yass
09/09/2004, 10:38
بقلم: عبد الرؤوف حدّاد *
كثيرة هي الحالات التي تعبّر عن التخلّف الفاضح في عقلية القائمين على السياسة السورية في مختلف قطاعاتها. والأمثلة المتداولة في ذلك قد تناولها الكتّاب والمحللون في مناسبات شتّى. فشعار الوحدة والحرية والاشتراكية الذي يميّز الحزب الحاكم، يُثير السخرية والشفقة عندما نسقطه على واقع النظام.
فأي وحدة هذه التي حققها النظام منذ اشتراكه في الانقلاب على حكم "الانفصال" يوم 8 آذار 1963؟ وأي حرية حصل عليها المواطن في ظلّ حالة الطوارئ والأحكام العرفية، حتّى أصبح عدد عناصر "الأمن" كعدد الذباب والبعوض؟ وأي اشتراكية بعد أربعين سنة من حُكم هذا الحزب، وطبقة الحيتان من أصحاب المليارات تجعلنا نترحّم على زمرة الإقطاعيين والرأسماليين من الأغاوات والبيكاوات والأفندية .. بمقابل توسّع هائل في طبقة الفقراء والمحرومين والمسحوقين؟
وإذا أردنا أن نُقلّب البصر هنا وهناك، فسنذكر حالات اختفاء الألوف في السجون، وتعرّضهم لألوان قبيحة من التعذيب تقشعرّ لها الأبدان، وتَشرُّد عشرات الآلاف من المواطنين خارج بلدهم، هرباً من عسف السلطة، ونجاة بجلودهم، أو بحثاً عن لقمة عيش لا تُنال في بلدهم إلاّ بشقّ الأنفس، ونزوح أصحاب الاختصاصات الدراسيّة العالية فيما يُسمّى بهجرة الأدمغة..
وسنذكر حالة بلد ينصّ "دستوره" على وجود حزب قائد يتمتّع بمزايا وهبها لنفسه بقوة الحذاء العسكري .. وإذا أراد هذا الحزب أن يَمُنّ على الشعب بنوع من المشاركة السياسية، فهاهي ذي أحزاب الجبهة الوطنية .. وهي بذاتها وتركيبتها وقزامة مشاركتها .. تُعدّ مهزلة أخرى.
وسنذكر حالة انتشار الرشوة في كلّ المستويات، بدْءاً ممن يرتشي بمائة ليرة سورية، وانتهاء بمن يقبض الملايين، وتُسجّل باسمه حصص كبيرة من كل شركة أو مؤسسة صناعيّة أو تجارية .. تريد الحصول على ترخيص.
وهل نذكر حالة الصحافة؟ وهل في سورية صحافة؟ وهل نذكر حال الإنترنت في بلد يُقال: إنّ قيادته ترعى "المعلوماتيّة" وتؤكّد الانفتاح؟! وكم من موقع تغلقه تلك القيادة؟! وكم من مواطن يُعتقل بجريمة دخوله إلى بعض مواقع الإنترنت؟! كل ذلك وأضعاف أضعافه قد تناقلته وسائل الإعلام، وسارت به الركبان .. وهو يشير إلى حالة التخلّف عن العصر، هذه الحالة التي يُمارسها المتنفّذون وأزلامهم.
ولعل للحديث عن حالات جزئية تفصيلية، طعماً خاصاً، لأنها تُعبّر عن عمق المأساة أو المهزلة التي يعيشها المواطن في ظلّ هذا النظام، وعند كلّ مواطن قصص كثيرة عن تلك الحالات. وسنختم الحديث بواحدة من هذه القصص، دون ذكر الأسماء خوفاً من العواقب.
خرج الطفل الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، مع والده الملاحق الذي نجا بجلده من السجن وما بعد السجن. عاش هذا الطفل في الغربة قرابة ربع قرن، وهو محروم من جواز السفر والوثائق المدنية الأخرى .. ولا يمكنه بذلك الدخول إلى بلده أو الانتقال إلى بلد آخر. ذهب إلى سفارة بلده، يُطالب بحقّه في الحصول على جواز سفر، بعد أن أمَّن "واسطة". قال له هذا "الواسطة": اذهب إلى فلان (عنصر أمن السفارة) وقل له: أرسلني إليك فلان! قال: لماذا ترسلني إلى عنصر الأمن ولا ترسلني إلى السفير أو القنصل؟! قال له: هل تهمّك المظاهر و"البَرْوَظَة" أم تريد الحلّ لمشكلتك؟. قال: أريد الحل. قال: إن المسؤول الأمني هو الذي يملك الحل!
ذهب هذا الشاب إلى ذلك المسؤول، فاستقبله استقبالاً حسناً، ثمّ بدأ يُبيّن له المطلوب. المطلوب هو أن تكتب تقريراً تُحدّثنا فيه عن نشأتك وانتماءاتك ونشاطاتك .. وارتباطات والدك وانتمائه وأصدقائه .. ثمّ ترفق مع هذا التقرير وثيقة "قيد نفوس - سجل مدني" وعليها صورة! قال: وكيف أحصل على هذه الوثيقة؟! قال: ترسل إلى بعض أقربائك في سورية ليحصلوا عليها بسهولة، ثمّ يضعوا عليها الصورة ويختم عليها مختار الحي ليشهد أنّها صورتك بالفعل؟! قال: وكيف سيعرف المختار أنها صورتي مع أنني خرجت قبل ربع قرن وكنتُ طفلاً صغيراً؟! ولعلّ المختار لا يعرف أبي، فضلاً عن أن يعرفني؟! ما قيمة هذا الإجراء وجميع الناس يعرفون أنّ ختم المختار لا يُعبّر عن أيّ توثيق على الإطلاق؟!
لم يكن أمام هذا الشاب إلاّ أن يستجيب، وقد كلّفه ختم المختار وتصديق الخارجية ثلاثة آلاف ليرة سورية فقط لا غير (..).
وطبعاً كتب التقرير المطلوب منه .. متلطّفاً في صياغة عباراته. وقد قدّم ذلك كلّه للسفارة منذ شهور .. وما زال ينتظر الموافقة على الجواز. وعنّا، لأولي الأمر الذين يعيشون القرن الحادي والعشرين بعقلية العصور الحجرية.
_________
* كاتب سوري - حلب
كثيرة هي الحالات التي تعبّر عن التخلّف الفاضح في عقلية القائمين على السياسة السورية في مختلف قطاعاتها. والأمثلة المتداولة في ذلك قد تناولها الكتّاب والمحللون في مناسبات شتّى. فشعار الوحدة والحرية والاشتراكية الذي يميّز الحزب الحاكم، يُثير السخرية والشفقة عندما نسقطه على واقع النظام.
فأي وحدة هذه التي حققها النظام منذ اشتراكه في الانقلاب على حكم "الانفصال" يوم 8 آذار 1963؟ وأي حرية حصل عليها المواطن في ظلّ حالة الطوارئ والأحكام العرفية، حتّى أصبح عدد عناصر "الأمن" كعدد الذباب والبعوض؟ وأي اشتراكية بعد أربعين سنة من حُكم هذا الحزب، وطبقة الحيتان من أصحاب المليارات تجعلنا نترحّم على زمرة الإقطاعيين والرأسماليين من الأغاوات والبيكاوات والأفندية .. بمقابل توسّع هائل في طبقة الفقراء والمحرومين والمسحوقين؟
وإذا أردنا أن نُقلّب البصر هنا وهناك، فسنذكر حالات اختفاء الألوف في السجون، وتعرّضهم لألوان قبيحة من التعذيب تقشعرّ لها الأبدان، وتَشرُّد عشرات الآلاف من المواطنين خارج بلدهم، هرباً من عسف السلطة، ونجاة بجلودهم، أو بحثاً عن لقمة عيش لا تُنال في بلدهم إلاّ بشقّ الأنفس، ونزوح أصحاب الاختصاصات الدراسيّة العالية فيما يُسمّى بهجرة الأدمغة..
وسنذكر حالة بلد ينصّ "دستوره" على وجود حزب قائد يتمتّع بمزايا وهبها لنفسه بقوة الحذاء العسكري .. وإذا أراد هذا الحزب أن يَمُنّ على الشعب بنوع من المشاركة السياسية، فهاهي ذي أحزاب الجبهة الوطنية .. وهي بذاتها وتركيبتها وقزامة مشاركتها .. تُعدّ مهزلة أخرى.
وسنذكر حالة انتشار الرشوة في كلّ المستويات، بدْءاً ممن يرتشي بمائة ليرة سورية، وانتهاء بمن يقبض الملايين، وتُسجّل باسمه حصص كبيرة من كل شركة أو مؤسسة صناعيّة أو تجارية .. تريد الحصول على ترخيص.
وهل نذكر حالة الصحافة؟ وهل في سورية صحافة؟ وهل نذكر حال الإنترنت في بلد يُقال: إنّ قيادته ترعى "المعلوماتيّة" وتؤكّد الانفتاح؟! وكم من موقع تغلقه تلك القيادة؟! وكم من مواطن يُعتقل بجريمة دخوله إلى بعض مواقع الإنترنت؟! كل ذلك وأضعاف أضعافه قد تناقلته وسائل الإعلام، وسارت به الركبان .. وهو يشير إلى حالة التخلّف عن العصر، هذه الحالة التي يُمارسها المتنفّذون وأزلامهم.
ولعل للحديث عن حالات جزئية تفصيلية، طعماً خاصاً، لأنها تُعبّر عن عمق المأساة أو المهزلة التي يعيشها المواطن في ظلّ هذا النظام، وعند كلّ مواطن قصص كثيرة عن تلك الحالات. وسنختم الحديث بواحدة من هذه القصص، دون ذكر الأسماء خوفاً من العواقب.
خرج الطفل الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، مع والده الملاحق الذي نجا بجلده من السجن وما بعد السجن. عاش هذا الطفل في الغربة قرابة ربع قرن، وهو محروم من جواز السفر والوثائق المدنية الأخرى .. ولا يمكنه بذلك الدخول إلى بلده أو الانتقال إلى بلد آخر. ذهب إلى سفارة بلده، يُطالب بحقّه في الحصول على جواز سفر، بعد أن أمَّن "واسطة". قال له هذا "الواسطة": اذهب إلى فلان (عنصر أمن السفارة) وقل له: أرسلني إليك فلان! قال: لماذا ترسلني إلى عنصر الأمن ولا ترسلني إلى السفير أو القنصل؟! قال له: هل تهمّك المظاهر و"البَرْوَظَة" أم تريد الحلّ لمشكلتك؟. قال: أريد الحل. قال: إن المسؤول الأمني هو الذي يملك الحل!
ذهب هذا الشاب إلى ذلك المسؤول، فاستقبله استقبالاً حسناً، ثمّ بدأ يُبيّن له المطلوب. المطلوب هو أن تكتب تقريراً تُحدّثنا فيه عن نشأتك وانتماءاتك ونشاطاتك .. وارتباطات والدك وانتمائه وأصدقائه .. ثمّ ترفق مع هذا التقرير وثيقة "قيد نفوس - سجل مدني" وعليها صورة! قال: وكيف أحصل على هذه الوثيقة؟! قال: ترسل إلى بعض أقربائك في سورية ليحصلوا عليها بسهولة، ثمّ يضعوا عليها الصورة ويختم عليها مختار الحي ليشهد أنّها صورتك بالفعل؟! قال: وكيف سيعرف المختار أنها صورتي مع أنني خرجت قبل ربع قرن وكنتُ طفلاً صغيراً؟! ولعلّ المختار لا يعرف أبي، فضلاً عن أن يعرفني؟! ما قيمة هذا الإجراء وجميع الناس يعرفون أنّ ختم المختار لا يُعبّر عن أيّ توثيق على الإطلاق؟!
لم يكن أمام هذا الشاب إلاّ أن يستجيب، وقد كلّفه ختم المختار وتصديق الخارجية ثلاثة آلاف ليرة سورية فقط لا غير (..).
وطبعاً كتب التقرير المطلوب منه .. متلطّفاً في صياغة عباراته. وقد قدّم ذلك كلّه للسفارة منذ شهور .. وما زال ينتظر الموافقة على الجواز. وعنّا، لأولي الأمر الذين يعيشون القرن الحادي والعشرين بعقلية العصور الحجرية.
_________
* كاتب سوري - حلب