المحارب العتيق
29/12/2008, 02:21
قصة الأسورة 1 (1) ... نجلاء 1985 .....ترويها لكم مايا
" في ذلك المساء . ركضت . وكانت تعرف أن موعدها هو الفجر . والرمل بارد تحت قدميها . وعلى يسارها البحر ، وعلى يمينها خيالات أحجار . لا قمر في السماء . وليس حولها غير ظلام وبرد وهواء . "
عندما نظرت من نافذة الطائرة إلى الفراغ تحتها ، ورأت اللون الأخضر يختفي ، واللون البني يزداد ، ورأت خط البحر وشريطا ضيقا أخضر على طوله ، والركاب يدخنون سيجارة أخيرة سريعة . علمت أنها وصلت . وصفعتها اللحظة لتوقظها . وأشعلت بسرعة سيجارة قبل الهبوط .
عادت .
العشرة أعوام .
و عادت .
نظرت حولها لتتذكر الأشياء حولها ، لتعثر على الأشياء التي تعرفها . تستنشق الهواء ، لتشم رائحة تعرفها . أرادت ، تمنت أن تتذكر ، أن تعثر على ما تركت ، وأن تشم رائحة تعرف .
تريد أن تساعد حواسها عقلها ليعرف أنه عاد .
هل حقا عادت ؟
هل حقا عادت ؟ هل احترقت الغربة إلى الأبد ؟
هناك لحظات في الحياة نمضي حياتنا خائفين منها ، وأحيانا ، وتحت هاجس ما ، لحظة تهور ، أو شجاعة ، حكمة ، أو حماقة ، نرمي أنفسنا في تلك اللحظة لنرتاح منها وترتاح منا ، لأننا كنا دائما نعرف أن هذه اللحظة ستأتي ، ولأننا مللنا الخوف .
لحظات كالموت ، الذي نقرر أن نرتم فيه ونضيع في الغيبوبة ، ونقطع شرايين يدنا لنموت . البعض يسميها انتحار .
عندما حملت جواز سفرها وحقائبها وقررت العودة إلى الأبد ، كانت تعيش إحدى تلك اللحظات ، كل من حولها اتفق على تسمية ذلك القرار انتحارا ، ولكن الجميع كانوا مخطئين لأن قرار العودة لو كان انتحارا فهي إذا الآن ميتة ، ولكنها لم تكن ميتة ، كانت حية ، حية وتشعر بالحر .
الناس حولها عادوا للون لم تره مند زمن . لون غريب . لون يشبه لون أدم الأرض . ويتحدثون العربية ، كلهم . للحظة شعرت أن عينها تحرقها وأن غشاء طبلها يقرع داخل أذنها وأنها تعاني من صداع كأنها استيقظت توا من الغيبوبة . أغمضت عينيها للحظة وغابت عن كل شئ ، لم تر خلال هذه اللحظة إلا وجه مايك يلمع بضوء برتقالي وسط الظلام . وعندما فتحت عينيها ، لم يكن مايك هناك ، بل كان الناس الحنطيون وحولها في الهواء تتراقص كلمات عربية تطن كسرب حمام ضائع . كل شئ يؤكد أنها لا تحلم ، ويؤكد أنها عادت . وأنها خائفة .
شعرت كأنها وسط الجامع الأموي ، قدميها على السجادة الحمراء ، وفوق رأسها ثريا ، وحولها مصلون يكبرون الله، وهي بينهم تصلي لله .
الجميع يتحرك . ورجل يتناول منها الحقيبة ليضعها على عربة حديدية ، وحقيبة أخرى ، وحقيبة أخرى . زحمة . والجميع يتحدث ويضحك . عندما رفع الحقيبة ، ارتفعت ذراعه فوق رأسها ، وشمت رائحة عرق نتنة تنبعث منه كأنه لم يستحم منذ سنة .
تذكرت عندما كانت شفتيها تقفز فوق جبين أبيها ووجنتيه وذقنه وشعره الرمادي . تقبله قبلات سريعة خفيفة تستمر لحظة . تذكرت عندما كان يتركها تلعب بشعيرات صدره ، وترغي الصابون على ذقنه ، وتعلق ملاقط الغسيل بشعر رأسه الناعم . تتذكره ببدلته السوداء ، يزداد طولا ، ورائحة عطره الذي يركبه له محل عطور في الشعلان ، ونظارته المصنوعة من عاج بلون السكر ، يضعها عندما يقرأ الجريدة ، ثم يخلع النظارة ، يرمي الجريدة ، يرشف رشفة قهوة ، يشرد عشر دقائق ، يسب مسبة قذرة ، ويخرج إلى دكانه .
ما زالت حتى الآن تتذكر ذلك المنظر المتكرر يوميا كلما اشترت جريدة ، ولكنها نست نهائيا رائحة العطر . تتذكره قويا مخرشا ، يعلق بك ويرفض أن يغادرك . ولكنه غادرها .
لا تستطيع أن تطلق على هذه الخيالات اسم ذاكرة ، أو على الأقل لا تستطيع أن تسميها ذاكرتها . كانت تلك اللحظات تمر في عقلها كأنها جسم أجنبي عنها زرع في خيالها ، كأنه فيلم سينما يتحث عن بطلة غيرها . أي شئ . أي شئ . تريد أن تجد شيئا واحدا عادت اليه .
الرجل الذي يجر عربتها ، وسيجارة معلقة بفمه . شعرت بقلبها يخفق ، وبعضلات عنقها تتقلص . أرادت أن تمد يدها وتسرق السيجارة من بين شفتيه وتسحب نفسا .
عندما أخبرتهم أنها عائدة ، ظنوا أنها عائدة لزيارة . اتصلت بأمها ." يا ماما ، على طول . خلص . على طول ." منذ أن أعلمتهم القرار ، عادت الرسائل تأتي إلى عنوان صندوق بريدها ، وفي كل الرسائل ، في مكان ما بين الكلمات ، على إحدى السطور ، تمر عبارة : أنت مجنونة .
مجنونة ؟ عاقلة ؟ لا يهم . المهم أنها أخيرا ورغم كل شئ حيث يجب أن تكون . أحيانا أشد حالات جنوننا وتطرفنا تحملنا لمكان حيث يجب أن نكون .
ذاكرة . عندما تمشي ممسكة بيد أبيها ، تنظر إلى فوق لتراه ، وترى شاربيه المدهونين بالبرلنتي ، ويمران قرب حمام نور الدين ، ويشتري لها ملبس وشوكولاته . هل كانت هي هذا الكائن الصغير ؟ يمشيان ، ويعلمها الإنكليزية ، وتسمع صوت صراخ باعة سوق " تفضلي " بينما تحاول أن تعلو بصوتها فوق الضجيج ليسمعها أباها تغني الأبجدية الإنكليزية . كان يحبها أكثر من الجميع . يدللها أكثر من الجميع ، أكثر حتى من محمد . يعتبرها الأذكى ، والأحلى .
تردد اسم دمشق كثيرا هذا الأسبوع . بينما كانت تعد حقائبها ، وتحاول اختيار ماذا ستأخذ وماذا سترمي ، وماذا ستعطي ، وتبكي ، كان الإعلام يتحدث عن دمشق . ليس عن الجامع الأموي ، وبيت جدها في القنوات ، وعن رائحة الغار في حمام السوق . بل كانوا يتحدثون عن الشيراتون وعن الرهائن الأمريكين الذين نقلهم الصليب الأحمر من بيروت إلى دمشق ومنها إلى ألمانيا الغربية . مر عليهم سبعة عشر يوما في الرهن . أما هي ، فقد مر عليها عشر سنين . عشر سنين جعلتها تنسى عالمها خارج الاحتجاز .
تتذكر عبد الحليم : غنيللي لحن الوفا .
الأرض قذرة، الزوايا قذرة ، أعقاب سجائر ، تراب على الجدران ، أحد النيونات معطلة تاركا بقعة أظلم مما حولها . تذكرت زياراتها إلى لندن ، تستلقي على العشب المبلول في " الهايد بارك " وتشعر بالندى يدغدغها . تشم رائحة التراب والماء . تغمض عينيها ، ثم تفتحمها لترى السماء وسحابات بيضاء وشمسا سخيفة وطائرا أبلها يبحث عن من يطعمه . وتتذكر دمشق ، كم كانت جميلة ، وغداء يوم الجمعة في بلودان ، وشربة ماء من نبع بقين . وتتذكر يوم تشاجرت أمها مع أبيها بسبب تبذيره وجيبه المثقوب الذي تسقط منه النقود ، يومها حاول أبوها تجاهل الصراخ والمحاضرات ومحاولات إعلان الطوارئ ، أمسك نظارته العاجية متظاهرا بالصمم ، وضعها وفتح الجريدة ، ولكن أمها لم ترض ألا يسمع . نزعت النظارة من فوق أنفه وكسرتها إلى قطعتين ثم رمتها بين قدميه . أصلح يومها نظارته بجمع القطعتين بشريط لاصق طبي بني اللون ، وما زالت تتذكر منظر النظارة المجبورة إلى الأبد كمنظر شحاذ يدعي الإعاقة .
اعتاد كاحلها أن يؤلمها كلما مشت على الثلج . يؤلمها ويذكرها كيف التوى . كانت يدها البيضاء تمسك ذراع أبيها ، ولم تنتبه لحافة الرصيف المكسورة ، والتوت قدمها . وهو كاحلها يؤلمها الآن ، رغم كل حر الصيف والتكييف الذي لا يعمل . يؤلمها . اعتادا أن يخرجا إلى شوارع دمشق عند الغروب ، ويمشيان . وفي أيام الصيف يشتري لها عصير برتقال من محل أبو عصام ، ويخرج من جيبه كيس بلاستيكي فيه خبز مقطع ويناولها قطع الخبز لترميها للستيتيات .و يعلمها عن الحب ، ويحكي لها عن أحلى أخبار الحب . ما أحلى منظر عيني أبيها العسليتين عندما تلمعان لما يذكر قيس بن الملوح ، ويحكي لها عن قصصه وأشعاره ، يحكي لها كيف كان أول من استخدم كلمة "حب" بين العرب لأنه أراد كلمة جديدة يخبر بها ليلى عما يشعر به ، ذلك الشعور الذي لم يعرفه أحد قبله .
وفي الشتاء ، كانا يمشيان قبل الغروب ، ويردد دائما " مشاوير المجانين في كوانين " ، وتلتصق بمعطفه الجوخ الأسود لتدفأ . تمسك بذراعه ، ويشتري ورقة يانصيب تخسر دائما . ويحدثها عن الحب العذري ، عن ذلك الذي هام في البرية والصحراء ، يتخيل حبيبته التي لم يلمس ويكتب لها الأشعار . يحدثها كيف تعلق بأستار الكعبة ودعى الله ( اللهم زدني حبا لليلى ، وبها كلفا .و لا تنسيني ذكرها أبدا ، ولا تشغلني عنها ) وكيف يومها استرحم أبوه الناس حتى لا يقتلوه ، ودمه يسيل ، وهو يردد ( ها أنت سمعت ها أنت رأيت) . كانت تدفن وجهها بذراعه لتدفء أرنبة أنفها المتجمدة ، بينما هو يخبرها عن قصة موت المجنون الذي اختفى بينما كان يلحق غزالة ، ليجدوا جثته بعد أيام ملقاة فوق حجارة . كل مرة يموت فيها ابن الملوح ، كانا يتوقفان عن السير ، ويتنهد أبوها كأنه يحترق شوقا ، ثم يسأل : يا ترى ، ما كان آخر بيت شعر قاله ؟
و قبل الوصول إلى البيت ، كان يخبرها عن نساء وفتيات أحياء العرب وكيف خرجن حاسرات عن رؤوسهن ، نادبات . وكيف شارك بعزائه بنو العامر ، قبيلة ليلى .
علمها أبوها أننا حين نصلي ينظر الله إلينا ليعرف كم في قلوبنا حب . وأن الله يريدنا أن نملأ هذه العضلة بالحب كما هو يملأها لنا بالدم .
و كانت وهي تصلي في تلك الأيام ، تحاول أن تستذكر كل ما تعرفه من الحب قبل أن تصلي . تتذكر أمها وأخاها وأخواتها والجيران وأم فراس المستخدمة في مدرستها ، وكبٌارة أنسة اللغة العربية والستيتية التي تعشش على حافة نافذتها وابن عم أبيها الذي استشهد بينما كان يحارب الإسرائيليين . وعندما تصل ذاكرتها لاسرائيل ، كانت تفقد كل الحب .
انتظرت من على شباك غرفتها أن يصيب الجنون ابن الجيران ، أو ذلك الذي يقود السيارة الأوبل ويمر قرب بلكونهم عند المغرب ليراها قبل أن يودع الشمس . آمنت في تلك الأيام أن الحب العظيم هو حب المجانين ، هو حب يجعلك تسافر إلى الشمس دون أن تحترق ، هو حب يجعل الحبيب أغلى منك والورود أحلى ، هو حب يجعلك تتفاهم مع العصافير ويجعلك تبكي عندما تكون سعيدا وتضحك وأنت حزين . وربما تجرأت أحيانا لتكسر عذرية الحب في خيالها ، فتخيلت أنها قبلت رشدي أباظة أو عانقت كمال الشناوي أو لعبت أصابعها بشعر عمر الشريف .
و اكتشفت الخديعة والكذبة العظيمة . اكتشفت ذلك كأنها بنت أربع سنوات رموها في البحر عارية لتسبح وحدها . اكتشفت ما صدقت يوم رأت أباها جالسا على كرسي الخيزران قرب الباب ، جسده النحيل مطوي ، رأسه فوق فخذيه ، ويرجف ....لا يبكي ، ولكن يرجف ، كجسد عجل لحظة يقطع عنقه . وأختها على السرير ، شاحبة ، لونها الأبيض الجميل كأميرة عثمانية أصبح لونا أبيضا مخيفا ، لون سيسكن أحلامها وكوابيسها طويلا . وعلى وجه أختها دمعات حمقاوات سخيفات تافهات ، أو لعلهن كن حبات عرق ولكن الذاكرة خدعتها . تتذكر أنه كان فجرا نيساني ، وكل شئ سعيد ، وبيض الدوري فقس والقطط وضعت . وتتذكر الأصوات ، همسات ، صراخ عال ، صراخ خافت ، همسات ، نحيب ، صوت الآذان ، زقزقة عصافير ، ستيتية تقرع زجاج النافذة بمنقارها ، الأطفال في طريقهم إلى مدارسهم يضحكون . أصوات كأوكسترا تعزف سمفونية سوريالية مشوهة .
في ذلك الصباح ، وخلال سنوات بعده أستطاعت أن تستوعب ، شئ ما في عقلها قرر أن يفلتر أفكارها وأحلامها . وهكذا اكتشفت أن قيسا لم يكن أكثر من مجنون يعاني من اختلال مواد كيميائية في عقله . وأن الحب ليس أكثر من مقدمة طويلة للجنس ، الجنس الذي يرجع الإنسان لدقائق إلى أصله الحيواني . واكتشفت أن الانسان العربي يعيش مسكونا بأشباح ماض وبخيالات غريبة . وقررت أن تحقق معجزة ، وأن تكون عظيمة ورائعة ، أن تركض وراء أهدافها محطمة كل الأصنام والمسلمات في طريقها وأن تتوقف عن تصديق الحب .
استمرت تصلي لله الفجر والعشاء ، وعندما تنهي الصلاة ، تفتح يديها ، وتطلب من الله أن يمدها بالقوة حتى لا تكون مثلهم .
عندما قررت أن تدرس الطب جن جنون أمها ، وابتسم أبوها ابتسامة عريضة عريضة ، وقبلها بين عينيها قبلة طويلة حلوة . وأهداها في أول أيام الجامعة ، بعد أن عادت إلى البيت من المشرحة ، سماعة طبية رمادية اللون . وبتلك السماعة سمعت دقات قلبه أول مرة ، تضعها على صدره العجوز التعب ، صدره الذي أحرقه ال"بايب" ، وتسمع قلبه يدق....دقة...دقة....و في كل دقة تسمع قصة ، وتحبه أكثر . ويسألها : هل تسمعيه ينادي اسمك ؟ نجلا .
الله ، وأبوها ، وأحيانا أمها ، كانوا الأشياء الوحيدة التي لم تشف من حبها لها ، رغم تعلمها لتشريح الدماغ والقلب والشرايين .
ظنت أنها ستعيش ساعية وراء النجاح ، وأنها ستسكن الواقع ، وستحطم الشرق الحالم منذ أيام عروة بن الورد تحت قدمها ، وأنها ستودع الانكسارات والهزائم إلى الأبد .......الأيام علمتها أن الشرق وانكساراته وهزائمه يعيشون في بقعة أعمق من عقلها ، انهم يعيشون في جيناتها . ما زالت حتى الآن ، ولم تفارقها الانكسارات ، وأحزان الشرق الخيالي الجميل .
يفتشون الحقائب . ينظرون إليها كمتهمة ، ويهمس في أذنها عجوز : ادفعي يا بنتي . وتدفع . وتتحول معاملتهم لها إلى معاملة الأميرات . كان المبلغ بسيطا ، ثمن كروز دخان ، وكان من يفتش الحقيبة انسان مواطن لا يريد إلا تربية أولاده وتعليمهم وتخدير لسانه بسجائر يدخنها .
الجثة على لوح حديدي في المشرحة . ورائحة واخزة تخرش أنفها . وصوت الطلاب وصوت الأستاذ وهمسات قرف وهمسات سخرية من القرفانين . نظرت إلى بطن الجثة المفتوح ، وإلى فخذها ، وحبل عصب يلتقطه ملقط الأستاذ ، ووجه الجثة ما زال سليما لم يلمسه المشرط بعد ، لم يفتت لحمه كلحم نعجة مضغه ابن آوى . وعينا الجثة مغلقتان بهدوء ، راقبت العينين طول نصف ساعة ، تتخيل فوق الأجفان المغلقة زهرتي نرجس ، تريد أن تقبلها وتتركها وحدها في سكون . الذكريات لم تكن تفارقها .
" في ذلك المساء . ركضت . وكانت تعرف أن موعدها هو الفجر . والرمل بارد تحت قدميها . وعلى يسارها البحر ، وعلى يمينها خيالات أحجار . لا قمر في السماء . وليس حولها غير ظلام وبرد وهواء . "
عندما نظرت من نافذة الطائرة إلى الفراغ تحتها ، ورأت اللون الأخضر يختفي ، واللون البني يزداد ، ورأت خط البحر وشريطا ضيقا أخضر على طوله ، والركاب يدخنون سيجارة أخيرة سريعة . علمت أنها وصلت . وصفعتها اللحظة لتوقظها . وأشعلت بسرعة سيجارة قبل الهبوط .
عادت .
العشرة أعوام .
و عادت .
نظرت حولها لتتذكر الأشياء حولها ، لتعثر على الأشياء التي تعرفها . تستنشق الهواء ، لتشم رائحة تعرفها . أرادت ، تمنت أن تتذكر ، أن تعثر على ما تركت ، وأن تشم رائحة تعرف .
تريد أن تساعد حواسها عقلها ليعرف أنه عاد .
هل حقا عادت ؟
هل حقا عادت ؟ هل احترقت الغربة إلى الأبد ؟
هناك لحظات في الحياة نمضي حياتنا خائفين منها ، وأحيانا ، وتحت هاجس ما ، لحظة تهور ، أو شجاعة ، حكمة ، أو حماقة ، نرمي أنفسنا في تلك اللحظة لنرتاح منها وترتاح منا ، لأننا كنا دائما نعرف أن هذه اللحظة ستأتي ، ولأننا مللنا الخوف .
لحظات كالموت ، الذي نقرر أن نرتم فيه ونضيع في الغيبوبة ، ونقطع شرايين يدنا لنموت . البعض يسميها انتحار .
عندما حملت جواز سفرها وحقائبها وقررت العودة إلى الأبد ، كانت تعيش إحدى تلك اللحظات ، كل من حولها اتفق على تسمية ذلك القرار انتحارا ، ولكن الجميع كانوا مخطئين لأن قرار العودة لو كان انتحارا فهي إذا الآن ميتة ، ولكنها لم تكن ميتة ، كانت حية ، حية وتشعر بالحر .
الناس حولها عادوا للون لم تره مند زمن . لون غريب . لون يشبه لون أدم الأرض . ويتحدثون العربية ، كلهم . للحظة شعرت أن عينها تحرقها وأن غشاء طبلها يقرع داخل أذنها وأنها تعاني من صداع كأنها استيقظت توا من الغيبوبة . أغمضت عينيها للحظة وغابت عن كل شئ ، لم تر خلال هذه اللحظة إلا وجه مايك يلمع بضوء برتقالي وسط الظلام . وعندما فتحت عينيها ، لم يكن مايك هناك ، بل كان الناس الحنطيون وحولها في الهواء تتراقص كلمات عربية تطن كسرب حمام ضائع . كل شئ يؤكد أنها لا تحلم ، ويؤكد أنها عادت . وأنها خائفة .
شعرت كأنها وسط الجامع الأموي ، قدميها على السجادة الحمراء ، وفوق رأسها ثريا ، وحولها مصلون يكبرون الله، وهي بينهم تصلي لله .
الجميع يتحرك . ورجل يتناول منها الحقيبة ليضعها على عربة حديدية ، وحقيبة أخرى ، وحقيبة أخرى . زحمة . والجميع يتحدث ويضحك . عندما رفع الحقيبة ، ارتفعت ذراعه فوق رأسها ، وشمت رائحة عرق نتنة تنبعث منه كأنه لم يستحم منذ سنة .
تذكرت عندما كانت شفتيها تقفز فوق جبين أبيها ووجنتيه وذقنه وشعره الرمادي . تقبله قبلات سريعة خفيفة تستمر لحظة . تذكرت عندما كان يتركها تلعب بشعيرات صدره ، وترغي الصابون على ذقنه ، وتعلق ملاقط الغسيل بشعر رأسه الناعم . تتذكره ببدلته السوداء ، يزداد طولا ، ورائحة عطره الذي يركبه له محل عطور في الشعلان ، ونظارته المصنوعة من عاج بلون السكر ، يضعها عندما يقرأ الجريدة ، ثم يخلع النظارة ، يرمي الجريدة ، يرشف رشفة قهوة ، يشرد عشر دقائق ، يسب مسبة قذرة ، ويخرج إلى دكانه .
ما زالت حتى الآن تتذكر ذلك المنظر المتكرر يوميا كلما اشترت جريدة ، ولكنها نست نهائيا رائحة العطر . تتذكره قويا مخرشا ، يعلق بك ويرفض أن يغادرك . ولكنه غادرها .
لا تستطيع أن تطلق على هذه الخيالات اسم ذاكرة ، أو على الأقل لا تستطيع أن تسميها ذاكرتها . كانت تلك اللحظات تمر في عقلها كأنها جسم أجنبي عنها زرع في خيالها ، كأنه فيلم سينما يتحث عن بطلة غيرها . أي شئ . أي شئ . تريد أن تجد شيئا واحدا عادت اليه .
الرجل الذي يجر عربتها ، وسيجارة معلقة بفمه . شعرت بقلبها يخفق ، وبعضلات عنقها تتقلص . أرادت أن تمد يدها وتسرق السيجارة من بين شفتيه وتسحب نفسا .
عندما أخبرتهم أنها عائدة ، ظنوا أنها عائدة لزيارة . اتصلت بأمها ." يا ماما ، على طول . خلص . على طول ." منذ أن أعلمتهم القرار ، عادت الرسائل تأتي إلى عنوان صندوق بريدها ، وفي كل الرسائل ، في مكان ما بين الكلمات ، على إحدى السطور ، تمر عبارة : أنت مجنونة .
مجنونة ؟ عاقلة ؟ لا يهم . المهم أنها أخيرا ورغم كل شئ حيث يجب أن تكون . أحيانا أشد حالات جنوننا وتطرفنا تحملنا لمكان حيث يجب أن نكون .
ذاكرة . عندما تمشي ممسكة بيد أبيها ، تنظر إلى فوق لتراه ، وترى شاربيه المدهونين بالبرلنتي ، ويمران قرب حمام نور الدين ، ويشتري لها ملبس وشوكولاته . هل كانت هي هذا الكائن الصغير ؟ يمشيان ، ويعلمها الإنكليزية ، وتسمع صوت صراخ باعة سوق " تفضلي " بينما تحاول أن تعلو بصوتها فوق الضجيج ليسمعها أباها تغني الأبجدية الإنكليزية . كان يحبها أكثر من الجميع . يدللها أكثر من الجميع ، أكثر حتى من محمد . يعتبرها الأذكى ، والأحلى .
تردد اسم دمشق كثيرا هذا الأسبوع . بينما كانت تعد حقائبها ، وتحاول اختيار ماذا ستأخذ وماذا سترمي ، وماذا ستعطي ، وتبكي ، كان الإعلام يتحدث عن دمشق . ليس عن الجامع الأموي ، وبيت جدها في القنوات ، وعن رائحة الغار في حمام السوق . بل كانوا يتحدثون عن الشيراتون وعن الرهائن الأمريكين الذين نقلهم الصليب الأحمر من بيروت إلى دمشق ومنها إلى ألمانيا الغربية . مر عليهم سبعة عشر يوما في الرهن . أما هي ، فقد مر عليها عشر سنين . عشر سنين جعلتها تنسى عالمها خارج الاحتجاز .
تتذكر عبد الحليم : غنيللي لحن الوفا .
الأرض قذرة، الزوايا قذرة ، أعقاب سجائر ، تراب على الجدران ، أحد النيونات معطلة تاركا بقعة أظلم مما حولها . تذكرت زياراتها إلى لندن ، تستلقي على العشب المبلول في " الهايد بارك " وتشعر بالندى يدغدغها . تشم رائحة التراب والماء . تغمض عينيها ، ثم تفتحمها لترى السماء وسحابات بيضاء وشمسا سخيفة وطائرا أبلها يبحث عن من يطعمه . وتتذكر دمشق ، كم كانت جميلة ، وغداء يوم الجمعة في بلودان ، وشربة ماء من نبع بقين . وتتذكر يوم تشاجرت أمها مع أبيها بسبب تبذيره وجيبه المثقوب الذي تسقط منه النقود ، يومها حاول أبوها تجاهل الصراخ والمحاضرات ومحاولات إعلان الطوارئ ، أمسك نظارته العاجية متظاهرا بالصمم ، وضعها وفتح الجريدة ، ولكن أمها لم ترض ألا يسمع . نزعت النظارة من فوق أنفه وكسرتها إلى قطعتين ثم رمتها بين قدميه . أصلح يومها نظارته بجمع القطعتين بشريط لاصق طبي بني اللون ، وما زالت تتذكر منظر النظارة المجبورة إلى الأبد كمنظر شحاذ يدعي الإعاقة .
اعتاد كاحلها أن يؤلمها كلما مشت على الثلج . يؤلمها ويذكرها كيف التوى . كانت يدها البيضاء تمسك ذراع أبيها ، ولم تنتبه لحافة الرصيف المكسورة ، والتوت قدمها . وهو كاحلها يؤلمها الآن ، رغم كل حر الصيف والتكييف الذي لا يعمل . يؤلمها . اعتادا أن يخرجا إلى شوارع دمشق عند الغروب ، ويمشيان . وفي أيام الصيف يشتري لها عصير برتقال من محل أبو عصام ، ويخرج من جيبه كيس بلاستيكي فيه خبز مقطع ويناولها قطع الخبز لترميها للستيتيات .و يعلمها عن الحب ، ويحكي لها عن أحلى أخبار الحب . ما أحلى منظر عيني أبيها العسليتين عندما تلمعان لما يذكر قيس بن الملوح ، ويحكي لها عن قصصه وأشعاره ، يحكي لها كيف كان أول من استخدم كلمة "حب" بين العرب لأنه أراد كلمة جديدة يخبر بها ليلى عما يشعر به ، ذلك الشعور الذي لم يعرفه أحد قبله .
وفي الشتاء ، كانا يمشيان قبل الغروب ، ويردد دائما " مشاوير المجانين في كوانين " ، وتلتصق بمعطفه الجوخ الأسود لتدفأ . تمسك بذراعه ، ويشتري ورقة يانصيب تخسر دائما . ويحدثها عن الحب العذري ، عن ذلك الذي هام في البرية والصحراء ، يتخيل حبيبته التي لم يلمس ويكتب لها الأشعار . يحدثها كيف تعلق بأستار الكعبة ودعى الله ( اللهم زدني حبا لليلى ، وبها كلفا .و لا تنسيني ذكرها أبدا ، ولا تشغلني عنها ) وكيف يومها استرحم أبوه الناس حتى لا يقتلوه ، ودمه يسيل ، وهو يردد ( ها أنت سمعت ها أنت رأيت) . كانت تدفن وجهها بذراعه لتدفء أرنبة أنفها المتجمدة ، بينما هو يخبرها عن قصة موت المجنون الذي اختفى بينما كان يلحق غزالة ، ليجدوا جثته بعد أيام ملقاة فوق حجارة . كل مرة يموت فيها ابن الملوح ، كانا يتوقفان عن السير ، ويتنهد أبوها كأنه يحترق شوقا ، ثم يسأل : يا ترى ، ما كان آخر بيت شعر قاله ؟
و قبل الوصول إلى البيت ، كان يخبرها عن نساء وفتيات أحياء العرب وكيف خرجن حاسرات عن رؤوسهن ، نادبات . وكيف شارك بعزائه بنو العامر ، قبيلة ليلى .
علمها أبوها أننا حين نصلي ينظر الله إلينا ليعرف كم في قلوبنا حب . وأن الله يريدنا أن نملأ هذه العضلة بالحب كما هو يملأها لنا بالدم .
و كانت وهي تصلي في تلك الأيام ، تحاول أن تستذكر كل ما تعرفه من الحب قبل أن تصلي . تتذكر أمها وأخاها وأخواتها والجيران وأم فراس المستخدمة في مدرستها ، وكبٌارة أنسة اللغة العربية والستيتية التي تعشش على حافة نافذتها وابن عم أبيها الذي استشهد بينما كان يحارب الإسرائيليين . وعندما تصل ذاكرتها لاسرائيل ، كانت تفقد كل الحب .
انتظرت من على شباك غرفتها أن يصيب الجنون ابن الجيران ، أو ذلك الذي يقود السيارة الأوبل ويمر قرب بلكونهم عند المغرب ليراها قبل أن يودع الشمس . آمنت في تلك الأيام أن الحب العظيم هو حب المجانين ، هو حب يجعلك تسافر إلى الشمس دون أن تحترق ، هو حب يجعل الحبيب أغلى منك والورود أحلى ، هو حب يجعلك تتفاهم مع العصافير ويجعلك تبكي عندما تكون سعيدا وتضحك وأنت حزين . وربما تجرأت أحيانا لتكسر عذرية الحب في خيالها ، فتخيلت أنها قبلت رشدي أباظة أو عانقت كمال الشناوي أو لعبت أصابعها بشعر عمر الشريف .
و اكتشفت الخديعة والكذبة العظيمة . اكتشفت ذلك كأنها بنت أربع سنوات رموها في البحر عارية لتسبح وحدها . اكتشفت ما صدقت يوم رأت أباها جالسا على كرسي الخيزران قرب الباب ، جسده النحيل مطوي ، رأسه فوق فخذيه ، ويرجف ....لا يبكي ، ولكن يرجف ، كجسد عجل لحظة يقطع عنقه . وأختها على السرير ، شاحبة ، لونها الأبيض الجميل كأميرة عثمانية أصبح لونا أبيضا مخيفا ، لون سيسكن أحلامها وكوابيسها طويلا . وعلى وجه أختها دمعات حمقاوات سخيفات تافهات ، أو لعلهن كن حبات عرق ولكن الذاكرة خدعتها . تتذكر أنه كان فجرا نيساني ، وكل شئ سعيد ، وبيض الدوري فقس والقطط وضعت . وتتذكر الأصوات ، همسات ، صراخ عال ، صراخ خافت ، همسات ، نحيب ، صوت الآذان ، زقزقة عصافير ، ستيتية تقرع زجاج النافذة بمنقارها ، الأطفال في طريقهم إلى مدارسهم يضحكون . أصوات كأوكسترا تعزف سمفونية سوريالية مشوهة .
في ذلك الصباح ، وخلال سنوات بعده أستطاعت أن تستوعب ، شئ ما في عقلها قرر أن يفلتر أفكارها وأحلامها . وهكذا اكتشفت أن قيسا لم يكن أكثر من مجنون يعاني من اختلال مواد كيميائية في عقله . وأن الحب ليس أكثر من مقدمة طويلة للجنس ، الجنس الذي يرجع الإنسان لدقائق إلى أصله الحيواني . واكتشفت أن الانسان العربي يعيش مسكونا بأشباح ماض وبخيالات غريبة . وقررت أن تحقق معجزة ، وأن تكون عظيمة ورائعة ، أن تركض وراء أهدافها محطمة كل الأصنام والمسلمات في طريقها وأن تتوقف عن تصديق الحب .
استمرت تصلي لله الفجر والعشاء ، وعندما تنهي الصلاة ، تفتح يديها ، وتطلب من الله أن يمدها بالقوة حتى لا تكون مثلهم .
عندما قررت أن تدرس الطب جن جنون أمها ، وابتسم أبوها ابتسامة عريضة عريضة ، وقبلها بين عينيها قبلة طويلة حلوة . وأهداها في أول أيام الجامعة ، بعد أن عادت إلى البيت من المشرحة ، سماعة طبية رمادية اللون . وبتلك السماعة سمعت دقات قلبه أول مرة ، تضعها على صدره العجوز التعب ، صدره الذي أحرقه ال"بايب" ، وتسمع قلبه يدق....دقة...دقة....و في كل دقة تسمع قصة ، وتحبه أكثر . ويسألها : هل تسمعيه ينادي اسمك ؟ نجلا .
الله ، وأبوها ، وأحيانا أمها ، كانوا الأشياء الوحيدة التي لم تشف من حبها لها ، رغم تعلمها لتشريح الدماغ والقلب والشرايين .
ظنت أنها ستعيش ساعية وراء النجاح ، وأنها ستسكن الواقع ، وستحطم الشرق الحالم منذ أيام عروة بن الورد تحت قدمها ، وأنها ستودع الانكسارات والهزائم إلى الأبد .......الأيام علمتها أن الشرق وانكساراته وهزائمه يعيشون في بقعة أعمق من عقلها ، انهم يعيشون في جيناتها . ما زالت حتى الآن ، ولم تفارقها الانكسارات ، وأحزان الشرق الخيالي الجميل .
يفتشون الحقائب . ينظرون إليها كمتهمة ، ويهمس في أذنها عجوز : ادفعي يا بنتي . وتدفع . وتتحول معاملتهم لها إلى معاملة الأميرات . كان المبلغ بسيطا ، ثمن كروز دخان ، وكان من يفتش الحقيبة انسان مواطن لا يريد إلا تربية أولاده وتعليمهم وتخدير لسانه بسجائر يدخنها .
الجثة على لوح حديدي في المشرحة . ورائحة واخزة تخرش أنفها . وصوت الطلاب وصوت الأستاذ وهمسات قرف وهمسات سخرية من القرفانين . نظرت إلى بطن الجثة المفتوح ، وإلى فخذها ، وحبل عصب يلتقطه ملقط الأستاذ ، ووجه الجثة ما زال سليما لم يلمسه المشرط بعد ، لم يفتت لحمه كلحم نعجة مضغه ابن آوى . وعينا الجثة مغلقتان بهدوء ، راقبت العينين طول نصف ساعة ، تتخيل فوق الأجفان المغلقة زهرتي نرجس ، تريد أن تقبلها وتتركها وحدها في سكون . الذكريات لم تكن تفارقها .