قرصان الأدرياتيك
17/10/2008, 13:45
أزمة رواية "عزازيل" في مصر
لا تخافوا الكتب فالفتنة في الجهل أولاً
بات لديّ شوق لقراءة رواية الدكتور يوسف زيدان "عزازيل" الصادرة عن دار الشروق في مصر. وهذا الشوق ليس نابعاً وحده من اطلاعي على مراجعة كتبها ناقد معروف يحلّل فيها الرواية تحليلاً أدبياً مما شجعني على قراءتها، وانا ممن يهدون الرواية ويتتبعون جديدها. الشوق نابع من الهجوم الذي تعرض له كاتب الرواية من بعض اساقفة الكنيسة القبطية ومدنييها. فما من كتاب يروج في المكتبات كالكتاب الذي يهاجمه رجال الدين. لذلك تعلمنا أن افضل وسيلة ترويجية لكتاب جديد هي أن تهاجمه المؤسسة الدينية، مسيحية او إسلامية لا فرق البتّة.
على الرغم من تأكيد الدكتور يوسف زيدان، وهو رئيس قسم المخطوطات في مكتبة الاسكندرية، ان روايته "عمل أدبي"، تعامل رجال الكنيسة القبطية الارثوذكسية معها من منطلقات عقيدية. فوجد الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدّس، أن الرواية تتضمن اساءة للمسيحية، وأنّ نيّة الدكتور زيدان "تدمير العقيدة المسيحية". واعتبر القمص عبد المسيح بسيط، أستاذ اللاهوت الدفاعي في الكلية الاكليريكية، أن الرواية "تنتصر للهراطقة وتوجّه هجوماً شديداً للكنيسة ورمزها القديس مرقس".
أما الذريعة التس استند اليها رجال الكنيسة لرفع دعوة قضائية يطالبون فيها بمنع تداول الرواية فهي "درء الفتنة" بين المسلمين والمسيحيين في مصر، بحسب ما ورد في تصريح لرمسيس نجّار، عضو هيئة مستشاري الكنيسة القبطية. وأضاف نجار قائلاً في إشارة الى كون كاتب الرواية مسلماً: "من الممكن جداً وسط هذا المناخ الطائفي السائد في مصر أن يخرج علينا باحث مسيحي برواية للسيرة النبوية قد تلقى اعتراضات من الجانب الاسلامي ونصبح في سباق طائفي لا نعرف مدى نهايته".
لقد شاع أخيراً عند صدور كتاب جديد كتبه مسلم يتناول فيه موضوعاً مسيحياً او مسيحي موضوعاً اسلامياً أن تسارع المؤسسات الدينية الى المطالبة بمنعه بذريعة "درء الفتنة" او "اثارة النعرات الطائفية". وهذا ما خبرناه عام 2005 مع نشر كتاب العالم الالماني تيودور نولدكه "تاريخ القرآن" مترجماً الى العربية، حيث اصدرت احدى المرجعيات المذهبية في لبنان بياناً طالبت فيه الأمن العام اللبناني بمصادرة الكتاب لأنه "يثير النعرات الطائفية ويمس بمشاعر المسلمين". ومع الإشارة الى التفاوت في القيمة العلمية بين رواية زيدان وكتاب نولدكه، لا يسعنا سوى ان نستغرب كيف يمكن كتاباً أن يصنع فتنة او أن يثير النعرات الطائفية في مجتمع يتغنى أبناؤه ليلاً نهاراً بالوحدة الوطنية وبالعيش المشترك؟
أما الأنبا موسى، اسقف الشباب وعضو اللجنة المجتمعية في الكنيسة القبطية، فقد كان له موقف ايجابي لافت، اذ اعتبر أن الكنيسة "مع حرية الفكر والابداع وترفض مبدأ المصادرة، بل تتخذ من الحوار مع الآخر وقبوله منهجاً في التعامل ومواجهة القضايا الجدلية"، ودعا بالوقت عينه الى مناقشة الكاتب ورد الحجة بالحجة. هذا هو الموقف الراقي الذي ينبغي لرجال الدين تبنيه، فعصرنا ليس عصر محاكم التفتيش ولا عصر الوصاية الفكرية للمؤسسة الدينية على المجتمع. ودور رجال الدين يكمن في توعية مريديهم وتنبيههم الى انحرافات يرونها في ما ينشر هنا وثمة، ولكن سلطتهم الروحية والمعنوية ينبغي ألا تتجاوز حدود مؤسساتهم الى المجتمع كله.
لا شك في أن الوضع الطائفي في مصر مثير للقلق، وقد عرض الصديق جورج ناصيف يوم الاربعاء الماضي لهذا الأمر بكل موضوعية وشفافية. غير ان معالجة هذا الوضع المهتز لا تكون بقمع الكتب، بل بعمل المؤسستين الدينيتين اللتين يدين لهما بالولاء عموم الشعب المصري، الأزهر والبطريركية القبطية، على تنشئة شيوخ المساجد وكهنة الكنائس على ثقافة قبول الآخر كي لا تتحول المنابر يومي الجمعة الاحد الى اثارة الفتن، حيث التأثير على العامة هو الأكبر. الفتنة تخرج من منابر التعليم والوعظ لا من بطون الكتب، الفتنة تذرّ قرونها حيث الجهل وعدم معرفة الآخر كما هو يريد أن يعرّف عن نفسه. المعركة ضد الفتنة تبدأ من هناك، فلا تفقدوا البوصلة.
الأب جورج مسّوح
عن جريدة "النهار"، الجمعة 17 تشرين الأول، السنة 76، العدد 23503، صفحة "مذاهب وأديان".
لا تخافوا الكتب فالفتنة في الجهل أولاً
بات لديّ شوق لقراءة رواية الدكتور يوسف زيدان "عزازيل" الصادرة عن دار الشروق في مصر. وهذا الشوق ليس نابعاً وحده من اطلاعي على مراجعة كتبها ناقد معروف يحلّل فيها الرواية تحليلاً أدبياً مما شجعني على قراءتها، وانا ممن يهدون الرواية ويتتبعون جديدها. الشوق نابع من الهجوم الذي تعرض له كاتب الرواية من بعض اساقفة الكنيسة القبطية ومدنييها. فما من كتاب يروج في المكتبات كالكتاب الذي يهاجمه رجال الدين. لذلك تعلمنا أن افضل وسيلة ترويجية لكتاب جديد هي أن تهاجمه المؤسسة الدينية، مسيحية او إسلامية لا فرق البتّة.
على الرغم من تأكيد الدكتور يوسف زيدان، وهو رئيس قسم المخطوطات في مكتبة الاسكندرية، ان روايته "عمل أدبي"، تعامل رجال الكنيسة القبطية الارثوذكسية معها من منطلقات عقيدية. فوجد الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدّس، أن الرواية تتضمن اساءة للمسيحية، وأنّ نيّة الدكتور زيدان "تدمير العقيدة المسيحية". واعتبر القمص عبد المسيح بسيط، أستاذ اللاهوت الدفاعي في الكلية الاكليريكية، أن الرواية "تنتصر للهراطقة وتوجّه هجوماً شديداً للكنيسة ورمزها القديس مرقس".
أما الذريعة التس استند اليها رجال الكنيسة لرفع دعوة قضائية يطالبون فيها بمنع تداول الرواية فهي "درء الفتنة" بين المسلمين والمسيحيين في مصر، بحسب ما ورد في تصريح لرمسيس نجّار، عضو هيئة مستشاري الكنيسة القبطية. وأضاف نجار قائلاً في إشارة الى كون كاتب الرواية مسلماً: "من الممكن جداً وسط هذا المناخ الطائفي السائد في مصر أن يخرج علينا باحث مسيحي برواية للسيرة النبوية قد تلقى اعتراضات من الجانب الاسلامي ونصبح في سباق طائفي لا نعرف مدى نهايته".
لقد شاع أخيراً عند صدور كتاب جديد كتبه مسلم يتناول فيه موضوعاً مسيحياً او مسيحي موضوعاً اسلامياً أن تسارع المؤسسات الدينية الى المطالبة بمنعه بذريعة "درء الفتنة" او "اثارة النعرات الطائفية". وهذا ما خبرناه عام 2005 مع نشر كتاب العالم الالماني تيودور نولدكه "تاريخ القرآن" مترجماً الى العربية، حيث اصدرت احدى المرجعيات المذهبية في لبنان بياناً طالبت فيه الأمن العام اللبناني بمصادرة الكتاب لأنه "يثير النعرات الطائفية ويمس بمشاعر المسلمين". ومع الإشارة الى التفاوت في القيمة العلمية بين رواية زيدان وكتاب نولدكه، لا يسعنا سوى ان نستغرب كيف يمكن كتاباً أن يصنع فتنة او أن يثير النعرات الطائفية في مجتمع يتغنى أبناؤه ليلاً نهاراً بالوحدة الوطنية وبالعيش المشترك؟
أما الأنبا موسى، اسقف الشباب وعضو اللجنة المجتمعية في الكنيسة القبطية، فقد كان له موقف ايجابي لافت، اذ اعتبر أن الكنيسة "مع حرية الفكر والابداع وترفض مبدأ المصادرة، بل تتخذ من الحوار مع الآخر وقبوله منهجاً في التعامل ومواجهة القضايا الجدلية"، ودعا بالوقت عينه الى مناقشة الكاتب ورد الحجة بالحجة. هذا هو الموقف الراقي الذي ينبغي لرجال الدين تبنيه، فعصرنا ليس عصر محاكم التفتيش ولا عصر الوصاية الفكرية للمؤسسة الدينية على المجتمع. ودور رجال الدين يكمن في توعية مريديهم وتنبيههم الى انحرافات يرونها في ما ينشر هنا وثمة، ولكن سلطتهم الروحية والمعنوية ينبغي ألا تتجاوز حدود مؤسساتهم الى المجتمع كله.
لا شك في أن الوضع الطائفي في مصر مثير للقلق، وقد عرض الصديق جورج ناصيف يوم الاربعاء الماضي لهذا الأمر بكل موضوعية وشفافية. غير ان معالجة هذا الوضع المهتز لا تكون بقمع الكتب، بل بعمل المؤسستين الدينيتين اللتين يدين لهما بالولاء عموم الشعب المصري، الأزهر والبطريركية القبطية، على تنشئة شيوخ المساجد وكهنة الكنائس على ثقافة قبول الآخر كي لا تتحول المنابر يومي الجمعة الاحد الى اثارة الفتن، حيث التأثير على العامة هو الأكبر. الفتنة تخرج من منابر التعليم والوعظ لا من بطون الكتب، الفتنة تذرّ قرونها حيث الجهل وعدم معرفة الآخر كما هو يريد أن يعرّف عن نفسه. المعركة ضد الفتنة تبدأ من هناك، فلا تفقدوا البوصلة.
الأب جورج مسّوح
عن جريدة "النهار"، الجمعة 17 تشرين الأول، السنة 76، العدد 23503، صفحة "مذاهب وأديان".