متمردة
13/03/2009, 16:22
بداية عام 2000
القلم بين أصابعى والصفحة تحت يدى بيضاء. مساحة من الفضاء تنتظر كلماتى. النافذة مفتوحة أمامى على السماء. أحملق فى مساحات من الخواء. أبحث عما كان أبى يقول أنه الحقيقة. منذ الطفولة كنت أجادل أبى. لم يكن عقلى يقبل أى شىء دون برهان. يغضب أبى ويقول هناك حقائق ليس لها برهان. يرمقنى بنظرة حمراء لأكف عن الجدل. ولم يكف عقلى عن التساؤل.
كان عقلى مشكلة حياتى، أردت التخلص منه منذ الطفولة، فى سن المراهقة أصبحت بلا عقل، فتاة وادعة مطيعة لا تجادل، لا يدور فى رأسها سؤال، أشياء أخرى تدور فى جسدها، رغبات عارمة يرتج لها الجسد، أحلام فى اليقظة والنوم عن الحب، أشياء لها ملمس مادى، الجسد يعانق الجسد فى الليل. ترمقنى أمى بنظرة حمراء لأكف عن الحب. لم يكن جسدى يكف عن رغباته.
أصبح جسدى مشكلة حياتى. أردت التخلص منه منذ المراهقة. فى سنين الشباب الأولى أصبحت بلا جسد. امرأة ناضحة مثالية حسنة السير والسلوك، زوجة مطيعة لزوجها فى البيت، مطيعة لرئيسها فى العمل، تضحى بحياتها من أجل الأسرة وإن قامت الحرب تضحى بالأسرة وتموت فداء الوطن.
مرت بى أيام أمشى فى الطريق مثل الخيال. شبح من الأموات. شاحبة الوجه مطبقة الشفتين فى صمت. لا شىء يتحرك فى عقلى أو جسدى. منذ زمن طويل فقدتهما. أترنح وأنا أمشى مثل خيال المآتة. كان الموت قريبا منى أكاد ألمسه بيدى. الموت من أجل الوطن من أجل الله، من أجل زوجى، يعلو الله فوق الجميع، من بعده يأتى الوطن أو الملك أو الرئيس، بعد ذلك يأتى الزوج.
فى الليل كنت أهتف يسقط الملك يسقط الزوج يسقط الانجليز. كان ذلك فى طفولتى، تغيرت الاسماء فى مرحلة الشباب، أسمع الشباب يهتفون، يسقط الرئيس يسقط الامريكان، أشاركهم الهتاف وأضيف من عندى ويسقط الزوج.
صديقتى صفية تهتف معى يسقط الزوج، تنضم إلينا الصديقات الأخريات سامية وبطة. الثلاثة زوجات مطيعات يحلمن بالطلاق فى الليل. أربعة وأربعون عاما يحلمن بالطلاق. يتكرر الحلم كل ليلة حتى إنتهى القرن وجاء القرن الجديد الواحد والعشرين.
ذاكرتى تروح وتجىء فى الزمن على نحو عجيب يتلاشى نصف قرن فى لحظة، واللحظة الحاضرة تمتد أمامى لانهائية، يلتحم الماضى بالحاضر فى لحظة واحدة. الصوت يتسرب إلى أذنى واضحا كأننى أسمعه الآن، اقتلوها الكافرة عدوة الله. أهب من النوم على الصوت يزعق فى شارع الجيزة. النافذة مغلقة بالشيش الخشبى والزجاج المزدوج. شريف نائم فى سريره المجاور لسريرى. كان لنا سريران منفصلان فى غرفة نوم مشتركة. الجدران بيضاء نظيفة والملاءة ناصعة البياض، الأرض من البلاط الناعم، أنزلق فوقه حين أمشى، فوق المنضدة الساعة تشير إلى الواحدة، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند 31 ديسمبر 1988، عيد رأس السنة الجديدة، أشياء مفزعة تحدث دائما ليلة العيد. منذ طفولتى لا أحب الأعياد، يمتلئ قلبى بالحزن حين يتألق العالم بالفرح.
- أهدروا دمها الكافرة عدوة الله.
جفونى مثقلة بالنوم. يسرى الصوت إلى أذنى قبل أن أفتح عينى. أضواء خافتة تتسرب من شقوق الشيش. أمشى إلى النافذة على أطراف أصابعى. أتوقف لحظة لألتقط أنفاسى.أطل من بين الشق. الشارع ليس فيه أحد. عربة كارو يجرها حمار، صاحبها راقد فوق ظهره يهتز مع اهتزازة العربة. سيارات مسرعة تظهر أنوارها ثم تختفى. الشق ضيق أخشى أن أفتح النافذة. الصوت يزعق، يردد بعض الاسماء، يرن إسمى وإسم ابى وجدى السعداوى الذى مات قبل أن أولد.
- اقتلوهم الكفرة أعداء الله.
أذناى من وراء النافذة المغلقة تلتقطان الاسماء واحدا وراء الآخر، يرن إسمى فى الجو نوال السعداوى، يخترق رأسى مثل طلقة الرصاص. يفتح شريف عينيه. يرانى واقفة وراء النافذة جامدة مثل تمثال.
- فيه إيه يا نوال؟
- سامع الصوت؟
يفتح شريف النافذة، من أين ينبعث الصوت. الميكرفون فوق مئذنة الجامع المجاور لنا. أو الجامع الآخر الجديد فى الشارع الخلفى. أو الجامع القديم وراء الكنيسة. أو المئذنة الجديدة بدون جامع، تبرز بين البيوت من فوقها ميكرفون ضخم. يربت شريف على كتفى: نامى يا نوال وبكرة الصبح نعرف إيه بيحصل فى البلد.
يأتى الصبح ولا نعرف شيئا. لا أحد فى الكون يعرف الحقيقة إلا الله والسيد الرئيس. هكذا قال يوسف إدريس لشريف عبر أسلاك التليفون. يضحك ويقهقه بصوت يهز الاسلاك. أيوه يا شريف ما حدش عارف حاجة، البلد على كف عفريت، فاكر حريق القاهرة فى يناير واحد وخمسين، الحكومة والانجليز حرقوا البلد عشان يضربوا العمل الفدائى فى القنال، أنا متوقع حرايق فى البلد مش حريق واحد، الجماعات الاسلامية دى عملها السادات عشان يضربنا يا شريف، عشان يضرب اليسار كله، وطبعا معاه الامريكان، أنا باسمع إسمى فى الميكروفونات فوق الجوامع، الجوامع دى كلها بنتها الحكومة بفلوس أمريكا، عشان يتخلصوا مننا يا شريف، أنا عارف إن الحكومة والامريكان عاوزين يخلصوا منى أنا بالذات، لأن مقالاتى فى الاهرام أخطر من المقالات فى صحف المعارضة، عاوزين يقتلونى يا شريف.
- مش أنت لوحدك يا يوسف، فيه ناس كثير عاوزين يقتلوهم أكثر منك، لو كانت الحكومة عاوزة تتخلص منك كانوا شالوك من الاهرام يا يوسف.
- أيوه يا شريف، لكن أنا عارف أن الحكومة سايبانى أكتب عشان تكون عندنا معارضة وديموقراطية، لكن المسألة تطورت وخلاص مش عاوزين أى معارضة، على فكرة أنا سمعت اسم نوال، مش عارف ازاى يهدروا دم امرأة؟أ
-زى ما بيهدروا دم الرجل يا يوسف.
-لكن المرأة غير الرجل يا شريف.
-مش فاهم.
-فى الصعيد مثلا دم الرجل هو المطلوب فى الثأر، وفى السياسة أيضا دم الرجل هو المطلوب.
-ليه يا يوسف؟ هو الرجل فقط اللى عنده دم؟!
كان الجدل يدور بين شريف ويوسف عبر أسلاك التليفون. يضحك يوسف بصوت عال، تهتز الاسلاك مع قهقهته ويتحول الحديث من السياسة إلى المرأة.
كان يوسف إدريس زميلا لأحمد حلمى فى كلية الطب وأحمد المنيسى وفؤاد محيى الدين وغيرهم من الطلبة. لماذا بدا أحمد حلمى مختلفا عن الجميع؟! الصوت الهادىء المنخفض. الكلام القليل. الخطوة فوق الأرض الواثقة غير المتسرعة؟ العمل فى صمت دون ضجة. فى الاجتماعات فى المدرج الصغير كنت أراه جالسا فى الصف الأخير. يتنافس زعماء الطلبة على الميكروفون وهو فى مكانه جالس. يدقون بقبضة اليد على المنصة ويلقون الخطب يثرثرون بأصوات عالية وهو صامت. يتكلمون فى وقت واحد يقاطعون بعضهم البعض، وإذا تكلم أحمد حلمى صمت الجميع.
حين التقيت لأول مرة بشريف حتاتة عام 1964 تذكرت أحمد حلمى عام 1951. برزت ملامحه من العدم. الجبهة العريضة والشعر الأسود الغزير. الحاجبان الكثيفان. العينان. الانف. الصوت. المشية فوق الارض. الكلام القليل والعمل فى صمت. مات أحمد حلمى بعد أن عاد من الحرب مهزوما. ماتت الروح قبل أن يموت الجسد. كان يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة. مات شهيد الوطن مثل أحمد المنيسى دون أن يقام له حفل تأبين.
كان زعماء الطلبة مثل زعماء الاحزاب السياسية، تعلموا منهم قواعد اللعبة. لم يستشهد منهم أحد. لم تسقط من أحدهم قطرة دم. أصبح فؤاد محيى الدين وزيرا للصحة ثم رئيسا للوزراء. كان فى كلية الطب ضمن اليسار، عضو لجنة العمال والطلبة، وفى عهد عبد الناصر كان يخطب عن الاشتراكية والقطاع العام، وفى عهد السادات لم يعترض على شىء، جلس فى مقعد رئيس الوزراء، يتلقى التوجيهات من السيد الرئيس، الانفتاح والرأسمالية والسوق الحرة والقطاع الخاص، ثم سقط فى مكتبه ومات بالسكتة القلبية وهو رئيس الوزراء فى عهد حسنى مبارك.
التقيت بفؤاد محيى الدين لأول مرة عام 1951، فى اجتماعات طلبة كلية الطب بالمدرج الصغير، تخرج قبلنا بعدة سنوات وتخصص فى الاشعة. طويل القامة نحيف الجسم أنيق الملابس يشبه الطاووس. عيناه تتجاوزان كلية الطب إلى وزارة الصحة ومجلس الوزراء. التقيت به أكثر من مرة وهو وزير للصحة. كنا نتحدث فى الأدب والابداع. تتجاوز عيناه جدران مكتبه ويتنهد قائلا: كنت أتمنى أن أكون أديبا مبدعا مثلك ومثل يوسف إدريس، ثم يضحك، أيه رأيك يا نوال نتبادل المواقع، تبقى أنتى وزيرة الصحة وأنا أديب مشهور فى العالم زيك، أضحك وأقول له: إذا بقيت وزيرة الصحة لازم يرفدونى بعد أسبوع.
صوت أبى الميت كان يهمس فى أذنى، الوزير يأتى بقرار ويذهب بقرار، والأديب لا أحد يعينه ولا أحد يعزله إلا قلمه.
لم يكن فؤاد محيى الدين صديقا، رغم حديثنا عن الادب والفن، كان هناك حاجز زجاجى يقف بينى وبينه، ربما كنت أحس أن ميوله السياسية تحجب ميوله الادبية، أن طموحه فى المنصب العالى أكثر من طموحه الادبى. يوم 25 نوفمبر 1981 كان لقائى الاخير بفؤاد محيى الدين، كان جالسا إلى جوار رئيس الدولة حسنى مبارك فوق الكنبة المذهبة فى قصر العروبة، إلى جواره محمد حسنين هيكل، ثم فؤاد سراج الدين، وشخصيات أخرى ممن أدخلهن أنور السادات السجن قبل اغتياله بشهر واحد، هذه الاعتقالات عرفت باسم مذبحة سبتمبر الأسود عام 1981، كنت واحدة من المسجونات، ثم أصدر حسنى مبارك قرارا بالافراج عن الدفعة الأولى من المسجونين بعد اغتيال السادات بشهرين، إنفتح باب السجن فى صباح ذلك اليوم وحملونى من الزنزانة داخل سيارة فولكس فاجون إلى قصر العروبة، حيث استقبلنا رئيس الدولة ورئيس الوزراء فؤاد محيى الدين.
كنت أرتدى حذائى الكاوتش أخفيت داخله رسالة إلى رئيس الدولة أطالبه بالتحقيق فى جريمة اعتقالى دون سبب إلا كتابة رأيى. قبل الاجتماع أخرجت الرسالة من حذائى وناولتها لرئيس الدولة. قرأها كلها حتى آخر سطر ثم قال لى: معلهش يا دكتورة نوال.
رنت كلمة معلهش فى اذنى غريبة، هل يضعوننى فى السجن دون جريمة ثلاثة شهور ثم يقولون لى معلهش؟ ألقى رئيس الدولة علينا خطبة عن نظامه الجديد فى ظل الديموقراطية والحرية والقانون، علينا أن ننسى الماضى ونتطلع إلى المستقبل، قال بلغته هذه الحروف، بلاش ننبش القبور، وكان يعنى أن ننسى فترة السجن، أن ننسى ما فعله السادات بنا وأن ننتظر ما يفعله الرئيس الجديد.
لم يقنعنى هذا الكلام، كنت أرى أن تقييم الماضى ضرورة لعدم تكرار الاخطاء، وأن التحقيق فيما حدث يتمشى مع القانون، ثم لماذا ينتظر الناس دائما ما يفعله رئيس الدولة، لماذا لا يعملون بدلا من مجرد الانتظار؟ ولماذا يصبح رئيس الدولة هو الفرد الوحيد الذى يعمل والذى يتخذ القرار ونحن علينا أن نجلس فى بيوتنا وننتظر؟
بدأ فؤاد سراج الدين يتكلم بعد أن انتهى رئيس الدولة من كلمته. قال فؤاد سراج الدين، يا سيادة الرئيس لقد أنابنى زملائى لأتكلم عنهم، دهشت لهذه العبارة الاولى، لأن أحدا لم يأخذ رأيى فى موضوع الإنابة هذه، كان عددنا ثلاثة وعشرين شخصا، منهم واحد وعشرين رجلا، وامرأتان فقط، أنا واحدة منهما، سألت زميلتى: هل تعرفين شيئا عن هذه الإنابة؟ هزت رأسها بالنفى. سألت الزميل الجالس إلى جوارى، فقال، لا أعرف شيئا يا دكتورة نوال لكنى سمعت أن محمد حسنين هيكل اقترح على اثنين من أصدقائه المقربين إنابة فؤاد سراج الدين للتحدث نيابة عن الجميع، وأبلغوا رئيس الوزراء الدكتور فؤاد محيى الدين بهذا القرار لابلاغه للسيد الرئيس، وبالطبع لم ياخذ رأينا أحد، قلت كيف ينوب عنا أحد دون أن نعلم؟ هذا تصرف غير ديموقراطى كيف نقبله نحن الذين دخلنا السجن لأننا اعترضنا على التصرفات غير الديموقراطية؟ ابتسم الزميل فى أسى وقال، يا دكتورة نوال الأفضل أن نسكت وإلا أعادونا إلى السجن!
القلم بين أصابعى والصفحة تحت يدى بيضاء. مساحة من الفضاء تنتظر كلماتى. النافذة مفتوحة أمامى على السماء. أحملق فى مساحات من الخواء. أبحث عما كان أبى يقول أنه الحقيقة. منذ الطفولة كنت أجادل أبى. لم يكن عقلى يقبل أى شىء دون برهان. يغضب أبى ويقول هناك حقائق ليس لها برهان. يرمقنى بنظرة حمراء لأكف عن الجدل. ولم يكف عقلى عن التساؤل.
كان عقلى مشكلة حياتى، أردت التخلص منه منذ الطفولة، فى سن المراهقة أصبحت بلا عقل، فتاة وادعة مطيعة لا تجادل، لا يدور فى رأسها سؤال، أشياء أخرى تدور فى جسدها، رغبات عارمة يرتج لها الجسد، أحلام فى اليقظة والنوم عن الحب، أشياء لها ملمس مادى، الجسد يعانق الجسد فى الليل. ترمقنى أمى بنظرة حمراء لأكف عن الحب. لم يكن جسدى يكف عن رغباته.
أصبح جسدى مشكلة حياتى. أردت التخلص منه منذ المراهقة. فى سنين الشباب الأولى أصبحت بلا جسد. امرأة ناضحة مثالية حسنة السير والسلوك، زوجة مطيعة لزوجها فى البيت، مطيعة لرئيسها فى العمل، تضحى بحياتها من أجل الأسرة وإن قامت الحرب تضحى بالأسرة وتموت فداء الوطن.
مرت بى أيام أمشى فى الطريق مثل الخيال. شبح من الأموات. شاحبة الوجه مطبقة الشفتين فى صمت. لا شىء يتحرك فى عقلى أو جسدى. منذ زمن طويل فقدتهما. أترنح وأنا أمشى مثل خيال المآتة. كان الموت قريبا منى أكاد ألمسه بيدى. الموت من أجل الوطن من أجل الله، من أجل زوجى، يعلو الله فوق الجميع، من بعده يأتى الوطن أو الملك أو الرئيس، بعد ذلك يأتى الزوج.
فى الليل كنت أهتف يسقط الملك يسقط الزوج يسقط الانجليز. كان ذلك فى طفولتى، تغيرت الاسماء فى مرحلة الشباب، أسمع الشباب يهتفون، يسقط الرئيس يسقط الامريكان، أشاركهم الهتاف وأضيف من عندى ويسقط الزوج.
صديقتى صفية تهتف معى يسقط الزوج، تنضم إلينا الصديقات الأخريات سامية وبطة. الثلاثة زوجات مطيعات يحلمن بالطلاق فى الليل. أربعة وأربعون عاما يحلمن بالطلاق. يتكرر الحلم كل ليلة حتى إنتهى القرن وجاء القرن الجديد الواحد والعشرين.
ذاكرتى تروح وتجىء فى الزمن على نحو عجيب يتلاشى نصف قرن فى لحظة، واللحظة الحاضرة تمتد أمامى لانهائية، يلتحم الماضى بالحاضر فى لحظة واحدة. الصوت يتسرب إلى أذنى واضحا كأننى أسمعه الآن، اقتلوها الكافرة عدوة الله. أهب من النوم على الصوت يزعق فى شارع الجيزة. النافذة مغلقة بالشيش الخشبى والزجاج المزدوج. شريف نائم فى سريره المجاور لسريرى. كان لنا سريران منفصلان فى غرفة نوم مشتركة. الجدران بيضاء نظيفة والملاءة ناصعة البياض، الأرض من البلاط الناعم، أنزلق فوقه حين أمشى، فوق المنضدة الساعة تشير إلى الواحدة، النتيجة فوق الحائط ثابتة عند 31 ديسمبر 1988، عيد رأس السنة الجديدة، أشياء مفزعة تحدث دائما ليلة العيد. منذ طفولتى لا أحب الأعياد، يمتلئ قلبى بالحزن حين يتألق العالم بالفرح.
- أهدروا دمها الكافرة عدوة الله.
جفونى مثقلة بالنوم. يسرى الصوت إلى أذنى قبل أن أفتح عينى. أضواء خافتة تتسرب من شقوق الشيش. أمشى إلى النافذة على أطراف أصابعى. أتوقف لحظة لألتقط أنفاسى.أطل من بين الشق. الشارع ليس فيه أحد. عربة كارو يجرها حمار، صاحبها راقد فوق ظهره يهتز مع اهتزازة العربة. سيارات مسرعة تظهر أنوارها ثم تختفى. الشق ضيق أخشى أن أفتح النافذة. الصوت يزعق، يردد بعض الاسماء، يرن إسمى وإسم ابى وجدى السعداوى الذى مات قبل أن أولد.
- اقتلوهم الكفرة أعداء الله.
أذناى من وراء النافذة المغلقة تلتقطان الاسماء واحدا وراء الآخر، يرن إسمى فى الجو نوال السعداوى، يخترق رأسى مثل طلقة الرصاص. يفتح شريف عينيه. يرانى واقفة وراء النافذة جامدة مثل تمثال.
- فيه إيه يا نوال؟
- سامع الصوت؟
يفتح شريف النافذة، من أين ينبعث الصوت. الميكرفون فوق مئذنة الجامع المجاور لنا. أو الجامع الآخر الجديد فى الشارع الخلفى. أو الجامع القديم وراء الكنيسة. أو المئذنة الجديدة بدون جامع، تبرز بين البيوت من فوقها ميكرفون ضخم. يربت شريف على كتفى: نامى يا نوال وبكرة الصبح نعرف إيه بيحصل فى البلد.
يأتى الصبح ولا نعرف شيئا. لا أحد فى الكون يعرف الحقيقة إلا الله والسيد الرئيس. هكذا قال يوسف إدريس لشريف عبر أسلاك التليفون. يضحك ويقهقه بصوت يهز الاسلاك. أيوه يا شريف ما حدش عارف حاجة، البلد على كف عفريت، فاكر حريق القاهرة فى يناير واحد وخمسين، الحكومة والانجليز حرقوا البلد عشان يضربوا العمل الفدائى فى القنال، أنا متوقع حرايق فى البلد مش حريق واحد، الجماعات الاسلامية دى عملها السادات عشان يضربنا يا شريف، عشان يضرب اليسار كله، وطبعا معاه الامريكان، أنا باسمع إسمى فى الميكروفونات فوق الجوامع، الجوامع دى كلها بنتها الحكومة بفلوس أمريكا، عشان يتخلصوا مننا يا شريف، أنا عارف إن الحكومة والامريكان عاوزين يخلصوا منى أنا بالذات، لأن مقالاتى فى الاهرام أخطر من المقالات فى صحف المعارضة، عاوزين يقتلونى يا شريف.
- مش أنت لوحدك يا يوسف، فيه ناس كثير عاوزين يقتلوهم أكثر منك، لو كانت الحكومة عاوزة تتخلص منك كانوا شالوك من الاهرام يا يوسف.
- أيوه يا شريف، لكن أنا عارف أن الحكومة سايبانى أكتب عشان تكون عندنا معارضة وديموقراطية، لكن المسألة تطورت وخلاص مش عاوزين أى معارضة، على فكرة أنا سمعت اسم نوال، مش عارف ازاى يهدروا دم امرأة؟أ
-زى ما بيهدروا دم الرجل يا يوسف.
-لكن المرأة غير الرجل يا شريف.
-مش فاهم.
-فى الصعيد مثلا دم الرجل هو المطلوب فى الثأر، وفى السياسة أيضا دم الرجل هو المطلوب.
-ليه يا يوسف؟ هو الرجل فقط اللى عنده دم؟!
كان الجدل يدور بين شريف ويوسف عبر أسلاك التليفون. يضحك يوسف بصوت عال، تهتز الاسلاك مع قهقهته ويتحول الحديث من السياسة إلى المرأة.
كان يوسف إدريس زميلا لأحمد حلمى فى كلية الطب وأحمد المنيسى وفؤاد محيى الدين وغيرهم من الطلبة. لماذا بدا أحمد حلمى مختلفا عن الجميع؟! الصوت الهادىء المنخفض. الكلام القليل. الخطوة فوق الأرض الواثقة غير المتسرعة؟ العمل فى صمت دون ضجة. فى الاجتماعات فى المدرج الصغير كنت أراه جالسا فى الصف الأخير. يتنافس زعماء الطلبة على الميكروفون وهو فى مكانه جالس. يدقون بقبضة اليد على المنصة ويلقون الخطب يثرثرون بأصوات عالية وهو صامت. يتكلمون فى وقت واحد يقاطعون بعضهم البعض، وإذا تكلم أحمد حلمى صمت الجميع.
حين التقيت لأول مرة بشريف حتاتة عام 1964 تذكرت أحمد حلمى عام 1951. برزت ملامحه من العدم. الجبهة العريضة والشعر الأسود الغزير. الحاجبان الكثيفان. العينان. الانف. الصوت. المشية فوق الارض. الكلام القليل والعمل فى صمت. مات أحمد حلمى بعد أن عاد من الحرب مهزوما. ماتت الروح قبل أن يموت الجسد. كان يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة. مات شهيد الوطن مثل أحمد المنيسى دون أن يقام له حفل تأبين.
كان زعماء الطلبة مثل زعماء الاحزاب السياسية، تعلموا منهم قواعد اللعبة. لم يستشهد منهم أحد. لم تسقط من أحدهم قطرة دم. أصبح فؤاد محيى الدين وزيرا للصحة ثم رئيسا للوزراء. كان فى كلية الطب ضمن اليسار، عضو لجنة العمال والطلبة، وفى عهد عبد الناصر كان يخطب عن الاشتراكية والقطاع العام، وفى عهد السادات لم يعترض على شىء، جلس فى مقعد رئيس الوزراء، يتلقى التوجيهات من السيد الرئيس، الانفتاح والرأسمالية والسوق الحرة والقطاع الخاص، ثم سقط فى مكتبه ومات بالسكتة القلبية وهو رئيس الوزراء فى عهد حسنى مبارك.
التقيت بفؤاد محيى الدين لأول مرة عام 1951، فى اجتماعات طلبة كلية الطب بالمدرج الصغير، تخرج قبلنا بعدة سنوات وتخصص فى الاشعة. طويل القامة نحيف الجسم أنيق الملابس يشبه الطاووس. عيناه تتجاوزان كلية الطب إلى وزارة الصحة ومجلس الوزراء. التقيت به أكثر من مرة وهو وزير للصحة. كنا نتحدث فى الأدب والابداع. تتجاوز عيناه جدران مكتبه ويتنهد قائلا: كنت أتمنى أن أكون أديبا مبدعا مثلك ومثل يوسف إدريس، ثم يضحك، أيه رأيك يا نوال نتبادل المواقع، تبقى أنتى وزيرة الصحة وأنا أديب مشهور فى العالم زيك، أضحك وأقول له: إذا بقيت وزيرة الصحة لازم يرفدونى بعد أسبوع.
صوت أبى الميت كان يهمس فى أذنى، الوزير يأتى بقرار ويذهب بقرار، والأديب لا أحد يعينه ولا أحد يعزله إلا قلمه.
لم يكن فؤاد محيى الدين صديقا، رغم حديثنا عن الادب والفن، كان هناك حاجز زجاجى يقف بينى وبينه، ربما كنت أحس أن ميوله السياسية تحجب ميوله الادبية، أن طموحه فى المنصب العالى أكثر من طموحه الادبى. يوم 25 نوفمبر 1981 كان لقائى الاخير بفؤاد محيى الدين، كان جالسا إلى جوار رئيس الدولة حسنى مبارك فوق الكنبة المذهبة فى قصر العروبة، إلى جواره محمد حسنين هيكل، ثم فؤاد سراج الدين، وشخصيات أخرى ممن أدخلهن أنور السادات السجن قبل اغتياله بشهر واحد، هذه الاعتقالات عرفت باسم مذبحة سبتمبر الأسود عام 1981، كنت واحدة من المسجونات، ثم أصدر حسنى مبارك قرارا بالافراج عن الدفعة الأولى من المسجونين بعد اغتيال السادات بشهرين، إنفتح باب السجن فى صباح ذلك اليوم وحملونى من الزنزانة داخل سيارة فولكس فاجون إلى قصر العروبة، حيث استقبلنا رئيس الدولة ورئيس الوزراء فؤاد محيى الدين.
كنت أرتدى حذائى الكاوتش أخفيت داخله رسالة إلى رئيس الدولة أطالبه بالتحقيق فى جريمة اعتقالى دون سبب إلا كتابة رأيى. قبل الاجتماع أخرجت الرسالة من حذائى وناولتها لرئيس الدولة. قرأها كلها حتى آخر سطر ثم قال لى: معلهش يا دكتورة نوال.
رنت كلمة معلهش فى اذنى غريبة، هل يضعوننى فى السجن دون جريمة ثلاثة شهور ثم يقولون لى معلهش؟ ألقى رئيس الدولة علينا خطبة عن نظامه الجديد فى ظل الديموقراطية والحرية والقانون، علينا أن ننسى الماضى ونتطلع إلى المستقبل، قال بلغته هذه الحروف، بلاش ننبش القبور، وكان يعنى أن ننسى فترة السجن، أن ننسى ما فعله السادات بنا وأن ننتظر ما يفعله الرئيس الجديد.
لم يقنعنى هذا الكلام، كنت أرى أن تقييم الماضى ضرورة لعدم تكرار الاخطاء، وأن التحقيق فيما حدث يتمشى مع القانون، ثم لماذا ينتظر الناس دائما ما يفعله رئيس الدولة، لماذا لا يعملون بدلا من مجرد الانتظار؟ ولماذا يصبح رئيس الدولة هو الفرد الوحيد الذى يعمل والذى يتخذ القرار ونحن علينا أن نجلس فى بيوتنا وننتظر؟
بدأ فؤاد سراج الدين يتكلم بعد أن انتهى رئيس الدولة من كلمته. قال فؤاد سراج الدين، يا سيادة الرئيس لقد أنابنى زملائى لأتكلم عنهم، دهشت لهذه العبارة الاولى، لأن أحدا لم يأخذ رأيى فى موضوع الإنابة هذه، كان عددنا ثلاثة وعشرين شخصا، منهم واحد وعشرين رجلا، وامرأتان فقط، أنا واحدة منهما، سألت زميلتى: هل تعرفين شيئا عن هذه الإنابة؟ هزت رأسها بالنفى. سألت الزميل الجالس إلى جوارى، فقال، لا أعرف شيئا يا دكتورة نوال لكنى سمعت أن محمد حسنين هيكل اقترح على اثنين من أصدقائه المقربين إنابة فؤاد سراج الدين للتحدث نيابة عن الجميع، وأبلغوا رئيس الوزراء الدكتور فؤاد محيى الدين بهذا القرار لابلاغه للسيد الرئيس، وبالطبع لم ياخذ رأينا أحد، قلت كيف ينوب عنا أحد دون أن نعلم؟ هذا تصرف غير ديموقراطى كيف نقبله نحن الذين دخلنا السجن لأننا اعترضنا على التصرفات غير الديموقراطية؟ ابتسم الزميل فى أسى وقال، يا دكتورة نوال الأفضل أن نسكت وإلا أعادونا إلى السجن!