قرصان الأدرياتيك
16/10/2009, 16:42
كنتُ في زيارة معرض الكتاب الذي أُقيم في المركز الثّقافيّ في بلدتنا المغبرَّة، خرجتُ منه وبين يديّ ثلاثة عشر كتاباً متنوّعة المسائل والموادّ. ومن بين تلك الكتب رحتُ مساءً أتصفّح أحدها فلذَّ لي ما حواه من التّاريخ وبلغت بي تلك اللذّة أن عزمتُ على إيجاز مقاله الأوّل. عنوان الكتاب "دراسات في التاريخ الحضاريّ لبلاد الشّام في القرن السّادس عشر" ومؤلّفه الدكتور محمّد م. الأرناؤوط، وقد طُبع في مطبعة ألف باء – الأديب في سنة 1995 في دمشق. والكتاب يقع تحت الرّقم الثالث في سلسلة صادرة عن دار نشر "مكتبة الأبجديّة". فأمّا المقال فعنوانه "انتشار القهوة والمقاهي في بلاد الشّام الجنوبيّة خلال القرن السّادس عشر" ويقع بين الصفحات 5 -18.
يفتتح الكاتب مقالَه بوصول القهوة البنيّة إلى بلاد الشّام وبروز المقاهي فيها أوّلَ مرّة، وما نتج عن ذلك من أحداث وآثار في تاريخ المنطقة وفي نتاج الفقه والشّعر والصّراع الدائر بين محلّلي القهوة وممتدحيها وبين محرّميها والحاملين عليها. كما أنّ بروز المقاهي أو "بيوت القهوة" أدّى إلى تحوّلها إلى منتديات ثقافيّة واجتماعيّة تجمع الفقهاء والشعراء وهواة الموسيقى والمسرح وتمارَس فيها أيضاً بعض الألعاب كالطاولة والشطرنج... إلخ.
كانَ القرن السادس عشر الميلاديّ (العاشر الهجريّ) زمن التغييرات السياسيّة في المنطقة المعنيّة فسقوط دولة المماليك ونشوء الإمبراطوريّة العثمانيّة أدّيا إلى تحوّلات كبيرة اجتماعيّة واقتصاديّة، منها كما ذكرنا وصول القهوة وبروز المقاهي وارتيادها الذي صارَ عادةً اجتماعيّة جديدة. ولعلّ إطلاق اسم "القهوة" (وهو من أسماء الخمر عند العرب) على هذا المشروب الجديد كان من سوء حظّه وسبباً أساسيّاً في معارضة الفقهاء وتحريمه. والاسمُ عينُه أوقعَ المؤرّخين في الخلطِ فالغلط، إذ ردّوا القهوة البنيّة إلى العصرِ الأمويّ، وهي لا تعودُ في الحقيقة إلا إلى القرن السّادس عشر.
هنالك ثلاث روايات عن وصول القهوة وانتشارها أولها تقولُ إنَّ الشيخ محمد بن سعيد الذبحاني (ت. 1470 – 1471 م.) حمل القهوة إلى عدن ومنها وصلت الشّمال عبر البحر الأحمر. ثانيها تذكر الشيخ علي بن عمر الشاذلي (ت. 1408 م.) الذي يُرجَّح أنه عرف القهوة في الحبشة حيث نشر مذهبه الشاذليّ. وثالث الروايات تخبر أنَّ الشيخ أبو بكر بن عبد الله الشاذليّ الملقّب بالعيدوس أو العيدروسيّ قدم دمشقَ من اليمن حاملاً معه القهوة، وتوفّي فيها سنة 1503 م.
نلاحظ من هذه الروايات الثّلاث أنَّ القهوة ارتبطت بالصوفيّة على الطريقة الشاذليّة، ومنها نستخلص أنّها وصلت الشامَ في نهاية القرن 15 وبداية القرن 16. وما يُساعد على بناء هذا الاستنتاج هو أنَّ القهوة في الجزائر تُسمّى "شاذليّة". وفي ضواحي دمشق كانَ ربُّ البيتِ يسكبُ من إبريق القهوة الفنجان الأوّل على الأرض على أنّه حصّة الشاذليّ مخترعها، وإن لم يفعل فإنَّ القهوة تراق بأكملها.
في هذا يؤكّد المؤرّخ الدمشقيّ نجمُ الدّين الغزي (ت. 1651 م.) على أنَّ العيدروسيّ هو مكتشف القهوة، فإنّه مرَّ في سياحتِه بشجر البن فاقتات من ثمرِه فوجد فيه تخفيفاً للدماغ واجتلاباً للسّهر وتنشيطاً للعبادة، فاتّخذه قوتاً وشراباً وأرشدَ أتباعَه إليه.
وصدفَ أن دخلت القهوة الشّامَ في زمن دخول هذه تحت سلطة الدولة العثمانيّة، فأصبحت القهوة قضيّة عثمانيّة فتنازعَ حولها الفقهاء والأدباء والسياسيّون لقرنٍ من الزّمن، ووصلَ الأمرُ أيضاً إلى السّلطان ممّا جعلها أمراً يتعلّق بالدّولة كاملةً.
ويذكرُ ابنُ طولون (ت. 1545 م.) أنّه شربَ مع جماعةٍ القهوة المتّخذة من البن ويعلّق قائلاً: "ولا أعلمُ أنّها شربت في بلدنا قبلَ ذلك"! كما يذكرُ الشيخَ علي بن محمّد الشاميّ الذي أتى دمشق وأشهرَ فيها شربَ القهوة فاقتدى بهِ النّاسُ وكثرت حوانيتها.
لكنَّ أمرَ القهوة كانَ منوطاً بقاضي دمشقَ، وهذا يتغيّرُ من حينٍ لآخر، ففي مطلع سنة 1545 م. عُيّنَ الشّيخُ محمّد بن عبد الأوّل الحسيني قاضياً في دمشق فجمعَ بعضَ العلماء ونادى بإبطالها، ولم يكتفِ بذلك، بل عرضَ الأمر على السّلطان سليمان القانونيّ فوردَ الأمرُ بإبطالِها في شوّال من سنة 953 هـ. – 1546 م. ومن المعروف أنَّ السلطان استندَ إلى إحدى فتاوي شيخ الإسلام المرجعيّة الإسلاميّة العليا، وفي ذلك الحين كانَ يتولّى المشيخة أبو السّعود العمادي، ومع أنّه كانَ متنوّراً إلا أنَّ موضوع القهوة عُرضَ عليه بشكلٍ متحيّز، فالمؤرّخ الغزّي يُخبرنا أنّه سُئل عن شرب القهوة "بعدما قُرّر له اجتماع الفسقة على شربِها"، فأجاب: "ما أكبَّ أهلُ الفجور على تعاطيه فينبغي أن يتجنّبه من يخشى الله ويتّقيه".
والأمرُ نفسُه حدث في مدينة القدس، فخوفاً على بيوت الله فيها كتبَ قاضيها إلى السلطان سليمان القانونيّ يطلبُ منه إغلاق المقاهي فيها (وكانت خمسة) وتجاوبَ السّلطان وأمرَ بذلك في 3 كانون الأوّل 1565 م. وبعدَ وفاتِه عادتْ القهوة إلى مكانتها شيئاً فشيئاً بالرّغم من منع افتتاح المقاهي في المناطق التي يُسيطر عليها أعداء القهوة البنيّة. وبرغم عودتها فقد برزت المعارضة ثانيةً خلال عهد الوالي سنان باشا، فقد بقي خطيبُ الجامع الجديد في دمشق على موقفه حتّى أنّه ألّف رسالة في تحريم القهوة، فردّها عليه أهلُ عصرِه، واُعتبِرَ مخالفاً الإجماع لكثرة مناصريها. ورجحتْ كفّة المناصرين حينَ أصدرَ شيخُ الإسلام بستان زاده محمد أفندي (1589 -1592) فتوى صريحة في تحليل القهوة.
فأمّا عن المقاهي وبيوت أو حوانيت القهوة فإنّنا نجدُ مقهىً في محلّة "السويقة" بدمشق. كما قامَ الوالي درويش باشا ببناء دار للقهوة بجوار السّوق الذي أنشأه قربَ الجامع الأمويّ وذلك ضمن وقفه الذي اشتملَ على حمّام وقاساريّة وجامع، وعن مكان لطبخ القهوة في سوق "السباهية" أو "الأروام" بدمشق (مدخل سوق الحميديّة اليوم). كما قامَ الوالي مراد باشا ببناء مكانٍ لطبخ القهوة وبيعها في جوار السّوق عندَ باب البريد. وتحدّد وقفيّة الوالي سنان باشا ثلاثة بيوت للقهوة: الأوّل في سوق العمارة والثّاني في سوق السنانية والثالث في خان عيون التجار.
وبالرّغم من أنَّ السلطان مراد الرّابع 1623 – 1640 بادرَ بشكلٍ مفاجئ إلى تحريم القهوة وإعدام بعض من تجاهل هذا المنع، إلا أنَّ "ثورة القهوة" لم يعدْ بالإمكان كبحُها بمثل هذه القرارات. وهكذا سمحَ السلطان محمد الرابع (1648 – 1687) ببيع القهوة في الأسواق.
ولم تعد المقاهي مكاناً لشرب القهوة فقط، بل غدت مكاناً تُقدّم فيه "المغاني"، ومكاناً يجمعُ هواة الفنّ المسرحيّ الشعبيّ (الكراكوز) والفن الروائيّ الشعبيّ (الحكواتي) وأصحاب الصّرعات الجديدة (ألعاب الخفّة وغيرها)... وهكذا فقد انتشرتْ في البادية أيضاً ولم يعد في الإمكان النّظرَ إلى المجتمع البدويّ بدون القهوة.
(لقراءة هوامش البحث ومصادره ومراجعه يُرجى العودة إلى المقال في الكتاب المذكور أعلاه).
يفتتح الكاتب مقالَه بوصول القهوة البنيّة إلى بلاد الشّام وبروز المقاهي فيها أوّلَ مرّة، وما نتج عن ذلك من أحداث وآثار في تاريخ المنطقة وفي نتاج الفقه والشّعر والصّراع الدائر بين محلّلي القهوة وممتدحيها وبين محرّميها والحاملين عليها. كما أنّ بروز المقاهي أو "بيوت القهوة" أدّى إلى تحوّلها إلى منتديات ثقافيّة واجتماعيّة تجمع الفقهاء والشعراء وهواة الموسيقى والمسرح وتمارَس فيها أيضاً بعض الألعاب كالطاولة والشطرنج... إلخ.
كانَ القرن السادس عشر الميلاديّ (العاشر الهجريّ) زمن التغييرات السياسيّة في المنطقة المعنيّة فسقوط دولة المماليك ونشوء الإمبراطوريّة العثمانيّة أدّيا إلى تحوّلات كبيرة اجتماعيّة واقتصاديّة، منها كما ذكرنا وصول القهوة وبروز المقاهي وارتيادها الذي صارَ عادةً اجتماعيّة جديدة. ولعلّ إطلاق اسم "القهوة" (وهو من أسماء الخمر عند العرب) على هذا المشروب الجديد كان من سوء حظّه وسبباً أساسيّاً في معارضة الفقهاء وتحريمه. والاسمُ عينُه أوقعَ المؤرّخين في الخلطِ فالغلط، إذ ردّوا القهوة البنيّة إلى العصرِ الأمويّ، وهي لا تعودُ في الحقيقة إلا إلى القرن السّادس عشر.
هنالك ثلاث روايات عن وصول القهوة وانتشارها أولها تقولُ إنَّ الشيخ محمد بن سعيد الذبحاني (ت. 1470 – 1471 م.) حمل القهوة إلى عدن ومنها وصلت الشّمال عبر البحر الأحمر. ثانيها تذكر الشيخ علي بن عمر الشاذلي (ت. 1408 م.) الذي يُرجَّح أنه عرف القهوة في الحبشة حيث نشر مذهبه الشاذليّ. وثالث الروايات تخبر أنَّ الشيخ أبو بكر بن عبد الله الشاذليّ الملقّب بالعيدوس أو العيدروسيّ قدم دمشقَ من اليمن حاملاً معه القهوة، وتوفّي فيها سنة 1503 م.
نلاحظ من هذه الروايات الثّلاث أنَّ القهوة ارتبطت بالصوفيّة على الطريقة الشاذليّة، ومنها نستخلص أنّها وصلت الشامَ في نهاية القرن 15 وبداية القرن 16. وما يُساعد على بناء هذا الاستنتاج هو أنَّ القهوة في الجزائر تُسمّى "شاذليّة". وفي ضواحي دمشق كانَ ربُّ البيتِ يسكبُ من إبريق القهوة الفنجان الأوّل على الأرض على أنّه حصّة الشاذليّ مخترعها، وإن لم يفعل فإنَّ القهوة تراق بأكملها.
في هذا يؤكّد المؤرّخ الدمشقيّ نجمُ الدّين الغزي (ت. 1651 م.) على أنَّ العيدروسيّ هو مكتشف القهوة، فإنّه مرَّ في سياحتِه بشجر البن فاقتات من ثمرِه فوجد فيه تخفيفاً للدماغ واجتلاباً للسّهر وتنشيطاً للعبادة، فاتّخذه قوتاً وشراباً وأرشدَ أتباعَه إليه.
وصدفَ أن دخلت القهوة الشّامَ في زمن دخول هذه تحت سلطة الدولة العثمانيّة، فأصبحت القهوة قضيّة عثمانيّة فتنازعَ حولها الفقهاء والأدباء والسياسيّون لقرنٍ من الزّمن، ووصلَ الأمرُ أيضاً إلى السّلطان ممّا جعلها أمراً يتعلّق بالدّولة كاملةً.
ويذكرُ ابنُ طولون (ت. 1545 م.) أنّه شربَ مع جماعةٍ القهوة المتّخذة من البن ويعلّق قائلاً: "ولا أعلمُ أنّها شربت في بلدنا قبلَ ذلك"! كما يذكرُ الشيخَ علي بن محمّد الشاميّ الذي أتى دمشق وأشهرَ فيها شربَ القهوة فاقتدى بهِ النّاسُ وكثرت حوانيتها.
لكنَّ أمرَ القهوة كانَ منوطاً بقاضي دمشقَ، وهذا يتغيّرُ من حينٍ لآخر، ففي مطلع سنة 1545 م. عُيّنَ الشّيخُ محمّد بن عبد الأوّل الحسيني قاضياً في دمشق فجمعَ بعضَ العلماء ونادى بإبطالها، ولم يكتفِ بذلك، بل عرضَ الأمر على السّلطان سليمان القانونيّ فوردَ الأمرُ بإبطالِها في شوّال من سنة 953 هـ. – 1546 م. ومن المعروف أنَّ السلطان استندَ إلى إحدى فتاوي شيخ الإسلام المرجعيّة الإسلاميّة العليا، وفي ذلك الحين كانَ يتولّى المشيخة أبو السّعود العمادي، ومع أنّه كانَ متنوّراً إلا أنَّ موضوع القهوة عُرضَ عليه بشكلٍ متحيّز، فالمؤرّخ الغزّي يُخبرنا أنّه سُئل عن شرب القهوة "بعدما قُرّر له اجتماع الفسقة على شربِها"، فأجاب: "ما أكبَّ أهلُ الفجور على تعاطيه فينبغي أن يتجنّبه من يخشى الله ويتّقيه".
والأمرُ نفسُه حدث في مدينة القدس، فخوفاً على بيوت الله فيها كتبَ قاضيها إلى السلطان سليمان القانونيّ يطلبُ منه إغلاق المقاهي فيها (وكانت خمسة) وتجاوبَ السّلطان وأمرَ بذلك في 3 كانون الأوّل 1565 م. وبعدَ وفاتِه عادتْ القهوة إلى مكانتها شيئاً فشيئاً بالرّغم من منع افتتاح المقاهي في المناطق التي يُسيطر عليها أعداء القهوة البنيّة. وبرغم عودتها فقد برزت المعارضة ثانيةً خلال عهد الوالي سنان باشا، فقد بقي خطيبُ الجامع الجديد في دمشق على موقفه حتّى أنّه ألّف رسالة في تحريم القهوة، فردّها عليه أهلُ عصرِه، واُعتبِرَ مخالفاً الإجماع لكثرة مناصريها. ورجحتْ كفّة المناصرين حينَ أصدرَ شيخُ الإسلام بستان زاده محمد أفندي (1589 -1592) فتوى صريحة في تحليل القهوة.
فأمّا عن المقاهي وبيوت أو حوانيت القهوة فإنّنا نجدُ مقهىً في محلّة "السويقة" بدمشق. كما قامَ الوالي درويش باشا ببناء دار للقهوة بجوار السّوق الذي أنشأه قربَ الجامع الأمويّ وذلك ضمن وقفه الذي اشتملَ على حمّام وقاساريّة وجامع، وعن مكان لطبخ القهوة في سوق "السباهية" أو "الأروام" بدمشق (مدخل سوق الحميديّة اليوم). كما قامَ الوالي مراد باشا ببناء مكانٍ لطبخ القهوة وبيعها في جوار السّوق عندَ باب البريد. وتحدّد وقفيّة الوالي سنان باشا ثلاثة بيوت للقهوة: الأوّل في سوق العمارة والثّاني في سوق السنانية والثالث في خان عيون التجار.
وبالرّغم من أنَّ السلطان مراد الرّابع 1623 – 1640 بادرَ بشكلٍ مفاجئ إلى تحريم القهوة وإعدام بعض من تجاهل هذا المنع، إلا أنَّ "ثورة القهوة" لم يعدْ بالإمكان كبحُها بمثل هذه القرارات. وهكذا سمحَ السلطان محمد الرابع (1648 – 1687) ببيع القهوة في الأسواق.
ولم تعد المقاهي مكاناً لشرب القهوة فقط، بل غدت مكاناً تُقدّم فيه "المغاني"، ومكاناً يجمعُ هواة الفنّ المسرحيّ الشعبيّ (الكراكوز) والفن الروائيّ الشعبيّ (الحكواتي) وأصحاب الصّرعات الجديدة (ألعاب الخفّة وغيرها)... وهكذا فقد انتشرتْ في البادية أيضاً ولم يعد في الإمكان النّظرَ إلى المجتمع البدويّ بدون القهوة.
(لقراءة هوامش البحث ومصادره ومراجعه يُرجى العودة إلى المقال في الكتاب المذكور أعلاه).