عطر سوريا
25/12/2008, 02:38
لا يخفى على منصف أن الحرب الأخيرة التي دارت رحاها على أرض لبنان بين الإسرائيليين والمقاومة اللبنانية، تضمنت في ثناياها وأدائها، وفي مسارها ونتائجها، خلاصة التجارب الحربية السابقة منذ عام 1948، فالمقاومة تجنبت السلبيات العربية في الحروب السابقة، واستفادت من ايجابياتها، ولا شك أن أبرز الإيجابيات برزت في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بل ثمة قاسم مشترك بين الحربين، يكاد يقتصر عليهما وحدهما، وهو تعثر قوات العدو وخسائرها الكبيرة، واضطرابها إلى درجة فقدان الزمام أمام فعالية أداء القوات العربية. وإذا كانت قوات العدو قد نجحت عام 1973 في تجاوز تعثرها واضطرابها وتقهقرها فإنها لم تنجح في تحقيق هذا التجاوز ميدانياً عام 2006. ولا يعود ذلك إلى أي فارق جوهري بين المقاتل العربي في حرب 1973 والمقاتل العربي في حرب 2006، فكلاهما واحد في جوهره، بل يعود إلى جملة من الشروط والظروف، خاصة السياسية، التي لم تتوفر بصورة كافية في الأولى وتوفرت إلى حد كاف في الثانية، وبالطبع فإن الفضل في الانتصار الأخير يعود إلى جميع المجاهدين والمقاتلين العرب الذين راكموا التجارب والخبرات منذ عام 1948، بل منذ مطلع القرن العشرين، لتبلغ ذروتها وتعطي ثمارها الطيبة على الجبهة اللبنانية، فكأنما هم جميعاً خاضوا هذه الجولة الأخيرة المظفرة.
الفارق بين الأمس واليوم
لقد مضى على حرب تشرين الأول/ أكتوبر ثلاثة وثلاثون عاماً، وقد فصلت وقائعها في مجلدات موثقة تناولت جميع جوانبها، وأسهم في وضعها خبراء من جميع الاختصاصات والجنسيات، فإذا كان لابد من استحضار وقائعها اليوم فينبغي أن نستحضر منها ما يساعدنا في كفاحنا المستمر عبر هذه الحرب المفتوحة المستمرة التي يشنها ضد أمتنا قادة النظام العالمي الربوي الجائر، خاصة الأميركيين، الذين نجحوا عام 1973 في حرمان المقاتل العربي من قطف ثمار انتصاراته، لكنهم لم ينجحوا اليوم، في عام 2006، وما زالوا يحاولون باستماتة دون أن يظهر في الأفق السياسي ما من شأنه مساعدتهم على تحقيق هدفهم، فما هو الفارق أو الفوارق التي جعلتهم يبلغون هدفهم في الأولى ولا يبلغونه في الأخيرة؟ إنه بالدرجة الأولى الموقف من الولايات المتحدة الأميركية. ففي عام 1973 كان هناك، في قيادة الحرب على الجبهة العربية، من يعتبر الولايات المتحدة طرفاً ثالثاً يمكن أن يكون حكماً منصفاً بالرغم من تعاطفه مع الإسرائيليين، أما في عام 2006 فإن المقاومة اللبنانية وحلفاءها، وفي مقدمتهم سورية وإيران، تعاملت مع الولايات المتحدة باعتبارها خصماً رئيسياً محارباً لا طرفاً ثالثاً حكماً يمكن أن يكون محايداً، وفي هذا التعامل الواقعي يكمن السرّ الأول في انتصار العرب وفي عجز العدو عن حرمانهم من قطف ثمار انتصارهم الميداني كما حدث عام 1973. وينبغي أن لا تفوتنا هنا الإشارة إلى ما أسهم في توفّر هذا الشرط السياسي الحاسم وتكامل معه، نعني المقاومة الباسلة الصامدة الواعية في فلسطين والعراق.
لقاء نيويورك ومصير العرب!
في حرب تشرين عام 1973 كان الأميركيون، خاصة اليهود منهم، يصولون ويجولون في المنطقة على الجبهتين العربية والإسرائيلية، فيقدمون النصائح ويعطون الملاحظات حول سير المعارك على هذه الجبهة وتلك، خاصة على الجبهة المصرية، وقد انعكس ذلك سلباً وخطراً عظيماً على الجبهة المصرية في الأسابيع الأولى للحرب، وبرز طبعاً في المواقف السياسية غير المتطابقة مع الأداء البطولي للجنود العرب، بل بما يتناقض مع هذا الأداء ويلحق به أفدح الأضرار، ونحن لن نكرر هنا ما شرحه القادة العسكريون المصريون بهذا الصدد، بل سنعود إلى وثيقة أميركية، يرجع تاريخها إلى العام 1975، وهي محضر الاجتماع الذي عقده وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر مع زعماء أميركيين يهود صهاينة كانوا يعملون ضمن تشكيلة تدعى مجموعة فيليب كلوتزنيك، وقد تضمن المحضر خلاصة ما حققته الإدارة الأميركية من نجاحات سياسية في عملية حرمان المقاتلين العرب من قطف ثمار انتصاراتهم المؤزرة!
لقد عقد الاجتماع المذكور في نيويورك، فندق بيير الجناح 311، من الساعة 12.15 وحتى الساعة 2.35 بتاريخ 15/6/1975، وحضره تسعة عشر زعيماً يهودياً أميركياً من كبار رجال الصناعة والمال والأعمال والمراكز العلمية والتعليمية، فما الذي دار في ذلك اللقاء من شروح ومناقشات بصدد مصير العرب، وخاصة بصدد مصير الفلسطينيين؟
طرد السوفييت والإنفراد بالعرب!
لقد بدأ وزير الخارجية الأميركي، اليهودي الصهيوني هنري كيسنجر، حديثه بالإعراب عن قلقه حيال مستقبل "إسرائيل" والطائفة اليهودية في الولايات المتحدة:" ما لم نلتمس الحكمة في سلوكنا"! قال كيسنجر أن ولايته بدأت عام 1969، مستشاراً للأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون، وأنه شخصياً لم تكن له علاقة بشؤون الشرق الأوسط، فترك لسلفه في الخارجية، الوزير روجرز، مهمة معالجة تلك الشؤون بصورة أساسية، لكنه أوضح لسلفه بجلاء أن إستراتيجيته ستقوم على إحباط العلاقة العربية السوفيتيية، فإذا أحبطت هذه العلاقة – على حد قوله – أمكنه الشروع في عملية تهدف إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط! وإنه لمن الواضح أن كيسنجر يقصد الاستسلام وليس السلام، بعد حرمان العرب من مصدر تسليحهم!
قال كيسنجر: كان موقفي ينهض على أن سياستنا تهدف إلى طرد السوفييت من مصر، ولذلك اتخذنا مواقف استفزازية في مختلف الأزمات التي نشبت في الشرق الأوسط. لقد بالغنا في الاستفزاز حتى نبين للسوفييت حدود نفوذهم. ثم قام السادات بطرد الروس. وأنا أصدقكم القول أنني لم أكن أحمل السادات على محمل الجدّ من قبل! ثم اندلعت حرب عام 1973. وقد أنقذت الولايات المتحدة "إسرائيل" من الانهيار في نهاية الأسبوع الأول من الحرب، وذلك بفضل شحناتنا من الأسلحة! وكان السادات يبعث إلي بالرسائل يومياً، حتى بينما الجسر الجوي مستمراً في شحن الأسلحة إلى "إسرائيل"، قائلاً (السادات) أنه يدرك أن لابد من أن تعقب الحرب محادثات، وأنه يرغب في قدومي إلى مصر للبدء في عملية السلام بأسرع ما يمكن!
الاستنفار النووي لصالح الإسرائيليين!
يتابع كيسنجر حديثه أمام الزعماء اليهود الأميركيين فيقول: زعم البعض (من اليهود) أن الإستراتيجية الأميركية هدفت إلى خلق وضع راكد، لا غالب ولا مغلوب، وهذا خطأ تماماً، فما كنا نرغب في تحقيقه هو أن تنزل بالعرب أفدح هزيمة، كي يتبين لهم بجلاء أن اعتمادهم على السوفييت لن يبلغهم مرامهم، أما السبب في حالة الركود فهو أن الإسرائيليين لم يكونوا مهيئين للحرب، ولم يوفروا لنا من المعلومات خلال الحرب ما يفي بالغرض، بل إننا لم نكن نعلم قبيل انتهاء الحرب أنهم متجهون جنوباً، وقد سألتهم أنا شخصياً ولم يحيروا جواباً! لقد كنا نريد تأخير صدور قرار مجلس الأمن حتى نتيح للإسرائيليين القتال لمدة 72 ساعة أخرى، وكان ذهابي إلى موسكو أسلوباً لجأت إليه لأعطي الإسرائيليين مدة أطول، ولو أمكن للإسرائيليين محاصرة الجيش الثالث (المصري) خلال الحرب لما كان لنا أي شأن بالأمر، وكنا غضضنا الطرف عنه، أما محاصرة هذا الجيش بعد وقف القتال تحت إشراف الولايات المتحدة فإنه خلق لنا معضلة! ومع ذلك أعلنت الولايات المتحدة، حتى بعد محاصرة الجيش الثالث، حالة الاستنفار النووي لردع السوفييت عن القيام بأي عمل منفرد!
المدرعات السورية والاستنفار الأميركي!
قال كيسنجر في ذلك اللقاء، مخاطباً مجموعة كلوتزنيك، أنه من اليسير على المجموعة القول بأن المصالح الأميركية والإسرائيلية متطابقة، لكن الأمر ليس كذلك تماماً في الواقع، ومن الخطأ أن تتشبث الطائفة اليهودية الأميركية بهذا التصور، فللولايات المتحدة مصلحة في بقاء "إسرائيل"، لكنها معنية أيضاً بالعرب الجاثمين فوق آبار النفط الغنية التي تمدّ العالم بالطاقة! ثم ماذا لو أن السوفييت لم يتراجعوا ظهيرة اليوم الثاني لإعلاننا النفير النووي؟ ماذا سيكون عليه الوضع لو أنهم صمدوا 36 ساعة أخرى؟ ثم أنظروا إلى الأزمة التي نشبت عام 1970 (في الأردن) لقد نزعت وزارة الخارجية يومئذ إلى الرأي بأنه يجدر بنا إرسال كتب دبلوماسية إلى جميع بلدان العالم، لكننا رفضنا وطلبنا من الوزارة وقف جميع الاتصالات، وحركنا فرقة مدرعة على الطرق الدولية في ألمانيا، ووجهنا طائرات من الأسطول السادس إلى مطار اللد للمشاركة في التحضير للمواجهة، واستنفرنا الفرقة 82 المحمولة جواً، فارتدت المدرعات السورية على أعقابها، غير أن الصحف لم تنشر شيئاً من هذه الأنباء، على عكس ما حدث في تشرين الأول/ أكتوبر 1973!
المناورات المحسوبة مع العرب!
قال كيسنجر: في حرب 1973، كان علينا تمحيص العوامل التالية: ماذا سيكون أثر أزمة الطاقة على أوروبا الغربية واليابان؟ ثانياً، قناعتنا أن "إسرائيل" يجب أن تكون قوية، لكن قوتها توفر الأمن لها ولا تحول دون انتشار الشيوعية في العالم العربي! والدفاع الأفضل في العالم العربي هو تدعيم الحكومات العربية المعتدلة، ولذلك من العسير الزعم أن من شأن "إسرائيل" القوية الحيلولة دون انتشار الشيوعية في العالم العربي (طبعاً هو يقصد انتشار المقاومة العربية التي يصفونها اليوم بالإرهابية!) في حرب عام 1973 كانت إستراتيجيتنا تقوم على: السعي لتفكيك الجبهة العربية المتحدة، وضمان عدم تدخل الأوروبيين واليابانيين في الجهد الدبلوماسي (لاحظوا هذا الضمان!) وإبقاء السوفييت خارج الحلبة الدبلوماسية، وأخيراً خلق وضع يمكّن الإسرائيليين من التعامل مع كل من جيرانهم فرادى!
وهكذا بدأت عملية الخطا الصغيرة التي قادت إلى اتفاقيتين لفصل القوات! لقد عملت الولايات المتحدة على المناورة المحسوبة مع العرب حتى تتيح للإسرائيليين ما يحتاجونه من وقت، وقد قمت بعدّة رحلات إلى المنطقة، من دون أن يتحقق أي تقدم طبعاً! وفي الوقت ذاته قدمنا للإسرائيليين بفضل جهودي أربعة أسباع ما طلبوه من السلاح!
الهدف الحقيقي للخطا الصغيرة!
قال كيسنجر: لقد وافق السادات آنذاك على نبذ استخدام القوة مشروطاً، لكن الإسرائيليين كانوا يريدون إنهاء حالة العداء كلية، أي إلغاء الشروط جميعها، التي تحول دون علاقات عادية طبيعية، بما في ذلك المظاهر المدنية! وكان ردّ السادات أنه إذا كان عليه التنازل عن كل شيء لمجرّد إخراجهم من الممرات (في سيناء) فماذا سيبقى لديه ليتنازل عنه مقابل استعادة الأراضي المصرية كلها؟ لقد كان أبرز همومنا بعد انهيار المحادثات هو منع حدوث انفجار عربي، فلو قدّر لنا أن نفشل لكان علينا أن نواجه انفجاراً عربياً لم أكن أملك تقدير موعده لكنني واثق من وقوعه! ولو أمكن للإسرائيليين أن يحتلوا دمشق والقاهرة وعمان فإن القضايا السياسية الأساسية سوف تظل ماثلة، ولسوف يتحول الرأي العام العالمي عندئذ ضدّ الإسرائيليين والولايات المتحدة بصورة حاسمة! فإذا لم يكن لنهج الخطا الصغيرة حظاً في النجاح فسوف يتعين البحث في احتمال التسوية الشاملة، فإذا كان ذلك فسوف نجد الرأي العام العالمي يؤيد بلا ريب تسوية تقوم على العودة إلى حدود ما قبل حرب عام 1967، وإذا واجه الإسرائيليون مثل هذا الوضع فسوف يكون حالهم صعباً! إن السادات في تقديري وطني مصري، فإذا أعدتم إليه الحدود التي كانت قائمة قبل حرب 1967 فإنه لن يزعجكم بعدئذ قط! إنه ينتمي أساساً إلى الشرائح العليا من البورجوازية (الصغيرة) وهو يريد البدء في عملية السلام، لكنه عربي أيضاً، ولابد له من تحصين موقعه في العالم العربي، وهو أعرب لي عن اعتقاده بأن الإسرائيليين يريدون للوضع الجمود حتى يأتي المتطرفون العرب ويقدمون على ما من شأنه تخلي الولايات المتحدة عن العرب!
في سبيل عزل الفلسطينيين!
رداً على سؤال حول معنى عبارة حقوق الفلسطينيين الشرعية، وجهه إليه أحد الزعماء الأميركيين اليهود في ذلك اللقاء، قال كيسنجر: الفلسطينيون يثيرون مشكلات لمعظم الزعماء العرب، فهم على وجه التحديد يثيرون التطرف (يقصد نزعة المقاومة طبعاً) داخل الأقطار العربية، وهم (الزعماء العرب) يعانون الخوف من الاغتيال! وقد عمدت إلى وضع المسألة الفلسطينية جانباً لأتفرغ لمعالجة قضايا الحدود آملاً بعزل الفلسطينيين في نهاية المطاف، وإن لهذا الأسلوب نصيباً من النجاح، فقد كان بوسعنا فصل الفلسطينيين عن السوريين مقابل بضع كيلومترات من الجولان، إلا أن الإسرائيليين تعنتوا وراحوا يزيدون في بناء المستوطنات إلى الحدّ الأقصى، والشعور الذي يخامرني هو أن السوريين سوف ينحون إلى مزيد من التطرف (يقصد الممانعة والمقاومة طبعاً) ويتوجب على الإسرائيليين أن يدركوا بأنه لا مناص لهم من التعامل مع الحكومات العربية إن لم يرغبوا في التعامل مع الفلسطينيين!
وفي نهايات ذلك اللقاء توجه أحد الحضور إلى كيسنجر بالسؤال التالي: هنري .. ماذا تقول للعرب عما ينبغي أو لا ينبغي لهم عمله؟ إنك تفهم ما أعني بسؤالي! وقد أجاب كيسنجر قائلاً: نعم، أنا أفهم قصدك. إنكم تعلمون أنه من المسلم به أن العرب (الأنظمة طبعاً) يتطلعون إلى واشنطن. أنا لم أتحدث معهم في شؤون الحدود قط. كنت أقول لهم في كل مرة يتطرقون فيها إلى هذا الموضوع أن ذلك سابق لأوانه، وأن عليهم حصر اهتمامهم بالتزامهم بالسلام. قلت لهم أنه يتعين عليهم تقديم بعض الأفكار العينية حول التعايش مع الإسرائيليين، واعتقد أنني تمكنت من إقناع السادات على الأقل بإمعان الفكر في ما سيكون عليه أمر التعايش مع الإسرائيليين، بل لقد أخبرني أنه على استعداد للترحيب بضمانات من الولايات المتحدة. إننا بالتأكيد لم نثر شهية العرب!
ذاك عرض أمين لكثير مما دار في ذلك اللقاء النيويوركي، الأميركي الصهيوني، بين وزير الخارجية وبعض زعماء الجالية اليهودية الأميركية، لعله يعطينا صورة واضحة عن النواقص السياسية الفادحة التي خذلت جنودنا الشجعان في عام 1973، والتي أدى تلافيها اليوم إلى صمود مقاتلينا في فلسطين والعراق ولبنان، وإلى إحرازهم انتصارات تاريخية نوعية، وتحقيقهم تقدماً تاريخياً نوعياً لا نكوص عنه
الفارق بين الأمس واليوم
لقد مضى على حرب تشرين الأول/ أكتوبر ثلاثة وثلاثون عاماً، وقد فصلت وقائعها في مجلدات موثقة تناولت جميع جوانبها، وأسهم في وضعها خبراء من جميع الاختصاصات والجنسيات، فإذا كان لابد من استحضار وقائعها اليوم فينبغي أن نستحضر منها ما يساعدنا في كفاحنا المستمر عبر هذه الحرب المفتوحة المستمرة التي يشنها ضد أمتنا قادة النظام العالمي الربوي الجائر، خاصة الأميركيين، الذين نجحوا عام 1973 في حرمان المقاتل العربي من قطف ثمار انتصاراته، لكنهم لم ينجحوا اليوم، في عام 2006، وما زالوا يحاولون باستماتة دون أن يظهر في الأفق السياسي ما من شأنه مساعدتهم على تحقيق هدفهم، فما هو الفارق أو الفوارق التي جعلتهم يبلغون هدفهم في الأولى ولا يبلغونه في الأخيرة؟ إنه بالدرجة الأولى الموقف من الولايات المتحدة الأميركية. ففي عام 1973 كان هناك، في قيادة الحرب على الجبهة العربية، من يعتبر الولايات المتحدة طرفاً ثالثاً يمكن أن يكون حكماً منصفاً بالرغم من تعاطفه مع الإسرائيليين، أما في عام 2006 فإن المقاومة اللبنانية وحلفاءها، وفي مقدمتهم سورية وإيران، تعاملت مع الولايات المتحدة باعتبارها خصماً رئيسياً محارباً لا طرفاً ثالثاً حكماً يمكن أن يكون محايداً، وفي هذا التعامل الواقعي يكمن السرّ الأول في انتصار العرب وفي عجز العدو عن حرمانهم من قطف ثمار انتصارهم الميداني كما حدث عام 1973. وينبغي أن لا تفوتنا هنا الإشارة إلى ما أسهم في توفّر هذا الشرط السياسي الحاسم وتكامل معه، نعني المقاومة الباسلة الصامدة الواعية في فلسطين والعراق.
لقاء نيويورك ومصير العرب!
في حرب تشرين عام 1973 كان الأميركيون، خاصة اليهود منهم، يصولون ويجولون في المنطقة على الجبهتين العربية والإسرائيلية، فيقدمون النصائح ويعطون الملاحظات حول سير المعارك على هذه الجبهة وتلك، خاصة على الجبهة المصرية، وقد انعكس ذلك سلباً وخطراً عظيماً على الجبهة المصرية في الأسابيع الأولى للحرب، وبرز طبعاً في المواقف السياسية غير المتطابقة مع الأداء البطولي للجنود العرب، بل بما يتناقض مع هذا الأداء ويلحق به أفدح الأضرار، ونحن لن نكرر هنا ما شرحه القادة العسكريون المصريون بهذا الصدد، بل سنعود إلى وثيقة أميركية، يرجع تاريخها إلى العام 1975، وهي محضر الاجتماع الذي عقده وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر مع زعماء أميركيين يهود صهاينة كانوا يعملون ضمن تشكيلة تدعى مجموعة فيليب كلوتزنيك، وقد تضمن المحضر خلاصة ما حققته الإدارة الأميركية من نجاحات سياسية في عملية حرمان المقاتلين العرب من قطف ثمار انتصاراتهم المؤزرة!
لقد عقد الاجتماع المذكور في نيويورك، فندق بيير الجناح 311، من الساعة 12.15 وحتى الساعة 2.35 بتاريخ 15/6/1975، وحضره تسعة عشر زعيماً يهودياً أميركياً من كبار رجال الصناعة والمال والأعمال والمراكز العلمية والتعليمية، فما الذي دار في ذلك اللقاء من شروح ومناقشات بصدد مصير العرب، وخاصة بصدد مصير الفلسطينيين؟
طرد السوفييت والإنفراد بالعرب!
لقد بدأ وزير الخارجية الأميركي، اليهودي الصهيوني هنري كيسنجر، حديثه بالإعراب عن قلقه حيال مستقبل "إسرائيل" والطائفة اليهودية في الولايات المتحدة:" ما لم نلتمس الحكمة في سلوكنا"! قال كيسنجر أن ولايته بدأت عام 1969، مستشاراً للأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون، وأنه شخصياً لم تكن له علاقة بشؤون الشرق الأوسط، فترك لسلفه في الخارجية، الوزير روجرز، مهمة معالجة تلك الشؤون بصورة أساسية، لكنه أوضح لسلفه بجلاء أن إستراتيجيته ستقوم على إحباط العلاقة العربية السوفيتيية، فإذا أحبطت هذه العلاقة – على حد قوله – أمكنه الشروع في عملية تهدف إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط! وإنه لمن الواضح أن كيسنجر يقصد الاستسلام وليس السلام، بعد حرمان العرب من مصدر تسليحهم!
قال كيسنجر: كان موقفي ينهض على أن سياستنا تهدف إلى طرد السوفييت من مصر، ولذلك اتخذنا مواقف استفزازية في مختلف الأزمات التي نشبت في الشرق الأوسط. لقد بالغنا في الاستفزاز حتى نبين للسوفييت حدود نفوذهم. ثم قام السادات بطرد الروس. وأنا أصدقكم القول أنني لم أكن أحمل السادات على محمل الجدّ من قبل! ثم اندلعت حرب عام 1973. وقد أنقذت الولايات المتحدة "إسرائيل" من الانهيار في نهاية الأسبوع الأول من الحرب، وذلك بفضل شحناتنا من الأسلحة! وكان السادات يبعث إلي بالرسائل يومياً، حتى بينما الجسر الجوي مستمراً في شحن الأسلحة إلى "إسرائيل"، قائلاً (السادات) أنه يدرك أن لابد من أن تعقب الحرب محادثات، وأنه يرغب في قدومي إلى مصر للبدء في عملية السلام بأسرع ما يمكن!
الاستنفار النووي لصالح الإسرائيليين!
يتابع كيسنجر حديثه أمام الزعماء اليهود الأميركيين فيقول: زعم البعض (من اليهود) أن الإستراتيجية الأميركية هدفت إلى خلق وضع راكد، لا غالب ولا مغلوب، وهذا خطأ تماماً، فما كنا نرغب في تحقيقه هو أن تنزل بالعرب أفدح هزيمة، كي يتبين لهم بجلاء أن اعتمادهم على السوفييت لن يبلغهم مرامهم، أما السبب في حالة الركود فهو أن الإسرائيليين لم يكونوا مهيئين للحرب، ولم يوفروا لنا من المعلومات خلال الحرب ما يفي بالغرض، بل إننا لم نكن نعلم قبيل انتهاء الحرب أنهم متجهون جنوباً، وقد سألتهم أنا شخصياً ولم يحيروا جواباً! لقد كنا نريد تأخير صدور قرار مجلس الأمن حتى نتيح للإسرائيليين القتال لمدة 72 ساعة أخرى، وكان ذهابي إلى موسكو أسلوباً لجأت إليه لأعطي الإسرائيليين مدة أطول، ولو أمكن للإسرائيليين محاصرة الجيش الثالث (المصري) خلال الحرب لما كان لنا أي شأن بالأمر، وكنا غضضنا الطرف عنه، أما محاصرة هذا الجيش بعد وقف القتال تحت إشراف الولايات المتحدة فإنه خلق لنا معضلة! ومع ذلك أعلنت الولايات المتحدة، حتى بعد محاصرة الجيش الثالث، حالة الاستنفار النووي لردع السوفييت عن القيام بأي عمل منفرد!
المدرعات السورية والاستنفار الأميركي!
قال كيسنجر في ذلك اللقاء، مخاطباً مجموعة كلوتزنيك، أنه من اليسير على المجموعة القول بأن المصالح الأميركية والإسرائيلية متطابقة، لكن الأمر ليس كذلك تماماً في الواقع، ومن الخطأ أن تتشبث الطائفة اليهودية الأميركية بهذا التصور، فللولايات المتحدة مصلحة في بقاء "إسرائيل"، لكنها معنية أيضاً بالعرب الجاثمين فوق آبار النفط الغنية التي تمدّ العالم بالطاقة! ثم ماذا لو أن السوفييت لم يتراجعوا ظهيرة اليوم الثاني لإعلاننا النفير النووي؟ ماذا سيكون عليه الوضع لو أنهم صمدوا 36 ساعة أخرى؟ ثم أنظروا إلى الأزمة التي نشبت عام 1970 (في الأردن) لقد نزعت وزارة الخارجية يومئذ إلى الرأي بأنه يجدر بنا إرسال كتب دبلوماسية إلى جميع بلدان العالم، لكننا رفضنا وطلبنا من الوزارة وقف جميع الاتصالات، وحركنا فرقة مدرعة على الطرق الدولية في ألمانيا، ووجهنا طائرات من الأسطول السادس إلى مطار اللد للمشاركة في التحضير للمواجهة، واستنفرنا الفرقة 82 المحمولة جواً، فارتدت المدرعات السورية على أعقابها، غير أن الصحف لم تنشر شيئاً من هذه الأنباء، على عكس ما حدث في تشرين الأول/ أكتوبر 1973!
المناورات المحسوبة مع العرب!
قال كيسنجر: في حرب 1973، كان علينا تمحيص العوامل التالية: ماذا سيكون أثر أزمة الطاقة على أوروبا الغربية واليابان؟ ثانياً، قناعتنا أن "إسرائيل" يجب أن تكون قوية، لكن قوتها توفر الأمن لها ولا تحول دون انتشار الشيوعية في العالم العربي! والدفاع الأفضل في العالم العربي هو تدعيم الحكومات العربية المعتدلة، ولذلك من العسير الزعم أن من شأن "إسرائيل" القوية الحيلولة دون انتشار الشيوعية في العالم العربي (طبعاً هو يقصد انتشار المقاومة العربية التي يصفونها اليوم بالإرهابية!) في حرب عام 1973 كانت إستراتيجيتنا تقوم على: السعي لتفكيك الجبهة العربية المتحدة، وضمان عدم تدخل الأوروبيين واليابانيين في الجهد الدبلوماسي (لاحظوا هذا الضمان!) وإبقاء السوفييت خارج الحلبة الدبلوماسية، وأخيراً خلق وضع يمكّن الإسرائيليين من التعامل مع كل من جيرانهم فرادى!
وهكذا بدأت عملية الخطا الصغيرة التي قادت إلى اتفاقيتين لفصل القوات! لقد عملت الولايات المتحدة على المناورة المحسوبة مع العرب حتى تتيح للإسرائيليين ما يحتاجونه من وقت، وقد قمت بعدّة رحلات إلى المنطقة، من دون أن يتحقق أي تقدم طبعاً! وفي الوقت ذاته قدمنا للإسرائيليين بفضل جهودي أربعة أسباع ما طلبوه من السلاح!
الهدف الحقيقي للخطا الصغيرة!
قال كيسنجر: لقد وافق السادات آنذاك على نبذ استخدام القوة مشروطاً، لكن الإسرائيليين كانوا يريدون إنهاء حالة العداء كلية، أي إلغاء الشروط جميعها، التي تحول دون علاقات عادية طبيعية، بما في ذلك المظاهر المدنية! وكان ردّ السادات أنه إذا كان عليه التنازل عن كل شيء لمجرّد إخراجهم من الممرات (في سيناء) فماذا سيبقى لديه ليتنازل عنه مقابل استعادة الأراضي المصرية كلها؟ لقد كان أبرز همومنا بعد انهيار المحادثات هو منع حدوث انفجار عربي، فلو قدّر لنا أن نفشل لكان علينا أن نواجه انفجاراً عربياً لم أكن أملك تقدير موعده لكنني واثق من وقوعه! ولو أمكن للإسرائيليين أن يحتلوا دمشق والقاهرة وعمان فإن القضايا السياسية الأساسية سوف تظل ماثلة، ولسوف يتحول الرأي العام العالمي عندئذ ضدّ الإسرائيليين والولايات المتحدة بصورة حاسمة! فإذا لم يكن لنهج الخطا الصغيرة حظاً في النجاح فسوف يتعين البحث في احتمال التسوية الشاملة، فإذا كان ذلك فسوف نجد الرأي العام العالمي يؤيد بلا ريب تسوية تقوم على العودة إلى حدود ما قبل حرب عام 1967، وإذا واجه الإسرائيليون مثل هذا الوضع فسوف يكون حالهم صعباً! إن السادات في تقديري وطني مصري، فإذا أعدتم إليه الحدود التي كانت قائمة قبل حرب 1967 فإنه لن يزعجكم بعدئذ قط! إنه ينتمي أساساً إلى الشرائح العليا من البورجوازية (الصغيرة) وهو يريد البدء في عملية السلام، لكنه عربي أيضاً، ولابد له من تحصين موقعه في العالم العربي، وهو أعرب لي عن اعتقاده بأن الإسرائيليين يريدون للوضع الجمود حتى يأتي المتطرفون العرب ويقدمون على ما من شأنه تخلي الولايات المتحدة عن العرب!
في سبيل عزل الفلسطينيين!
رداً على سؤال حول معنى عبارة حقوق الفلسطينيين الشرعية، وجهه إليه أحد الزعماء الأميركيين اليهود في ذلك اللقاء، قال كيسنجر: الفلسطينيون يثيرون مشكلات لمعظم الزعماء العرب، فهم على وجه التحديد يثيرون التطرف (يقصد نزعة المقاومة طبعاً) داخل الأقطار العربية، وهم (الزعماء العرب) يعانون الخوف من الاغتيال! وقد عمدت إلى وضع المسألة الفلسطينية جانباً لأتفرغ لمعالجة قضايا الحدود آملاً بعزل الفلسطينيين في نهاية المطاف، وإن لهذا الأسلوب نصيباً من النجاح، فقد كان بوسعنا فصل الفلسطينيين عن السوريين مقابل بضع كيلومترات من الجولان، إلا أن الإسرائيليين تعنتوا وراحوا يزيدون في بناء المستوطنات إلى الحدّ الأقصى، والشعور الذي يخامرني هو أن السوريين سوف ينحون إلى مزيد من التطرف (يقصد الممانعة والمقاومة طبعاً) ويتوجب على الإسرائيليين أن يدركوا بأنه لا مناص لهم من التعامل مع الحكومات العربية إن لم يرغبوا في التعامل مع الفلسطينيين!
وفي نهايات ذلك اللقاء توجه أحد الحضور إلى كيسنجر بالسؤال التالي: هنري .. ماذا تقول للعرب عما ينبغي أو لا ينبغي لهم عمله؟ إنك تفهم ما أعني بسؤالي! وقد أجاب كيسنجر قائلاً: نعم، أنا أفهم قصدك. إنكم تعلمون أنه من المسلم به أن العرب (الأنظمة طبعاً) يتطلعون إلى واشنطن. أنا لم أتحدث معهم في شؤون الحدود قط. كنت أقول لهم في كل مرة يتطرقون فيها إلى هذا الموضوع أن ذلك سابق لأوانه، وأن عليهم حصر اهتمامهم بالتزامهم بالسلام. قلت لهم أنه يتعين عليهم تقديم بعض الأفكار العينية حول التعايش مع الإسرائيليين، واعتقد أنني تمكنت من إقناع السادات على الأقل بإمعان الفكر في ما سيكون عليه أمر التعايش مع الإسرائيليين، بل لقد أخبرني أنه على استعداد للترحيب بضمانات من الولايات المتحدة. إننا بالتأكيد لم نثر شهية العرب!
ذاك عرض أمين لكثير مما دار في ذلك اللقاء النيويوركي، الأميركي الصهيوني، بين وزير الخارجية وبعض زعماء الجالية اليهودية الأميركية، لعله يعطينا صورة واضحة عن النواقص السياسية الفادحة التي خذلت جنودنا الشجعان في عام 1973، والتي أدى تلافيها اليوم إلى صمود مقاتلينا في فلسطين والعراق ولبنان، وإلى إحرازهم انتصارات تاريخية نوعية، وتحقيقهم تقدماً تاريخياً نوعياً لا نكوص عنه