Marooshe
13/12/2008, 14:46
أمّ ياسين وصباحُ يوم شاميّ عادي
بقلم بسام درويش
Jul 22, 1987
قبل الخامسة من صباح كل يوم، تكونُ أم ياسين قد استفاقت ولبست واستعدَّت للخروجِ من البيت. معها توقظ ياسين، وهو الأكبر بين الأولاد، ليذهبَ إلى الفرن ويقفَ مع الواقفين بصفٍّ أو بدون صفّ لشراء حاجتهم من الخبز. لقد أوكلت إليه هذه المهمة اليومية لأنه ولدٌ مشاكسٌ ذو طبعٍ هجومي، وشراءُ الخبز يحتاج إلى هذه الخصلة، مثله مثل شـراء أية حاجة من الحاجات الضرورية الأخرى. أما هي، فسوف تنطلق إلى السوق القريب ماشية على قدميها عشرة دقائق ذهاباً وعشرين دقيقة إياباً أو ربما أكثر. أما إذا رجعت بيدين شبه خاليتين من المشتريات فإن خطواتها لا بدّ ستكون أسرع وكذلك وصولها إلى البيت.
السوق الذي تقصده أم ياسين عبارة عن ساحة عامة يفترش أرضها القرويون، يعرضون عليها بضاعتهم من فاصولياء وخس وبندورة حسب الموسم، وإذا تأخَّـرتْ قليلاً عن الخروج، فإن البضاعة ستختفي، والأولاد سيتذمرون عند المساء إذا قدَّمت لهم عوضاً عن الطبيخ صحنَ حمّص وبعض الأطعمة المخزَّنة في القطرميزات، كالمكدوس والمرملاد وغير ذلك مما عُرفت نساء الشام به توارثن خبرة صنعه عن أمهاتهنَّ منذ أيام العثمانيين.
وتحثُّ أم ياسين الخطى، إذ أنَّ عليها أيضاً أن تعود بسرعة لإطعام الأولاد قبل ذهابهم إلى المدرسة وكذلك للاهتمام بأبي ياسين كي يلحق بالباص قبل اشتداد الزحمة.
في طريقها إلى السوق، تتلفَّتُ يمنة وشمالاً لتتأكَّد من أن ليس هناك من يتطلَّع إليها فيقرأ ما في أفكارها، وما أن تطمئنَّ إلى ذلك حتى ترفع نظرها إلى السماء وتقول: "الله يخرب بيتكم يا أولاد الحرام، ما تركتولنا شي ناكله.. هيّ بلادنا اللي كان اسمها بلاد الخيرات؟.. فـقَّـرتوها وانتو نازلين فيها بلع بلع بلع بلع وما كنتوا تشبعوا.. إيه العفاريت تبلعكم إن شاء لله.. الله يخلّصنا منكم بجاه الصباح الكريم." وتتنفس أم ياسـين بارتياح، فقد ردَّدت صلاتها الصباحية الاعتيادية دون أن تلاحظها عينُ رقيب!
تصل إلى ساحة السوق فتلقي نظرةً استكشافية عاجلةً يمنة وشمالاً لترسم بعدها خطة المعركة، بعد ذلك تشقُّ طريقها بين الناس الذين هرعوا كلهم باكراً لنفس الغاية، فتبدأ صراعها معهم ومع الباعة، وأحياناً مع حمير وبغال الباعة.
غالباً ما تتوقَّف قبل كل شيء عند بسطة البندورة، فالبندورة مادة أساسية وضرورية لأكثر أنواع الطبيخ. تمدُّ يدها دون أن تسأل عن السعر، إذ أن أيام المساومة قد مضت يرحمها الله، وبين السؤال والجواب قد تختفي البندورة. تمدُّ يدها بين الأيدي المتشابكة، تشتري، تدفعُ، وتهرعُ إلى الرصيف الآخر لشراء بعض البصل اليابس، ولكن البائع ينظر إليها وهو ينفض الغبار عن شـرواله مستعداً للرحيل قائلاً: " نفَّقنا يا اختي، لبكرة إذا الله راد!" فترفع رأسها إلى السماء تريد أن تدعو وتقول: "حتى البصل يا أولاد الحرام؟" ولكنها تهدّئ نفسها وتتمتم: "هذا ليس وقت الدعاء، يجب عدم إضاعة الوقت!.."
هنا تلوح على وجهها ابتسامة غريبة، فتتوقف لتفكِّر وهي تزهو بنفسها وكأنها اكتشفت نظرية مهمة أو حلاً ما لهذه الأوضاع الزفت وتخاطب نفسها قائلةً: "ها ها!.. يبدو أنه لهذا السبب تريدنا الحكومة أن نبقى مشغولين بالتفتيش عن اللقمة حتى لا يكون عندنا وقت لندعو عليها!" ولكن أم ياسين ما تلبث أن تعود إلى عالم الواقع فتتابع صراعها وتملأ شنطتها بما وجدته في السوق وتتجه بخطاها مسرعةً في طريق العودة.
أم ياسين ليس عندها برنامج طبيخ لكل يوم، فطبيخها متعلق ببورصة سوق الخضار. يوجد كوسى تطبخ كوسى، وغداً إذا لم تجد غير الكوسى فإنها أيضاً تطبخ كوسى. كبيرة صغيرة لا يهم، إنما المهم أن تطعم الأولاد.
زوج أم ياسين رجل هادئ الطبع ومتفائل وقانع. الآن سيقول لها حين تخبره بمعاناتها: الحمد لله يا امرأة، كثَّـر الله خير الحكومة. الحكومة مشغولة بقضايا أهم من الكوسى والباذنجان.. هناك عدوّ على الحدود وهناك أرض محتلَّة. هناك مشكلة لبنان والعراق ومؤتمرات ووفود وعلاقات خارجية وداخلية وهناك مؤامرات ومخربون وعملاء للاستعمار، فعلى من تقع مسؤولية الاهتمام بكل هذه الأمور؟ ثم ما دخل الحكومة بقلّـة البصل أو البندورة؟ الناس يتكاثرون والأراضي تقلّ!
وستقول أم ياسين له: إن الحكومة تريد كل الناس أن يكونوا مثلك!
ولكن هل حقيقةً أن أبا ياسين رجلٌ قانعٌ لهذه الدرجة من القنوع؟.. لا، فهي تعرف أن زوجها أذكى من أن يصدّق بأن الحكومة لا دخل لها في أوضاع البلد السيئة. لقد رفع رأسه ذات مرة وأجابها بعزة نفس لكن بلهجة يعتصرها الأسى: "لا وحياتك يا أم ياسين، فَشَــروا! لكن إذا تكلمتُ فلن يبقى هناك إلى جانبك من يؤمِّن لك المال لتشتري به البصل أو الكوسى. أنا لا أحب أن أعوِّد نفسي في البيت على انتقاد الحكومة مخافة أن أحمل عادتي معي إلى المكتب حيث قد يزل لساني".
"معه حق، إيه والله!"، تخاطب أم ياسين نفسها وهي تتابع طريقها لتتوقَّف بعد برهة على باب اللحام القريب من البيت. هناك تدفع نفسها بين الزبائن داخل الدكان الصغير وتقول بصوت منخفض كأنّها تمرِّر سـراً عسكرياً: "شو يا أبو أحمد، وصِّيتك على اللحمة من البارح!" ويجيب أبو أحمد أيضاً بصوت منخفض: "ارجعي بعد أن يذهب الأولاد إلى المدرسة.. لقد خبّأتهم لك جانباً."
وتصل أم ياسين إلى البيت، فتجد الأولاد قد اسـتفاقوا وياسين الشاطر قد عاد هو الآخر "بالخبزات"، كما تجد زوجها مشغولاً بحلاقة ذقنه وهو عادة يحب أن "يريحها" من الحلاقة ويتركها تطول لفترة ولكنه يخاف. يخاف أن يشكَّ به أحد ما ويظنّ أنه من جماعة الإخوان، ولقمة العيش أهم من راحة ذقنه أو أي شيء آخر.
"صباح الخير أبو ياسين".
ويأتيها الجواب فوراً: "صباح الخير يا أم ياسين، ماذا ستطبخين لنا اليوم؟"
وتجيب أم ياسين بصوت منخفض وكأنها لا تجيب: "الذي في السوق يا أبو ياسين!"
*************
بقلم بسام درويش
Jul 22, 1987
قبل الخامسة من صباح كل يوم، تكونُ أم ياسين قد استفاقت ولبست واستعدَّت للخروجِ من البيت. معها توقظ ياسين، وهو الأكبر بين الأولاد، ليذهبَ إلى الفرن ويقفَ مع الواقفين بصفٍّ أو بدون صفّ لشراء حاجتهم من الخبز. لقد أوكلت إليه هذه المهمة اليومية لأنه ولدٌ مشاكسٌ ذو طبعٍ هجومي، وشراءُ الخبز يحتاج إلى هذه الخصلة، مثله مثل شـراء أية حاجة من الحاجات الضرورية الأخرى. أما هي، فسوف تنطلق إلى السوق القريب ماشية على قدميها عشرة دقائق ذهاباً وعشرين دقيقة إياباً أو ربما أكثر. أما إذا رجعت بيدين شبه خاليتين من المشتريات فإن خطواتها لا بدّ ستكون أسرع وكذلك وصولها إلى البيت.
السوق الذي تقصده أم ياسين عبارة عن ساحة عامة يفترش أرضها القرويون، يعرضون عليها بضاعتهم من فاصولياء وخس وبندورة حسب الموسم، وإذا تأخَّـرتْ قليلاً عن الخروج، فإن البضاعة ستختفي، والأولاد سيتذمرون عند المساء إذا قدَّمت لهم عوضاً عن الطبيخ صحنَ حمّص وبعض الأطعمة المخزَّنة في القطرميزات، كالمكدوس والمرملاد وغير ذلك مما عُرفت نساء الشام به توارثن خبرة صنعه عن أمهاتهنَّ منذ أيام العثمانيين.
وتحثُّ أم ياسين الخطى، إذ أنَّ عليها أيضاً أن تعود بسرعة لإطعام الأولاد قبل ذهابهم إلى المدرسة وكذلك للاهتمام بأبي ياسين كي يلحق بالباص قبل اشتداد الزحمة.
في طريقها إلى السوق، تتلفَّتُ يمنة وشمالاً لتتأكَّد من أن ليس هناك من يتطلَّع إليها فيقرأ ما في أفكارها، وما أن تطمئنَّ إلى ذلك حتى ترفع نظرها إلى السماء وتقول: "الله يخرب بيتكم يا أولاد الحرام، ما تركتولنا شي ناكله.. هيّ بلادنا اللي كان اسمها بلاد الخيرات؟.. فـقَّـرتوها وانتو نازلين فيها بلع بلع بلع بلع وما كنتوا تشبعوا.. إيه العفاريت تبلعكم إن شاء لله.. الله يخلّصنا منكم بجاه الصباح الكريم." وتتنفس أم ياسـين بارتياح، فقد ردَّدت صلاتها الصباحية الاعتيادية دون أن تلاحظها عينُ رقيب!
تصل إلى ساحة السوق فتلقي نظرةً استكشافية عاجلةً يمنة وشمالاً لترسم بعدها خطة المعركة، بعد ذلك تشقُّ طريقها بين الناس الذين هرعوا كلهم باكراً لنفس الغاية، فتبدأ صراعها معهم ومع الباعة، وأحياناً مع حمير وبغال الباعة.
غالباً ما تتوقَّف قبل كل شيء عند بسطة البندورة، فالبندورة مادة أساسية وضرورية لأكثر أنواع الطبيخ. تمدُّ يدها دون أن تسأل عن السعر، إذ أن أيام المساومة قد مضت يرحمها الله، وبين السؤال والجواب قد تختفي البندورة. تمدُّ يدها بين الأيدي المتشابكة، تشتري، تدفعُ، وتهرعُ إلى الرصيف الآخر لشراء بعض البصل اليابس، ولكن البائع ينظر إليها وهو ينفض الغبار عن شـرواله مستعداً للرحيل قائلاً: " نفَّقنا يا اختي، لبكرة إذا الله راد!" فترفع رأسها إلى السماء تريد أن تدعو وتقول: "حتى البصل يا أولاد الحرام؟" ولكنها تهدّئ نفسها وتتمتم: "هذا ليس وقت الدعاء، يجب عدم إضاعة الوقت!.."
هنا تلوح على وجهها ابتسامة غريبة، فتتوقف لتفكِّر وهي تزهو بنفسها وكأنها اكتشفت نظرية مهمة أو حلاً ما لهذه الأوضاع الزفت وتخاطب نفسها قائلةً: "ها ها!.. يبدو أنه لهذا السبب تريدنا الحكومة أن نبقى مشغولين بالتفتيش عن اللقمة حتى لا يكون عندنا وقت لندعو عليها!" ولكن أم ياسين ما تلبث أن تعود إلى عالم الواقع فتتابع صراعها وتملأ شنطتها بما وجدته في السوق وتتجه بخطاها مسرعةً في طريق العودة.
أم ياسين ليس عندها برنامج طبيخ لكل يوم، فطبيخها متعلق ببورصة سوق الخضار. يوجد كوسى تطبخ كوسى، وغداً إذا لم تجد غير الكوسى فإنها أيضاً تطبخ كوسى. كبيرة صغيرة لا يهم، إنما المهم أن تطعم الأولاد.
زوج أم ياسين رجل هادئ الطبع ومتفائل وقانع. الآن سيقول لها حين تخبره بمعاناتها: الحمد لله يا امرأة، كثَّـر الله خير الحكومة. الحكومة مشغولة بقضايا أهم من الكوسى والباذنجان.. هناك عدوّ على الحدود وهناك أرض محتلَّة. هناك مشكلة لبنان والعراق ومؤتمرات ووفود وعلاقات خارجية وداخلية وهناك مؤامرات ومخربون وعملاء للاستعمار، فعلى من تقع مسؤولية الاهتمام بكل هذه الأمور؟ ثم ما دخل الحكومة بقلّـة البصل أو البندورة؟ الناس يتكاثرون والأراضي تقلّ!
وستقول أم ياسين له: إن الحكومة تريد كل الناس أن يكونوا مثلك!
ولكن هل حقيقةً أن أبا ياسين رجلٌ قانعٌ لهذه الدرجة من القنوع؟.. لا، فهي تعرف أن زوجها أذكى من أن يصدّق بأن الحكومة لا دخل لها في أوضاع البلد السيئة. لقد رفع رأسه ذات مرة وأجابها بعزة نفس لكن بلهجة يعتصرها الأسى: "لا وحياتك يا أم ياسين، فَشَــروا! لكن إذا تكلمتُ فلن يبقى هناك إلى جانبك من يؤمِّن لك المال لتشتري به البصل أو الكوسى. أنا لا أحب أن أعوِّد نفسي في البيت على انتقاد الحكومة مخافة أن أحمل عادتي معي إلى المكتب حيث قد يزل لساني".
"معه حق، إيه والله!"، تخاطب أم ياسين نفسها وهي تتابع طريقها لتتوقَّف بعد برهة على باب اللحام القريب من البيت. هناك تدفع نفسها بين الزبائن داخل الدكان الصغير وتقول بصوت منخفض كأنّها تمرِّر سـراً عسكرياً: "شو يا أبو أحمد، وصِّيتك على اللحمة من البارح!" ويجيب أبو أحمد أيضاً بصوت منخفض: "ارجعي بعد أن يذهب الأولاد إلى المدرسة.. لقد خبّأتهم لك جانباً."
وتصل أم ياسين إلى البيت، فتجد الأولاد قد اسـتفاقوا وياسين الشاطر قد عاد هو الآخر "بالخبزات"، كما تجد زوجها مشغولاً بحلاقة ذقنه وهو عادة يحب أن "يريحها" من الحلاقة ويتركها تطول لفترة ولكنه يخاف. يخاف أن يشكَّ به أحد ما ويظنّ أنه من جماعة الإخوان، ولقمة العيش أهم من راحة ذقنه أو أي شيء آخر.
"صباح الخير أبو ياسين".
ويأتيها الجواب فوراً: "صباح الخير يا أم ياسين، ماذا ستطبخين لنا اليوم؟"
وتجيب أم ياسين بصوت منخفض وكأنها لا تجيب: "الذي في السوق يا أبو ياسين!"
*************