achelious
22/12/2008, 06:46
الترجمة عن الروسية
د.ثائر زين الدين
1
أنا رجلٌ مضحك، وهم ينعتونني الآن بالمجنون، وقد كانَ من شأن هذا النعت أن يكونَ رفعاً من قَدْري لو أنّهم تراجعوا عن اعتباري مضحكاً، كما فعلوا في السابق. لكنني بعد اليوم لن أغضبَ عليهم، فجميعُهم لطفاء بالنسبة لي حتى وهم يهزؤون بي، بل لعلهم يصبحونَ أكثر لطفاً حين يفعلونَ ذلك، ولو لم أكن شديد الحزنِ وأنا أنظر إليهم لضحكت معهم ـ ليسَ على نفسي بالطبع ـ ولكن لكي أُسرّي عنهم، شديد الحزن لأني أراهم يجهلونَ الحقيقة؛ بينما أعرفُها أنا، ما أصعَبَ الأمرَ على من يعرف الحقيقةَ وحده، إنهم لن يفهموا ذلك.
لا، لن يفهموا.
فيما مضى تألمتُ كثيراً حين بدوتُ مُضحكاً، لماذا أقولُ بدَوت، لقد كنت مُضحكاً، دائماً كنتُ مضحكاً، وأعلمُ ذلك، رُبّما منذُ ولادتي كنتُ كذلك، ولعلّي عرفت هذا في السابعة من عُمري، بعد ذلك درستُ في الثانويّة، ثُمّ في الجامعة وكنت كُلّما تعلّمت أكثر، أيقنتُ أنني مُضحك، حتى لكأن دراستي الجامعيّة كُلها ما وُجدت إلا لتبرهنَ لي وتقنعني ـ على قدرِ تعمّقي في العلومِ ـ بأنني مُضحك، سواءٌ في العلم أو الحياة، وعاماً بعد عام كنت أزدادُ يقيناً بأن لي شكلاً مضحكاً في شتّى المجالات، لقد ضحكَ عليّ الجميع وفي كل مكان، وما عرفَ هؤلاء أبداً أنّه إن كان ثَمّةَ من يدرك أكثر من الجميع على الأرض كم أنا مضحك فهذا الشخص هو أنا بالذات، وقد أغضبني كثيراً أن أحداً منهم لا يعرف ذلك، ولعلّي كنتُ مُذنباً في هذا الشأن: فقد كنت دائماً عزيز النفس، ممّا منعني دائماً أن أعترفَ لأحدهم بذلك، وقد نمت عِزّة نفسي هذهِ مع السنوات، ولو حدثَ في يومٍ من الأيام أن اضطررتُ للاعترافِ بأنني مضحك أمام شخصٍ ما لهشّمت جمجمتي بطلقةِ مُسدّس في مساء اليوم ذاته، كم تعذّبتُ في مُراهقتي من أنني قد لا أستطيع التحمّل وأعترف أمام رفاقي بأنني مضحك، ولكن ومنذ أصبحتُ شاباً ـ ورغم ازدياد معرفتي عاماً بعد عام بنوعيّتي الغريبة ـ بدأت أصبحُ لسبب ما أكثر هدوءاً واطمئناناً.
وما كل ذلك إلا لجهلي التام بحقيقة حالتي هذه، رُبّما يعودُ الأمرُ إلى تلك التعاسة الغامرة التي سيطرت علي إثر حالةٍ أقوى منّي؛ حالةٍ اقتنعْتُ فيها بشكلٍ راسخٍ وثابت أن لا شيء في هذهِ الحياة "يستحقُ الاهتمام"، كان الأمرُ فيما مضى مُجرّد شكٍ، لكنني اقتنعتُ بعد ذلك قناعةً كاملة، وأيقنتُ فجأةً بذلك يقيناً لا مَحيد عنه. بغتةً شعرتُ أنني لستُ معنياً سواءَ وجدَ هذا العالَمُ أم لم يوجد. وبدأتُ أشعرُ وأحسُ بكل جوارحي (أن لا شيء قد وجِدَ أثناء وجودي أنا)، في البداية كان قد تراءى لي أن أشياءَ جَمّة قد وجدت من قبلُ، ثُمَّ أدركتُ أن لا شيءَ من قَبلُ قد وجد أيضاً، ولكن لسبب ما تراءى لي ذلكَ الوجود، وشيئاً فشيئاً أيقنتُ أن لا شيءَ أبداً سيكون.
وعند ذلك أصبحتُ فجأةً لا أغضبُ من الناس، بل ما عدتُ ألاحظُ وجودَهم.
وقد تجلّى هذا في بعض التفاصيل الصغيرة جداً: مثلاً أنني كنت أسيرُ في الطريق فأصطدمُ بالناس، والأمرُ ليسَ بسبب استغراقي في التفكير: فبماذا سأفكر، يومها كنتُ قد توّقفت عن التفكير في أي شيء: لقد استوت الأمور كلها في عينيّ، وما عدتُ أهتمُ لأمرٍ ولا فكّرت في حلِ سؤال واحد؟ ثُمَّ هل كان ثمّة أسئلة شغلتني؟ (لم أكن معنياً بشيء) ولهذا تناثرت الأسئلة مبتعدة.
وهكذا بعد كل ما سبق عرفتُ الحقيقة، عَرفتُها في تشرين الثاني الماضي، وبالتحديد في الثالثِ منه، ومنذ ذلك الحين لم أنسَ لحظةً من تلك اللحظات، كان ذلكَ في ليلةٍ حالكة، ليلةٍ ما عرفتُ أكثر مِنها ظُلْمَةً، كنتُ عائداً في الحادية عشرة إلى منزلي وأذكرُ تحديداً أنني فكرّتُ أن من المستحيل وجود ظلامٍ دامسٍ كهذا، حتى من وجهةِ النظر الفيزيائيّة، كان المطَرُ قد تساقط طوال النهار، وكان من أكثر الأمطار برودةً وكآبةً، بل تهديداً، وعدائيةً للناس؛ أذكرُ ذلك، ثُمّ ها هو ذا يتوقف فجأةً قرابة الحادية عشرة ليلاً، وترتفَعُ من الأرضِ رطوبةٌ أشدُ برودةً مما كان المطرُ قد صنعه، ويتعالى بخارٌ ما؛ من كل بلاطة في الشارع، ومن كلِ زقاقٍ يفضي إليه وتراهُ حين تُرسِلُ نظرك إلى البعيد، عندها تهيأ لي أن انطفاءَ مصابيح الغاز كلها سيبعثُ الفرح، لأنها على هذهِ الصورة تضيءُ وتظهر كل هذا الحزن، لم أكن قد تناولتُ طعام الغداء ذلكَ اليوم، ومنذ بداية المساء جلستُ عند مهندسٍ وبصحبتِهِ رفيقيه.
وبقيت طوال السهرةِ صامتاً، مما بعثَ في نفوسهم المللَ مني، تحدّثوا في أمور مثيرة ثُمّ استولت عليهم الحماسة، لكنّهم كانوا في حقيقة الأمر يتصنّعون لم يكن يهمّهم ما يتجادلون حوله، وقد انتبهتُ إلى ذلك، فقلتُ لهم فجأةً: "أيّها السادة، إنكم في حقيقة الأمر لا تكترثون".
لم يغضبوا مني، لكنّهم جميعاً ضحكوا ساخرين، رُبّما لأنني قلتُ ما قلته دون أي لوم، ولأنني ببساطة لم أكن معنيّاً بشيء، رأوا ذلك فغلبَ عليهم المرح.
حين فكّرت في مصابيح الغاز وأنا في الطريق رفعتُ عينيَ إلى السماء؛ كانت شديدة الحُلكة، وبصعوبة يمكن تميزُ مِزق الغيوم، وبينهما بقعٌ سوداء عميقة، في إحدى تلك البقع استطعتُ أن أرى نجماً صغيراً فرحتُ أحدّقُ به متأمّلاً؛ لقد أيقظَ النجمُ فيّ فكرةً: في تلك الليلة قرّرتُ الانتحار، قبل شهرين منها كنتُ قد صمّمتُ على قتل نفسي، ورغم فقري الشديد اشتريتُ مسدّساً رائعاً، وحشوتُهُ في ذلك اليوم نفسه، ثُمّ مَرّ شهرانِ والمسدّسُ مرميٌ في الدُرج، وقد بلغتُ من شدّة عدم اكتراثي أن تمنيتُ في النهاية أن أقبضَ على دقيقة واحدة أحسُ فيها أن شيئاً ما يستحقُ الاهتمام، لماذا؟ لا أدري، وهكذا وخلال ذينك الشهرين كنتُ أعودُ إلى البيت كل يوم وأفكر بالانتحار، وأنتظر اللحظة المناسبة.
والآن يمنحني هذهِ النجم فكرةَ؛ أن أنفّذ ما عقدتُ عليه العزم في هذهِ الليلة "بالذات". أما لماذا قَدّم لي النجم هذهِ الفكرة ـ فلا أعلم!
وفي اللحظةِ نفسها التي كنت أنظرُ فيها إلى السماء، أمسكت طفلةٌ كُمّي، كان الطريقُ قد أقفَرَ، وما من أحدٍ فيهِ تقريباً، بعيداً عني غفا حوذيٌ على مقعده، الطفلةُ كانت في الثامنة، تغطي رأسها بمنديل، وتَسْتَتِرُ بثوبها فقط، وهي مبللة تماماً، وقد لفتَ انتباهي حذاؤها المثقوبُ المبلل ولا زلتُ أذكُرُ منظرهُ حتى الآن، ولقَد تسمّرت عينايَ على منظر قدميها في الحذاء، راحت البنتُ تشدّني من كُمّي وتستنجدُ بي، لم تكن تبكي، ولكنَّها لشدّة عصبيتها غرغرت ببعض الكلمات التي لم تستطع نطقها جيداً، بسبب البردِ وارتجافِها بقوّة، بدت مذعورةً لأمرٍ ما، ثم صَرخت يائسةً: "أُمّي، أُمِّي الحبيبة" التفتُ نحوها ولم أقل شيئاً بل تابعتُ مَسيري، ركضتْ خلفي، وهَزّتني، وتعالى صوتها كما يمكن أن تسمع من الأطفال المرعوبين اليائسين؛ أعرفُ أنا مثل هذا الصوت، ورغم أنها لم تقل ذلك فقد توقعت أن أمها تحتضرُ في مكان ما، أو أن شيئاً خطيراً حصَلَ لهما فانطلقت تستنجدُ بشخصٍ ما، تجدُ أحداً ما يساعدها، لكنني لم أذهب معها، بل راودتني فكرةُ نَهْرِها، قلتُ لها في البداية أن تبحثَ عن شرطي، ولكنّها أسرعت تضمّ يديها الصغيرتين وتتضرَعُ مبتهلةً وتركضُ إلى جواري رافضةً تركي، عندها قرعتُ الأرضَ بقدمي ونهرتُها، فما زادت عن أن تصرخ بي: "سيّدي!.. أيّها السيّد"، وغادرتني فجأةً قاطعةً الطريق مسرعةً كالسهم، باتجاهِ شخصٍ آخر على الرصيف المقابل.
صعدتُ إلى الطابق الخامس حيث أقيمُ؛ في شقةٍ مفروشة عند صاحب المسكن، غرفتي صغيرةٌ فقيرة، لا نافذةَ فيها إلا نصف كوّة صغيرة، عندي ديوان، طاولة تحملُ الكتب، كُرسيّان مقعد يتيم مُهلهل، لكن من طراز فولتير، جلستُ، أشعلتُ شمعة ورحتُ أفكّر.
في الغرفة المجاورة كانَ الصخبُ مستمراً، لقد بدأ منذُ ثلاثةِ أيام، هناك يعيشُ كابتن متقاعد، وقد زارَهُ هذه المَرّة ستّة أشخاص أوغاد، شربوا الفودكا، ولَعِبوا لُعبةَ "الفرعون" بأوراقِ لعبٍ قديمة، في الليلةِ الماضية نشب بينهم عراك، وأنا أعلم أن اثنين منهما ظّلا لفترةٍ طويلة يجرُّ كل منهما الآخر من شَعْرِه. وقد أرادت صَاحبةُ المنزل أن تشكوهم لكنّها كانت تخشى الكابتن كثيراً، لم يكن في الشقة ـ بالإضافة لنا ـ إلا سيّدة نحيفة قصيرة، هي أرملة أحد الضبّاط، وقد جاءت إلى هذا المسكن مع أبنائِها الصغار الثلاثة، الذين سرعان ما مَرِضوا، لقد كانوا يخشون الكابتن ويخافونه، مما يجعلهم يرتجفون ويرسمون إشارة الصليب طوال الليل، حتى أن الطفل الأصغر كان يُعاني من نوبةٍ عصبيّة جَرّاء الرعب.
كنتُ أعلمُ أن هذا الكابتن يستوقفُ العابرين في شارع نيفسكي طلباً للصَدَقة.
وما كان أحد يَدعوه للخدمةِ أو العمل، ولكن الغريب (وهذا ما دعاني لأتحدّث عنه) أن هذا الكابتن وقد مَرّ على سُكْناهُ مَعنا شهر كامل لم يُثرِ فيّ نفسي أي شعور بالنفور منه، لقد تجنّبتُ أي تعارفٍ بيننا منذُ البداية، مع أن مثل هذا الأمر لو حَدث لشعَرَ الرجلُ بالمللِ والضجرِ منّي منذ اللقاء الأوّل. لم أهتّمَ لأمرهم مهما صَرخوا خلفَ جدارهم ومهما كان عددهم، كان الأمرُ بالنسبة لي سيّان.
كنت أجلسُ طوال الليل وفي الحقيقة لم أكن أنصت إليهم أو أسمعهم ـ بل لقد نسيتُ وجودَهم. لقد اعتدتُ أن أجلس على المقعد إلى الطاولة طوال الليل دون أن أفعل شيئاً، أما فيما يتعلّق بالقراءة فقد كنت لا أقرأُ إلا نهاراً، أجلسُ فحسب ولا أفكّر، بينما تَمّرُ بخاطري بعض الأفكار، التي سرعان ما أحرّرها لتذهب وفق إرادتها.
احترقتْ الشمعة كُلّها تلك الليلة، وأنا أجلسُ صامتاً إلى الطاولة، أخرجتُ المُسدّس وضعتُهُ على الطاولة أمامي، وتذكرتُ حين فعلتُ ذلك أنني سألتُ نفسي:
"هكذا إذاً؟"، ثُمّ أجبتُ حاسماً: "نعم" أي سأنتحر، وكنت أَعْلَمُ أنني على الأرجح سأنتحر في تلك الليلة، لكن إلى متى سأجلسُ على مقعدي قرب الطاولةِ قبل أن أفعل ذلك، لم أكن أعلم. ولا شك عندي أنني كنتُ انتحرت لو لم ألقَ تلك الطفلة في الليلة نفسها في الشارع.
2
رغم أن الأشياء من حولي ما كانت تعنيني، إلا أنني كنتُ أُحسُّ ـ على سبيل المثال ـ بالألم.
فلو ضربني شخصٌ ما لشعرتُ بالألم. والأمرُ مُماثِلٌ فيما يتعلّقُ بالمسائِلِ الأخلاقيّة أو الوجدانيّة: فحين يحدُثُ شيءٌ محزنٌ جداً، أشعُرُ بحزنٍ عميق كما كان شَأني عندما كنتُ أكترثُ بالدنيا من حولي. لقد شعرتُ بالشفقةِ منذُ قليل: كان بإمكاني أن أساعِدَ تلك الطفلة دونَ تردد، فلماذا لم أفعل؟ لعلّها تلك الفكرة التي انبجست عندما كانت البنت تشدّني من كُمّي وتدعوني لنجدتها، متمثّلة بسؤالٍ برزَ فجأةً نصب عيني وما استطعتُ حَلّه؛ لقد كان سؤالاً نافِلاً لكنَّه أغضبني، أغضبني بسبب نتيجتِهِ التي تقول: ما دمتُ سأنهي حياتي الليلة، فالأولى أن أُصْبِحَ أقلَ اهتماماً بالدنيا في هذهِ اللحظات أكثر مما كنتُ في أي وقتٍ مضى، فلماذا شعرتُ فجأةً وبعدما سبق بأنني أشفِقُ على الطفلة وأكترثُ لحالها؟ أتذكر أنني حزنت لأجلها وأشفقتُ عليها كثيراً، ممّا لا ينسجِمُ مَع وضعي وما أنا مقدمٌ عليه. حقيقةً... لا أتمكَنُ من رسم المشاعِر التي سيطرت عليّ لحظتها، لكنّها مشاعرُ لم تغادرني أبداً، وحين جلستُ إلى طاولتي في الغرفة، كانَ الغضبُ في نفسي يضطرمُ كما لم يحدث لي منذُ سنواتٍ طويلة، وبدأتِ المحاكماتُ العقليّة تترى الواحدة تلو الأخرى، وكنت أقلّبُ الأمور: إنني ما دمتُ إنساناً، ولستُ صفراً، وَلم أصبح صِفراً بعدُ، فهذا يعني أنني أحيا، وبالتالي يُمكنني أن أتألّمِ، وأغضبَ وأشعر بالخزي مما أقترِفُهُ، طيّب! فإن انتحرتُ؛ ما الذي يعنيني بَعد سَاعتين مثلاً من شأن الفتاة، ومن الخزي، ومن كلِ ما هو فوقَ سطح الأرض؟ عندها سأتحوّلُ إلى صِفر، إلى عَدَمٍ مُطلق.
وهل من المعقول أن مسألةَ إدراكي أنني بعد قليل لن أبقى موجوداً (على الإطلاق)، وبالتالي فالعالم كُلّهُ لن يكونَ موجوداً، هل من المعقولِ إذاً أن هذا الإدراك لم يكن يؤثّر ولو قليلاً جداً على شعوري بالشفقة إزاء الطفلة، وشعوري بالعارِ من قِلّة الضمير التي ارتكبتُها؟!
لقد قمتُ بإهانةِ الطفلة البائسة حين قرعتُ الأرضَ بقدمي، وصرختُ بها، ومَا هذهِ الحقارة التي قمتُ بها والخالية من مشاعِر التعاطف الإنساني "بهدفِ البرهان على أنني لم أعد أشعُرُ بالشفقة فحسب، بل لأثبِتَ أيضاً أنني أستطيعُ أن أرتكبَ أي حقارة لأنني وبعد ساعتين سأغادرُ هذا العالم"، هل تُصدّقون أن صُراخي كان لهذا السبب؟ أنا الآن واثقٌ تقريباً من ذلك، لقد تصوّرتُ بوضوحٍ تام أن الحياة والعالم الآن إنّما يتعلّقانِ بي، ويمكنني حتى أن أقول: لكأنَ العالمَ قد وجدَ لأجلي وحدي، فيكفي أن أطلقَ النارَ عليّ حتى يختفي العالم ولا يعودُ موجوداً، على الأقل بالنسبةِ لي؛ ولا أقول الآن أن لا شيءَ سيبقى في حقيقة الأمر للجميع من بعدي أنا، وما أن ينطفئُ وَعيي حتى يتلاشى العالَمُ كلّهُ في اللحظةِ نفسها كما يتلاشى شبح، لأن كل هذا ينتمي إلى وعيي أنا وحدي، رُبّما لأن هذا العالم كُلّه، والناسُ كُلّهم ليسوا سوى (أنا) وحدي، أذكُرُ أَنني استعرضّت وقلّبتُ كل هذهِ الأسئلة الجديدة جَالساً إلى طاولتي؛ فأذهب فيها مذاهب شتّى واختَلِقُ غيرها.
فقد تصوّرتُ ـ على سبيل المثال ـ أمراً غريباً جداً؛ كما لو أنني كنتُ قد عشتُ في الماضي على سطح القمر أو المرّيخ، وارتكبتُ هناكَ عملاً شديد البشاعةِ والوضاعة، مما لا يمكن تصوّره، فصرتُ مخزيّاً مكللاً بالعار، بطريقةٍ لا يمكن تخيّل مثلها إلاَّ في الكوابيس، ثُمّ وجدتُ نفسي فجأةً على سطح الأرض مع كلِّ تلك المشاعِرِ والصور عَمّا ارتكبتُهُ على سطح ذلك الكوكب، لكنني لن أعودَ إلى هناك لأيِ سبب كان؛ فأنا أنظر إلى القمر من الأرض ـ هل سأشعُرُ عندها بعدم الاكتراثِ لكل ما حدث هناك؟ هل سأحسُّ بالعار مما فعلتُهُ هناك؟ أسئلة نافلة لا جدوى منها، فالمسدّسُ يضطجعُ أمامي على الطاولة، ولا بُدّ أنني سأنتحرُ؛ لكن تلك الأسئلة تثيرُ في أعماقي النار وتمنعني من الموتِ قبل أن أحلّها، وبكلمة واحدة: لقد أنقذتني تلك الطفلة فالأسئلةُ تلك أبعدت المسدّس، وكان الوضَعُ في غرفة الكابتن يجنَحُ إلى الهدوء والسكون. لقد توقفوا عن اللعب، واستعدّوا للنوم، وما عادت تصلني إلا بضعُ دمدماتٍ متقطّعة، أو شتائم متفرّقة، ثُمّ أخذني النوم فجأة على غير عادتي مَعه من قبل، نمتُ دون أن أحسّ بذلك، الأحلام؛ كما هو معروف أشياءُ غريبة(1) بعضُها يعرضُ لك رهيباً حاداً وجلياً بكل تفاصيله، كقطعةٍ نقديّةٍ تخرجُ من بين يدي الصائغ وفي بعضها الآخر تسبَحُ عَبرَ الزمانِ والمكان ولا تلتقطُ شيئاً من الجليِ تماماً أن ما يحرّك الأحلام فينا هو الرغبة وليس العقل، هو القلب وليس الرأس، ورغم هذا فإن عقلي في أحيان كثيرة يلعب دوراً كبيراً في أحلامي، ويطرحُ أشياء عجيبة صعبة التفسير!. من ذلك أن لي أخاً توفي منذ خمس سنوات، وهو يظهر في أحلامي أحياناً: فيشاركُ في أعمالي، ونشعرُ بمتعة كبيرة، وخلال كل ذلك لا يغيب عن بالي أن أخي هذا ميتٌ ومدفون.
فكيفَ لا أشعرُ بالدهشة أنه رغم موتِهِ يجلسُ إلى جواري ويشاركني أموري؟
لماذا يسمَحُ عقلي لهذا الأمر أن يحدث ويمّر؟ وعلى كل حال يكفي هذا.
وسأنتقلُ إلى حُلمي الذي رأيتُهُ، نعم الحلم الذي شاهدتُهُ في تلك الليلة، حُلمي ليلة الثالث من تشرين الثاني.
إنهم يسخرونَ مني ويرونَ أنه مجرّد حُلم، ولكن سواءَ كان ما رأيتُهُ حُلماً أم لا فالأهمُ أنه أظهر لي "الحقيقة"، وما دمتُ قد عاينتُ الحقيقة الأزليّة وعرفتُها وعرفتُ أن لا حقيقة سواها فما أهميّة أن أكون قد فعلتُ ذلك في الحلم أم اليقظة وليكن حُلماً، إن تلك الحياة التي تعلونَ من شأنها كنتُ سأنهيها بطلقة مُسدّس، لكن حُلمي، حُلمي أنا ـ فقد حَمَل إليّ حياةً جديدة، عظيمة، متجدّدة، وقويّة!
اسمعوا:
د.ثائر زين الدين
1
أنا رجلٌ مضحك، وهم ينعتونني الآن بالمجنون، وقد كانَ من شأن هذا النعت أن يكونَ رفعاً من قَدْري لو أنّهم تراجعوا عن اعتباري مضحكاً، كما فعلوا في السابق. لكنني بعد اليوم لن أغضبَ عليهم، فجميعُهم لطفاء بالنسبة لي حتى وهم يهزؤون بي، بل لعلهم يصبحونَ أكثر لطفاً حين يفعلونَ ذلك، ولو لم أكن شديد الحزنِ وأنا أنظر إليهم لضحكت معهم ـ ليسَ على نفسي بالطبع ـ ولكن لكي أُسرّي عنهم، شديد الحزن لأني أراهم يجهلونَ الحقيقة؛ بينما أعرفُها أنا، ما أصعَبَ الأمرَ على من يعرف الحقيقةَ وحده، إنهم لن يفهموا ذلك.
لا، لن يفهموا.
فيما مضى تألمتُ كثيراً حين بدوتُ مُضحكاً، لماذا أقولُ بدَوت، لقد كنت مُضحكاً، دائماً كنتُ مضحكاً، وأعلمُ ذلك، رُبّما منذُ ولادتي كنتُ كذلك، ولعلّي عرفت هذا في السابعة من عُمري، بعد ذلك درستُ في الثانويّة، ثُمّ في الجامعة وكنت كُلّما تعلّمت أكثر، أيقنتُ أنني مُضحك، حتى لكأن دراستي الجامعيّة كُلها ما وُجدت إلا لتبرهنَ لي وتقنعني ـ على قدرِ تعمّقي في العلومِ ـ بأنني مُضحك، سواءٌ في العلم أو الحياة، وعاماً بعد عام كنت أزدادُ يقيناً بأن لي شكلاً مضحكاً في شتّى المجالات، لقد ضحكَ عليّ الجميع وفي كل مكان، وما عرفَ هؤلاء أبداً أنّه إن كان ثَمّةَ من يدرك أكثر من الجميع على الأرض كم أنا مضحك فهذا الشخص هو أنا بالذات، وقد أغضبني كثيراً أن أحداً منهم لا يعرف ذلك، ولعلّي كنتُ مُذنباً في هذا الشأن: فقد كنت دائماً عزيز النفس، ممّا منعني دائماً أن أعترفَ لأحدهم بذلك، وقد نمت عِزّة نفسي هذهِ مع السنوات، ولو حدثَ في يومٍ من الأيام أن اضطررتُ للاعترافِ بأنني مضحك أمام شخصٍ ما لهشّمت جمجمتي بطلقةِ مُسدّس في مساء اليوم ذاته، كم تعذّبتُ في مُراهقتي من أنني قد لا أستطيع التحمّل وأعترف أمام رفاقي بأنني مضحك، ولكن ومنذ أصبحتُ شاباً ـ ورغم ازدياد معرفتي عاماً بعد عام بنوعيّتي الغريبة ـ بدأت أصبحُ لسبب ما أكثر هدوءاً واطمئناناً.
وما كل ذلك إلا لجهلي التام بحقيقة حالتي هذه، رُبّما يعودُ الأمرُ إلى تلك التعاسة الغامرة التي سيطرت علي إثر حالةٍ أقوى منّي؛ حالةٍ اقتنعْتُ فيها بشكلٍ راسخٍ وثابت أن لا شيء في هذهِ الحياة "يستحقُ الاهتمام"، كان الأمرُ فيما مضى مُجرّد شكٍ، لكنني اقتنعتُ بعد ذلك قناعةً كاملة، وأيقنتُ فجأةً بذلك يقيناً لا مَحيد عنه. بغتةً شعرتُ أنني لستُ معنياً سواءَ وجدَ هذا العالَمُ أم لم يوجد. وبدأتُ أشعرُ وأحسُ بكل جوارحي (أن لا شيء قد وجِدَ أثناء وجودي أنا)، في البداية كان قد تراءى لي أن أشياءَ جَمّة قد وجدت من قبلُ، ثُمَّ أدركتُ أن لا شيءَ من قَبلُ قد وجد أيضاً، ولكن لسبب ما تراءى لي ذلكَ الوجود، وشيئاً فشيئاً أيقنتُ أن لا شيءَ أبداً سيكون.
وعند ذلك أصبحتُ فجأةً لا أغضبُ من الناس، بل ما عدتُ ألاحظُ وجودَهم.
وقد تجلّى هذا في بعض التفاصيل الصغيرة جداً: مثلاً أنني كنت أسيرُ في الطريق فأصطدمُ بالناس، والأمرُ ليسَ بسبب استغراقي في التفكير: فبماذا سأفكر، يومها كنتُ قد توّقفت عن التفكير في أي شيء: لقد استوت الأمور كلها في عينيّ، وما عدتُ أهتمُ لأمرٍ ولا فكّرت في حلِ سؤال واحد؟ ثُمَّ هل كان ثمّة أسئلة شغلتني؟ (لم أكن معنياً بشيء) ولهذا تناثرت الأسئلة مبتعدة.
وهكذا بعد كل ما سبق عرفتُ الحقيقة، عَرفتُها في تشرين الثاني الماضي، وبالتحديد في الثالثِ منه، ومنذ ذلك الحين لم أنسَ لحظةً من تلك اللحظات، كان ذلكَ في ليلةٍ حالكة، ليلةٍ ما عرفتُ أكثر مِنها ظُلْمَةً، كنتُ عائداً في الحادية عشرة إلى منزلي وأذكرُ تحديداً أنني فكرّتُ أن من المستحيل وجود ظلامٍ دامسٍ كهذا، حتى من وجهةِ النظر الفيزيائيّة، كان المطَرُ قد تساقط طوال النهار، وكان من أكثر الأمطار برودةً وكآبةً، بل تهديداً، وعدائيةً للناس؛ أذكرُ ذلك، ثُمّ ها هو ذا يتوقف فجأةً قرابة الحادية عشرة ليلاً، وترتفَعُ من الأرضِ رطوبةٌ أشدُ برودةً مما كان المطرُ قد صنعه، ويتعالى بخارٌ ما؛ من كل بلاطة في الشارع، ومن كلِ زقاقٍ يفضي إليه وتراهُ حين تُرسِلُ نظرك إلى البعيد، عندها تهيأ لي أن انطفاءَ مصابيح الغاز كلها سيبعثُ الفرح، لأنها على هذهِ الصورة تضيءُ وتظهر كل هذا الحزن، لم أكن قد تناولتُ طعام الغداء ذلكَ اليوم، ومنذ بداية المساء جلستُ عند مهندسٍ وبصحبتِهِ رفيقيه.
وبقيت طوال السهرةِ صامتاً، مما بعثَ في نفوسهم المللَ مني، تحدّثوا في أمور مثيرة ثُمّ استولت عليهم الحماسة، لكنّهم كانوا في حقيقة الأمر يتصنّعون لم يكن يهمّهم ما يتجادلون حوله، وقد انتبهتُ إلى ذلك، فقلتُ لهم فجأةً: "أيّها السادة، إنكم في حقيقة الأمر لا تكترثون".
لم يغضبوا مني، لكنّهم جميعاً ضحكوا ساخرين، رُبّما لأنني قلتُ ما قلته دون أي لوم، ولأنني ببساطة لم أكن معنيّاً بشيء، رأوا ذلك فغلبَ عليهم المرح.
حين فكّرت في مصابيح الغاز وأنا في الطريق رفعتُ عينيَ إلى السماء؛ كانت شديدة الحُلكة، وبصعوبة يمكن تميزُ مِزق الغيوم، وبينهما بقعٌ سوداء عميقة، في إحدى تلك البقع استطعتُ أن أرى نجماً صغيراً فرحتُ أحدّقُ به متأمّلاً؛ لقد أيقظَ النجمُ فيّ فكرةً: في تلك الليلة قرّرتُ الانتحار، قبل شهرين منها كنتُ قد صمّمتُ على قتل نفسي، ورغم فقري الشديد اشتريتُ مسدّساً رائعاً، وحشوتُهُ في ذلك اليوم نفسه، ثُمّ مَرّ شهرانِ والمسدّسُ مرميٌ في الدُرج، وقد بلغتُ من شدّة عدم اكتراثي أن تمنيتُ في النهاية أن أقبضَ على دقيقة واحدة أحسُ فيها أن شيئاً ما يستحقُ الاهتمام، لماذا؟ لا أدري، وهكذا وخلال ذينك الشهرين كنتُ أعودُ إلى البيت كل يوم وأفكر بالانتحار، وأنتظر اللحظة المناسبة.
والآن يمنحني هذهِ النجم فكرةَ؛ أن أنفّذ ما عقدتُ عليه العزم في هذهِ الليلة "بالذات". أما لماذا قَدّم لي النجم هذهِ الفكرة ـ فلا أعلم!
وفي اللحظةِ نفسها التي كنت أنظرُ فيها إلى السماء، أمسكت طفلةٌ كُمّي، كان الطريقُ قد أقفَرَ، وما من أحدٍ فيهِ تقريباً، بعيداً عني غفا حوذيٌ على مقعده، الطفلةُ كانت في الثامنة، تغطي رأسها بمنديل، وتَسْتَتِرُ بثوبها فقط، وهي مبللة تماماً، وقد لفتَ انتباهي حذاؤها المثقوبُ المبلل ولا زلتُ أذكُرُ منظرهُ حتى الآن، ولقَد تسمّرت عينايَ على منظر قدميها في الحذاء، راحت البنتُ تشدّني من كُمّي وتستنجدُ بي، لم تكن تبكي، ولكنَّها لشدّة عصبيتها غرغرت ببعض الكلمات التي لم تستطع نطقها جيداً، بسبب البردِ وارتجافِها بقوّة، بدت مذعورةً لأمرٍ ما، ثم صَرخت يائسةً: "أُمّي، أُمِّي الحبيبة" التفتُ نحوها ولم أقل شيئاً بل تابعتُ مَسيري، ركضتْ خلفي، وهَزّتني، وتعالى صوتها كما يمكن أن تسمع من الأطفال المرعوبين اليائسين؛ أعرفُ أنا مثل هذا الصوت، ورغم أنها لم تقل ذلك فقد توقعت أن أمها تحتضرُ في مكان ما، أو أن شيئاً خطيراً حصَلَ لهما فانطلقت تستنجدُ بشخصٍ ما، تجدُ أحداً ما يساعدها، لكنني لم أذهب معها، بل راودتني فكرةُ نَهْرِها، قلتُ لها في البداية أن تبحثَ عن شرطي، ولكنّها أسرعت تضمّ يديها الصغيرتين وتتضرَعُ مبتهلةً وتركضُ إلى جواري رافضةً تركي، عندها قرعتُ الأرضَ بقدمي ونهرتُها، فما زادت عن أن تصرخ بي: "سيّدي!.. أيّها السيّد"، وغادرتني فجأةً قاطعةً الطريق مسرعةً كالسهم، باتجاهِ شخصٍ آخر على الرصيف المقابل.
صعدتُ إلى الطابق الخامس حيث أقيمُ؛ في شقةٍ مفروشة عند صاحب المسكن، غرفتي صغيرةٌ فقيرة، لا نافذةَ فيها إلا نصف كوّة صغيرة، عندي ديوان، طاولة تحملُ الكتب، كُرسيّان مقعد يتيم مُهلهل، لكن من طراز فولتير، جلستُ، أشعلتُ شمعة ورحتُ أفكّر.
في الغرفة المجاورة كانَ الصخبُ مستمراً، لقد بدأ منذُ ثلاثةِ أيام، هناك يعيشُ كابتن متقاعد، وقد زارَهُ هذه المَرّة ستّة أشخاص أوغاد، شربوا الفودكا، ولَعِبوا لُعبةَ "الفرعون" بأوراقِ لعبٍ قديمة، في الليلةِ الماضية نشب بينهم عراك، وأنا أعلم أن اثنين منهما ظّلا لفترةٍ طويلة يجرُّ كل منهما الآخر من شَعْرِه. وقد أرادت صَاحبةُ المنزل أن تشكوهم لكنّها كانت تخشى الكابتن كثيراً، لم يكن في الشقة ـ بالإضافة لنا ـ إلا سيّدة نحيفة قصيرة، هي أرملة أحد الضبّاط، وقد جاءت إلى هذا المسكن مع أبنائِها الصغار الثلاثة، الذين سرعان ما مَرِضوا، لقد كانوا يخشون الكابتن ويخافونه، مما يجعلهم يرتجفون ويرسمون إشارة الصليب طوال الليل، حتى أن الطفل الأصغر كان يُعاني من نوبةٍ عصبيّة جَرّاء الرعب.
كنتُ أعلمُ أن هذا الكابتن يستوقفُ العابرين في شارع نيفسكي طلباً للصَدَقة.
وما كان أحد يَدعوه للخدمةِ أو العمل، ولكن الغريب (وهذا ما دعاني لأتحدّث عنه) أن هذا الكابتن وقد مَرّ على سُكْناهُ مَعنا شهر كامل لم يُثرِ فيّ نفسي أي شعور بالنفور منه، لقد تجنّبتُ أي تعارفٍ بيننا منذُ البداية، مع أن مثل هذا الأمر لو حَدث لشعَرَ الرجلُ بالمللِ والضجرِ منّي منذ اللقاء الأوّل. لم أهتّمَ لأمرهم مهما صَرخوا خلفَ جدارهم ومهما كان عددهم، كان الأمرُ بالنسبة لي سيّان.
كنت أجلسُ طوال الليل وفي الحقيقة لم أكن أنصت إليهم أو أسمعهم ـ بل لقد نسيتُ وجودَهم. لقد اعتدتُ أن أجلس على المقعد إلى الطاولة طوال الليل دون أن أفعل شيئاً، أما فيما يتعلّق بالقراءة فقد كنت لا أقرأُ إلا نهاراً، أجلسُ فحسب ولا أفكّر، بينما تَمّرُ بخاطري بعض الأفكار، التي سرعان ما أحرّرها لتذهب وفق إرادتها.
احترقتْ الشمعة كُلّها تلك الليلة، وأنا أجلسُ صامتاً إلى الطاولة، أخرجتُ المُسدّس وضعتُهُ على الطاولة أمامي، وتذكرتُ حين فعلتُ ذلك أنني سألتُ نفسي:
"هكذا إذاً؟"، ثُمّ أجبتُ حاسماً: "نعم" أي سأنتحر، وكنت أَعْلَمُ أنني على الأرجح سأنتحر في تلك الليلة، لكن إلى متى سأجلسُ على مقعدي قرب الطاولةِ قبل أن أفعل ذلك، لم أكن أعلم. ولا شك عندي أنني كنتُ انتحرت لو لم ألقَ تلك الطفلة في الليلة نفسها في الشارع.
2
رغم أن الأشياء من حولي ما كانت تعنيني، إلا أنني كنتُ أُحسُّ ـ على سبيل المثال ـ بالألم.
فلو ضربني شخصٌ ما لشعرتُ بالألم. والأمرُ مُماثِلٌ فيما يتعلّقُ بالمسائِلِ الأخلاقيّة أو الوجدانيّة: فحين يحدُثُ شيءٌ محزنٌ جداً، أشعُرُ بحزنٍ عميق كما كان شَأني عندما كنتُ أكترثُ بالدنيا من حولي. لقد شعرتُ بالشفقةِ منذُ قليل: كان بإمكاني أن أساعِدَ تلك الطفلة دونَ تردد، فلماذا لم أفعل؟ لعلّها تلك الفكرة التي انبجست عندما كانت البنت تشدّني من كُمّي وتدعوني لنجدتها، متمثّلة بسؤالٍ برزَ فجأةً نصب عيني وما استطعتُ حَلّه؛ لقد كان سؤالاً نافِلاً لكنَّه أغضبني، أغضبني بسبب نتيجتِهِ التي تقول: ما دمتُ سأنهي حياتي الليلة، فالأولى أن أُصْبِحَ أقلَ اهتماماً بالدنيا في هذهِ اللحظات أكثر مما كنتُ في أي وقتٍ مضى، فلماذا شعرتُ فجأةً وبعدما سبق بأنني أشفِقُ على الطفلة وأكترثُ لحالها؟ أتذكر أنني حزنت لأجلها وأشفقتُ عليها كثيراً، ممّا لا ينسجِمُ مَع وضعي وما أنا مقدمٌ عليه. حقيقةً... لا أتمكَنُ من رسم المشاعِر التي سيطرت عليّ لحظتها، لكنّها مشاعرُ لم تغادرني أبداً، وحين جلستُ إلى طاولتي في الغرفة، كانَ الغضبُ في نفسي يضطرمُ كما لم يحدث لي منذُ سنواتٍ طويلة، وبدأتِ المحاكماتُ العقليّة تترى الواحدة تلو الأخرى، وكنت أقلّبُ الأمور: إنني ما دمتُ إنساناً، ولستُ صفراً، وَلم أصبح صِفراً بعدُ، فهذا يعني أنني أحيا، وبالتالي يُمكنني أن أتألّمِ، وأغضبَ وأشعر بالخزي مما أقترِفُهُ، طيّب! فإن انتحرتُ؛ ما الذي يعنيني بَعد سَاعتين مثلاً من شأن الفتاة، ومن الخزي، ومن كلِ ما هو فوقَ سطح الأرض؟ عندها سأتحوّلُ إلى صِفر، إلى عَدَمٍ مُطلق.
وهل من المعقول أن مسألةَ إدراكي أنني بعد قليل لن أبقى موجوداً (على الإطلاق)، وبالتالي فالعالم كُلّهُ لن يكونَ موجوداً، هل من المعقولِ إذاً أن هذا الإدراك لم يكن يؤثّر ولو قليلاً جداً على شعوري بالشفقة إزاء الطفلة، وشعوري بالعارِ من قِلّة الضمير التي ارتكبتُها؟!
لقد قمتُ بإهانةِ الطفلة البائسة حين قرعتُ الأرضَ بقدمي، وصرختُ بها، ومَا هذهِ الحقارة التي قمتُ بها والخالية من مشاعِر التعاطف الإنساني "بهدفِ البرهان على أنني لم أعد أشعُرُ بالشفقة فحسب، بل لأثبِتَ أيضاً أنني أستطيعُ أن أرتكبَ أي حقارة لأنني وبعد ساعتين سأغادرُ هذا العالم"، هل تُصدّقون أن صُراخي كان لهذا السبب؟ أنا الآن واثقٌ تقريباً من ذلك، لقد تصوّرتُ بوضوحٍ تام أن الحياة والعالم الآن إنّما يتعلّقانِ بي، ويمكنني حتى أن أقول: لكأنَ العالمَ قد وجدَ لأجلي وحدي، فيكفي أن أطلقَ النارَ عليّ حتى يختفي العالم ولا يعودُ موجوداً، على الأقل بالنسبةِ لي؛ ولا أقول الآن أن لا شيءَ سيبقى في حقيقة الأمر للجميع من بعدي أنا، وما أن ينطفئُ وَعيي حتى يتلاشى العالَمُ كلّهُ في اللحظةِ نفسها كما يتلاشى شبح، لأن كل هذا ينتمي إلى وعيي أنا وحدي، رُبّما لأن هذا العالم كُلّه، والناسُ كُلّهم ليسوا سوى (أنا) وحدي، أذكُرُ أَنني استعرضّت وقلّبتُ كل هذهِ الأسئلة الجديدة جَالساً إلى طاولتي؛ فأذهب فيها مذاهب شتّى واختَلِقُ غيرها.
فقد تصوّرتُ ـ على سبيل المثال ـ أمراً غريباً جداً؛ كما لو أنني كنتُ قد عشتُ في الماضي على سطح القمر أو المرّيخ، وارتكبتُ هناكَ عملاً شديد البشاعةِ والوضاعة، مما لا يمكن تصوّره، فصرتُ مخزيّاً مكللاً بالعار، بطريقةٍ لا يمكن تخيّل مثلها إلاَّ في الكوابيس، ثُمّ وجدتُ نفسي فجأةً على سطح الأرض مع كلِّ تلك المشاعِرِ والصور عَمّا ارتكبتُهُ على سطح ذلك الكوكب، لكنني لن أعودَ إلى هناك لأيِ سبب كان؛ فأنا أنظر إلى القمر من الأرض ـ هل سأشعُرُ عندها بعدم الاكتراثِ لكل ما حدث هناك؟ هل سأحسُّ بالعار مما فعلتُهُ هناك؟ أسئلة نافلة لا جدوى منها، فالمسدّسُ يضطجعُ أمامي على الطاولة، ولا بُدّ أنني سأنتحرُ؛ لكن تلك الأسئلة تثيرُ في أعماقي النار وتمنعني من الموتِ قبل أن أحلّها، وبكلمة واحدة: لقد أنقذتني تلك الطفلة فالأسئلةُ تلك أبعدت المسدّس، وكان الوضَعُ في غرفة الكابتن يجنَحُ إلى الهدوء والسكون. لقد توقفوا عن اللعب، واستعدّوا للنوم، وما عادت تصلني إلا بضعُ دمدماتٍ متقطّعة، أو شتائم متفرّقة، ثُمّ أخذني النوم فجأة على غير عادتي مَعه من قبل، نمتُ دون أن أحسّ بذلك، الأحلام؛ كما هو معروف أشياءُ غريبة(1) بعضُها يعرضُ لك رهيباً حاداً وجلياً بكل تفاصيله، كقطعةٍ نقديّةٍ تخرجُ من بين يدي الصائغ وفي بعضها الآخر تسبَحُ عَبرَ الزمانِ والمكان ولا تلتقطُ شيئاً من الجليِ تماماً أن ما يحرّك الأحلام فينا هو الرغبة وليس العقل، هو القلب وليس الرأس، ورغم هذا فإن عقلي في أحيان كثيرة يلعب دوراً كبيراً في أحلامي، ويطرحُ أشياء عجيبة صعبة التفسير!. من ذلك أن لي أخاً توفي منذ خمس سنوات، وهو يظهر في أحلامي أحياناً: فيشاركُ في أعمالي، ونشعرُ بمتعة كبيرة، وخلال كل ذلك لا يغيب عن بالي أن أخي هذا ميتٌ ومدفون.
فكيفَ لا أشعرُ بالدهشة أنه رغم موتِهِ يجلسُ إلى جواري ويشاركني أموري؟
لماذا يسمَحُ عقلي لهذا الأمر أن يحدث ويمّر؟ وعلى كل حال يكفي هذا.
وسأنتقلُ إلى حُلمي الذي رأيتُهُ، نعم الحلم الذي شاهدتُهُ في تلك الليلة، حُلمي ليلة الثالث من تشرين الثاني.
إنهم يسخرونَ مني ويرونَ أنه مجرّد حُلم، ولكن سواءَ كان ما رأيتُهُ حُلماً أم لا فالأهمُ أنه أظهر لي "الحقيقة"، وما دمتُ قد عاينتُ الحقيقة الأزليّة وعرفتُها وعرفتُ أن لا حقيقة سواها فما أهميّة أن أكون قد فعلتُ ذلك في الحلم أم اليقظة وليكن حُلماً، إن تلك الحياة التي تعلونَ من شأنها كنتُ سأنهيها بطلقة مُسدّس، لكن حُلمي، حُلمي أنا ـ فقد حَمَل إليّ حياةً جديدة، عظيمة، متجدّدة، وقويّة!
اسمعوا: