DARKNESS
18/08/2009, 15:58
الطوباوية من المصطلحات الدارجة بالسياسة بعضنا هون بالمنتدى ابدى تساؤلات عنها فحبيت انقللكن هالمقال الرائع عنها
افكار
هل اتجه العالم نحو الطوباوية من جديد؟...
نديمة عيتاني
طوباوية، نسبة الى طوبي.. وطوبي كلمة اصلها يوناني U-Topos وتعني حرفياً المكان الذي لا وجود له. وكان توماس مور 1535-1478، أول من استخدم هذه الكلمة.
والطوبي مفهوم يشير الى تصور مجتمع متعذر التحقيق او مستقبل متناقض مع واقع راهن. ثم اطلق على كل فكر يتجه نحو رؤية مستقبل ما، او تصور مجتمع جديد وغير مؤسس على فهم علمي لقوانين تطور المجتمع والتاريخ، صفة الطوباوية.. ولهذا غدت الطوباوية مرادفة لأي مشروع اجتماعي او علمي او تقني غير قابل للتنفيذ..
واستناداً الى ذلك فإن مصطلح الطوباوية لا يتطابق مع مفهوم الطوبي. الطّوبي مفهوم متعدد المضامين أكثر من مفهوم الطوباوية كنزعة في التفكير. فالطوباوية تدل على كل ما هو غير واقعي وغير قابل للتحقق الى ما هو خيالي ووهمي. وفي الطّوبي تبرز العلاقة بين العاطفي والعقلي وبين الاجتماعي والنفسي وبين الذاتي والموضوعي. في الطوبي يبرز العامل العاطفي أكثر من العقلي ويتقدم عالم الاماني على المعرفة الواقعية.
والطوبي تقوم (بمثلنة) مرحلة اجتماعية محدودة كالمشاعية او الاقطاعية. فطوبى يامبول مثلاً، كانت في وقتها مثلنة المرحلة المشاعية. ومثلنت طوبى افلاطون المرحلة العبودية، اما طوبى مور وكامبانيلا 1568-1639 فقد مثلنت الاشتراكية. ولتصنيف كهذا دلالة تاريخية - عينية، اي انه تصنيف لا ينطوي على معنى الا في اطار عصر تاريخي محدد.
ليس صحيحاً ان نصنف الطوباويات استناداً الى صورها فحسب، اي نحصر الطوبى في مؤلفات على غرار الجمهوريات المثلى، او المدن الفاضلة او على غرار مؤلفات سان سيمون 1760-1825 وفورييه 1772-1837 فالتاريخ يعرف كثيراً من المؤلفات التي تنطوي على الطوبى دون ان تشكل طوباويات.
فقد نجد العناصر التي تؤلف الطوبى في الادب التخيلي بدءاً من الحكايات الشعبية وانتهاءً بقصص الخيال العلمي.
وهذا ما يجعل من استخدام مصطلح الطوباوية ان نحلل، وبشكل اعمق، لا لآراء وافكار مؤلفي الطوباويات فحسب، بل وافكار مختلف الكتاب والمؤلفين الذين يصعب اعتبارهم مبدعي الطوباويات ولكن مؤلفاتهم تنطوي بهذا الشكل او ذاك على عناصر طوباوية.
واستناداً الى ما سبق: فإن تاريخ الفكر الطوباوي او تاريخ النزعة الطوباوية، ليست جملة الطوباويات وقد جمعت في نظام معين، بل هو تاريخ وتطور الطوباوية المتحددة بالشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتغيرها. اي ان الفكر الطوباوي بشكل عام يعكس في النهاية الوجود العيني التاريخي للصراع الطبقي.
ولا شك ان هناك صفات مشتركة بين الطوباوية والدين ولا سيما فيما يتعلق بتصور المستقبل، ومع ذلك فإن التصور الطوباوي للمستقبل يختلف عن التصور الديني في نقطة مهمة وهي ان التصور الطوباوي للمستقبل مرتبط بإرادة البشر في نهاية الامر، على خلاف التصور الديني الذي يربط المستقبل بقوى فوق طبيعية.
ويمكن تحديد اهم سمات الطوباوية بما يلي:
اولاً: ان الطوباوية شكل من اشكال المعرفة الفردية او الاجتماعية التي توجد وعياً جديداً عن طريق تركيب ذهني متحقق في تصورات او نماذج من تصورات اجتماعية حول المستقبل. وأهم سمة من سمات المعرفة الطوباوية هي (المطلقية) - جعل الشيء مطلقاً - المشروطة بميوعة الحدود القائمة بين الوعي واللاوعي، بين العقلي والعاطفي والمرتبطة بمستوى ضعيف من تفكير لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلاف.
ثانياً: تظهر الطوباوية في صورة مؤلفات وابداعات كالطوباويات مثلاً، وبالتالي فالمؤلفات الطوباوية - ومنها الطوباويات - هي نموذج ذهني تركيبي لنظام اجتماعي ينظر اليه صاحبه بوصفه حقيقة مطلقة وكلي لا سيما وانه نموذج يطمح نحو تحقيق المثالي، او الكامل، اي تحقيق وضع اجتماعي او وجود انساني خالٍ من التناقض والصراع.
ثالثاً: ان الطوباوية نمط من التفكير لا يميز بين الاساسي والثانوي، ولا يقيم الاختلاف بين الواقعي والتخيلي، بين الذاتي والموضوعي، وكل شيء يتحول فيها الى اساسي بدءاً من وقائع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية مروراً بالاعراف والتقاليد وانتهاءً بفن العمارة.. ألخ.
رابعاً: في الطوباوية لا وجود للتاريخ لا وجود للعلاقات القائمة في الزمان بين الظواهر التاريخية، ولا وجود للتواصل التاريخي، بل هناك انفصال ولاسيما على صعيد الحياة الروحية والاخلاقية. ولهذا فالطوباوي ينفي ارتباط آرائه وطوباه. بالتطور الروحي الماضي للإنسانية.
ان التصورات الطوباوية لا تنتقل ببساطة من طوباوي الى آخر. بل هناك جذر اجتماعي محدد لنشوء وتطور الطوباوية. وبالتالي يجب الاهتمام بالمصادر الشعبية وبالتراث وما ينطوي عليه من احتجاج ضد غياب العدالة والمساواة الاجتماعية وبالاحلام بمستقبل سعيد كمنبع اساسي للطوباويات والفكر الطوباوي بشكل عام. ولم تصلنا حتى الآن جميع انماط الطوباويات وبخاصة القديمة والقروسطية منها، وما وصل منها انما يدل على المستوى الذي ارتقى اليه التفكير الطوباوي، ولهذا يشكل الادب الشعبي لكل عصر من العصور لحظة مهمة في سبيل تحليل اعمق لتطور هذا الفكر الطوباوي او ذاك.
ثم ان مستوى تطور الطوباوية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى تطور المجتمع اقتصادياً وثقافياً وتجب الاشارة بشكل خاص الى ان نشأة وتطور الطوباوية يتطلب حداً ادنى من تطور الفلسفة والتصورات الدينية حول المستقبل. حيث تتطور الطوباوية اما بتطورها او في عملية صراع معها وبخاصة مع التصورات الدينية.
ان اي فكرة لا تغدو فكرة طوباوية الا في نسق معين من الافكار التي تسمو على الواقع ولا تأخذ بعين الاعتبار الشروط التاريخية والاجتماعية الموضوعية. ولهذا فإن الاشتراكية كفكرة او العدالة كفكرة ليست بحد ذاتها طوباوية او غير طوباوية.
ان الاشتراكية كفكرة طوباوية تتحدد في عاملها الطبقي وشرطها الاجتماعي. وبالتالي ليس تحول الاشتراكية من فكرة طوباوية الى واقع معاش هو ثمرة منطق تطور الفكر الاشتراكي كتطور مستقل عن الواقع. بل ان درجات التناقضات الاجتماعية التي وصلت الى حد غدا فيها الصراع الطبقي واضح المعالم قد دفع بطبقة اجتماعية محددة واعية باضطهادها الطبقي وعاملة على تجاوزه الى ان تحول الاشتراكية الى جزء من وعيها التاريخي نحو التحرر الاجتماعي في شروط غدت قادرة على انجاز مستقبلها في مجتمع خلوٍ من الطبقات. ومن هنا تكتسب الاشتراكية صفة العلمية ايضاً. ولهذا يمكن القول ان اهم الشروط الاجتماعية لانتشار العقلية الطوباوية هي عدم وصول التناقضات الطبقية الى درجة كبيرة من الوضوح وغياب الوعي الطبقي الصحيح كثمرة لعدم الوضوح هذا. ومن هنا تبرز العلاقة بين الطوباوية والايديولوجيا. فالطوباوية بوصفها وعياً غير حقيقي عن العالم وغير متطابق مع الواقع ويسمو عليه، وبتعبيرها الغامض عن مصالح فئات وطبقات اجتماعية محددة تاريخياً مهما تخفت ببرقع التعبير الشامل عن مصالح جميع الفئات الاجتماعية دون استثناء ما هي الا شكل من اشكال الايدولوجيا. او هي ايدولوجيا ما، وكل ايدولوجيا لها مشروع مستقبلي، ولا تعكس الواقع موضوعياً وتنظر السيرورة التاريخية والقوى الاجتماعية المحركة لها نظرة مثالية هي ايديولوجيا طوباوية او هي طوباوية.
ولكن ليس بالضرورة ان تكون كل ايديولوجيا تجسيداً لوعي طوباوي، فالايديولوجيا المتصالحة مع الواقع والتي تعكس مصالح فئات اجتماعية منهارة ولا ترى مستقبلاً افضل مما هو قائم هي ايديولوجيا لا تنطوي على طوباوية. كما ان الايديولوجيا التي تعبر عن ميل تاريخي لطبقات اجتماعية محددة صاعدة ولا ترى في العلم نقيضاً لها، ونقيضاً للقوى الاساسية المحركة للتاريخ والمحققة لأهدافها، هي ايديولوجيا غير طوباوية على الرغم من انها قد تحتفظ بشكل ضئيل بفكرة طوباوية ما.
وعلى الرغم من ان الطوباوية شكل من اشكال التفكير الاجتماعي يلعب غياب الاحساس بالواقع فيها دوراً حاسماً، غير انها غالباً ما تنطوي على نزعة تحررية وموقف غير متصالح مع الواقع لأنها في الاصل مشروع نحو مستقبل ارقى. وهي في الوقت نفسه مضرة في كثير من الاحيان. اي ان الطوباوية ايديولوجيا كاذبة لكنها على حق بالمعنى التاريخي العالمي. فالاشتراكية الطوباوية التي كانت كاذبة بالمعنى الاقتصادي كانت على حق تاريخياً لأنها كانت الظاهرة المعبرة والمبشرة بالطبقة التي ولدتها الرأسمالية، والتي نمت وغدت قوة جماهيرية قادرة على وضع حد لإضطهاد الرأسمالية وهي - اي الطوباوية - الى جانب ذلك، تسهم بهذا الشكل او ذاك في تزييف وعي المضطهدين اذ يعارضون بسذاجة الانظمة الاستغلالية بواسطة تصور مجتمع جديد خارج حدود المعرفة المعقولة والفهم الواقعي للعلاقات الاجتماعية.
ولقد ازدهرت الطوباوية في النصف الثاني من الالف الاول قبل الميلاد في بلاد اليونان والصين، حيث كان مستوى تطور الفكر الفلسفي متقدماً الى درجة كبيرة. ولم تخضع الفلسفة - في هذه البلدان - الى الدين بشكل قوي، كما هو حال مصر وفارس والهند. والطوباوية القديمة اما انها (مثلنت) المرحلة المشاعية كما هو الحال لدى لاوتزي او يامبول. او انها (عقلنت) المرحلة العبودية كما هو الامر عند افلاطون.
وما عقلنة المرحلة العبودية الا عودة الى تنظيم قديم في اطار مثلنة العلاقات القَبَلية الموروثة مع الاحتفاظ طبعاً بالعلاقات العبودية.
وهذا لا يفهم الا على اساس ان الطوباوية القديمة قد عكست الصراع الفكري الذي نشأ في سيرورة تحطيم المشاعية ونشوء العبودية اي نشوء المجتمع العبودي. بكلمة اخرى، ان الاحتجاج ضد الاضطهاد الطبقي عند البعض، او ان طموح البعض الآخر الى اطفاء نار الصراع الطبقي قد قاد الى (مثلنة) الماضي كمستقبل مأمول.
ومع ذلك فإن مستوى تطور الطوباوية، في ذلك العصر لم يكن واحداً، فطوباوية العصر (الهلنستي) في القرن الثالث قبل الميلاد تختلف عن المرحلة السابقة عليه، والمقارنة بين طوباوية افلاطون 347-427 ق.م. وطوباوية يامبول تقودنا الى القول بأنه قد جرى انتقال من طرح مشكلة تنظيم الحاجات الى طرح مشكلة تنظيم الانتاج.
لقد ارتبطت طوباوية العصر القديم ارتباطاً وثيقاً بالصراع السياسي والاجتماعي الذي ساد آنذاك واهم ما يميز طوباوية اليونان بما في ذلك طوباوية افلاطون، هو انها كانت مشروعاً ظن انه ممكن التحقق في الواقع.
اما في العصور الوسطى فإن قوة الايديولوجيا في اوروبا قد قادت الى انحطاط شديد للطوباوية. فلقد غدت دعاوى الكنيسة بديهيات سياسية، وتحولت النصوص المقدسة الى قوانين ثابتة ولم تكن هذه السيادة الروحية للدين المسيحي على مجمل النشاط الروحي في اوروبا القروسطية اكثر من نتيجة ضرورية للمكانة التي احتلتها الكنيسة في اطار سيادة العلاقات الاقطاعية. في هذه المرحلة يمكن العثور على بعض النزاعات الطوباوية في التراث وفي بعض المؤلفات الدينية.
اما في الحضارة العربية الاسلامية فإن الطوباوية قد شهدت ازدهاراً كبيراً، كجزء من ازدهار الحياة الروحية بشكل عام، ولقد قدم عدد كبير من الفلاسفة آراء وتصورات طوباوية مهمة حول المستقبل والسعادة على هذه الارض. وبخاصة آراء الفارابي وابن باجة وإبن طفيل، ويحتل الفارابي مكانة مهمة من بين الطوباويين المسلمين وذلك لأنه لم ينتج (طوبى المدينة) الفاضلة فحسب، بل ان طوباويته منتشرة في عدد كبير من مؤلفاته ولا سيما في كتابه السياسة و السياسات المدنية وتحصيل السعادة، ورسالة في التنبيه على سبيل السعادة. وان طوباوية الفارابي لهي تركيب بين آرائه الدينية وطموحه لإقامة دولة مركزية في صورة مجتمع فاضل ينسجم مع حاجات العصر الذي عاشه. كما ان اراده الطوباوية ومجتمعه الخيالي الذي رسمه في المدينة الفاضلة قد انطوت على نقذ شديد لعيوب عصره ولا سيما حين يتحدث عن المجتمعات الناقصة. وليست مدينة الفارابي الفاضلة مجرد محاكاة لجمهورية افلاطون كما يعتقد البعض، انها تجربة فذة واخصب بكثير من الجمهورية. وهي ثمرة تطور ثقافي - فلسفي ديني، كبير شهدته الحضارة العربية الاسلامية. والذي عاشه صاحب المدينة الفاضلة، التي تنزع نحو بناء مجتمع سعيد ينتظم كما تنتظم الموجودات وتقوم العلاقة بين اعضائه كما تقوم العلاقة بين مراتب الموجودات.
لقد شكلت الطوباوية في عصر النهضة وعصر التنوير الاوروبيين جزءاً مهماً من النزعة الانسانية التي ازدهرت في تلك المرحلة، وكان نشوء الشيوعية الطوباوية تعبيراً عن احلام الفئات البائسة في مرحلة صعود البرجوازية وخوضها النضال ضد الاقطاعية والهيمنة الكهنوتية.
لقد تصورت طوباوية تلك المرحلة وبخاصة طوباوية مور وكامبانيلا مجتمعاً خالياً من الملكية الخاصة، وانطوت على نقد شديد للعلاقات الاجتماعية السائدة آنذاك. وابرزت فكرة المساواة واهمية العمل وسيادة الجماعة، وذلك على (ان البشر قادرون على بناء مجتمع المساواة دون عون الهي). وكان اهم ما يميزها تحررها كلية من التصور العبودي او الاقطاعي للمجتمع، ليحل التصور البرجوازي او الشيوعي محله، وغدت جزءاً لا يتجزء من ايديولوجيا الثورات البرجوازية في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وكان انتشار الطوباوية واسعاً من خلال طوباوية عدد كبير من المفكرين فالى جانب طوباوية مور وكامبانيلا ظهرت طوباويات مونتزر وبيكون ووبنستيلا وفيراس ومليه وغيرهم.
ولقد اتسمت الطوباوية في الثلث الاخير من القرن الثامن عشر، اي من جان ميلييه حتى بابيوف بانفصال شديد عن الدين واخرويته واستخدام كبير لمنجزات الفلسفة الحديثة وبخاصة فلسفة بيكون وهوبز وديكارت واسبينوزا ولاينبتز ولوك. كما اكتسبت طوباوية الثلث الاخير من القرن الثامن عشر طبيعة سياسة واضحة. وانطوت على فهم محدد للصراع السياسي الدائر آنذاك وهذا لا ينسحب على طوباوية مورو مابلا فحسب، بل على طوباوية الثورة الفرنسية وبخاصة طوباوية بابيوف. وتطورت الطوباوية تطوراً مهماً في النصف الاول من القرن التاسع عشر، اي من سان سيمون الى فورييه واوين 1771-1858. ووقفت طوباوية هذه الفترة موقفاً نقدياً من الثورة الفرنسية. وارتبطت أكثر فأكثر بحركة الطبقة العاملة ونضالها واستخدمت الى جانب ايديولوجيا التنوير الفلسفة الكلاسيكية الالمانية وعلم الاقتصاد السياسي البرجوازي الكلاسيكي، هذا ما دفع بالفكر الطوباوي الى مستوى ارقى.
فلقد حاول سان سيمون اظهار قانونية التطور اللاحق للمجتمع وطمح فورييه الى تجاوز الصورة المثلى للمستقبل كما يراها مذهب الالوهية. وجهد كابيه 1856-1788 في سبيل ربط التقدم الاجتماعي بالتقدم العلمي - التقني بشكل اعمق مما قام به بيكون في عصره.
لكن هؤلاء الطوباويين لم يكتشفوا دور الطبقة العاملة التاريخي على الرغم من اهتمامهم بمصيرها، ونزعوا الى تحرير الانسانية بأسرها دفعة واحدة دون ان يقبضوا على القوة الحقيقية القادرة على تحويل المجتمع اشتراكياً.
ولقد تحولت الاشتراكية الطوباوية هذه - فيما بعد - الى منبع نظري مهم، استقى منه مؤسسو الاشتراكية العلمية - ماركس وانغلز - كثيراً من آرائهما في صياغة نظريتهما في الانتقال الى الاشتراكية وليس مصادفة ان اعتبر لينين الاشتراكية الطوباوية احد المصادر الاساسية في تكوين الماركسية.
ولقد ادت المشكلات التي تعانيها الرأسمالية المعاصرة الى ظهور ما يسمى بالنزعة ضد الطوباوية التي تنفي امكانية بناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة الاجتماعية، وتتحقق فيه الحرية والسعادة للبشر.
واذا ما توجهنا شطر عصر النهضة العربية فسنجدازدهاراً واسعاً لمختلف الاتجاهات الطوباوية، بدءاً من طوباوية الشمّيل وفرح انطون 1861-1922 وانتهاءً بطوباوية الكواكبي 1902 - 1849.
لقد كانت طوباوية الشميل مزيجاً من آراء بوخنر وداروين وسان سيمون واوغست كونت. وقد طرح في وقت الاشتراكية الاصلاحية كسبيل لبناء المجتمع الافضل ولكنه - في الوقت نفسه - دعا الى الحيلولة دون اختلال نظام المجتمع الذي يشبه الجسم الطبيعي واعلن ضرورة الالتفات والعناية بكل طائفة من الناس وتغليب الاصلاحات البطيئة وعدم جواز الثورات الاجتماعية.
كما آمن فرح انطون على غرار شبلي الشميل بالاشتراكية الاصلاحية كوسيلة نحو تحقيق الحرية والعدالة والمساواة والآخاء والازدهار والسعادة لجميع مواطني كل شعب من الشعوب كما دعا الى التقارب والتفاهم والتسامح والتضامن والسلم بين جميع شعوب العالم.
اما الكواكبي فلقد صاغ مشروعه السياسي الاجتماعي في دولة عربية اسلامية واحدة ولاسيما في كتابه (ام القرى). وحدد الاسس التي يجب ان تقوم عليها الخلافة والعلاقة بين الحكام والرعية، لكن مشروعه الطوباوي هذا افتقد الى الاسس الواقعية لتحقيقه لاسيما وانه مشروع سياسي عزله صاحبه من الفعل السياسي. وكما كان طموح النهوضيين العرب الى دولة عربية قومية واحدة، فإن هذا الطموح ذاته قد ظل هاجس معظم المفكرين العرب المعاصرين. وظلت النزعة الطوباوية غالبة على معظم مؤلفاتهم. فخف زكي الارسوزي مثلاً لتقديم تصور مثالي لجمهورية مثلى لاستجابة لحاجة الامة العربية الى دولة ما. طامحاً للتوفيق بين الحاجة الواقعية لدولة كهذه وبين المثل الاعلى الاخلاقي الذي يسم كل تفكير الارسوزي السياسي والفلسفي القائم على مفهوم التجربة الرحمانية.
والطوباوية العربية سواء كانت طوباوية الشميل والكواكبي او طوباوية الارسوزي لم تكن اكثر من خليط من الطموح العالي لمستقبل افضل ونقد عنيف للواقع المعاش ونزعة تضخم دور الفكر في تحقيق التقدم الاجتماعي واغفال لدور الجماهير في العمل السياسي وهذه الصفات من اهم صفات الطوباوية بشكل عام.
بتممنى تعجبكن المقالة و تستفيدو منها
سلام:D
افكار
هل اتجه العالم نحو الطوباوية من جديد؟...
نديمة عيتاني
طوباوية، نسبة الى طوبي.. وطوبي كلمة اصلها يوناني U-Topos وتعني حرفياً المكان الذي لا وجود له. وكان توماس مور 1535-1478، أول من استخدم هذه الكلمة.
والطوبي مفهوم يشير الى تصور مجتمع متعذر التحقيق او مستقبل متناقض مع واقع راهن. ثم اطلق على كل فكر يتجه نحو رؤية مستقبل ما، او تصور مجتمع جديد وغير مؤسس على فهم علمي لقوانين تطور المجتمع والتاريخ، صفة الطوباوية.. ولهذا غدت الطوباوية مرادفة لأي مشروع اجتماعي او علمي او تقني غير قابل للتنفيذ..
واستناداً الى ذلك فإن مصطلح الطوباوية لا يتطابق مع مفهوم الطوبي. الطّوبي مفهوم متعدد المضامين أكثر من مفهوم الطوباوية كنزعة في التفكير. فالطوباوية تدل على كل ما هو غير واقعي وغير قابل للتحقق الى ما هو خيالي ووهمي. وفي الطّوبي تبرز العلاقة بين العاطفي والعقلي وبين الاجتماعي والنفسي وبين الذاتي والموضوعي. في الطوبي يبرز العامل العاطفي أكثر من العقلي ويتقدم عالم الاماني على المعرفة الواقعية.
والطوبي تقوم (بمثلنة) مرحلة اجتماعية محدودة كالمشاعية او الاقطاعية. فطوبى يامبول مثلاً، كانت في وقتها مثلنة المرحلة المشاعية. ومثلنت طوبى افلاطون المرحلة العبودية، اما طوبى مور وكامبانيلا 1568-1639 فقد مثلنت الاشتراكية. ولتصنيف كهذا دلالة تاريخية - عينية، اي انه تصنيف لا ينطوي على معنى الا في اطار عصر تاريخي محدد.
ليس صحيحاً ان نصنف الطوباويات استناداً الى صورها فحسب، اي نحصر الطوبى في مؤلفات على غرار الجمهوريات المثلى، او المدن الفاضلة او على غرار مؤلفات سان سيمون 1760-1825 وفورييه 1772-1837 فالتاريخ يعرف كثيراً من المؤلفات التي تنطوي على الطوبى دون ان تشكل طوباويات.
فقد نجد العناصر التي تؤلف الطوبى في الادب التخيلي بدءاً من الحكايات الشعبية وانتهاءً بقصص الخيال العلمي.
وهذا ما يجعل من استخدام مصطلح الطوباوية ان نحلل، وبشكل اعمق، لا لآراء وافكار مؤلفي الطوباويات فحسب، بل وافكار مختلف الكتاب والمؤلفين الذين يصعب اعتبارهم مبدعي الطوباويات ولكن مؤلفاتهم تنطوي بهذا الشكل او ذاك على عناصر طوباوية.
واستناداً الى ما سبق: فإن تاريخ الفكر الطوباوي او تاريخ النزعة الطوباوية، ليست جملة الطوباويات وقد جمعت في نظام معين، بل هو تاريخ وتطور الطوباوية المتحددة بالشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتغيرها. اي ان الفكر الطوباوي بشكل عام يعكس في النهاية الوجود العيني التاريخي للصراع الطبقي.
ولا شك ان هناك صفات مشتركة بين الطوباوية والدين ولا سيما فيما يتعلق بتصور المستقبل، ومع ذلك فإن التصور الطوباوي للمستقبل يختلف عن التصور الديني في نقطة مهمة وهي ان التصور الطوباوي للمستقبل مرتبط بإرادة البشر في نهاية الامر، على خلاف التصور الديني الذي يربط المستقبل بقوى فوق طبيعية.
ويمكن تحديد اهم سمات الطوباوية بما يلي:
اولاً: ان الطوباوية شكل من اشكال المعرفة الفردية او الاجتماعية التي توجد وعياً جديداً عن طريق تركيب ذهني متحقق في تصورات او نماذج من تصورات اجتماعية حول المستقبل. وأهم سمة من سمات المعرفة الطوباوية هي (المطلقية) - جعل الشيء مطلقاً - المشروطة بميوعة الحدود القائمة بين الوعي واللاوعي، بين العقلي والعاطفي والمرتبطة بمستوى ضعيف من تفكير لا يأخذ بعين الاعتبار الاختلاف.
ثانياً: تظهر الطوباوية في صورة مؤلفات وابداعات كالطوباويات مثلاً، وبالتالي فالمؤلفات الطوباوية - ومنها الطوباويات - هي نموذج ذهني تركيبي لنظام اجتماعي ينظر اليه صاحبه بوصفه حقيقة مطلقة وكلي لا سيما وانه نموذج يطمح نحو تحقيق المثالي، او الكامل، اي تحقيق وضع اجتماعي او وجود انساني خالٍ من التناقض والصراع.
ثالثاً: ان الطوباوية نمط من التفكير لا يميز بين الاساسي والثانوي، ولا يقيم الاختلاف بين الواقعي والتخيلي، بين الذاتي والموضوعي، وكل شيء يتحول فيها الى اساسي بدءاً من وقائع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية مروراً بالاعراف والتقاليد وانتهاءً بفن العمارة.. ألخ.
رابعاً: في الطوباوية لا وجود للتاريخ لا وجود للعلاقات القائمة في الزمان بين الظواهر التاريخية، ولا وجود للتواصل التاريخي، بل هناك انفصال ولاسيما على صعيد الحياة الروحية والاخلاقية. ولهذا فالطوباوي ينفي ارتباط آرائه وطوباه. بالتطور الروحي الماضي للإنسانية.
ان التصورات الطوباوية لا تنتقل ببساطة من طوباوي الى آخر. بل هناك جذر اجتماعي محدد لنشوء وتطور الطوباوية. وبالتالي يجب الاهتمام بالمصادر الشعبية وبالتراث وما ينطوي عليه من احتجاج ضد غياب العدالة والمساواة الاجتماعية وبالاحلام بمستقبل سعيد كمنبع اساسي للطوباويات والفكر الطوباوي بشكل عام. ولم تصلنا حتى الآن جميع انماط الطوباويات وبخاصة القديمة والقروسطية منها، وما وصل منها انما يدل على المستوى الذي ارتقى اليه التفكير الطوباوي، ولهذا يشكل الادب الشعبي لكل عصر من العصور لحظة مهمة في سبيل تحليل اعمق لتطور هذا الفكر الطوباوي او ذاك.
ثم ان مستوى تطور الطوباوية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى تطور المجتمع اقتصادياً وثقافياً وتجب الاشارة بشكل خاص الى ان نشأة وتطور الطوباوية يتطلب حداً ادنى من تطور الفلسفة والتصورات الدينية حول المستقبل. حيث تتطور الطوباوية اما بتطورها او في عملية صراع معها وبخاصة مع التصورات الدينية.
ان اي فكرة لا تغدو فكرة طوباوية الا في نسق معين من الافكار التي تسمو على الواقع ولا تأخذ بعين الاعتبار الشروط التاريخية والاجتماعية الموضوعية. ولهذا فإن الاشتراكية كفكرة او العدالة كفكرة ليست بحد ذاتها طوباوية او غير طوباوية.
ان الاشتراكية كفكرة طوباوية تتحدد في عاملها الطبقي وشرطها الاجتماعي. وبالتالي ليس تحول الاشتراكية من فكرة طوباوية الى واقع معاش هو ثمرة منطق تطور الفكر الاشتراكي كتطور مستقل عن الواقع. بل ان درجات التناقضات الاجتماعية التي وصلت الى حد غدا فيها الصراع الطبقي واضح المعالم قد دفع بطبقة اجتماعية محددة واعية باضطهادها الطبقي وعاملة على تجاوزه الى ان تحول الاشتراكية الى جزء من وعيها التاريخي نحو التحرر الاجتماعي في شروط غدت قادرة على انجاز مستقبلها في مجتمع خلوٍ من الطبقات. ومن هنا تكتسب الاشتراكية صفة العلمية ايضاً. ولهذا يمكن القول ان اهم الشروط الاجتماعية لانتشار العقلية الطوباوية هي عدم وصول التناقضات الطبقية الى درجة كبيرة من الوضوح وغياب الوعي الطبقي الصحيح كثمرة لعدم الوضوح هذا. ومن هنا تبرز العلاقة بين الطوباوية والايديولوجيا. فالطوباوية بوصفها وعياً غير حقيقي عن العالم وغير متطابق مع الواقع ويسمو عليه، وبتعبيرها الغامض عن مصالح فئات وطبقات اجتماعية محددة تاريخياً مهما تخفت ببرقع التعبير الشامل عن مصالح جميع الفئات الاجتماعية دون استثناء ما هي الا شكل من اشكال الايدولوجيا. او هي ايدولوجيا ما، وكل ايدولوجيا لها مشروع مستقبلي، ولا تعكس الواقع موضوعياً وتنظر السيرورة التاريخية والقوى الاجتماعية المحركة لها نظرة مثالية هي ايديولوجيا طوباوية او هي طوباوية.
ولكن ليس بالضرورة ان تكون كل ايديولوجيا تجسيداً لوعي طوباوي، فالايديولوجيا المتصالحة مع الواقع والتي تعكس مصالح فئات اجتماعية منهارة ولا ترى مستقبلاً افضل مما هو قائم هي ايديولوجيا لا تنطوي على طوباوية. كما ان الايديولوجيا التي تعبر عن ميل تاريخي لطبقات اجتماعية محددة صاعدة ولا ترى في العلم نقيضاً لها، ونقيضاً للقوى الاساسية المحركة للتاريخ والمحققة لأهدافها، هي ايديولوجيا غير طوباوية على الرغم من انها قد تحتفظ بشكل ضئيل بفكرة طوباوية ما.
وعلى الرغم من ان الطوباوية شكل من اشكال التفكير الاجتماعي يلعب غياب الاحساس بالواقع فيها دوراً حاسماً، غير انها غالباً ما تنطوي على نزعة تحررية وموقف غير متصالح مع الواقع لأنها في الاصل مشروع نحو مستقبل ارقى. وهي في الوقت نفسه مضرة في كثير من الاحيان. اي ان الطوباوية ايديولوجيا كاذبة لكنها على حق بالمعنى التاريخي العالمي. فالاشتراكية الطوباوية التي كانت كاذبة بالمعنى الاقتصادي كانت على حق تاريخياً لأنها كانت الظاهرة المعبرة والمبشرة بالطبقة التي ولدتها الرأسمالية، والتي نمت وغدت قوة جماهيرية قادرة على وضع حد لإضطهاد الرأسمالية وهي - اي الطوباوية - الى جانب ذلك، تسهم بهذا الشكل او ذاك في تزييف وعي المضطهدين اذ يعارضون بسذاجة الانظمة الاستغلالية بواسطة تصور مجتمع جديد خارج حدود المعرفة المعقولة والفهم الواقعي للعلاقات الاجتماعية.
ولقد ازدهرت الطوباوية في النصف الثاني من الالف الاول قبل الميلاد في بلاد اليونان والصين، حيث كان مستوى تطور الفكر الفلسفي متقدماً الى درجة كبيرة. ولم تخضع الفلسفة - في هذه البلدان - الى الدين بشكل قوي، كما هو حال مصر وفارس والهند. والطوباوية القديمة اما انها (مثلنت) المرحلة المشاعية كما هو الحال لدى لاوتزي او يامبول. او انها (عقلنت) المرحلة العبودية كما هو الامر عند افلاطون.
وما عقلنة المرحلة العبودية الا عودة الى تنظيم قديم في اطار مثلنة العلاقات القَبَلية الموروثة مع الاحتفاظ طبعاً بالعلاقات العبودية.
وهذا لا يفهم الا على اساس ان الطوباوية القديمة قد عكست الصراع الفكري الذي نشأ في سيرورة تحطيم المشاعية ونشوء العبودية اي نشوء المجتمع العبودي. بكلمة اخرى، ان الاحتجاج ضد الاضطهاد الطبقي عند البعض، او ان طموح البعض الآخر الى اطفاء نار الصراع الطبقي قد قاد الى (مثلنة) الماضي كمستقبل مأمول.
ومع ذلك فإن مستوى تطور الطوباوية، في ذلك العصر لم يكن واحداً، فطوباوية العصر (الهلنستي) في القرن الثالث قبل الميلاد تختلف عن المرحلة السابقة عليه، والمقارنة بين طوباوية افلاطون 347-427 ق.م. وطوباوية يامبول تقودنا الى القول بأنه قد جرى انتقال من طرح مشكلة تنظيم الحاجات الى طرح مشكلة تنظيم الانتاج.
لقد ارتبطت طوباوية العصر القديم ارتباطاً وثيقاً بالصراع السياسي والاجتماعي الذي ساد آنذاك واهم ما يميز طوباوية اليونان بما في ذلك طوباوية افلاطون، هو انها كانت مشروعاً ظن انه ممكن التحقق في الواقع.
اما في العصور الوسطى فإن قوة الايديولوجيا في اوروبا قد قادت الى انحطاط شديد للطوباوية. فلقد غدت دعاوى الكنيسة بديهيات سياسية، وتحولت النصوص المقدسة الى قوانين ثابتة ولم تكن هذه السيادة الروحية للدين المسيحي على مجمل النشاط الروحي في اوروبا القروسطية اكثر من نتيجة ضرورية للمكانة التي احتلتها الكنيسة في اطار سيادة العلاقات الاقطاعية. في هذه المرحلة يمكن العثور على بعض النزاعات الطوباوية في التراث وفي بعض المؤلفات الدينية.
اما في الحضارة العربية الاسلامية فإن الطوباوية قد شهدت ازدهاراً كبيراً، كجزء من ازدهار الحياة الروحية بشكل عام، ولقد قدم عدد كبير من الفلاسفة آراء وتصورات طوباوية مهمة حول المستقبل والسعادة على هذه الارض. وبخاصة آراء الفارابي وابن باجة وإبن طفيل، ويحتل الفارابي مكانة مهمة من بين الطوباويين المسلمين وذلك لأنه لم ينتج (طوبى المدينة) الفاضلة فحسب، بل ان طوباويته منتشرة في عدد كبير من مؤلفاته ولا سيما في كتابه السياسة و السياسات المدنية وتحصيل السعادة، ورسالة في التنبيه على سبيل السعادة. وان طوباوية الفارابي لهي تركيب بين آرائه الدينية وطموحه لإقامة دولة مركزية في صورة مجتمع فاضل ينسجم مع حاجات العصر الذي عاشه. كما ان اراده الطوباوية ومجتمعه الخيالي الذي رسمه في المدينة الفاضلة قد انطوت على نقذ شديد لعيوب عصره ولا سيما حين يتحدث عن المجتمعات الناقصة. وليست مدينة الفارابي الفاضلة مجرد محاكاة لجمهورية افلاطون كما يعتقد البعض، انها تجربة فذة واخصب بكثير من الجمهورية. وهي ثمرة تطور ثقافي - فلسفي ديني، كبير شهدته الحضارة العربية الاسلامية. والذي عاشه صاحب المدينة الفاضلة، التي تنزع نحو بناء مجتمع سعيد ينتظم كما تنتظم الموجودات وتقوم العلاقة بين اعضائه كما تقوم العلاقة بين مراتب الموجودات.
لقد شكلت الطوباوية في عصر النهضة وعصر التنوير الاوروبيين جزءاً مهماً من النزعة الانسانية التي ازدهرت في تلك المرحلة، وكان نشوء الشيوعية الطوباوية تعبيراً عن احلام الفئات البائسة في مرحلة صعود البرجوازية وخوضها النضال ضد الاقطاعية والهيمنة الكهنوتية.
لقد تصورت طوباوية تلك المرحلة وبخاصة طوباوية مور وكامبانيلا مجتمعاً خالياً من الملكية الخاصة، وانطوت على نقد شديد للعلاقات الاجتماعية السائدة آنذاك. وابرزت فكرة المساواة واهمية العمل وسيادة الجماعة، وذلك على (ان البشر قادرون على بناء مجتمع المساواة دون عون الهي). وكان اهم ما يميزها تحررها كلية من التصور العبودي او الاقطاعي للمجتمع، ليحل التصور البرجوازي او الشيوعي محله، وغدت جزءاً لا يتجزء من ايديولوجيا الثورات البرجوازية في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وكان انتشار الطوباوية واسعاً من خلال طوباوية عدد كبير من المفكرين فالى جانب طوباوية مور وكامبانيلا ظهرت طوباويات مونتزر وبيكون ووبنستيلا وفيراس ومليه وغيرهم.
ولقد اتسمت الطوباوية في الثلث الاخير من القرن الثامن عشر، اي من جان ميلييه حتى بابيوف بانفصال شديد عن الدين واخرويته واستخدام كبير لمنجزات الفلسفة الحديثة وبخاصة فلسفة بيكون وهوبز وديكارت واسبينوزا ولاينبتز ولوك. كما اكتسبت طوباوية الثلث الاخير من القرن الثامن عشر طبيعة سياسة واضحة. وانطوت على فهم محدد للصراع السياسي الدائر آنذاك وهذا لا ينسحب على طوباوية مورو مابلا فحسب، بل على طوباوية الثورة الفرنسية وبخاصة طوباوية بابيوف. وتطورت الطوباوية تطوراً مهماً في النصف الاول من القرن التاسع عشر، اي من سان سيمون الى فورييه واوين 1771-1858. ووقفت طوباوية هذه الفترة موقفاً نقدياً من الثورة الفرنسية. وارتبطت أكثر فأكثر بحركة الطبقة العاملة ونضالها واستخدمت الى جانب ايديولوجيا التنوير الفلسفة الكلاسيكية الالمانية وعلم الاقتصاد السياسي البرجوازي الكلاسيكي، هذا ما دفع بالفكر الطوباوي الى مستوى ارقى.
فلقد حاول سان سيمون اظهار قانونية التطور اللاحق للمجتمع وطمح فورييه الى تجاوز الصورة المثلى للمستقبل كما يراها مذهب الالوهية. وجهد كابيه 1856-1788 في سبيل ربط التقدم الاجتماعي بالتقدم العلمي - التقني بشكل اعمق مما قام به بيكون في عصره.
لكن هؤلاء الطوباويين لم يكتشفوا دور الطبقة العاملة التاريخي على الرغم من اهتمامهم بمصيرها، ونزعوا الى تحرير الانسانية بأسرها دفعة واحدة دون ان يقبضوا على القوة الحقيقية القادرة على تحويل المجتمع اشتراكياً.
ولقد تحولت الاشتراكية الطوباوية هذه - فيما بعد - الى منبع نظري مهم، استقى منه مؤسسو الاشتراكية العلمية - ماركس وانغلز - كثيراً من آرائهما في صياغة نظريتهما في الانتقال الى الاشتراكية وليس مصادفة ان اعتبر لينين الاشتراكية الطوباوية احد المصادر الاساسية في تكوين الماركسية.
ولقد ادت المشكلات التي تعانيها الرأسمالية المعاصرة الى ظهور ما يسمى بالنزعة ضد الطوباوية التي تنفي امكانية بناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة الاجتماعية، وتتحقق فيه الحرية والسعادة للبشر.
واذا ما توجهنا شطر عصر النهضة العربية فسنجدازدهاراً واسعاً لمختلف الاتجاهات الطوباوية، بدءاً من طوباوية الشمّيل وفرح انطون 1861-1922 وانتهاءً بطوباوية الكواكبي 1902 - 1849.
لقد كانت طوباوية الشميل مزيجاً من آراء بوخنر وداروين وسان سيمون واوغست كونت. وقد طرح في وقت الاشتراكية الاصلاحية كسبيل لبناء المجتمع الافضل ولكنه - في الوقت نفسه - دعا الى الحيلولة دون اختلال نظام المجتمع الذي يشبه الجسم الطبيعي واعلن ضرورة الالتفات والعناية بكل طائفة من الناس وتغليب الاصلاحات البطيئة وعدم جواز الثورات الاجتماعية.
كما آمن فرح انطون على غرار شبلي الشميل بالاشتراكية الاصلاحية كوسيلة نحو تحقيق الحرية والعدالة والمساواة والآخاء والازدهار والسعادة لجميع مواطني كل شعب من الشعوب كما دعا الى التقارب والتفاهم والتسامح والتضامن والسلم بين جميع شعوب العالم.
اما الكواكبي فلقد صاغ مشروعه السياسي الاجتماعي في دولة عربية اسلامية واحدة ولاسيما في كتابه (ام القرى). وحدد الاسس التي يجب ان تقوم عليها الخلافة والعلاقة بين الحكام والرعية، لكن مشروعه الطوباوي هذا افتقد الى الاسس الواقعية لتحقيقه لاسيما وانه مشروع سياسي عزله صاحبه من الفعل السياسي. وكما كان طموح النهوضيين العرب الى دولة عربية قومية واحدة، فإن هذا الطموح ذاته قد ظل هاجس معظم المفكرين العرب المعاصرين. وظلت النزعة الطوباوية غالبة على معظم مؤلفاتهم. فخف زكي الارسوزي مثلاً لتقديم تصور مثالي لجمهورية مثلى لاستجابة لحاجة الامة العربية الى دولة ما. طامحاً للتوفيق بين الحاجة الواقعية لدولة كهذه وبين المثل الاعلى الاخلاقي الذي يسم كل تفكير الارسوزي السياسي والفلسفي القائم على مفهوم التجربة الرحمانية.
والطوباوية العربية سواء كانت طوباوية الشميل والكواكبي او طوباوية الارسوزي لم تكن اكثر من خليط من الطموح العالي لمستقبل افضل ونقد عنيف للواقع المعاش ونزعة تضخم دور الفكر في تحقيق التقدم الاجتماعي واغفال لدور الجماهير في العمل السياسي وهذه الصفات من اهم صفات الطوباوية بشكل عام.
بتممنى تعجبكن المقالة و تستفيدو منها
سلام:D