ابو نجبو
15/11/2008, 09:33
بالتأكيد أن جميعنا يعرف من هو المثقف ..
ومن المؤكد أن لكل واحد منا تعريف ( خاص به ) عن المثقف ..
لا توجد مشكلة في هذا .. لنعتبر اختلاف تعريف المثقف ضمن حرية الرأي والتعبير .. فمن غير المعقول أن نمسك في خناق بعضنا البعض من أجل خلاف بسيط كهذا ، خاصةً إذا كنا مثقفين حقاً !..
لكن هل تعرفون ما بعد المثقف ؟ .. المثقف الحداثيّ .. يعني سوبر مثقف !
بما أنني غائب عن المحور الثقافي بسبب ما يجري في المحور السياسي ، وبما أنه جرت العادة في مثل هذه الظروف أن استعين بصديقي ربيع الذي بدأت مواضيعه القديمة تتآكل بانهيار المنتديات التي يكتب فيها ولم يتبق منها إلا القليل هنا في الشبكة وكذلك في ملتقى القسام ومن بينها هذا الموضوع الذي سيحدثكم فيه عن ....
الأفضل أن تتابعوا لتعرفوا ..
- هل تعرفون صاحبي ؟؟
هو أشهر من نار على علم .. فهو مثقف جداً .. يعرف كل زاوية من زوايا الثقافة و كل دهليز من دهاليز الحداثة و كل حركة و سكنة لكبار المثقفين و المفكرين ( الغربيين طبعاً ) .. فإن سألته فلسفة .. أفاض في مدح سارتر حتى تخاله من أبناء عمومته .. و إن عن على بالك فن القصة ذكّرك بألبير كامو و سومرست موم حتى تظنه كان يشرب قهوته معهما .. و إن تحدثنا بالرسم بكى من شدة تأثره بدالي و مونيه حتى تحسب أنه شيعهما إلى مثواهما الأخير .
ألم أقل لكم … هو مثقف جداً .
قلت له ذات يوم :
- أريد أن أصبح مثقفاً .
تأملني ملياً من رأسي إلى قدمي .. و ابتسم ابتسامة الواثق المستهزىء .. و قال :
- يطعمك الحج و الناس راجعة .
– لماذا ..؟؟ هل أصبحت الثقافة موضة قديمة ..؟؟
- ياعزيزي .. الآن تخطينا مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة .. و بالتالي لم يعد يكفي أن يصبح المرء مثقفاً .. بل يجب أن يساير هذا التطور فيصبح ( بعد مثقف ) .
- إذاً .. أريد أن أصبح بعد مثقف ( بإصرار و إلحاف و إلحاح ) .
- لا أعتقد أنك تصلح لذلك ..؟؟
- - لمَ لا ..؟؟ و الله إني من هواة الفن و الشعر و الأدب .. فوالله إني لا أترك قصاصة ورق من كتاب أو جريدة دون أن ألتهمها التهام الجائع بعد مسغبة .. و والله إني لا أبارح معارض الفن دون أن أملي عيني بروائع الألوان و جمالات الفنون و بدائع الأعمال .. فماذا ينقصني ؟؟
- - ينقصك حسك الثقافي .. أنت لا تتطور أبداً .
- - طورني يا أخي .. طوّرني و لك الشكر مني و الثواب من الله .
فكّر مليا" و هو ينظر لي نظرة ازدراء و استخفاف .. لكنه في النهاية .. خبط على كتفي بحنان .. و قال مشفقا" :
- تكرم .. تكرم عيونك .. سأتبناك أيها الجاهل .. و سأجعل منك ما بعد مثقف حقيقي .. و سأفتح أمام عينيك الجاهلتين تلك عوالم الحداثة و الثقافة الحقيقية .
اغرورقت عينيّ بالدموع شاكراً المولى عز وجل أن من علي بمثل هذا الصديق الطيب .. و وعدته أن أكون طالباً مطيعاً و تلميذاً نجيباً .
أمسكني من يدي .. طالباً مني أن أسرع .. فنجمة حظي مبتسمة هذا الصباح ...
هناك معرض تشكيلي لفنان حديث جداً .. و علي أن أبدأ من هناك ..
في معرض الرسم ....
دلفنا إلى بهو المعرض الهادىء .. و لم يكن يقطع الصمت سوى همهمات خافتة من الرواد .. أو طرقات مثيرة مختالة لكعب نسائي مفرط الدقة و العلو .. و على الجدران تتناثر اللوحات ..
لوحة بيضاء من غير سوء .. لم تمسها يد إنس أو جان .. و أخرى مطموسة بلون أحمر فاقع مع بعض ضربات من فرشاة غليظة شئزة باللون الأصفر .. و ثالثة تأملتها طويلا" .. فما رسمه هذا الفنان كان غريباً حقاً :
امرأة لها من الأثداء خمسة و بعين واحدة .. و على ساقيها تتناثر العديد من الشفاه القانية .. تضطجع على خلفية من الخطوط المتقاطعة كأنها أسلاك شائكة .. و يد تبقر بطنها لتخترق ظهرها من الخلف منتهية بجذع شجرة غليظ .
تأملتها طويلاً دون جدوى .. و أيقنت أني مازلت في بداية مشواري الثقافي .. و أنه علي أن أستعين بأستاذي النحرير .
استدعيته متسائلا" .. فأجاب ( بعد أن مدح أطنب و أشاد بالعبقرية و الفن و الإلهام الذي يكمن في كل ركن من أركان هذه اللوحة ) :
- المرأة يا صديقي هي النفس البشرية التواقة للإخصاب و التكاثر .. و العين الواحدة هنا تعني أن هذه النفس مسيطرة مهيمنة بحيث لا ترى في الوجود إلا ما تريد أن تراه .. أما الأثداء الخمسة فهي تعبير عن عناصر الطبيعة المنطوية ضمن هذه النفس ( الماء – الهواء – التراب – النار ) و ربما كان الخامس هو الروح .. و الشفاه هي تعبير عن النزعة إلى .................................................. .................
استمر يفند و يشرح و يوضح الأبعاد و يسلط الأضواء على هذه اللوحة العبقرية .. استمعت إليه باهتمام و أنا أتساءل عن هذا الصديق العجيب الذي استطاع بنظرة واحدة أن يستخرج كل هذه الأسرار من تلك الشخبطة التي أسموها لوحة .
لكني لن أستسلم .. فأنا مازلت في بداية الطريق إلى الحداثة .. و علي أن أبذل ما يسعني ..
و الآن .. إلى معرض النحت ..
في معرض النحت ..
منذ أن تفتح الباب متوكلاً على الله لتدخل إلى المعرض تصطدم عيناك بصخرة كبيرة .. تشبه إلى حد بعيد حبة عملاقة من البطاطا المبعجرة .. لكنك عندما تتأملها قليلاً تكتشف أنك كنت مخطئاً .. فحبة البطاطا هذه ما هي إلا بطن امرأة حامل غاض وجهها و جذعها و كل جسدها بحيث لم يتبق منها إلا هذا البطن العملاق الذي يتسع لشعب كامل من الأجنة .. و قد اكتشفت ذلك لوحدي ( لا بد أني أتطور بسرعة ) و دون معونة من أحد عندما لاحظت شيئا" يشبه الجنين منحوتا" على هذا البطن العملاق .. لكن ما حيرني هو تلك الصخرة الصغيرة التي تنتأ من الجانب الأيسر كأنها ورم طفيلي ...
اممممممم .. لا بد أن في الأمر سراً .. ماذا يعني ذلك التمثال ..؟؟
و بعد التمحيص و التفكير و اعتصار الدماغ و استمطار السماء إلهاماتها .. قررت أن هذا التمثال يوضح علاقة الإنسان بالطبيعة .. فهي أم في النهاية .. و نحن أجنتها التي ترعانا و نكلأ من خيراتها ثم ندفن في ترابها .. و ربما كان هذا الورم هو نزعة الإنسان الأبدية للخروج من سجن أمه الطبيعة متطلعاً إلى آفاق معرفية جديدة ..
طرت فرحاً بهذا الاكتشاف ( فهاأنذا مثقف حداثوي حقيقي ) و طرت إلى صديقي أخبره بأن تلميذه بدأ يتعلم .. سألني عن أي تمثال أتحدث .. فأجبته :
- ذاك الذي يتصدر القاعة .. الذي يشبه البطاطا ..
- ذاك ..؟؟؟ و أشار إليه ..
- نعم هو ذاك ..
بدأ يقهقه و يخبط بقدميه الأرض من الضحك حتى دمعت عيناه .. وبين الضحكات و الشهقات قال :
- يا صديقي .. هذا تجريد .
- تجريد ..؟؟
- نعم .. تجريد .. أي أنه بلا معنى ..
- بلا معنى ..؟؟ و لماذا يكلف الفنان خاطره لنحت شيء لا معنى له ..؟؟؟
- تجرييييييييد .. كيف أستطيع أن أفهم هذا الجاهل ..؟؟ تجريد يعني بلا معنى .. مجرد اكتشاف لجمال الحجر عندما تتلاعب به يد النحات المبدعة فتجعله خلقاً آخر ..
- لكن هذا الخلق بلا معنى ....؟؟؟؟
- نعم .. و هذا هو الجمال فيه .. هو يعطيك الشكل و يترك لك حرية اكتشاف المعنى .. لا تبالِ يا صديقي .. مازلت غضاً في الحداثة .. لكنك ستتعلّم قريباً .. لا تقلق ..
حسن .. لن أقلق .. فما زال المشوار في بدايته ..
إلى أين الآن ..؟؟؟
ندوة ثقافية
ندوة فكرية ...
تطور العقل العربي وفق المنهج البنائي ..
أخذ مفكرنا العلامة نفساً عميقاً من غليونه المدبب كرأس أفعى .. ففاحت رائحة التبغ الكوبي الفاخر في أرجاء القاعة الصغيرة .. خلع قبعته الإنكليزية الأنيقة .. ألقى نظرة شامخة علينا - نحن الرعاع - .. ثم ابتسم :
- ثانكيو ... يو آر هير .. أوك .. ليتس أس ستارت ...
أخرجت ورقة بيضاء و قلماً لئلا تفوتني قطرة من سيل العلم العرمرم الذي سوف يفيض بعد قليل ...
وبدأ يتحدث ..
- إن من يتأمل تطور العقل العربي عبر المراحل الطويلة التي استغرقها تطور هذا العقل كبنية - ليست عضوية فحسب - و إنما ابتنائية أيضاً.. سيكتشف أن هذا العقل مميز في الحقيقة .
و يأتي هذا التميز عندما ندرك أن العقل العربي يبدو كأنه خارج عن منظومة العقل الإنساني عموما .. فالتاريخ يثبت أن هناك فجوة زمنية تقدر بأربعة آلاف عام عاش فيها العرق العربي مجهولا" تماما" دون أي نشاط إنساني ملحوظ .. مما يعني بالضرورة أنه لم يمر بكل المراحل التي قطعها العقل البشري عموماً للوصول إلى النمط الإنعتاقي من التفكير الموضوعي ..
و هنا علينا أن نتساءل :
ما هي طبيعة التفكير العربي بناءً على معطيات التاريخ و التطور الديالكتيكي للمجموعات البشرية ..؟؟
في الحقيقة فإن معظم الباحثين يعتقدون أن العقل العربي مسكون بنمط واحد من ردود الأفعال .. الصوتية خصوصاً .. و في أحسن الأحوال فإن رد الفعل هذا يندرج تحت ما يسميه علماء البيولوجيا ( الحيوان الشوكي ) أي أن رد الفعل يكون محصوراً بالأعصاب الذاتية دون أي تدخل من الدماغ الواعي .. مما يفرض نمطاً لاواعياً لهذه الاستجابات .. و يفرض على العربي نوعاً واحداً من ردود الأفعال .
و في دراسة حديثة أجريت في جامعة ( ….. ) تم تعريض 100 عربي لصدمات كهربائية تزداد تدريجياً حتى تصل إلى حد الألم المبرح .. و في كل الأحوال كانت الاستجابة واحدة .. و هي التصويت بكلمة ( آه ) في حين أنه يفترض أن تختلف التعابير الصوتية من حالة لأخرى ( آه – أوه – آخ …… ) , و قد تم استبعاد وجود خلل في أعضاء التصويت العربية .. مما يعني في النهاية أن المشكلة تكمن في الدماغ نفسه .. و في حجم السيالات العصبية التي تحدد نمط الاستجابة و سرعتها .. حيث تبن أن هذه السيالات هي أبطأ بحوالي 50 % عن الحد البشري المعروف .
الخلاصة :
إن الارتعاض الابتنائي للعقل العربي يمثل حالة فريدة في تطور الارتعاض الانساني العام .. و هو يتيح تشكيل صورة مبدئية عن العقل البشري في مرحلة ما قبل التاريخ .. و يعطينا فرصة لتكوين علاقة بين الإنسان / الكائن الحي و الإنسان/ الإنسان .. و رغم كون هذه العلاقة ديماغوجية أصلاً إلا أنها إرهاصية بحق .. و تشكل مفتاحاً لتحديد النمط التليباثي الذاتي من الصيرورة المعرفية و الانحدار العرقي عموماً
ثانكيو .
شرح المفردات ( على ذمة صديقي ) :
الارتعاض : الارتعاش التعويضي .
إرهاصية : إستشرافية .
التليباثي : هششششش .
انتهت المحاضرة بين شكر و تعقيب و تعليق .. أجمعت كلها أن هذا البحث يعبر عن فهم دقيق لفسلجة العقل العربي .. و أنه يخطو خطوة مهمة في معرفة تشريح هذا الكائن الغريب.
و مما فهمت من هذه المحاضرة الشيّقة – و هو قليل بطبيعة الحال – أنني أتمتع بنسب قردي رفيع كابراً عن كابر .. و أنني قرد أيضاً و سأبقى كذلك .. و سأملأ الدنيا بقرود صغار تهدّد مدنية العالم و تعيده إلى عصر الغاب و وحوشه و مغاوره .
لن أبالِ .. قرداً أو إنساناً .. سأصبح مثقفا" رغما" عني ..
يتبع.....
ومن المؤكد أن لكل واحد منا تعريف ( خاص به ) عن المثقف ..
لا توجد مشكلة في هذا .. لنعتبر اختلاف تعريف المثقف ضمن حرية الرأي والتعبير .. فمن غير المعقول أن نمسك في خناق بعضنا البعض من أجل خلاف بسيط كهذا ، خاصةً إذا كنا مثقفين حقاً !..
لكن هل تعرفون ما بعد المثقف ؟ .. المثقف الحداثيّ .. يعني سوبر مثقف !
بما أنني غائب عن المحور الثقافي بسبب ما يجري في المحور السياسي ، وبما أنه جرت العادة في مثل هذه الظروف أن استعين بصديقي ربيع الذي بدأت مواضيعه القديمة تتآكل بانهيار المنتديات التي يكتب فيها ولم يتبق منها إلا القليل هنا في الشبكة وكذلك في ملتقى القسام ومن بينها هذا الموضوع الذي سيحدثكم فيه عن ....
الأفضل أن تتابعوا لتعرفوا ..
- هل تعرفون صاحبي ؟؟
هو أشهر من نار على علم .. فهو مثقف جداً .. يعرف كل زاوية من زوايا الثقافة و كل دهليز من دهاليز الحداثة و كل حركة و سكنة لكبار المثقفين و المفكرين ( الغربيين طبعاً ) .. فإن سألته فلسفة .. أفاض في مدح سارتر حتى تخاله من أبناء عمومته .. و إن عن على بالك فن القصة ذكّرك بألبير كامو و سومرست موم حتى تظنه كان يشرب قهوته معهما .. و إن تحدثنا بالرسم بكى من شدة تأثره بدالي و مونيه حتى تحسب أنه شيعهما إلى مثواهما الأخير .
ألم أقل لكم … هو مثقف جداً .
قلت له ذات يوم :
- أريد أن أصبح مثقفاً .
تأملني ملياً من رأسي إلى قدمي .. و ابتسم ابتسامة الواثق المستهزىء .. و قال :
- يطعمك الحج و الناس راجعة .
– لماذا ..؟؟ هل أصبحت الثقافة موضة قديمة ..؟؟
- ياعزيزي .. الآن تخطينا مرحلة الحداثة إلى ما بعد الحداثة .. و بالتالي لم يعد يكفي أن يصبح المرء مثقفاً .. بل يجب أن يساير هذا التطور فيصبح ( بعد مثقف ) .
- إذاً .. أريد أن أصبح بعد مثقف ( بإصرار و إلحاف و إلحاح ) .
- لا أعتقد أنك تصلح لذلك ..؟؟
- - لمَ لا ..؟؟ و الله إني من هواة الفن و الشعر و الأدب .. فوالله إني لا أترك قصاصة ورق من كتاب أو جريدة دون أن ألتهمها التهام الجائع بعد مسغبة .. و والله إني لا أبارح معارض الفن دون أن أملي عيني بروائع الألوان و جمالات الفنون و بدائع الأعمال .. فماذا ينقصني ؟؟
- - ينقصك حسك الثقافي .. أنت لا تتطور أبداً .
- - طورني يا أخي .. طوّرني و لك الشكر مني و الثواب من الله .
فكّر مليا" و هو ينظر لي نظرة ازدراء و استخفاف .. لكنه في النهاية .. خبط على كتفي بحنان .. و قال مشفقا" :
- تكرم .. تكرم عيونك .. سأتبناك أيها الجاهل .. و سأجعل منك ما بعد مثقف حقيقي .. و سأفتح أمام عينيك الجاهلتين تلك عوالم الحداثة و الثقافة الحقيقية .
اغرورقت عينيّ بالدموع شاكراً المولى عز وجل أن من علي بمثل هذا الصديق الطيب .. و وعدته أن أكون طالباً مطيعاً و تلميذاً نجيباً .
أمسكني من يدي .. طالباً مني أن أسرع .. فنجمة حظي مبتسمة هذا الصباح ...
هناك معرض تشكيلي لفنان حديث جداً .. و علي أن أبدأ من هناك ..
في معرض الرسم ....
دلفنا إلى بهو المعرض الهادىء .. و لم يكن يقطع الصمت سوى همهمات خافتة من الرواد .. أو طرقات مثيرة مختالة لكعب نسائي مفرط الدقة و العلو .. و على الجدران تتناثر اللوحات ..
لوحة بيضاء من غير سوء .. لم تمسها يد إنس أو جان .. و أخرى مطموسة بلون أحمر فاقع مع بعض ضربات من فرشاة غليظة شئزة باللون الأصفر .. و ثالثة تأملتها طويلا" .. فما رسمه هذا الفنان كان غريباً حقاً :
امرأة لها من الأثداء خمسة و بعين واحدة .. و على ساقيها تتناثر العديد من الشفاه القانية .. تضطجع على خلفية من الخطوط المتقاطعة كأنها أسلاك شائكة .. و يد تبقر بطنها لتخترق ظهرها من الخلف منتهية بجذع شجرة غليظ .
تأملتها طويلاً دون جدوى .. و أيقنت أني مازلت في بداية مشواري الثقافي .. و أنه علي أن أستعين بأستاذي النحرير .
استدعيته متسائلا" .. فأجاب ( بعد أن مدح أطنب و أشاد بالعبقرية و الفن و الإلهام الذي يكمن في كل ركن من أركان هذه اللوحة ) :
- المرأة يا صديقي هي النفس البشرية التواقة للإخصاب و التكاثر .. و العين الواحدة هنا تعني أن هذه النفس مسيطرة مهيمنة بحيث لا ترى في الوجود إلا ما تريد أن تراه .. أما الأثداء الخمسة فهي تعبير عن عناصر الطبيعة المنطوية ضمن هذه النفس ( الماء – الهواء – التراب – النار ) و ربما كان الخامس هو الروح .. و الشفاه هي تعبير عن النزعة إلى .................................................. .................
استمر يفند و يشرح و يوضح الأبعاد و يسلط الأضواء على هذه اللوحة العبقرية .. استمعت إليه باهتمام و أنا أتساءل عن هذا الصديق العجيب الذي استطاع بنظرة واحدة أن يستخرج كل هذه الأسرار من تلك الشخبطة التي أسموها لوحة .
لكني لن أستسلم .. فأنا مازلت في بداية الطريق إلى الحداثة .. و علي أن أبذل ما يسعني ..
و الآن .. إلى معرض النحت ..
في معرض النحت ..
منذ أن تفتح الباب متوكلاً على الله لتدخل إلى المعرض تصطدم عيناك بصخرة كبيرة .. تشبه إلى حد بعيد حبة عملاقة من البطاطا المبعجرة .. لكنك عندما تتأملها قليلاً تكتشف أنك كنت مخطئاً .. فحبة البطاطا هذه ما هي إلا بطن امرأة حامل غاض وجهها و جذعها و كل جسدها بحيث لم يتبق منها إلا هذا البطن العملاق الذي يتسع لشعب كامل من الأجنة .. و قد اكتشفت ذلك لوحدي ( لا بد أني أتطور بسرعة ) و دون معونة من أحد عندما لاحظت شيئا" يشبه الجنين منحوتا" على هذا البطن العملاق .. لكن ما حيرني هو تلك الصخرة الصغيرة التي تنتأ من الجانب الأيسر كأنها ورم طفيلي ...
اممممممم .. لا بد أن في الأمر سراً .. ماذا يعني ذلك التمثال ..؟؟
و بعد التمحيص و التفكير و اعتصار الدماغ و استمطار السماء إلهاماتها .. قررت أن هذا التمثال يوضح علاقة الإنسان بالطبيعة .. فهي أم في النهاية .. و نحن أجنتها التي ترعانا و نكلأ من خيراتها ثم ندفن في ترابها .. و ربما كان هذا الورم هو نزعة الإنسان الأبدية للخروج من سجن أمه الطبيعة متطلعاً إلى آفاق معرفية جديدة ..
طرت فرحاً بهذا الاكتشاف ( فهاأنذا مثقف حداثوي حقيقي ) و طرت إلى صديقي أخبره بأن تلميذه بدأ يتعلم .. سألني عن أي تمثال أتحدث .. فأجبته :
- ذاك الذي يتصدر القاعة .. الذي يشبه البطاطا ..
- ذاك ..؟؟؟ و أشار إليه ..
- نعم هو ذاك ..
بدأ يقهقه و يخبط بقدميه الأرض من الضحك حتى دمعت عيناه .. وبين الضحكات و الشهقات قال :
- يا صديقي .. هذا تجريد .
- تجريد ..؟؟
- نعم .. تجريد .. أي أنه بلا معنى ..
- بلا معنى ..؟؟ و لماذا يكلف الفنان خاطره لنحت شيء لا معنى له ..؟؟؟
- تجرييييييييد .. كيف أستطيع أن أفهم هذا الجاهل ..؟؟ تجريد يعني بلا معنى .. مجرد اكتشاف لجمال الحجر عندما تتلاعب به يد النحات المبدعة فتجعله خلقاً آخر ..
- لكن هذا الخلق بلا معنى ....؟؟؟؟
- نعم .. و هذا هو الجمال فيه .. هو يعطيك الشكل و يترك لك حرية اكتشاف المعنى .. لا تبالِ يا صديقي .. مازلت غضاً في الحداثة .. لكنك ستتعلّم قريباً .. لا تقلق ..
حسن .. لن أقلق .. فما زال المشوار في بدايته ..
إلى أين الآن ..؟؟؟
ندوة ثقافية
ندوة فكرية ...
تطور العقل العربي وفق المنهج البنائي ..
أخذ مفكرنا العلامة نفساً عميقاً من غليونه المدبب كرأس أفعى .. ففاحت رائحة التبغ الكوبي الفاخر في أرجاء القاعة الصغيرة .. خلع قبعته الإنكليزية الأنيقة .. ألقى نظرة شامخة علينا - نحن الرعاع - .. ثم ابتسم :
- ثانكيو ... يو آر هير .. أوك .. ليتس أس ستارت ...
أخرجت ورقة بيضاء و قلماً لئلا تفوتني قطرة من سيل العلم العرمرم الذي سوف يفيض بعد قليل ...
وبدأ يتحدث ..
- إن من يتأمل تطور العقل العربي عبر المراحل الطويلة التي استغرقها تطور هذا العقل كبنية - ليست عضوية فحسب - و إنما ابتنائية أيضاً.. سيكتشف أن هذا العقل مميز في الحقيقة .
و يأتي هذا التميز عندما ندرك أن العقل العربي يبدو كأنه خارج عن منظومة العقل الإنساني عموما .. فالتاريخ يثبت أن هناك فجوة زمنية تقدر بأربعة آلاف عام عاش فيها العرق العربي مجهولا" تماما" دون أي نشاط إنساني ملحوظ .. مما يعني بالضرورة أنه لم يمر بكل المراحل التي قطعها العقل البشري عموماً للوصول إلى النمط الإنعتاقي من التفكير الموضوعي ..
و هنا علينا أن نتساءل :
ما هي طبيعة التفكير العربي بناءً على معطيات التاريخ و التطور الديالكتيكي للمجموعات البشرية ..؟؟
في الحقيقة فإن معظم الباحثين يعتقدون أن العقل العربي مسكون بنمط واحد من ردود الأفعال .. الصوتية خصوصاً .. و في أحسن الأحوال فإن رد الفعل هذا يندرج تحت ما يسميه علماء البيولوجيا ( الحيوان الشوكي ) أي أن رد الفعل يكون محصوراً بالأعصاب الذاتية دون أي تدخل من الدماغ الواعي .. مما يفرض نمطاً لاواعياً لهذه الاستجابات .. و يفرض على العربي نوعاً واحداً من ردود الأفعال .
و في دراسة حديثة أجريت في جامعة ( ….. ) تم تعريض 100 عربي لصدمات كهربائية تزداد تدريجياً حتى تصل إلى حد الألم المبرح .. و في كل الأحوال كانت الاستجابة واحدة .. و هي التصويت بكلمة ( آه ) في حين أنه يفترض أن تختلف التعابير الصوتية من حالة لأخرى ( آه – أوه – آخ …… ) , و قد تم استبعاد وجود خلل في أعضاء التصويت العربية .. مما يعني في النهاية أن المشكلة تكمن في الدماغ نفسه .. و في حجم السيالات العصبية التي تحدد نمط الاستجابة و سرعتها .. حيث تبن أن هذه السيالات هي أبطأ بحوالي 50 % عن الحد البشري المعروف .
الخلاصة :
إن الارتعاض الابتنائي للعقل العربي يمثل حالة فريدة في تطور الارتعاض الانساني العام .. و هو يتيح تشكيل صورة مبدئية عن العقل البشري في مرحلة ما قبل التاريخ .. و يعطينا فرصة لتكوين علاقة بين الإنسان / الكائن الحي و الإنسان/ الإنسان .. و رغم كون هذه العلاقة ديماغوجية أصلاً إلا أنها إرهاصية بحق .. و تشكل مفتاحاً لتحديد النمط التليباثي الذاتي من الصيرورة المعرفية و الانحدار العرقي عموماً
ثانكيو .
شرح المفردات ( على ذمة صديقي ) :
الارتعاض : الارتعاش التعويضي .
إرهاصية : إستشرافية .
التليباثي : هششششش .
انتهت المحاضرة بين شكر و تعقيب و تعليق .. أجمعت كلها أن هذا البحث يعبر عن فهم دقيق لفسلجة العقل العربي .. و أنه يخطو خطوة مهمة في معرفة تشريح هذا الكائن الغريب.
و مما فهمت من هذه المحاضرة الشيّقة – و هو قليل بطبيعة الحال – أنني أتمتع بنسب قردي رفيع كابراً عن كابر .. و أنني قرد أيضاً و سأبقى كذلك .. و سأملأ الدنيا بقرود صغار تهدّد مدنية العالم و تعيده إلى عصر الغاب و وحوشه و مغاوره .
لن أبالِ .. قرداً أو إنساناً .. سأصبح مثقفا" رغما" عني ..
يتبع.....