ayhamm26
28/08/2009, 16:37
في مدوّنة مصرية على الإنترنت، تتصدّرها عبارة 'لا جمال ولا الإخوانô عايزين عمر سليمان'، تقول الإفتتاحية إنّ 'مشروع التوريث يُعدّ له على قدم وساق، وفى سبيله توحش جهاز أمن الدولة (الراعي الرسمي لمشروع التوريث) وبات يقضى على أي أمل وأي فرصة لتغيير البلد'. لكنّ كاتب النصّ يسارع إلى قطع الشكّ باليقين، حين يعتبر المعارضة المصرية جزءاً لا يتجزأ من انسداد الأمل: 'أصبح مجيء الإصلاح والتغيير على يد المعارضة المصرية مستحيلاً ودرباً من دروب الخيال، إذن نحن أمام معارضة تعيش حالة من العجز التام، ناهيك عن المصالح الشخصية والأمراض النفسية من حبّ للنفس والظهور واحتكار النضال واتهامات بالعمالة وما إلى آخره من الأسباب التى تجعل منها معارضة عاجزة حتى عن التفكير. وبالتالى علينا أن لا نعقد آمالاً كثيرة على معارضة بهذا السوء'.
أما البديل، إذا لم يكن نجل الرئيس، ولا الإخوان، ولا المعارضة المصرية عن بكرة أبيها؟ إنه اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة، و'الشخص الوحيد القوي والقادر على حفظ الأمن والإستقرار وقيادة البلاد فى هذه الفترة العصيبة... الشخص الذى لديه من المؤهلات والخبرات التي لم تتوافر حتى في الرؤساء السابقين عندما أتوا للحكم... الشخص الذى بحكم سنّه يصلح للفترة الإنتقالية وبحكم سنه لن يحكم لمدد كثيرة، كما يريد جمال مبارك، الشخص الذي لن يجرؤ اعلام جمال مبارك على التشكيك فيه واتهامه بالعمالة وعدم الوطنية... ولن يستطيع جهاز أمن الدولة الفاشي النيل منه وتحطيمه واغتياله معنوياً وتلفيق التهم له... الشخص الذي نعقد عليه آمالاً كثيرة لقيادة البلاد لفترة (انتقالية) ودفعها إلى الأمام وقيادة مشروع الحرية والديمقراطية وبناء نظام سياسي حقيقي قائم على التعددية الحزبية...'.
والمدوّنة تقتبس عبارات في تقريظ شخص سليمان، كما تعيد نشر مقالات عربية وأجنبية تتحدّث عن حظوظ الرجل في سيناريوهات وراثة الرئيس المصري حسني مبارك (81 سنة، منها 28 في ستّ ولايات رئاسية)، وتسرد شائعات هنا وهناك، تصبّ جميعها في تضخيم مكانة سليمان وتقزيم موقع جمال مبارك. وبمعزل عن السؤال الطبيعي حول الجهة التي تقف خلف المدوّنة ـ التي يمكن أن تكون بالون اختبار لجهاز سليمان السياسي الشخصي، او لأجهزة أمنية أخرى، أو لأطراف في المؤسسة العسكرية التي احتكرت منصب الرئاسة منذ ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 ـ فإنّ توقيت تنشيطها قد يكون الأهمّ على صعيد المغزى، وضمن المعطيات التي تراكمت وما تزال تتراكم حول ملفّ التوريث في مصر.
الأحدث في هذه السياقات كان حديث مبارك مع الإعلامي الأمريكي شارلي روز، حيث اعتمد الرئيس المصري لغة مراوغة في الردّ على أسئلة كبرى، مثل احتمال تنحّيه قبل انتهاء الولاية الراهنة، أو حلّ مجلس الشعب، وبالتالي تقديم موعد الإنتخابات التشريعية، وتسريع خطوات تهيئة نجله للمنصب. لم يؤكد أيّ تفصيل في هذه المسائل كلها، ولكنه لم ينفِ أيّ تفصيل أيضاً: هل سيرث جمال، يسأل روز؛ إذهب واسأله بنفسك، يجيب مبارك؛ هل تريد لابنك أن يصبح رئيساً بعدك؟ لم يكن هذا في ذهني، ولكنّ الرئاسة مفتوحة لأبناء الشعب بأسره؛ وهل ستحلّ مجلس الشعب؟ يجيب الرئيس: البلد مليئة بالشائعات؛ هل ستجدّد لولاية سابعة؟ هدفي هو تحقيق البرنامج الذي أعلنته في حملتي الإنتخابية، وليس أن أجدّد أو لا أجدّد!
وفي العودة إلى التاريخ القريب، كانت بارقة أمل، في هذا الليل العربي البهيم، تلك المظاهرة التي شهدها ميدان الجامعة في القاهرة يوم 21 شباط (فبراير) 2005، حين رُفعت شعارات صريحة جسورة تعارض ولاية خامسة لمبارك، كانت آنذاك محض احتمال، كما تناهض مبدأ التوريث لنجله وخليفته الأرجح جمال مبارك. وبمعزل عن مغزاها الخاصّ البليغ في السياق الداخلي المصري، واندراجها في سلسلة مظاهر احتجاج لا تقلّ شجاعة جرت في مناسبات سابقة، اكتسبت تلك التظاهرة مغزى بالغ الخصوصية في سياقات عربية، ولعلّها لا تنفصل عن ـ لأنها ببساطة لا يمكن إلا أن ترتدّ إلى ـ سابقة التوريث السورية... الأشهر حتى تاريخه!
وقد يظنّ قارئ أنني، بوصفي مواطناً سورياً كان بلده أوّل مَن اكتوى بنيران التوريث في ربوع الجمهوريات العربية، أبالغ قليلاً حين أذهب بعيداً في التطيّر شرّاً من التوريث والمورِّثين والوَرَثة: من محمد زين العابدين بن علي، أصغرهم سنّاً، إلى بشار الأسد، وجمال مبارك، وأحمد علي عبد الله صالح، وسيف الإسلام القذّافي. ولكني أراهن أنني سوف أجد إلى جانبي مئة قارىء يشاطرونني حسّ التطيّر، لأنّ السيناريو يبدأ هكذا، من الإفتراض شبه المستحيل، إلى لعبة النفي (ذات يوم قال بشار الأسد، مثل شقيقه الراحل باسل الأسد، إنه لا مجال للتوريث في... 'سورية الأسد'!)، إلى تأكيد الإمتثال لـ 'إرادة الشعب' حين يشاء الشعب تحميل الفتى مسؤوليات أبيه، وصولاً في نهاية المطاف إلى تثبيت الحقّ الشخصي لكلّ وأيّ مواطن، في تولّي كلّ وأيّ موقع عامّ!
وفي أواخر آذار (مارس) 2001، أي بعد أقلّ من سنة على توريث بشار الأسد، كانت الصحافية الأمريكية لالي ويموث، من أسبوعية 'نيوزويك'، قد أجرت حواراً مطوّلاً مع حسني مبارك أثناء زيارته للولايات المتحدة. وكان طبيعياً أن تطرح عليه السؤال الذي يدور في أذهان المصريين، آنذاك كما اليوم أيضاً: 'الجميع يتحدثون عن ابنك جمال كخليفة محتمل لك'. وكان جواب مبارك قاطعاً وحادّاً غير دبلوماسي في آن معاً: 'نحن لسنا سورية. ابني لن يكون الرئيس القادم. الرجاء أن تنسوا هذا الموضوع'. وبالطبع أثارت هذه الإجابة دهشة المراقبين لأسباب عديدة، أوّلها أنّ جميع الدلائل كانت وتظلّ تشير إلى أنّ جمال مبارك يصعد السلّم السياسي بقوّة، ويتمّ إعداده لمنصب سياسي رفيع لا يمكن أن يكون أقلّ من رئاسة الجمهورية.
وإذا كان مبارك الأب قد سارع إلى القول إنّ مصر ليست سورية، فلأنّ مظاهر صعود مبارك الإبن تذكّر كثيراً بما جرى في سورية من عمليات إعداد سياسي وأمني لبشار الأسد خلال السنوات القليلة التي سبقت وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد. ويتذكّر المراقبون أنّ الرئيس السوري الراحل لم يصرّح في أيّ يوم بأنّ إبنه سوف يكون خليفة له، بل حاول مراراً إعطاء الإنطباع بالعكس، الأمر الذي يعني أنّ نفي مبارك احتمال خلافة جمال مبارك لا يمكن أخذه على محمل التصديق إلا عند المغفّلين، رغم نبرة النفي القاطعة.
لهذا، ولأنّ الصحافية الأمريكية ليست في عداد المغفلين أولئك، فقد تابعت إلحاحها وسألت: 'ولكنّ الناس يتساءلون عمّن سيكون خليفتك المحتمل'. أجاب مبارك: 'سوف نحاول العثور على نائب للرئيس. الأمر صعب. وأنا أستعرض بعض الأسماء'. وهذه الإجابة أثارت دهشة المراقبين بدورها، لأنّه لو كان مبارك يبحث حقاً عن نائب رئيس قوي ومتمرّس ويحظى بشعبية في الشارع المصري، فإنّ أفضل المرشحين كان آنذاك وزير الخارجية المصري عمرو موسى. لكنّ مبارك اختار موسى لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، الأمر الذي كان يعني إخراجه بصفة شبه نهائية من الساحة السياسية المصرية، ويجعل مسألة اختيار نائب قويّ 'صعبة' حقاً كما قال مبارك، إذا لم تكن مستحيلة! وآنذاك كانت تتوفّر شريحة خاصة من ثقاة التحليل السياسي الأقرب إلى الرجم بالغيب، رأت أنّ جميع الأسماء التي تتداولها الشائعات لمنصب نائب الرئيس لا ترقى إلى مستوى عمرو موسى، ولا تبدو وكأنها تلبّي صورة المرشّح الذي يحمل خصائص رئاسية، سواء على الصعيد المصري الداخلي أو على الصعيد الخارجي العربي والدولي. هنالك من تحدّث عن شخصية عسكرية، عملاً بتقليد مصري عريق بدأ منذ جمال عبد الناصر وتواصل مع أنور السادات وحسني مبارك، فأتى على ذكر المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع السابق، والمشير عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع الأسبق، بالإضافة إلى عدد من كبار ضباط الأمن الداخلي. المدهش أنّ اسم عمر سليمان لم يكن مطروحاً البتة، آنذاك، رغم أنّ تقنيات الرجم بالغيب ذاتها كانت تفترض حضوره، وبقوّة ربما.
فريق آخر من المراقبين تحدّث عن ضرورة إسناد المنصب إلى شخصية مدنية، وذلك عملاً بروح العصر والإتجاه الدولي العامّ إلى إبقاء العسكريين في الثكنات، بهدف طمأنة المستثمرين إلى أنّ مستقبل مصر مدنيّ وليس عسكرياً، وإلى أنّ السلام مع الدولة العبرية نهائي ومستقرّ ولا حاجة إلى ترئيس عسكري. المشكلة، هنا أيضاً، كانت أنّ الأسماء المدنية المطروحة ليست نادرة فحسب، بل تكاد تكون معدومة تماماً، وأفضلها رئيس مجلس الشعب آنذاك فتحي سرور، الذي لم يكن يحظى بأيّة شعبية في مصر، ولا يعرفه أحد خارج مصر.
الإحتمال الثالث كان توفيقياً وهو تعيين نائبين اثنين للرئيس، واحد عسكري والآخر مدني. والمشكلة في هذا الخيار كانت أنّ أحد النائبين سوف يكون أقوى من الثاني بالضرورة، الأمر الذي سيجعل وجود النائب الضعيف مجرّد إجراء تجميلي وشكلي، إذا وضعنا جانباً احتمالات اندلاع صراع خفيّ بين العسكر والمدنيين. إلى هذا وذاك، أيّ وفاق سينجزه هذا التوفيق: ضحك (مكشوف تماماً) على لحى المصريين في الداخل، أم مخادعة (مفضوحة) للولايات المتحدة والغرب والمستثمرين في الخارج؟
في غمرة تلك المماحكات الإحتمالية، التي انقلبت إلى رياضة فاسدة مفسدة أشبه باللغو والنفخ في قربة مثقوبة، كان الوريث المحتمل يواصل صعوده وفق منهجية ارتقاء شاملة، تمزج السياسي بالإقتصادي، والثقافي بالإستثماري، والدستوري بالعسكري، والداخلي بالخارجي. وإذا كان من فارق بارز أوّل بين سيرورات توريث بشار الأسد وتوريث جمال مبارك، فهو أنّ سيرورات الأخير تجري في عصر الإنترنت، وسقوط الكثير من أواليات الرقابة، وانهيار الحواجز بين البيان السياسي والشارع العريض.
ولست أرغب البتة في أن أغمط حقوق الشارع المصري الذي تظاهر ضدّ التوريث (الأمر الذي لم تفعله النخبة السورية، ولا الشارع السوري في الواقع، إلا جزئياً وعلى نطاق محدود، بعد فوات الأوان)؛ ولكني أودّ التأكيد على أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه عشرات المواقع الإلكترونية المصرية المناهضة للولاية الخامسة وللتوريث. في المثال السوري ـ وأقصد سنوات تدريب وتصعيد وتأهيل بشار الأسد، منذ سنة 1994 تاريخ وفاة شقيقه والخليفة المرشّح آنذاك باسل الأسد، وحتى عام 2000 تاريخ وفاة أبيه حافظ الأسد ـ لم يكن انفجار المعلوماتية على هذا القدر من اليسر والاتساع والفاعلية. ولهذا لم يتوفّر آنذاك أيّ موقع إلكتروني يجاهر بمناهضة التوريث (للإنصاف التاريخي فقط، كانت هذه الصحيفة، 'القدس العربي'، بين المنابر النادرة التي فتحت صفحاتها لآراء الديمقراطيين السوريين المناهضين للتوريث).
ذلك لأنّ الراسخ في جميع هذه السياقات التوريثية هو افتراق مصالح الورثة حول هوية حامل السكين، وليس حول كيفية اقتسام كعكة مصر؛ ففي برامج الفساد والنهب والتسلّط والإستبداد، كلّهم خير خلف لهذا السلف إياه!
صبحي حديدي
أما البديل، إذا لم يكن نجل الرئيس، ولا الإخوان، ولا المعارضة المصرية عن بكرة أبيها؟ إنه اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة، و'الشخص الوحيد القوي والقادر على حفظ الأمن والإستقرار وقيادة البلاد فى هذه الفترة العصيبة... الشخص الذى لديه من المؤهلات والخبرات التي لم تتوافر حتى في الرؤساء السابقين عندما أتوا للحكم... الشخص الذى بحكم سنّه يصلح للفترة الإنتقالية وبحكم سنه لن يحكم لمدد كثيرة، كما يريد جمال مبارك، الشخص الذي لن يجرؤ اعلام جمال مبارك على التشكيك فيه واتهامه بالعمالة وعدم الوطنية... ولن يستطيع جهاز أمن الدولة الفاشي النيل منه وتحطيمه واغتياله معنوياً وتلفيق التهم له... الشخص الذي نعقد عليه آمالاً كثيرة لقيادة البلاد لفترة (انتقالية) ودفعها إلى الأمام وقيادة مشروع الحرية والديمقراطية وبناء نظام سياسي حقيقي قائم على التعددية الحزبية...'.
والمدوّنة تقتبس عبارات في تقريظ شخص سليمان، كما تعيد نشر مقالات عربية وأجنبية تتحدّث عن حظوظ الرجل في سيناريوهات وراثة الرئيس المصري حسني مبارك (81 سنة، منها 28 في ستّ ولايات رئاسية)، وتسرد شائعات هنا وهناك، تصبّ جميعها في تضخيم مكانة سليمان وتقزيم موقع جمال مبارك. وبمعزل عن السؤال الطبيعي حول الجهة التي تقف خلف المدوّنة ـ التي يمكن أن تكون بالون اختبار لجهاز سليمان السياسي الشخصي، او لأجهزة أمنية أخرى، أو لأطراف في المؤسسة العسكرية التي احتكرت منصب الرئاسة منذ ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 ـ فإنّ توقيت تنشيطها قد يكون الأهمّ على صعيد المغزى، وضمن المعطيات التي تراكمت وما تزال تتراكم حول ملفّ التوريث في مصر.
الأحدث في هذه السياقات كان حديث مبارك مع الإعلامي الأمريكي شارلي روز، حيث اعتمد الرئيس المصري لغة مراوغة في الردّ على أسئلة كبرى، مثل احتمال تنحّيه قبل انتهاء الولاية الراهنة، أو حلّ مجلس الشعب، وبالتالي تقديم موعد الإنتخابات التشريعية، وتسريع خطوات تهيئة نجله للمنصب. لم يؤكد أيّ تفصيل في هذه المسائل كلها، ولكنه لم ينفِ أيّ تفصيل أيضاً: هل سيرث جمال، يسأل روز؛ إذهب واسأله بنفسك، يجيب مبارك؛ هل تريد لابنك أن يصبح رئيساً بعدك؟ لم يكن هذا في ذهني، ولكنّ الرئاسة مفتوحة لأبناء الشعب بأسره؛ وهل ستحلّ مجلس الشعب؟ يجيب الرئيس: البلد مليئة بالشائعات؛ هل ستجدّد لولاية سابعة؟ هدفي هو تحقيق البرنامج الذي أعلنته في حملتي الإنتخابية، وليس أن أجدّد أو لا أجدّد!
وفي العودة إلى التاريخ القريب، كانت بارقة أمل، في هذا الليل العربي البهيم، تلك المظاهرة التي شهدها ميدان الجامعة في القاهرة يوم 21 شباط (فبراير) 2005، حين رُفعت شعارات صريحة جسورة تعارض ولاية خامسة لمبارك، كانت آنذاك محض احتمال، كما تناهض مبدأ التوريث لنجله وخليفته الأرجح جمال مبارك. وبمعزل عن مغزاها الخاصّ البليغ في السياق الداخلي المصري، واندراجها في سلسلة مظاهر احتجاج لا تقلّ شجاعة جرت في مناسبات سابقة، اكتسبت تلك التظاهرة مغزى بالغ الخصوصية في سياقات عربية، ولعلّها لا تنفصل عن ـ لأنها ببساطة لا يمكن إلا أن ترتدّ إلى ـ سابقة التوريث السورية... الأشهر حتى تاريخه!
وقد يظنّ قارئ أنني، بوصفي مواطناً سورياً كان بلده أوّل مَن اكتوى بنيران التوريث في ربوع الجمهوريات العربية، أبالغ قليلاً حين أذهب بعيداً في التطيّر شرّاً من التوريث والمورِّثين والوَرَثة: من محمد زين العابدين بن علي، أصغرهم سنّاً، إلى بشار الأسد، وجمال مبارك، وأحمد علي عبد الله صالح، وسيف الإسلام القذّافي. ولكني أراهن أنني سوف أجد إلى جانبي مئة قارىء يشاطرونني حسّ التطيّر، لأنّ السيناريو يبدأ هكذا، من الإفتراض شبه المستحيل، إلى لعبة النفي (ذات يوم قال بشار الأسد، مثل شقيقه الراحل باسل الأسد، إنه لا مجال للتوريث في... 'سورية الأسد'!)، إلى تأكيد الإمتثال لـ 'إرادة الشعب' حين يشاء الشعب تحميل الفتى مسؤوليات أبيه، وصولاً في نهاية المطاف إلى تثبيت الحقّ الشخصي لكلّ وأيّ مواطن، في تولّي كلّ وأيّ موقع عامّ!
وفي أواخر آذار (مارس) 2001، أي بعد أقلّ من سنة على توريث بشار الأسد، كانت الصحافية الأمريكية لالي ويموث، من أسبوعية 'نيوزويك'، قد أجرت حواراً مطوّلاً مع حسني مبارك أثناء زيارته للولايات المتحدة. وكان طبيعياً أن تطرح عليه السؤال الذي يدور في أذهان المصريين، آنذاك كما اليوم أيضاً: 'الجميع يتحدثون عن ابنك جمال كخليفة محتمل لك'. وكان جواب مبارك قاطعاً وحادّاً غير دبلوماسي في آن معاً: 'نحن لسنا سورية. ابني لن يكون الرئيس القادم. الرجاء أن تنسوا هذا الموضوع'. وبالطبع أثارت هذه الإجابة دهشة المراقبين لأسباب عديدة، أوّلها أنّ جميع الدلائل كانت وتظلّ تشير إلى أنّ جمال مبارك يصعد السلّم السياسي بقوّة، ويتمّ إعداده لمنصب سياسي رفيع لا يمكن أن يكون أقلّ من رئاسة الجمهورية.
وإذا كان مبارك الأب قد سارع إلى القول إنّ مصر ليست سورية، فلأنّ مظاهر صعود مبارك الإبن تذكّر كثيراً بما جرى في سورية من عمليات إعداد سياسي وأمني لبشار الأسد خلال السنوات القليلة التي سبقت وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد. ويتذكّر المراقبون أنّ الرئيس السوري الراحل لم يصرّح في أيّ يوم بأنّ إبنه سوف يكون خليفة له، بل حاول مراراً إعطاء الإنطباع بالعكس، الأمر الذي يعني أنّ نفي مبارك احتمال خلافة جمال مبارك لا يمكن أخذه على محمل التصديق إلا عند المغفّلين، رغم نبرة النفي القاطعة.
لهذا، ولأنّ الصحافية الأمريكية ليست في عداد المغفلين أولئك، فقد تابعت إلحاحها وسألت: 'ولكنّ الناس يتساءلون عمّن سيكون خليفتك المحتمل'. أجاب مبارك: 'سوف نحاول العثور على نائب للرئيس. الأمر صعب. وأنا أستعرض بعض الأسماء'. وهذه الإجابة أثارت دهشة المراقبين بدورها، لأنّه لو كان مبارك يبحث حقاً عن نائب رئيس قوي ومتمرّس ويحظى بشعبية في الشارع المصري، فإنّ أفضل المرشحين كان آنذاك وزير الخارجية المصري عمرو موسى. لكنّ مبارك اختار موسى لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، الأمر الذي كان يعني إخراجه بصفة شبه نهائية من الساحة السياسية المصرية، ويجعل مسألة اختيار نائب قويّ 'صعبة' حقاً كما قال مبارك، إذا لم تكن مستحيلة! وآنذاك كانت تتوفّر شريحة خاصة من ثقاة التحليل السياسي الأقرب إلى الرجم بالغيب، رأت أنّ جميع الأسماء التي تتداولها الشائعات لمنصب نائب الرئيس لا ترقى إلى مستوى عمرو موسى، ولا تبدو وكأنها تلبّي صورة المرشّح الذي يحمل خصائص رئاسية، سواء على الصعيد المصري الداخلي أو على الصعيد الخارجي العربي والدولي. هنالك من تحدّث عن شخصية عسكرية، عملاً بتقليد مصري عريق بدأ منذ جمال عبد الناصر وتواصل مع أنور السادات وحسني مبارك، فأتى على ذكر المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع السابق، والمشير عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع الأسبق، بالإضافة إلى عدد من كبار ضباط الأمن الداخلي. المدهش أنّ اسم عمر سليمان لم يكن مطروحاً البتة، آنذاك، رغم أنّ تقنيات الرجم بالغيب ذاتها كانت تفترض حضوره، وبقوّة ربما.
فريق آخر من المراقبين تحدّث عن ضرورة إسناد المنصب إلى شخصية مدنية، وذلك عملاً بروح العصر والإتجاه الدولي العامّ إلى إبقاء العسكريين في الثكنات، بهدف طمأنة المستثمرين إلى أنّ مستقبل مصر مدنيّ وليس عسكرياً، وإلى أنّ السلام مع الدولة العبرية نهائي ومستقرّ ولا حاجة إلى ترئيس عسكري. المشكلة، هنا أيضاً، كانت أنّ الأسماء المدنية المطروحة ليست نادرة فحسب، بل تكاد تكون معدومة تماماً، وأفضلها رئيس مجلس الشعب آنذاك فتحي سرور، الذي لم يكن يحظى بأيّة شعبية في مصر، ولا يعرفه أحد خارج مصر.
الإحتمال الثالث كان توفيقياً وهو تعيين نائبين اثنين للرئيس، واحد عسكري والآخر مدني. والمشكلة في هذا الخيار كانت أنّ أحد النائبين سوف يكون أقوى من الثاني بالضرورة، الأمر الذي سيجعل وجود النائب الضعيف مجرّد إجراء تجميلي وشكلي، إذا وضعنا جانباً احتمالات اندلاع صراع خفيّ بين العسكر والمدنيين. إلى هذا وذاك، أيّ وفاق سينجزه هذا التوفيق: ضحك (مكشوف تماماً) على لحى المصريين في الداخل، أم مخادعة (مفضوحة) للولايات المتحدة والغرب والمستثمرين في الخارج؟
في غمرة تلك المماحكات الإحتمالية، التي انقلبت إلى رياضة فاسدة مفسدة أشبه باللغو والنفخ في قربة مثقوبة، كان الوريث المحتمل يواصل صعوده وفق منهجية ارتقاء شاملة، تمزج السياسي بالإقتصادي، والثقافي بالإستثماري، والدستوري بالعسكري، والداخلي بالخارجي. وإذا كان من فارق بارز أوّل بين سيرورات توريث بشار الأسد وتوريث جمال مبارك، فهو أنّ سيرورات الأخير تجري في عصر الإنترنت، وسقوط الكثير من أواليات الرقابة، وانهيار الحواجز بين البيان السياسي والشارع العريض.
ولست أرغب البتة في أن أغمط حقوق الشارع المصري الذي تظاهر ضدّ التوريث (الأمر الذي لم تفعله النخبة السورية، ولا الشارع السوري في الواقع، إلا جزئياً وعلى نطاق محدود، بعد فوات الأوان)؛ ولكني أودّ التأكيد على أهمية الدور الحيوي الذي تلعبه عشرات المواقع الإلكترونية المصرية المناهضة للولاية الخامسة وللتوريث. في المثال السوري ـ وأقصد سنوات تدريب وتصعيد وتأهيل بشار الأسد، منذ سنة 1994 تاريخ وفاة شقيقه والخليفة المرشّح آنذاك باسل الأسد، وحتى عام 2000 تاريخ وفاة أبيه حافظ الأسد ـ لم يكن انفجار المعلوماتية على هذا القدر من اليسر والاتساع والفاعلية. ولهذا لم يتوفّر آنذاك أيّ موقع إلكتروني يجاهر بمناهضة التوريث (للإنصاف التاريخي فقط، كانت هذه الصحيفة، 'القدس العربي'، بين المنابر النادرة التي فتحت صفحاتها لآراء الديمقراطيين السوريين المناهضين للتوريث).
ذلك لأنّ الراسخ في جميع هذه السياقات التوريثية هو افتراق مصالح الورثة حول هوية حامل السكين، وليس حول كيفية اقتسام كعكة مصر؛ ففي برامج الفساد والنهب والتسلّط والإستبداد، كلّهم خير خلف لهذا السلف إياه!
صبحي حديدي