على الإجراءات الأمنية الاستثنائية. إن نقل المعركة إلى الداخل الوطني وضد قوى المعارضة الفتية هو أكبر هدية نقدمها لتلك القوى الخارجية الاستعمارية نفسها التي نسعى إلى التخلص من ضغوطها او إلى فك الخناق الذي تضربه علينا. ليس ذلك بسبب ما تؤمنه الانتهاكات المتزايدة لحقوق الانسان من ذرائع إضافية لتعزيز الضغوط الموجهة إلينا فحسب ولكن بسبب حرف أنظار مجتمعنا أيضا عن المهام الحقيقية المطلوبة لمواجهة التدخل وفي مقدمها الوحدة والتفاهم والثقة المتبادلة وتسويد لغة الحوار الحضارية لتحقيق أي مشروع إصلاح داخلي أو ذاتي.
ليس للمعارضة الجنينية ولا للمثقفين المهمشين والمحرومين من أي وظيفة أو سلطة إجتماعية أي نصيب من المسؤولية في ما آلت إليه الأوضاع السورية من تراجع لا على المستويات الاستراتيجية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية. فليست المعارضة، بما في ذلك الخارجية، ومن باب اولى المعارضة الداخلية، بما تشمله من احزاب وطنية ديمقراطية ومنظمات وهيئات مدنية ومثقفين نقديين، هي المسؤولة عما أصاب النظام من ضعف في المعادلة الاقليمية والوطنية. فهي لم تكن طرفا في صوغ السياسات التي قادت إلى الصدام بين سورية والولايات المتحدة حول العراق. وليس لها أي ناقة ولا جمل في دفع الأمور نحو الأوضاع التي استدعت خروج القوات السورية تحت الضغط الدولي من لبنان. وليست هي المسؤولة من قريب او بعيد عن حصول القطيعة المدوية مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي كان قد جعل من فرنسا، كما كانت تكتب صحافة النظام، الحليف الاستراتيجي لسورية وفتح لها أبواب أوروبة بل والولايات المتحدة. وليس للمعارضة أي ضلع في البطء إن لم نقل في التعثر الذي شهدته ولا تزال عملية الاصلاح الاقتصادي ولا من باب أولى في الاختناق السياسي الذي تعيشه البلاد. وليس لسياساتها وسلوكها وتصريحاتها وتحليلات كتابها أي نصيب في استشراس الفساد واكتساحه جميع مؤسسات الدولة ودوائرها ولا في الخروقات المتزايدة لحقوق الانسان وحرياته الأساسية.
بل، بالعكس، لم تكف هذه المعارضة منذ انبعاثها في السنوات القليلة الماضية عن تأكيد تضامنها مع النظام في جميع القضايا الوطنية ورفضها القاطع للتعامل مع أي قوى أجنبية لأي هدف كان. وباستثناء تلك المجموعات الصغيرة الطارئة التي اكتشفت لنفسها في واشنطن رسالة معارضية في السنتين الماضيتين، على أثر اتخاذ الولايات المتحدة موقفا معاديا للنظام السوري من دون شك، ظلت المعارضة السورية، ولا تزال أجزاء كبيرة منها تتبنى حتى اليوم موقف الحوار مع السلطة القائمة، والمراهنة على رئيسها وفريقه في سبيل إنجاح مشروع للاصلاح والتغيير من الداخل وبالتفاهم مع السلطة. وهي تدعو ليل نهار إلى مصالحة وطنية وتناشد النظام العمل من أجل مؤتمر وطني يجمع كل الأطراف وفي مقدمها الحزب الحاكم حتى تتجنب العنف وتجنب البلاد التدخلات الأجنبية.
بالتأكيد لم تكن المعارضة في توافق دائم مع السلطة في جميع مواقفها، وهذا أقل ما يمكن انتظاره من معارضة مهما كانت ظروفها. فقد كانت تطالب بالفعل بتصحيح العلاقات مع لبنان وتلح على ضرورة ربط الاصلاح الاقتصادي بالاصلاح السياسي وتدعو إلى وقف انتهاكات حقوق الانسان ووقف العمل بقوانين الطواريء والأحكام العرفية وفتح الباب أمام المشاركة السياسية والعمل على تعميق الحوار في اتجاه المصالحة الوطنية. لكن ذلك يصب جميعا في تعزيز الجبهة الداخلية ولا يشكل أي تهديدا ولا إضعافا للموقف السوري بأي حال.
قد يقول البعض إن المعارضة قد أساءت لصورة سورية لأنها نشرت الغسيل الوسخ عندما تحدثت عن غياب الحريات وعن الخروق المتكررة لحقوق الانسان وساعدت بذلك اعداء البلاد على استخدام انتقاداتها لتبرير الحصار المضروب اليوم على سورية. لكن بالإضافة إلى أن الكشف عن انتهاكات حقوق الانسان هو واجب وطني وإنساني لا يمكن محاسبة احد بسبب تأديته ولكن شكره عليه، فهو بالأساس تذكير بحكم القانون والدستور لصالح احترام الشعب السوري وكرامته، فإن المسؤول الحقيقي عن إساءة سمعة سورية يكون عندئذ اولئك الذين ينتهكون بالفعل حقوق الانسان ومن الحري بالسلطة أن تحاسبهم على إسائتهم لبلدهم وتشويههم لصورته. وبالمثل، لم يكن لأولئك السوريين القلائل الذين دعوا إلى بناء علاقات متوازنة وطبيعية مع بيروت أي دور في خلق الظروف الدولية التي أجبرت القوات السورية على الخروج من لبنان، وفي مقدمها التحالف الفرنسي الأمريكي، وإنما الأعمال والممارسات غير المسؤولة وغير الطبيعية التي ألبت مشاعر اللبنانيين ضد سورية ودفعت مئات الألوف منهم إلى الخروج مطالبين برحيل القوات العربية. وأخيرا لم تكن المعارضة هي العقبة التي حالت دون تقدم عملية إصلاح الأحوال الاقتصادية والسياسية والإدارية ولكن هذه العقبة كانت، على ما لم يكف المسؤولون السوريون أنفسهم عن ترداده، في الداخل والخارج، وما عبروا عنه في مؤتمر الحزب الأخير، حرس النظام البعثي القديم نفسه ومراكز القوى وشبكات المصالح الكبرى التابعة للنظام والمكونة له معا.
ثم كيف يمكن تحميل المعارضة مسؤولية الإخفاقات والمآزق والتحديات الصعبة التي يعيشها النظام وفي الوقت نفسه قبول ما يردده المسؤولون أنفسهم، على سبيل تبرير عدم الاعتراف بها ورفض الحوار معها، حول محدودية نفوذها بل ضآلة عدد أعضائها الذين يعدون بالعشرات ولا فاعليتها، وعجزها، كما قال وزير الخارجية فاروق الشرع في احد تصريحاته، حتى عن "إدارة مدرسة ابتدائية". لا يمكن لمثل هذه المعارضة الموسومة بالغياب والضعف واللاعقلانية والركض وراء أهداف وهمية أن تتسبب في محاصرة النظام أو إضعافه أو عزله عن حلفائه أو منعه من الاصلاح حتى لو أرادت ذلك ومن باب أولى أن تنجح، وهي التي لا تزال ترفض حتى اليوم أي حوار مع أي طرف خارجي عربي أو أجنبي، في تأليب الدول الكبرى عليه.
لا يعني هذا ان المعارضة السورية غنية عن النقد. العكس هو الصحيح. لكن النقد الذي يوجه إليها يتعلق بالضبط بضعف معارضتها أي بغيابها عن صنع الحدث وبالتالي بعدم نجاحها في القيام بوظيفتها وواجبها في خلق التوازن السياسي الذي كان من الممكن أن يحد من نزعة النظام الإرادوية ويضغط عليه في اتجاه أن تكون خياراته الاستراتيجية والسياسية أكثر اتساقا مع الحقائق الموضوعية وبالتالي أكثر نجاعة وعقلانية من وجهة نظر المصالح الوطنية. وسبب هذا الضعف هو إخفاقها في جذب أصحاب المصلحة في التغيير والاصلاح من ملايين السوريين، من داخل النظام وخارجه، إلى العمل الايجابي والناجع وتنظيمهم وقيادة حركتهم حتى يمكن زيادة فرص التغيير بالطرق السلمية وتجنب الاحتقان الذي يدفع نحو تزايد الأزمات والتفجرات التي لا يستطيع احد أن يتحكم بمسارها. بمعنى آخر إن المعارضة تنتقد لتقصيرها في بذل الجهد النظري والعملي حتى تكون معارضة حقيقية مؤثرة في الواقع الوطني وليس لإعلانها مواقف وتبنيها سياسات مختلفة عن النظام أو نقدها لما تعتقد أنه خيارات خاطئة. لكن ضعف المعارضة أو عجزها لا يبرران ولا ينبغي أن يبررا إضطهادها او تحويلها إلى كبش فداء يغني عن البحث المشترك عن الحلول الناجعة المطلوبة أو يكون بديلا عن بناء سياسة وطنية. فبالرغم من جميع الاعتقادات المترسخة في جدوى القمع، لن يساهم القضاء على المعارضة أبدا في تعزيز وجود النظام في وجه خصومه بقدر ما سيضاعف من عزلته واضطرابه. ولن يزيد من قدرته على مواجهة التحديات وإنما على إضعافها. وهو، قد يدفع بالمجتمعات، بقدر ما يلغي أفق التغيير السلمي وآماله، بالقوة إلى العنف. وللأسف، لا يدرك الكثير من المسؤولين أن من الممكن أن يكون ثمن القضاء على المعارضة أو بالمصطلح الحزبي "تعريتها"، وهي اليوم المتنفس الوحيد للاحتقانات الشعبية العميقة الناجمة عن الإخفاق والإحباط وانعدام الآفاق، تعرية النظام نفسه وربما تعرية البلاد وتعريضها لجميع المخاطر والانفجارات.
"الرأي / خاص