Nasserm
27/09/2009, 12:21
مقالة قديمة لـ ابراهيم الجبين.. حبيت حطها هون مو بسبب النقد السياسي اللي فيها.. وإنما بسبب بعض المعلومات التاريخية المهمة
(رح إقسمها على جزئين.. لإنو السيرفر قال "أوووووووووف.. ليش النص كذا مذا"
---------------------------
البحث عن بني أمية في سوريا الأسد
إبراهيم الجبين
الحوار المتمدن - 2005 / 8 / 23
(ظمئتُ ومثلي بريٍ أحقّ كأني حسينٌ ودهري يزيدُ)
عدنا للحديث عن سوريا التي تخص أحد ما، ربما لم يكن عبثاً دأبهم على نسبة البلاد بأسرها إلى مرحلة أو شخص ما، لأن التاريخ يستنطقهم وهم يجرّدون الجميع من تلك التهمة. إذاً هذه هي سوريا الأسد! منذ بيان سقوط القنيطرة في الخامس من حزيران للعام 1967 وحتى اللحظة، والسوريون يراقبون تلك التجربة الفذة في إنتاج سوريا جديدة غير مألوفة وبديعة وعبقرية وفريدة من نوعها بين كل دول العالم.
ولكن ما هي سوريا الأسد؟! وكيف نميزها عن سوريا التي بلا "لاحقة"؟
المهمة ليست سهلة ولكنها أيضاً ليست بتلك الصعوبة التي يتوقعها المراقبون، أن تعثر على ميزات فائقة في جمهورية تسير بقدرة القادر وحده، ودون أن يكون هناك بنى قاعدية تحمل ذلك الهيكل المتصدع، جمهورية لا يمكن تفسير وجودها إلا بأنها ضرورة أو حد أدنى أو حتى عربة بعجلتين من خشب قديم.
لماذا هي على هذا النحو؟!
لأنهم تمكنوا من اختراعها وابتداعها هكذا، وهي خاصة بهم، ولن يقدر أحد غيرهم على خلقها بهذه الصورة. حين تزور دمشق أو تعيش فيها لابد لك من التجول فوق الحجر المرصوف في المدينة القديمة، وكذلك عليك أن تشم رائحة توابل "البزورية" في الضلع الجنوبي لها، وأن تجلس على رصيف خلف جامع بني أمية ريثما ينتهي من معك من تسوقهم في السوق المسقوفة الشهيرة "الحميدية". وعندما ستذهب شرقاً وصعوداً نحو "حمام البكري" و"القشلة" فإنك ستعبر الأحياء المسيحية هناك وربما وصلت إلى "حنانيا" و"طالع الفضة" و"الحراث" وحارات اليهود ولكنك إذا قررت النزول نحو الشمال فإنك ستصبح في "الجورة" حيث الحي الشيعي المعروف.
خارج ذلك كله ستكون الأسوار وباب توما وباب شرقي وباب السلام وباب كيسان ومن ثم المدينة الأحدث ومن ثم النمو السرطاني حول القلب الأموي للشام وصولاً إلى الأطراف البعيدة "المخيم" و"برزة" و"ركن الدين" و"دويلعة" و"الطبالة" و"جرمانا"..
يمكنك أن تشاهد كل شيء ولكنك.. لن تعثر على أي أثر لبني أمية! ستسأل نفسك وأنت تسير.. ولكن أين ذهب بنو أمية؟! وأين هي بيوتهم وقصورهم أو حتى قبورهم وبقاياهم؟! ألم تكن هذه عاصمة الأمويين؟! ولم يمض من الزمن ما يكفي لمحوهم هكذا..
حسناً ولكن أين ذهبوا؟!
لن يعني لي الكثير اختفاء آثار خطى هنا وهناك لمن عبروا بوابات دمشق. ولكن الأمر أبعد من ذلك قليلاً وربما كثيراً، فقد تخلصت منذ سنوات قليلة من عادة قديمة استولت علي لفترات طويلة، حيث كانت أكثر هواياتي غرابة هي زيارة المقابر، وتصوير شواهد القبور وتدوين الملاحظات وقراءة الحروف التي يمحوها الزمن من على الرخام الأبيض الذي يعلو مساكن الراحلين، فزرت قبورالأولياء ومقامات الأربعين في الجبل وحيث يرقد ابن عربي ومقبرة اليهود على ضفة طريق المطار ومقبرة زين العابدين في قاسيون ومقبرة الدحداح حيث ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وكذلك مرقد القديس بولس وغيرها..
وعلى مقربة من باب الصغيرـأصغر أبواب السورـ المكان الذي نزل منه يزيد بن أبي سفيان عند فتح دمشق.. ورممه نور الدين الشهيد وأقام عليه مئذنة.. تقع مقبرة باب الصغير حيث يمكن العثور على قبر مهيب للرئيس الراحل شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية، وإلى جانبه قبر مربيته يستقران بسكون مريع خلف سور حديدي واطئ ، على بعد خمسين متراً من جبانة القوتلي سيكتب نزار قباني شعراً حديثاً على شاهدة قبر ولده الشاب، وإلى اليسار ستعلو قباب أضرحة آل البيت والإمام جعفر الصادق، ويميناً ستقرأ لوحة كتب عليها مرقد أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب ومعها الفواطم. ستتعثر ـولم نقل ستعثرـ هناك بقطعة حجرية ملقاة جانباً..قطعة من الحجر الأبيض الكلسي نقش عليها الكلمات التالية (قبر هشام بن عبد الملك)!!
ولكنني سآخذك إلى مكان آخربجوار جامع بني أمية حيث أقيمت "مراحيض" للعموم .. فوق قبر معاوية بن أبي سفيان (توفي 680 م) الذي نقل بعد احتجاجات خافتة إلى مقبرة باب الصغير حيث تم تصفيحه بسور حديدي مرتفع ـأكثر من ثلاثة أمتارـ وأغلقت نوافذه بالطوب والإسمنت بعد أن كتب على أعلاه (قبر معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية) ويمكنك أن تلاحظ أنه مرشوق بالحبر فوق الكلمات السابقة وأن النفايات تلطخ جدرانه وسوره وكل ما حوله على إثر زيارات الحجاج الإيرانيين وسواهم! لماذا كل ذلك؟!ليس من اهتماماتي الغيرة على رموز ثقافية وتاريخية دون غيرها، ولا يتعلق الأمر بتفريط ما تمارسه الحكومة السورية وقيادة البعث منذ الثورة إياها، ولكنه فعل مقصود ومتعمد لطمس تلك الثقافة التي أشاعها باحثون عن الملك وفنون الحكم فور الانتهاء من المشروع الإسلامي الذي اعتبروه حالماً وقتها في السنة 40 للهجرة.
المشروع الأموي الذي اعتمد الاستبداد مبدأ تعامل دائم مع المختلفين كان يمكن أن يكون نموذجاً يحتذي به المشروع البعثي القائد الذي صنع ما يسمى الآن بـ (سوريا الأسد). ولكن كيف يختلف مشروع بني أمية عن مشروع البعث؟! لا بد أن هناك ما يجعل من فن الحكم الأموي ظاهرة انتشرت وتم استدعاؤها واستحضارها كل مرة حين يضطر الأمر لسحق الخصوم وجز أعناقهم وتعتيق جذورالسيطرة..
كان يمكن أن يمر الوقت دون أن ننتبه إلى أن الأمويين لم يكونوا فقط جلادين وطغاة، وأيضاً لا يستقيم أن نختصر أفضل ما لديهم في شخص الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي رفع لعن آل البيت وأشاع العدل بين الرعية، هناك المزيد بالتأكيد، فهؤلاء لم يكتفوا بالامتداد والغزو واحتلال العالم من أجل خراجه ولكنهم ومنذ اختار أولهم (المؤسس) معاوية بن أبي سفيان تلك المدينة لتكون عاصمة ملكه..اختاروا أن يعكسوا ما فهموه من أخلاقيات المدينة ذاتها بدأًً بنبذهم للحالة التي قدموا منها أصلاً وهي حالة التنازع والتناحر في سروات الحجاز وصعيد مكة ومروراً برغبتهم الشديدة في تطوير تلك البداءة المدنية التي مثلتها مكة كنموذج أكبر من قرية وأصغرمن مدينة في جزيرة العرب.
ما الذي وجده معاوية في دمشق كي يبدأ منها وفيها مشروعه الكبير الذي أكمله عبد الملك فيما بعد؟! استطاع معاوية أن يدرك ما يمكن أن تقدّمه دمشق لمشروعه الذي يسعى وبجدية وقتها لنقل العرب الذين ابتعدوا عن بداوتهم من خلال سكناهم واستقرارهم في مكة والحجاز إلى حال أكثر تحضراً من وجهة نظره، حال ستجعل منهم بعد قليل قادة الحراك المعرفي والعسكري والمعماري والاجتماعي العالمي.وكان يمكن أن يفشل لو أنه اختار مكاناً آخر، ولكنه عرف أن دمشق التي أتاها وهي نطاقات متجاورة بدقة لعدد كبير من الأعراق والانتماءات الإيمانية تعيش مع بعضها البعض دون أن يكون هناك أية فرص لأن تتفجر شرارات النزاع فيما بينها. والشكل الذي وجد عليه دمشق حينها كان عاملاً يضاف إلى أسبابه لاختيارها كنقطة استناد سيبني عليها ملك بني عبد شمس.
لماذا ليست مكة ؟
ولماذا عندما استعاد من جاء بعده سيطرتهم عليها لم يتم اختيارها لتكون الحاضرة؟ لقد كان من الصعب على مكة بعد أن ظهرت فيها النبوة أن تتخلى عن صبغتها الدينية وكذلك كانت مدينة الرسول يثرب التي أصبح اسمها المدينة المنورة. إذاً لابد من مكان لا انتماء له ولا صبغة كي يبرر الأمويون فيه كل ما فعلوه وهم يتخلصون رويداً رويداً من جاهليتهم ـبأبعادهاـ أولاً ثم من تدينهم ثانياً، ويتفرغوا للتمتع بالسلطة من جهة وللتمتع بشعور آخر هو ما يميزهم حقيقة وهو شعورهم بانتمائهم للمكان.. لدمشق.. وللبلاد التي تنضوي تحت راياتهم البيضاء. وكان لدى العرب تصور عن دمشق قبل ذلك نجده في توصية عمر بن الخطاب لأبي عبيدة بن الجراح بـ (السير إلى دمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم) وقد استولوا عليها في الخامس من أيلول سنة 635 م.
على كل حال فإن هذا التنكيل ليس جديداً على العقول التي تأتي إلى هذه المدينة لتثأر أكثر من قدومها إليها لتتدرب على أخلاقياتها، فقد فعل محمد بن سليمان النوفلي شيئاً كهذا من قبل حين انهارت مملكة بني أمية.
وكان "أولما دخل دمشق دخلها بالسيف ثلاث ساعات من النهار، وجعل مسجد جامعها سبعين يوما إسطبلاً لدوابه وجماله، ثم نبش قبور بني أمية، فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطاً أسود مثل الهباء، ونبش قبر عبد الملك بن مروان، فوجد جمجمة، وكان يوجد في القبر العضو بعد العضو، غير هشام بن عبد الملك، فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت، وصلبه أياما، ثم أحرقه بالنار، ودق رماده، ثم ذراه في الريح، وذلك أن هشاما كان قد ضرب أخاه محمد بن علي -حين كان قد اتهمه بقتل ولد له صغير- سبعمائة سوط، ثم نفاه إلى الحميمة بالبلقاء.
ثم تتبع عبد الله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين نفسا عند نهر بالرملة، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم سماطا، فأكل وهم يختلجون تحته،وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك، وهي عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاسرة، فمازالوا يزنون بها، ثم قتلوها".
إنه انتقام من نوع آخر غيرالثأر لشقيق أو بسط للسلطة أو إرهاب لخصم منهزم، ولكن كل ذلك كان يحصل انتقاماً من المدينة.. انتقام بلا وعي ولا ضابط.
(يتبع)
(رح إقسمها على جزئين.. لإنو السيرفر قال "أوووووووووف.. ليش النص كذا مذا"
---------------------------
البحث عن بني أمية في سوريا الأسد
إبراهيم الجبين
الحوار المتمدن - 2005 / 8 / 23
(ظمئتُ ومثلي بريٍ أحقّ كأني حسينٌ ودهري يزيدُ)
عدنا للحديث عن سوريا التي تخص أحد ما، ربما لم يكن عبثاً دأبهم على نسبة البلاد بأسرها إلى مرحلة أو شخص ما، لأن التاريخ يستنطقهم وهم يجرّدون الجميع من تلك التهمة. إذاً هذه هي سوريا الأسد! منذ بيان سقوط القنيطرة في الخامس من حزيران للعام 1967 وحتى اللحظة، والسوريون يراقبون تلك التجربة الفذة في إنتاج سوريا جديدة غير مألوفة وبديعة وعبقرية وفريدة من نوعها بين كل دول العالم.
ولكن ما هي سوريا الأسد؟! وكيف نميزها عن سوريا التي بلا "لاحقة"؟
المهمة ليست سهلة ولكنها أيضاً ليست بتلك الصعوبة التي يتوقعها المراقبون، أن تعثر على ميزات فائقة في جمهورية تسير بقدرة القادر وحده، ودون أن يكون هناك بنى قاعدية تحمل ذلك الهيكل المتصدع، جمهورية لا يمكن تفسير وجودها إلا بأنها ضرورة أو حد أدنى أو حتى عربة بعجلتين من خشب قديم.
لماذا هي على هذا النحو؟!
لأنهم تمكنوا من اختراعها وابتداعها هكذا، وهي خاصة بهم، ولن يقدر أحد غيرهم على خلقها بهذه الصورة. حين تزور دمشق أو تعيش فيها لابد لك من التجول فوق الحجر المرصوف في المدينة القديمة، وكذلك عليك أن تشم رائحة توابل "البزورية" في الضلع الجنوبي لها، وأن تجلس على رصيف خلف جامع بني أمية ريثما ينتهي من معك من تسوقهم في السوق المسقوفة الشهيرة "الحميدية". وعندما ستذهب شرقاً وصعوداً نحو "حمام البكري" و"القشلة" فإنك ستعبر الأحياء المسيحية هناك وربما وصلت إلى "حنانيا" و"طالع الفضة" و"الحراث" وحارات اليهود ولكنك إذا قررت النزول نحو الشمال فإنك ستصبح في "الجورة" حيث الحي الشيعي المعروف.
خارج ذلك كله ستكون الأسوار وباب توما وباب شرقي وباب السلام وباب كيسان ومن ثم المدينة الأحدث ومن ثم النمو السرطاني حول القلب الأموي للشام وصولاً إلى الأطراف البعيدة "المخيم" و"برزة" و"ركن الدين" و"دويلعة" و"الطبالة" و"جرمانا"..
يمكنك أن تشاهد كل شيء ولكنك.. لن تعثر على أي أثر لبني أمية! ستسأل نفسك وأنت تسير.. ولكن أين ذهب بنو أمية؟! وأين هي بيوتهم وقصورهم أو حتى قبورهم وبقاياهم؟! ألم تكن هذه عاصمة الأمويين؟! ولم يمض من الزمن ما يكفي لمحوهم هكذا..
حسناً ولكن أين ذهبوا؟!
لن يعني لي الكثير اختفاء آثار خطى هنا وهناك لمن عبروا بوابات دمشق. ولكن الأمر أبعد من ذلك قليلاً وربما كثيراً، فقد تخلصت منذ سنوات قليلة من عادة قديمة استولت علي لفترات طويلة، حيث كانت أكثر هواياتي غرابة هي زيارة المقابر، وتصوير شواهد القبور وتدوين الملاحظات وقراءة الحروف التي يمحوها الزمن من على الرخام الأبيض الذي يعلو مساكن الراحلين، فزرت قبورالأولياء ومقامات الأربعين في الجبل وحيث يرقد ابن عربي ومقبرة اليهود على ضفة طريق المطار ومقبرة زين العابدين في قاسيون ومقبرة الدحداح حيث ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وكذلك مرقد القديس بولس وغيرها..
وعلى مقربة من باب الصغيرـأصغر أبواب السورـ المكان الذي نزل منه يزيد بن أبي سفيان عند فتح دمشق.. ورممه نور الدين الشهيد وأقام عليه مئذنة.. تقع مقبرة باب الصغير حيث يمكن العثور على قبر مهيب للرئيس الراحل شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية، وإلى جانبه قبر مربيته يستقران بسكون مريع خلف سور حديدي واطئ ، على بعد خمسين متراً من جبانة القوتلي سيكتب نزار قباني شعراً حديثاً على شاهدة قبر ولده الشاب، وإلى اليسار ستعلو قباب أضرحة آل البيت والإمام جعفر الصادق، ويميناً ستقرأ لوحة كتب عليها مرقد أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب ومعها الفواطم. ستتعثر ـولم نقل ستعثرـ هناك بقطعة حجرية ملقاة جانباً..قطعة من الحجر الأبيض الكلسي نقش عليها الكلمات التالية (قبر هشام بن عبد الملك)!!
ولكنني سآخذك إلى مكان آخربجوار جامع بني أمية حيث أقيمت "مراحيض" للعموم .. فوق قبر معاوية بن أبي سفيان (توفي 680 م) الذي نقل بعد احتجاجات خافتة إلى مقبرة باب الصغير حيث تم تصفيحه بسور حديدي مرتفع ـأكثر من ثلاثة أمتارـ وأغلقت نوافذه بالطوب والإسمنت بعد أن كتب على أعلاه (قبر معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية) ويمكنك أن تلاحظ أنه مرشوق بالحبر فوق الكلمات السابقة وأن النفايات تلطخ جدرانه وسوره وكل ما حوله على إثر زيارات الحجاج الإيرانيين وسواهم! لماذا كل ذلك؟!ليس من اهتماماتي الغيرة على رموز ثقافية وتاريخية دون غيرها، ولا يتعلق الأمر بتفريط ما تمارسه الحكومة السورية وقيادة البعث منذ الثورة إياها، ولكنه فعل مقصود ومتعمد لطمس تلك الثقافة التي أشاعها باحثون عن الملك وفنون الحكم فور الانتهاء من المشروع الإسلامي الذي اعتبروه حالماً وقتها في السنة 40 للهجرة.
المشروع الأموي الذي اعتمد الاستبداد مبدأ تعامل دائم مع المختلفين كان يمكن أن يكون نموذجاً يحتذي به المشروع البعثي القائد الذي صنع ما يسمى الآن بـ (سوريا الأسد). ولكن كيف يختلف مشروع بني أمية عن مشروع البعث؟! لا بد أن هناك ما يجعل من فن الحكم الأموي ظاهرة انتشرت وتم استدعاؤها واستحضارها كل مرة حين يضطر الأمر لسحق الخصوم وجز أعناقهم وتعتيق جذورالسيطرة..
كان يمكن أن يمر الوقت دون أن ننتبه إلى أن الأمويين لم يكونوا فقط جلادين وطغاة، وأيضاً لا يستقيم أن نختصر أفضل ما لديهم في شخص الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي رفع لعن آل البيت وأشاع العدل بين الرعية، هناك المزيد بالتأكيد، فهؤلاء لم يكتفوا بالامتداد والغزو واحتلال العالم من أجل خراجه ولكنهم ومنذ اختار أولهم (المؤسس) معاوية بن أبي سفيان تلك المدينة لتكون عاصمة ملكه..اختاروا أن يعكسوا ما فهموه من أخلاقيات المدينة ذاتها بدأًً بنبذهم للحالة التي قدموا منها أصلاً وهي حالة التنازع والتناحر في سروات الحجاز وصعيد مكة ومروراً برغبتهم الشديدة في تطوير تلك البداءة المدنية التي مثلتها مكة كنموذج أكبر من قرية وأصغرمن مدينة في جزيرة العرب.
ما الذي وجده معاوية في دمشق كي يبدأ منها وفيها مشروعه الكبير الذي أكمله عبد الملك فيما بعد؟! استطاع معاوية أن يدرك ما يمكن أن تقدّمه دمشق لمشروعه الذي يسعى وبجدية وقتها لنقل العرب الذين ابتعدوا عن بداوتهم من خلال سكناهم واستقرارهم في مكة والحجاز إلى حال أكثر تحضراً من وجهة نظره، حال ستجعل منهم بعد قليل قادة الحراك المعرفي والعسكري والمعماري والاجتماعي العالمي.وكان يمكن أن يفشل لو أنه اختار مكاناً آخر، ولكنه عرف أن دمشق التي أتاها وهي نطاقات متجاورة بدقة لعدد كبير من الأعراق والانتماءات الإيمانية تعيش مع بعضها البعض دون أن يكون هناك أية فرص لأن تتفجر شرارات النزاع فيما بينها. والشكل الذي وجد عليه دمشق حينها كان عاملاً يضاف إلى أسبابه لاختيارها كنقطة استناد سيبني عليها ملك بني عبد شمس.
لماذا ليست مكة ؟
ولماذا عندما استعاد من جاء بعده سيطرتهم عليها لم يتم اختيارها لتكون الحاضرة؟ لقد كان من الصعب على مكة بعد أن ظهرت فيها النبوة أن تتخلى عن صبغتها الدينية وكذلك كانت مدينة الرسول يثرب التي أصبح اسمها المدينة المنورة. إذاً لابد من مكان لا انتماء له ولا صبغة كي يبرر الأمويون فيه كل ما فعلوه وهم يتخلصون رويداً رويداً من جاهليتهم ـبأبعادهاـ أولاً ثم من تدينهم ثانياً، ويتفرغوا للتمتع بالسلطة من جهة وللتمتع بشعور آخر هو ما يميزهم حقيقة وهو شعورهم بانتمائهم للمكان.. لدمشق.. وللبلاد التي تنضوي تحت راياتهم البيضاء. وكان لدى العرب تصور عن دمشق قبل ذلك نجده في توصية عمر بن الخطاب لأبي عبيدة بن الجراح بـ (السير إلى دمشق فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم) وقد استولوا عليها في الخامس من أيلول سنة 635 م.
على كل حال فإن هذا التنكيل ليس جديداً على العقول التي تأتي إلى هذه المدينة لتثأر أكثر من قدومها إليها لتتدرب على أخلاقياتها، فقد فعل محمد بن سليمان النوفلي شيئاً كهذا من قبل حين انهارت مملكة بني أمية.
وكان "أولما دخل دمشق دخلها بالسيف ثلاث ساعات من النهار، وجعل مسجد جامعها سبعين يوما إسطبلاً لدوابه وجماله، ثم نبش قبور بني أمية، فلم يجد في قبر معاوية إلا خيطاً أسود مثل الهباء، ونبش قبر عبد الملك بن مروان، فوجد جمجمة، وكان يوجد في القبر العضو بعد العضو، غير هشام بن عبد الملك، فإنه وجده صحيحا لم يبل منه غير أرنبة أنفه، فضربه بالسياط وهو ميت، وصلبه أياما، ثم أحرقه بالنار، ودق رماده، ثم ذراه في الريح، وذلك أن هشاما كان قد ضرب أخاه محمد بن علي -حين كان قد اتهمه بقتل ولد له صغير- سبعمائة سوط، ثم نفاه إلى الحميمة بالبلقاء.
ثم تتبع عبد الله بن علي بني أمية من أولاد الخلفاء وغيرهم، فقتل منهم في يوم واحد اثنين وتسعين نفسا عند نهر بالرملة، وبسط عليهم الأنطاع، ومد عليهم سماطا، فأكل وهم يختلجون تحته،وأرسل امرأة هشام بن عبد الملك، وهي عبدة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية صاحبة الخال، مع نفر من الخراسانية إلى البرية ماشية حافية حاسرة، فمازالوا يزنون بها، ثم قتلوها".
إنه انتقام من نوع آخر غيرالثأر لشقيق أو بسط للسلطة أو إرهاب لخصم منهزم، ولكن كل ذلك كان يحصل انتقاماً من المدينة.. انتقام بلا وعي ولا ضابط.
(يتبع)