قرصان الأدرياتيك
13/02/2009, 01:40
حدائقُ النّور، أمين معلوف، ترجمة د. عفيف دمشقيّة، دار الفارابي، بيروت- لبنان، الطّبعة الثّانية 2001 (الجزائر).
Les Jardins de lumière
روايةٌ تاريخيّةٌ فلسفيّةٌ دينيّة في ثلاثمئة صفحة من تأليفِ اللبنانيّ أمين معلوف، تحكي قصّة رجلٍ يُدعى ماني وُلدَ في ماردين، وحملَ رسالةً دينيّة طافَ بها حيثما استطاعَ الوصول! سنحكيها في موجزٍ يذكّر بأهمّ أحداثِها، ثمَّ نعرضُ ما رأينا فيها وما أحببناه وما أبغضناه. يقسمُ الكاتبُ روايته إلى تمهيدٍ فأربعة أقسام ثمّ خاتمة قصيرة، سنتبعها واحدة تلو الأخرى.
تمهيد:
كانَ والدُ ماني، ويُدعى "باتيغ"، يبحثُ عن الحقيقة، وهو بارتيّ من طبقةِ المُحاربين، وأصلُه من "أيبكتان". اعتادَ على الحجِّ في كلِّ عام إلى معبد "نبو" القائمِ على تلّةٍ تُشرفُ على جسر "سلوقية" في المدائن عاصمة بابل. وهناكَ يتعرّفُ على شيخٍ تدمريٍّ يرأسُ طائفةً طينيّة تُقيمُ منعزلةً في بستانِ نخيلٍ في شمالِ بلاد بابل. وأمامَ دعوة هذا التدمريّ "سيتايي" يخضعُ باتيغ فيهجر امرأتَه الحبلى بطفلِه الوحيد "ماني" وينضمَّ إلى تلك الجماعة التي تلبسُ الأبيض وتُحرّم الخمرَ واللحمَ والنّساء! معتقداتُها خليطٌ من اليهوديّة والمسيحيّة وبدعة عند كلا الفريقين.
القسمُ الأوّل: بستان النّخيل وأصحاب الملابس البيضاء
في الرّابع عشر من شهر نيسان سنة 216، على عهدِ أرطبان ملك المدائن وكركلا إمبراطور روما، وُلدَ ماني ابنُ باتيغ من مريم في مدينة ماردين. وبعدَ ثلاثة أعوامٍ يُحضَر للإقامة في وسط جماعة بستان النّخيل. هناكَ ينمو ويتعلّمُ وبعدَ مرورِ أعوامٍ يصدفُ أن يصنعَ معروفاً مع صوريٍّ سمينٍ يُدعى "مالكوس" منتمٍ إلى الجماعةِ شكلاً، عُوقبَ لأنّه تجاوزَ القوانين، ومنذ ذلك الحين كنَّ له هذا الصوريُّ مودّةً وإخلاصاً دامَ عليهما طوال حياته.
وفي أحد الأيّام يتعرّف ماني إلى فتاةٍ يونانيّة يُحبّها مالكوس وتُدعى "كْلوويه"، وهذه تُحبّ ماني، لكنّه يردعها بحجّة العهود التي قطعها على نفسِه! وبعدَ زمنٍ يعلمُ ماني أنَّ مالكوس وكلوويه تزوّجا وأقاما في المدائن.
بعدَ صبرٍ طويلٍ، وفي الرّابعةِ والعشرين من عمره، يتلقّى ماني من شفتي توأمه (الرّوحي) الكلمات التي طالما أملَ في سماعِها: "ها قَدْ أزفّت السّاعة لكي تتجلّى لعيون العالم، وتترك بستان النّخيل هذا... ". وفي أحد صباحات نيسان من سنة 240 قرّر الرّحيلَ باحتفالٍ كما قرّرَ أن يسلخَ عنهُ هذا الجلدَ الأبيضَ الذي غلّفه لعشرين عاماً.فدخلَ احتفالَ الصّلاةِ بثيابٍ ملوّنةٍ استفزّت الجميع، وبعدَ حوارٍ قصيرٍ مع أبيه باتيغ، خضعَ لمحكمة الجماعة حيثُ كشفَ عن رسالته كما تكلّم بالسّوء على أصحاب الملابس البيضاء ومعتقداتهم، وتعرّض لهجومٍ بالوحل من قبل بعضِهم وأخيراً رحلَ.
القسم الثّاني: من "دجلة" إلى "السّند"
المدائن محطّة ماني الأولى، أكبر مدن وادي "دجلة" وعاصمة الملوك البارتيّين سابقاً والساسانيّين لاحقاً. فيها أمضى ماني ليلته الأولى في منزلِ صديقيه مالكوس وكلوويه بعدَ ترحيبٍ حارّ. وفيها أيضاً يباشرُ ببعضِ تعاليمِه ممّا يتسبّب في مخاوفِ مالكوس الذي يحدّثه عن الملك الجديد "أردشير" وتحريم العبادات المختلفة ونشر عبادة النّار دين الساسانيّين الوحيد. في هذه الأثناء يصلُ باتيغ والدُه ويُحاول إقناعَه بالعودة إلى بستان النّخيل، لكنّه بدلاً من ذلك يُقنع أباه بالبقاءِ معه، فيُصبحُ هذا الأخير، بعدَ أن وضعَ ماني يدَه على رأسِه، أوّل مريديه.
يستمعُ ضابطٌ إلى إرشاد وتعليم ماني ويعلمُ أنّه وأباه من سلالة البارتيّين، فيهدّد مالكوس ويطلبُ منه رحيلهما عن المدائن. وقبلَ أن يخبرَ هذا صديقَه بذلك، يقرّر ماني الرّحيلَ فيرافقه باتيغ ومالكوس حتّى شاراكس. لم تكن الرّحلة البحريّة من هذه المدينة وحتّى وادي نهر السّند (الهند) هادئةً ومطمئنّة، فقد تعرّضوا خلالها لمهاجمة الحيتان ثمَّ لإعصارٍ عنيفٍ في اليوم الثّالث يمرُّ دون ضرر. وفي أثناء الرّحلة البحريّة تنشأُ مودّةٌ بين ماني وربّان السّفينة فيرافقه هو وصاحباه في مأكله ومشربه وحتّى في أفكارِه وخططه. أخيراً وصلوا "دَبْ" المدينة القائمة في دلتا نهر "السّند" وحالما بلغوها توجّه ماني إلى الكنيسة وكانَ يومَ أحد! بعدَ الصّلاة والعظة التي يلقيها ماني يستضيفهم كاهن الكنيسة في منزله برفقة أحد وجهاء الطّائفة، وهذان يعلمانهم خلال الطّريق أنَّ والي المدينة وحاميتها قد هجروها تاركينها في يدِ الفاتح الجديد الأمير هرمز حفيد أردشير الملك، وهو بعسكره على مسيرة يومٍ واحدٍ منهم، بينما سكّان دَبْ مرتعبون خائفون. وبعدَ جدالٍ قصيرٍ يتكلّمُ ماني معلناً عن ذهابِه للقاءِ الأميرِ بنفسِه!
في خيمةٍ من قماشٍ فاخرٍ يلتقي بطلُنا بالأمير هرمز وهناك تدورُ رحى نقاشٍ حامٍ بين ماني وبين الأمير هرمز والموبَذان كردير. الأوّل يُحاولُ أن يمنعَ مذبحةً على وشك الوقوع في حقّ سكّان دَب، والموبذان يؤكّد للأمير على أنّها إرادة السّماء ورغبة رجالِه. فجأةً تقتحمُ المجلسَ ديناغُ وهي فتاةٌ تهتمّ برفقة ابنة الأمير بعد وفاة والدتها، لتخبرَه أنَّ ابنتَه وقعتْ وغابتْ عن رشدِها. يعرضُ ماني المساعدةَ كطبيبٍ ويشفيها بعدَ قضاءِ ليلةٍ من السّهرِ والمراقبة. لقاء ذلك يعرض عليه الأميرُ مكافأةً ذهبيّة إلا أنَّ ماني يرفضَها ويطلبُ بدلاً منها الفتاة ديناغ وهي ابنة قائدٍ أنقذَ الأمير هرمزَ في إحدى المعارك وماتَ بدلاً منه، وإكراماً لبذلِه كفلها الأميرُ كابنته. بعدَ عناءٍ يستجيبُ هرمزُ ويهبها له ويعدلُ أيضاً عن ذبح ونهب أهل دَب جزاءً لما فعله.
عادَ ماني ورفاقُه إلى مدينة دَب من جديد وقرّر الإقامةَ في قصرِ الحاكمِ الهارب. وفي نهاية القسمِ الثّاني هذا نقرأ بعض التعاليم الأساسيّة التي يلقيها ماني على السّائلين كما يُحدّثنا المؤلّف عن دخول الساسانيّين دَب ثمَّ موت أردشير ملك الفرس.
القسم الثّالث: بجوار الملوك
في المدائن يدخلُ ماني على ملكِ الملوك مرفقَاً بكتابٍ مجيدٍ بحقّه كتبه الأمير هرمز إلى أبيه، ويعرضُ رسالته في البلاط وهناك يُرى بين الحضور كردير المُوبَذان الذي يُسارعُ إلى اتّهامِ ماني (كونه ناصريّاً) بإهانة الفرس وعباداتهم ومعتقداتهم، وما أن يهمُّ الملكُ بالحكمِ عليهِ، حتّى يُخلّصه مُربّيه "بادهام" طالباً الاستماعَ إلى دفاعِه! بعدَ ذلك سيوافقُ الملكُ شاهبورُ على رسالة ماني ويُصدر تشريعاً يسمحُ له فيه بنشر ديانته في كلّ مكانٍ وزمانٍ كما لو كان رسولَه الخاصّ.
يبدأ ماني رسالتَه في بيت لابات وهي إحدى قرى سوزيانا (خوزستان اليوم) وحيثُ طائفة مسيحيّة نشطة، لكنّه لا يلقى فيها التّرحيبَ بتعاليمِه المتعلّقة بالتّساوي بين جميع الطبقات وإلغاء امتيازاتها. وهذا التعليم بالذّات كانَ إحدى الحجج القويّة التي سعتْ لإفساد سمعته لدى الملك شاهبور. ومن جهةٍ أخرى تضاعفَ عددُ أتباعِه بين الحرفيّين والتجّار والغرباء والمهجّنين.
يقرّر ماني فجأةً زيارة أيكبتان عاصمة ميديا ومسقط رأس والده، وحيثُ إقطاعة الكهنة منذ القِدَم. وفي الوقت نفسِه يقرّر عدوّه كردير زيارتَها مصطحباً حليفَه بهرام ابن شاهبور البكر وعدوّ ماني الثّاني. وهناك يُضيّق الجندُ حرّاس القلعة بأمرٍ من بهرام على ماني وديناغ لثلاثة أيّامٍ يقعُ بطلُنا في آخرها مغشيّاً عليه. على أثر هذه الحادثة يُعاقبُ شاهبورُ ابنَه بهرام بحبسه في أحد الأجنحة المُخصَّصة لرحلات الصّيد ويرسل في أثر ماني طالباً منه المثولَ أمامه.
في قصرِ الملك، في حجرةٍ اعتياديّة لا علاقة لها بقاعة العرشِ وقوانينها، يلتقي الملكُ بالرّسولِ ويتحاوران حولَ ما قامَ به بهرامُ وما فعله ماني حتّى اليوم. كما ويتركُ الملكُ لنفسِه الحريّة في حديثٍ سلبيٍّ طويلٍ عن الكهنة وأفعالهم في طول الإمبراطوريّة وعرضها. وأخيراً يُخبره أنَّ عليه الكفّ عن التجوال والتبشير تاركاً تلامذته يفعلون ذلك، فأمّا هو فسيرافق ملك الملوك في كلِّ مكانٍ بعدَ أن يُخصَّص لهُ مقعدٌ مميّزٌ في جميع القصور.
يخرجُ ماني من هذا اللقاء ليحبسَ نفسَه في غرفته في منزلِ صديقِه مالكوس ساجداً صائماً متأمّلاً لثلاثة أيّامٍ يخرجُ بعدَها معلناً لتلامذته أنَّ النصرَ قريبٌ، ثمَّ يُرسلهم إلى أقاليم الإمبراطوريّة الأربعة ويكتبُ مئات الرّسائل والأناشيد والمزامير وأحد أهمّ كتب تلك الحقبة شارحاً فيه تعاليمَه بالرّسوم والتّصاوير.
في المقطع الخامس من هذا القسم يستفيضُ الكاتبُ في ذكرِ الوقائع التاريخيّة المرتبطة بالإمبراطوريّتين الفارسيّة والرّومانيّة داخليّاً وخارجيّاً ويُبعدنا بهذا قليلاً عن صلبِ الأحداثِ المتعلّقة بابن بابل وتعاليمه الجديدة. ويُنهي حديثَه فيه بمعاهدة السّلام التي وقّعها إمبراطورُ روما فيليبوس العربيّ وملك الفرس شاهبور لقاء مئة ألف قطعةٍ ذهبيّة تدفعها روما كلّ عام جزيةً لفارس.
يُقتل فيليبوس العربيّ ويواصل خلفه دسيوس دفعَ الجزية علناً هذه المرّة لكنّه يُقتل هو الآخر بعدَ سنتين، ويعجزُ المتنازعون على العرش على الاستمرار في دفع تلك المبالغ الكبيرة، ممّا يدفع بشاهبور إلى إعداد الجيش للحربِ ويطلبُ من ماني مرافقته ومناصرته وهذا يرفض.
Les Jardins de lumière
روايةٌ تاريخيّةٌ فلسفيّةٌ دينيّة في ثلاثمئة صفحة من تأليفِ اللبنانيّ أمين معلوف، تحكي قصّة رجلٍ يُدعى ماني وُلدَ في ماردين، وحملَ رسالةً دينيّة طافَ بها حيثما استطاعَ الوصول! سنحكيها في موجزٍ يذكّر بأهمّ أحداثِها، ثمَّ نعرضُ ما رأينا فيها وما أحببناه وما أبغضناه. يقسمُ الكاتبُ روايته إلى تمهيدٍ فأربعة أقسام ثمّ خاتمة قصيرة، سنتبعها واحدة تلو الأخرى.
تمهيد:
كانَ والدُ ماني، ويُدعى "باتيغ"، يبحثُ عن الحقيقة، وهو بارتيّ من طبقةِ المُحاربين، وأصلُه من "أيبكتان". اعتادَ على الحجِّ في كلِّ عام إلى معبد "نبو" القائمِ على تلّةٍ تُشرفُ على جسر "سلوقية" في المدائن عاصمة بابل. وهناكَ يتعرّفُ على شيخٍ تدمريٍّ يرأسُ طائفةً طينيّة تُقيمُ منعزلةً في بستانِ نخيلٍ في شمالِ بلاد بابل. وأمامَ دعوة هذا التدمريّ "سيتايي" يخضعُ باتيغ فيهجر امرأتَه الحبلى بطفلِه الوحيد "ماني" وينضمَّ إلى تلك الجماعة التي تلبسُ الأبيض وتُحرّم الخمرَ واللحمَ والنّساء! معتقداتُها خليطٌ من اليهوديّة والمسيحيّة وبدعة عند كلا الفريقين.
القسمُ الأوّل: بستان النّخيل وأصحاب الملابس البيضاء
في الرّابع عشر من شهر نيسان سنة 216، على عهدِ أرطبان ملك المدائن وكركلا إمبراطور روما، وُلدَ ماني ابنُ باتيغ من مريم في مدينة ماردين. وبعدَ ثلاثة أعوامٍ يُحضَر للإقامة في وسط جماعة بستان النّخيل. هناكَ ينمو ويتعلّمُ وبعدَ مرورِ أعوامٍ يصدفُ أن يصنعَ معروفاً مع صوريٍّ سمينٍ يُدعى "مالكوس" منتمٍ إلى الجماعةِ شكلاً، عُوقبَ لأنّه تجاوزَ القوانين، ومنذ ذلك الحين كنَّ له هذا الصوريُّ مودّةً وإخلاصاً دامَ عليهما طوال حياته.
وفي أحد الأيّام يتعرّف ماني إلى فتاةٍ يونانيّة يُحبّها مالكوس وتُدعى "كْلوويه"، وهذه تُحبّ ماني، لكنّه يردعها بحجّة العهود التي قطعها على نفسِه! وبعدَ زمنٍ يعلمُ ماني أنَّ مالكوس وكلوويه تزوّجا وأقاما في المدائن.
بعدَ صبرٍ طويلٍ، وفي الرّابعةِ والعشرين من عمره، يتلقّى ماني من شفتي توأمه (الرّوحي) الكلمات التي طالما أملَ في سماعِها: "ها قَدْ أزفّت السّاعة لكي تتجلّى لعيون العالم، وتترك بستان النّخيل هذا... ". وفي أحد صباحات نيسان من سنة 240 قرّر الرّحيلَ باحتفالٍ كما قرّرَ أن يسلخَ عنهُ هذا الجلدَ الأبيضَ الذي غلّفه لعشرين عاماً.فدخلَ احتفالَ الصّلاةِ بثيابٍ ملوّنةٍ استفزّت الجميع، وبعدَ حوارٍ قصيرٍ مع أبيه باتيغ، خضعَ لمحكمة الجماعة حيثُ كشفَ عن رسالته كما تكلّم بالسّوء على أصحاب الملابس البيضاء ومعتقداتهم، وتعرّض لهجومٍ بالوحل من قبل بعضِهم وأخيراً رحلَ.
القسم الثّاني: من "دجلة" إلى "السّند"
المدائن محطّة ماني الأولى، أكبر مدن وادي "دجلة" وعاصمة الملوك البارتيّين سابقاً والساسانيّين لاحقاً. فيها أمضى ماني ليلته الأولى في منزلِ صديقيه مالكوس وكلوويه بعدَ ترحيبٍ حارّ. وفيها أيضاً يباشرُ ببعضِ تعاليمِه ممّا يتسبّب في مخاوفِ مالكوس الذي يحدّثه عن الملك الجديد "أردشير" وتحريم العبادات المختلفة ونشر عبادة النّار دين الساسانيّين الوحيد. في هذه الأثناء يصلُ باتيغ والدُه ويُحاول إقناعَه بالعودة إلى بستان النّخيل، لكنّه بدلاً من ذلك يُقنع أباه بالبقاءِ معه، فيُصبحُ هذا الأخير، بعدَ أن وضعَ ماني يدَه على رأسِه، أوّل مريديه.
يستمعُ ضابطٌ إلى إرشاد وتعليم ماني ويعلمُ أنّه وأباه من سلالة البارتيّين، فيهدّد مالكوس ويطلبُ منه رحيلهما عن المدائن. وقبلَ أن يخبرَ هذا صديقَه بذلك، يقرّر ماني الرّحيلَ فيرافقه باتيغ ومالكوس حتّى شاراكس. لم تكن الرّحلة البحريّة من هذه المدينة وحتّى وادي نهر السّند (الهند) هادئةً ومطمئنّة، فقد تعرّضوا خلالها لمهاجمة الحيتان ثمَّ لإعصارٍ عنيفٍ في اليوم الثّالث يمرُّ دون ضرر. وفي أثناء الرّحلة البحريّة تنشأُ مودّةٌ بين ماني وربّان السّفينة فيرافقه هو وصاحباه في مأكله ومشربه وحتّى في أفكارِه وخططه. أخيراً وصلوا "دَبْ" المدينة القائمة في دلتا نهر "السّند" وحالما بلغوها توجّه ماني إلى الكنيسة وكانَ يومَ أحد! بعدَ الصّلاة والعظة التي يلقيها ماني يستضيفهم كاهن الكنيسة في منزله برفقة أحد وجهاء الطّائفة، وهذان يعلمانهم خلال الطّريق أنَّ والي المدينة وحاميتها قد هجروها تاركينها في يدِ الفاتح الجديد الأمير هرمز حفيد أردشير الملك، وهو بعسكره على مسيرة يومٍ واحدٍ منهم، بينما سكّان دَبْ مرتعبون خائفون. وبعدَ جدالٍ قصيرٍ يتكلّمُ ماني معلناً عن ذهابِه للقاءِ الأميرِ بنفسِه!
في خيمةٍ من قماشٍ فاخرٍ يلتقي بطلُنا بالأمير هرمز وهناك تدورُ رحى نقاشٍ حامٍ بين ماني وبين الأمير هرمز والموبَذان كردير. الأوّل يُحاولُ أن يمنعَ مذبحةً على وشك الوقوع في حقّ سكّان دَب، والموبذان يؤكّد للأمير على أنّها إرادة السّماء ورغبة رجالِه. فجأةً تقتحمُ المجلسَ ديناغُ وهي فتاةٌ تهتمّ برفقة ابنة الأمير بعد وفاة والدتها، لتخبرَه أنَّ ابنتَه وقعتْ وغابتْ عن رشدِها. يعرضُ ماني المساعدةَ كطبيبٍ ويشفيها بعدَ قضاءِ ليلةٍ من السّهرِ والمراقبة. لقاء ذلك يعرض عليه الأميرُ مكافأةً ذهبيّة إلا أنَّ ماني يرفضَها ويطلبُ بدلاً منها الفتاة ديناغ وهي ابنة قائدٍ أنقذَ الأمير هرمزَ في إحدى المعارك وماتَ بدلاً منه، وإكراماً لبذلِه كفلها الأميرُ كابنته. بعدَ عناءٍ يستجيبُ هرمزُ ويهبها له ويعدلُ أيضاً عن ذبح ونهب أهل دَب جزاءً لما فعله.
عادَ ماني ورفاقُه إلى مدينة دَب من جديد وقرّر الإقامةَ في قصرِ الحاكمِ الهارب. وفي نهاية القسمِ الثّاني هذا نقرأ بعض التعاليم الأساسيّة التي يلقيها ماني على السّائلين كما يُحدّثنا المؤلّف عن دخول الساسانيّين دَب ثمَّ موت أردشير ملك الفرس.
القسم الثّالث: بجوار الملوك
في المدائن يدخلُ ماني على ملكِ الملوك مرفقَاً بكتابٍ مجيدٍ بحقّه كتبه الأمير هرمز إلى أبيه، ويعرضُ رسالته في البلاط وهناك يُرى بين الحضور كردير المُوبَذان الذي يُسارعُ إلى اتّهامِ ماني (كونه ناصريّاً) بإهانة الفرس وعباداتهم ومعتقداتهم، وما أن يهمُّ الملكُ بالحكمِ عليهِ، حتّى يُخلّصه مُربّيه "بادهام" طالباً الاستماعَ إلى دفاعِه! بعدَ ذلك سيوافقُ الملكُ شاهبورُ على رسالة ماني ويُصدر تشريعاً يسمحُ له فيه بنشر ديانته في كلّ مكانٍ وزمانٍ كما لو كان رسولَه الخاصّ.
يبدأ ماني رسالتَه في بيت لابات وهي إحدى قرى سوزيانا (خوزستان اليوم) وحيثُ طائفة مسيحيّة نشطة، لكنّه لا يلقى فيها التّرحيبَ بتعاليمِه المتعلّقة بالتّساوي بين جميع الطبقات وإلغاء امتيازاتها. وهذا التعليم بالذّات كانَ إحدى الحجج القويّة التي سعتْ لإفساد سمعته لدى الملك شاهبور. ومن جهةٍ أخرى تضاعفَ عددُ أتباعِه بين الحرفيّين والتجّار والغرباء والمهجّنين.
يقرّر ماني فجأةً زيارة أيكبتان عاصمة ميديا ومسقط رأس والده، وحيثُ إقطاعة الكهنة منذ القِدَم. وفي الوقت نفسِه يقرّر عدوّه كردير زيارتَها مصطحباً حليفَه بهرام ابن شاهبور البكر وعدوّ ماني الثّاني. وهناك يُضيّق الجندُ حرّاس القلعة بأمرٍ من بهرام على ماني وديناغ لثلاثة أيّامٍ يقعُ بطلُنا في آخرها مغشيّاً عليه. على أثر هذه الحادثة يُعاقبُ شاهبورُ ابنَه بهرام بحبسه في أحد الأجنحة المُخصَّصة لرحلات الصّيد ويرسل في أثر ماني طالباً منه المثولَ أمامه.
في قصرِ الملك، في حجرةٍ اعتياديّة لا علاقة لها بقاعة العرشِ وقوانينها، يلتقي الملكُ بالرّسولِ ويتحاوران حولَ ما قامَ به بهرامُ وما فعله ماني حتّى اليوم. كما ويتركُ الملكُ لنفسِه الحريّة في حديثٍ سلبيٍّ طويلٍ عن الكهنة وأفعالهم في طول الإمبراطوريّة وعرضها. وأخيراً يُخبره أنَّ عليه الكفّ عن التجوال والتبشير تاركاً تلامذته يفعلون ذلك، فأمّا هو فسيرافق ملك الملوك في كلِّ مكانٍ بعدَ أن يُخصَّص لهُ مقعدٌ مميّزٌ في جميع القصور.
يخرجُ ماني من هذا اللقاء ليحبسَ نفسَه في غرفته في منزلِ صديقِه مالكوس ساجداً صائماً متأمّلاً لثلاثة أيّامٍ يخرجُ بعدَها معلناً لتلامذته أنَّ النصرَ قريبٌ، ثمَّ يُرسلهم إلى أقاليم الإمبراطوريّة الأربعة ويكتبُ مئات الرّسائل والأناشيد والمزامير وأحد أهمّ كتب تلك الحقبة شارحاً فيه تعاليمَه بالرّسوم والتّصاوير.
في المقطع الخامس من هذا القسم يستفيضُ الكاتبُ في ذكرِ الوقائع التاريخيّة المرتبطة بالإمبراطوريّتين الفارسيّة والرّومانيّة داخليّاً وخارجيّاً ويُبعدنا بهذا قليلاً عن صلبِ الأحداثِ المتعلّقة بابن بابل وتعاليمه الجديدة. ويُنهي حديثَه فيه بمعاهدة السّلام التي وقّعها إمبراطورُ روما فيليبوس العربيّ وملك الفرس شاهبور لقاء مئة ألف قطعةٍ ذهبيّة تدفعها روما كلّ عام جزيةً لفارس.
يُقتل فيليبوس العربيّ ويواصل خلفه دسيوس دفعَ الجزية علناً هذه المرّة لكنّه يُقتل هو الآخر بعدَ سنتين، ويعجزُ المتنازعون على العرش على الاستمرار في دفع تلك المبالغ الكبيرة، ممّا يدفع بشاهبور إلى إعداد الجيش للحربِ ويطلبُ من ماني مرافقته ومناصرته وهذا يرفض.