Nay
10/12/2009, 00:18
من مدونة أمواج اسبانية في فرات الشام
منذ أيام و المنابر الإعلامية و غير الإعلامية, العربية و غير العربية, تتحدّث باهتمام عن الاستفتاء الشعبي الذي جرى في سويسرا في نهاية الأسبوع الماضي بخصوص منع بناء المآذن في المساجد السويسرية, و الذي أسفر عن فوز خيار المنع بنسبة قدرها 57% من الأصوات مثيرةً زوبعةً من الانتقادات و اتهامات لسويسرا و شعبها بالعنصرية و معاداة الإسلام, و ليس فقط من قبل المسلمين بل أن الفاتيكان أصدر أيضاً بياناً يستنكر فيه نتيجة هذا التصويت و القرار الذي سيتّخذ على إثرها.
لمن لا يعلم, لسويسرا نظام ديمقراطي من نوع خاص يتبع الديمقراطية المباشرة, فأي شخصٍ يستطيع, بعد أن يستوفي بعض الشروط, أن يتقدّم بطلبٍ لتنظيم استفتاء حول أمرٍ ما, و يقام الاستفتاء و يتم تبنّي نتائجه, و هناك من يعتبر أن هذا النظام الديمقراطي المباشر قد أثبت فشله, و ما حدث خير مثالٍ على الفشل. لا أعتقد ذلك, بل ربما على المدى البعيد سيكون ما حدث هو "الأقل ضرراً" إن اعتبرنا أنه من الممكن أن يكون القرار الصادر تنفيساً لمشاعر مناوئة للإسلام, مشاعر هي وليدة ظروف و عوامل محددة و دقيقة لا يمكن نفيها أو اختصارها في "السويسريون عنصريون", حتى لو كنا ضد هذه المشاعر و ضد من يستغل هذه الظروف و العوامل المحددة لتحقيق مآرب سياسية.
هناك سؤال يجب طرحه و الإجابة عنه بدقة, و هناك من أجاب عليه بأسلوب النواح و "شق القميص" و أنا لا أعتقد أن هذا هو الجواب الأفضل و لا التصرّف الأمثل, لا شك أن ما حدث في سويسرا مؤشر مقلق, لكنه يحتاج لتحليل هادئ لمعرفة احتوائه و عزله بدل المساعدة في نشره. السؤال هو التالي: هل تنحو أوروبا باتجاه العنصرية؟
كمقيم في أوربا و كشخص أعتبر نفسي مطّلعاً إلى حدّ ما عمّا يجري في القارّة العجوز, لو طُلب مني أن أجيب على هذا السؤال بنعم أو لا لأجبت فوراً بـ لا, شرط أن تكون ملحقة بـ "و لكن". لا نستطيع كبداية اعتبار سويسرا عيّنة من أوربا, سويسرا دولة معزولة إلى حد كبير و لا ارتباط سياسي بينها و بين باقي أوربا, و "الهوية القومية" السويسرية لا ترى فقط في المسلمين تهديداً لها و إنما ترى أي "أجنبي" حتى لو كان أوربياً كذلك, و حتى هذه الأيام ما زال المهاجر الأوربي في سويسرا يعاني أحياناً من أجل الحصول على إذن العمل مثلاً (سويسرا ليست عضوة في الاتحاد الأوربي, و هذه معلومة كان يفترض أن يعرفها من كتب عكس ذلك في إحدى كبريات الصحف العربية), لم يخطئ من شبّه لبنان بسويسرا, و لو أنه كان يقصد الرخاء الاقتصادي و ازدهار القطاع المصرفي, فسويسرا دولة صغيرة تعيش محاطة بالعمالقة الأوربيين و ترفض الذوبان فيهم, و لأجل ذلك تُسن قوانين تحافظ على "مميزات" سويسرا و خصائصها و قد تكون هذه القوانين مضحكة لمن هو غير سويسري, لكنهم يدافعون عنها بمرارة ( أذكر مثال لبنان لأنني تذكرت تقاريراً صحفية عن رفض بعض سكان إحدى الشوارع البيروتية وجود السفارة السورية فيها عندما كان هناك أخبار عن احتمال ذلك لأنهم كانوا يرفضون رؤية العلم السوري مرفرفاً على شارعهم و أمام مساكنهم).
معنى الكلام أن هناك شعور لدى السويسري المتوسط بالغيرة على قوميته و خصائصه تعطيه بعض النزعة الانعزالية عن كل ما يحيط به, و الإسلام بالنسبة له هو عملاقٌ آخر يريد إذابته و بالتالي عليه أن يقاوم مظاهره). ما أريد أن أؤكده هنا كي أنهي هذه النقطة هو أنني لا أعتقد أبداً أن التجربة السويسرية يمكن أن تنتقل إلى باقي أوربا على المدى المنظور ( ربما باستثناء هولندا التي تشهد زحفاً لليمين المتطرف الذي يستفيد بذكاء من الأزمة الاقتصادية و تبعاتها).
لو أتينا إلى الحالة السويسرية بشكل خاص و حاولنا إنشاء رأي تحليلي سريع حول أسباب منع بناء المآذن (كما أسلفنا, 57% من الناخبين صوّتوا لصالح المنع, أي أن هناك 43% كانوا ضده, هذا مهم جداً لمن يوجّه خطاباً ناقداً للسويسريين على ذلك, لأنه ربما إن لم يعرف كيف يخاطب من يخاطبه فلربما كانت النتيجة في المرة القادمة أكبر من ذلك, و أقصد بذلك من تمنّى عبر منبره الإعلامي بشكل مبطّن أن يكون هناك رد "جهادي" على هذه النتيجة) لجاءت النزعة القومية السويسرية على رأس قائمة الأسباب باعتقادي, يريدون أنفسهم مميزين عمّا حولهم, و لأجل ذلك لم يدخلوا الأحلاف و الاتحادات القارّية و الدولية, يرفضون الاندماج في أي شيء لأنهم يريدون أنفسهم مختلفين عمّا يحيط بهم, و لأن جزءً أساسياً من القومية السويسرية هي الديانة المسيحية فإنهم يستندون عليها كبند آخر لرفض الرمزية الإسلامية في بلادهم لأنها تنافس جزءً من كيانهم النفسي كقوم.
النزعة القومية, أيّ نزعة قومية, هي المناخ الملائم الذي تنمو فيه مشاعر الرفض للآخر, أو على الأقل للوجود الرمزي الصريح للآخر, و في هذا المناخ تنمو حركات يمينية قومية متطرفة, مثلها مثل أي دولة أو شعب في العالم, و هذه الحركات اليمينية تملك خطاباً سياسياً, عادةً ما يكون غرائزياً و عاطفياً.. و هو بسيط و سطحي بقدر ما هو مقنع و منطقي لمواطن متوسط الثقافة فما دون لأنه يلعب على عاطفته الانتمائية. و هذا الخطاب السياسي اليميني يستغل أي ظرفٍ مواتٍ بشكل ذكي جداً و يسخّره لمصلحته.
بعد النزعة القومية السويسرية يجب أن نذكر الظرف الدولي المحيط بالإسلام و ارتباطه ذهنياً بالإرهاب, بسبب الجهد الإعلامي الذي يصب في هذا الاتجاه و أيضاً بسبب الكثير ممن يختطف مفهوم الإسلام كدين لتسخيره لأهداف سياسية.
هناك محلل سياسي اسباني شهير ذكر أمس في حوارٍ حول الموضوع أنه لولا القذافي لما كانت هذه النتيجة: هناك خلافٌ سياسي و دبلوماسي بين ليبيا و سويسرا حيث تحتجز ليبيا رهائن سويسريين رداً على اعتقال الشرطة السويسرية لنجل القذافي بسبب شكوى ضده من أحد خدمه بعد حادثة عنيفة في فندق (أو هكذا أذكر أنني قرأت), و هناك حملة ليبية شرسة, إعلامية و دبلوماسية ضد سويسرا بداخل البلد حتى مثل دعوات القذافي للمسلمين للتضامن معه و مساعدته لمسح سويسرا من الخريطة, و تم استخدام القذافي و خطاباته و كلامه في الحملة الانتخابية لصالح قرار المنع, حيث أخذوه كمثال صريح عن هذا العدو الذي لا يجد حرجاً في التسبب بأزمة بين الدول بسبب تصرفات رعناء لابنه, و هذا, حسب كلامهم, قمّة الاستهزاء بالقانون الدولي و دليلٌ على أن رئيس دولة مسلمة لا يفهم أن القانون فوق الجميع. (سيلاحظ من يطّلع على الخطاب السياسي لليمين المتطرف أنه يحوي الكثير من الشعارات و العبارات التي نستطيع أن نعتبرها حقاً يراد به باطل).
هناك رمز آخر تم استخدامه في الخطاب الداعم للمنع, و هو الثري الخليجي الذي يأتي إلى أوربا و يبني مسجداً حيث يشاء, كان هناك استخدام للغيرة على الأرض و القوم و الخصائص, و نفس هذا المنطلق يستخدم الآن للدفاع عن النتيجة حيث أن من يحمل هذا الرأي يقول أنه لا يحق للمسلمين أن ينتقدوا منع بناء المآذن عندما توجد دول إسلامية عديدة تمنع بناء الكنائس أو لا تسمح بأن يكون شكل البناء الخارجي للكنيسة معبراً عنها كبناء ديني مسيحي, و يأتون بمثال المملكة العربية السعودية بشكل متكرر و يوجهون لمعترضيهم سؤالاً يقول أنه لماذا يجب أن يرضوا أن تكون أرضهم "المسيحية السويسرية الخ الخ" مستباحة ليأتي من يشاء و يبني عليها ما يشاء, إن كان من يأتي ليبني عندهم يرفض أن يبنى في بلاده كنيسة؟ و هذا باعتقادي أقوى خطاب, لأنه دعوة للندّية, بمعنى أننا "لسنا أقل منهم" و لنا الحق بأن نحمل من الغيرة على ديننا نفس ما يحمله المسلمون من الغيرة على دينهم في بلادهم.
ينفس هذا البند نجد دعوات لمنع استغلال هؤلاء المسلمين "لديمقراطيتنا" لكي ينشروا دينهم في حين هم أبعد الناس عن الديمقراطية في بلادهم, و يجب أن نمنعهم من استغلال حرية الرأي و المعتقد هنا لأنهم يدافعون عنها هنا و يحتمون بها لممارسة نشاطاتهم في حين يرفضونها في بلادهم.
بالتأكيد لا تغيب عن الحملة صور كنائس مدمّرة في العراق بعمليات إرهابية, أو قصص عن تهجير و تصفية الأقلية المسيحية في العراق أو القيود على الممارسة الدينية المسيحية في بعض الدول الإسلامية.
أعتقد أن جزءاً كبيراً من الخطاب الإسلامي السياسي, خصوصاً ذلك الموجّه إلى أوربا, هو أفضل حليف لليمين الأوربي المتطرّف لأنه يمنحه كل الذرائع و الحجج و لا يترك لليمين الأوربي من واجبات إلا أن ينشر هذا الخطاب, مثل الكثير من الخطابات التي تؤكد أن الإسلام يغزو أوربا و أن بعض الدول ستصبح "إسلامية" خلال عدد محدد من العقود, و نجد في صحفهم و مواقعهم و خطاباتهم أقوالاً للشيخ فلان الذي قال كذا و كذا.. و فعلاً الشيخ فلان قال كذا و كذا... هم فقط ينقلون كلامه و يضعونه في السياق الذي يلائمهم. و اليمين ينشر هذه الخطابات كتأكيد على أن هؤلاء المسلمين لا يأتون إلى أوربا كي يعيشوا بسلام و يندمجوا في المجتمع الأوربي بل أنهم يريدون التوسع في العالم على حساب إنهاء الحضارة الأوربية و احتلال محلها, و هنا لا نستطيع أن نلوم المواطن العادي على خوفه من هذا الأمر لأنه من حق أي منا أن يخاف على وطنه و خصائصه في لحظةٍ معيّنة, المشكلة هنا تكمن في من يلعب على وتر هذا الخوف لمصالح سياسية, و أيضاً في من يساعد هذا اللاعب و يعطيه الذرائع.
كملاحظة أخيرة على غرائزية و عاطفية الخطاب الذي طلب هذا الاستفتاء و نجح فيه أشير إلى قصده المباشر: المآذن.. لم يطالبوا بوضع نشاط الأئمة تحت إشراف و تحكّم الدولة مثلاً, لم يطالبوا بقرار سياسي أو اجتماعي بخصوص مراقبة النشاط السياسي و الاجتماعي للمنظمات و الجمعيات الإسلامية, بل أنهم وجّهوا جهدهم نحو الرمز, نجحوا في زرع مفهوم المئذنة في ذهن الكثير من مواطنيهم كنوع من أنواع العنف الرمزي, بمعنى أنه يعرف أن هذا البناء جامع, لكنه لا يريد أن يرى المئذنة, لأن المآذن هي حراب المسلمين في غزوهم للعالم (و هو جزء من كلمة قديمة ألقاها الرئيس التركي و تم استخدامها أيضاً في الحملة الإعلامية).
الوضع العام للجاليات و الأقليات المسلمة في أوربا جيد, أو على الأقل مقبول (حتى في سويسرا لا يوجد مشاكل تعايش كبيرة خارج هذا الاستفتاء), لا يدخل دائرة الخطر أو التهديد بل هو بعيدٌ عنها جداً, و في هذا الخصوص, و عدا استثناءات لا يمكن اعتبارها إلا هامشية و قليلة, يمكننا تأكيد أن الرأي العام الأوربي مناهض لما حدث في سويسرا لأنه اعتبر أن قرار منع المآذن يمس حرّية الممارسة الدينية و يذهب إلى ما هو أبعد من الدعوة "المنطقية" للحفاظ على الهوية القومية الحضارية. أجل هناك إشارات مقلقة يجب أخذها بعين الاعتبار و التصدّي لها من بدايتها قبل أن تستفحل و تكبر, خصوصاً في سياق مناخ اقتصادي يعيش أزمة خانقة ترفع معدلات البطالة و يمكن استغلالها دوماً للإشارة إلى من أتى من الخارج لأخذ فرصة عمل "ابن البلد" كمسبّب, و الخطوة الأولى لهذا التصدي تبدأ من النقد الذاتي, و تمر إجباراً بمحاولة فهم الطرف الآخر و تفهّم مخاوفه و العمل على مسح هذه المخاوف و التركيز على عوامل التعايش المشترك, بدل العمل على إذكاء هذه المخاوف و إشعالها و مساعدة من يريد استغلالها لمصالحه الإيديولوجية و السياسية.
منذ أيام و المنابر الإعلامية و غير الإعلامية, العربية و غير العربية, تتحدّث باهتمام عن الاستفتاء الشعبي الذي جرى في سويسرا في نهاية الأسبوع الماضي بخصوص منع بناء المآذن في المساجد السويسرية, و الذي أسفر عن فوز خيار المنع بنسبة قدرها 57% من الأصوات مثيرةً زوبعةً من الانتقادات و اتهامات لسويسرا و شعبها بالعنصرية و معاداة الإسلام, و ليس فقط من قبل المسلمين بل أن الفاتيكان أصدر أيضاً بياناً يستنكر فيه نتيجة هذا التصويت و القرار الذي سيتّخذ على إثرها.
لمن لا يعلم, لسويسرا نظام ديمقراطي من نوع خاص يتبع الديمقراطية المباشرة, فأي شخصٍ يستطيع, بعد أن يستوفي بعض الشروط, أن يتقدّم بطلبٍ لتنظيم استفتاء حول أمرٍ ما, و يقام الاستفتاء و يتم تبنّي نتائجه, و هناك من يعتبر أن هذا النظام الديمقراطي المباشر قد أثبت فشله, و ما حدث خير مثالٍ على الفشل. لا أعتقد ذلك, بل ربما على المدى البعيد سيكون ما حدث هو "الأقل ضرراً" إن اعتبرنا أنه من الممكن أن يكون القرار الصادر تنفيساً لمشاعر مناوئة للإسلام, مشاعر هي وليدة ظروف و عوامل محددة و دقيقة لا يمكن نفيها أو اختصارها في "السويسريون عنصريون", حتى لو كنا ضد هذه المشاعر و ضد من يستغل هذه الظروف و العوامل المحددة لتحقيق مآرب سياسية.
هناك سؤال يجب طرحه و الإجابة عنه بدقة, و هناك من أجاب عليه بأسلوب النواح و "شق القميص" و أنا لا أعتقد أن هذا هو الجواب الأفضل و لا التصرّف الأمثل, لا شك أن ما حدث في سويسرا مؤشر مقلق, لكنه يحتاج لتحليل هادئ لمعرفة احتوائه و عزله بدل المساعدة في نشره. السؤال هو التالي: هل تنحو أوروبا باتجاه العنصرية؟
كمقيم في أوربا و كشخص أعتبر نفسي مطّلعاً إلى حدّ ما عمّا يجري في القارّة العجوز, لو طُلب مني أن أجيب على هذا السؤال بنعم أو لا لأجبت فوراً بـ لا, شرط أن تكون ملحقة بـ "و لكن". لا نستطيع كبداية اعتبار سويسرا عيّنة من أوربا, سويسرا دولة معزولة إلى حد كبير و لا ارتباط سياسي بينها و بين باقي أوربا, و "الهوية القومية" السويسرية لا ترى فقط في المسلمين تهديداً لها و إنما ترى أي "أجنبي" حتى لو كان أوربياً كذلك, و حتى هذه الأيام ما زال المهاجر الأوربي في سويسرا يعاني أحياناً من أجل الحصول على إذن العمل مثلاً (سويسرا ليست عضوة في الاتحاد الأوربي, و هذه معلومة كان يفترض أن يعرفها من كتب عكس ذلك في إحدى كبريات الصحف العربية), لم يخطئ من شبّه لبنان بسويسرا, و لو أنه كان يقصد الرخاء الاقتصادي و ازدهار القطاع المصرفي, فسويسرا دولة صغيرة تعيش محاطة بالعمالقة الأوربيين و ترفض الذوبان فيهم, و لأجل ذلك تُسن قوانين تحافظ على "مميزات" سويسرا و خصائصها و قد تكون هذه القوانين مضحكة لمن هو غير سويسري, لكنهم يدافعون عنها بمرارة ( أذكر مثال لبنان لأنني تذكرت تقاريراً صحفية عن رفض بعض سكان إحدى الشوارع البيروتية وجود السفارة السورية فيها عندما كان هناك أخبار عن احتمال ذلك لأنهم كانوا يرفضون رؤية العلم السوري مرفرفاً على شارعهم و أمام مساكنهم).
معنى الكلام أن هناك شعور لدى السويسري المتوسط بالغيرة على قوميته و خصائصه تعطيه بعض النزعة الانعزالية عن كل ما يحيط به, و الإسلام بالنسبة له هو عملاقٌ آخر يريد إذابته و بالتالي عليه أن يقاوم مظاهره). ما أريد أن أؤكده هنا كي أنهي هذه النقطة هو أنني لا أعتقد أبداً أن التجربة السويسرية يمكن أن تنتقل إلى باقي أوربا على المدى المنظور ( ربما باستثناء هولندا التي تشهد زحفاً لليمين المتطرف الذي يستفيد بذكاء من الأزمة الاقتصادية و تبعاتها).
لو أتينا إلى الحالة السويسرية بشكل خاص و حاولنا إنشاء رأي تحليلي سريع حول أسباب منع بناء المآذن (كما أسلفنا, 57% من الناخبين صوّتوا لصالح المنع, أي أن هناك 43% كانوا ضده, هذا مهم جداً لمن يوجّه خطاباً ناقداً للسويسريين على ذلك, لأنه ربما إن لم يعرف كيف يخاطب من يخاطبه فلربما كانت النتيجة في المرة القادمة أكبر من ذلك, و أقصد بذلك من تمنّى عبر منبره الإعلامي بشكل مبطّن أن يكون هناك رد "جهادي" على هذه النتيجة) لجاءت النزعة القومية السويسرية على رأس قائمة الأسباب باعتقادي, يريدون أنفسهم مميزين عمّا حولهم, و لأجل ذلك لم يدخلوا الأحلاف و الاتحادات القارّية و الدولية, يرفضون الاندماج في أي شيء لأنهم يريدون أنفسهم مختلفين عمّا يحيط بهم, و لأن جزءً أساسياً من القومية السويسرية هي الديانة المسيحية فإنهم يستندون عليها كبند آخر لرفض الرمزية الإسلامية في بلادهم لأنها تنافس جزءً من كيانهم النفسي كقوم.
النزعة القومية, أيّ نزعة قومية, هي المناخ الملائم الذي تنمو فيه مشاعر الرفض للآخر, أو على الأقل للوجود الرمزي الصريح للآخر, و في هذا المناخ تنمو حركات يمينية قومية متطرفة, مثلها مثل أي دولة أو شعب في العالم, و هذه الحركات اليمينية تملك خطاباً سياسياً, عادةً ما يكون غرائزياً و عاطفياً.. و هو بسيط و سطحي بقدر ما هو مقنع و منطقي لمواطن متوسط الثقافة فما دون لأنه يلعب على عاطفته الانتمائية. و هذا الخطاب السياسي اليميني يستغل أي ظرفٍ مواتٍ بشكل ذكي جداً و يسخّره لمصلحته.
بعد النزعة القومية السويسرية يجب أن نذكر الظرف الدولي المحيط بالإسلام و ارتباطه ذهنياً بالإرهاب, بسبب الجهد الإعلامي الذي يصب في هذا الاتجاه و أيضاً بسبب الكثير ممن يختطف مفهوم الإسلام كدين لتسخيره لأهداف سياسية.
هناك محلل سياسي اسباني شهير ذكر أمس في حوارٍ حول الموضوع أنه لولا القذافي لما كانت هذه النتيجة: هناك خلافٌ سياسي و دبلوماسي بين ليبيا و سويسرا حيث تحتجز ليبيا رهائن سويسريين رداً على اعتقال الشرطة السويسرية لنجل القذافي بسبب شكوى ضده من أحد خدمه بعد حادثة عنيفة في فندق (أو هكذا أذكر أنني قرأت), و هناك حملة ليبية شرسة, إعلامية و دبلوماسية ضد سويسرا بداخل البلد حتى مثل دعوات القذافي للمسلمين للتضامن معه و مساعدته لمسح سويسرا من الخريطة, و تم استخدام القذافي و خطاباته و كلامه في الحملة الانتخابية لصالح قرار المنع, حيث أخذوه كمثال صريح عن هذا العدو الذي لا يجد حرجاً في التسبب بأزمة بين الدول بسبب تصرفات رعناء لابنه, و هذا, حسب كلامهم, قمّة الاستهزاء بالقانون الدولي و دليلٌ على أن رئيس دولة مسلمة لا يفهم أن القانون فوق الجميع. (سيلاحظ من يطّلع على الخطاب السياسي لليمين المتطرف أنه يحوي الكثير من الشعارات و العبارات التي نستطيع أن نعتبرها حقاً يراد به باطل).
هناك رمز آخر تم استخدامه في الخطاب الداعم للمنع, و هو الثري الخليجي الذي يأتي إلى أوربا و يبني مسجداً حيث يشاء, كان هناك استخدام للغيرة على الأرض و القوم و الخصائص, و نفس هذا المنطلق يستخدم الآن للدفاع عن النتيجة حيث أن من يحمل هذا الرأي يقول أنه لا يحق للمسلمين أن ينتقدوا منع بناء المآذن عندما توجد دول إسلامية عديدة تمنع بناء الكنائس أو لا تسمح بأن يكون شكل البناء الخارجي للكنيسة معبراً عنها كبناء ديني مسيحي, و يأتون بمثال المملكة العربية السعودية بشكل متكرر و يوجهون لمعترضيهم سؤالاً يقول أنه لماذا يجب أن يرضوا أن تكون أرضهم "المسيحية السويسرية الخ الخ" مستباحة ليأتي من يشاء و يبني عليها ما يشاء, إن كان من يأتي ليبني عندهم يرفض أن يبنى في بلاده كنيسة؟ و هذا باعتقادي أقوى خطاب, لأنه دعوة للندّية, بمعنى أننا "لسنا أقل منهم" و لنا الحق بأن نحمل من الغيرة على ديننا نفس ما يحمله المسلمون من الغيرة على دينهم في بلادهم.
ينفس هذا البند نجد دعوات لمنع استغلال هؤلاء المسلمين "لديمقراطيتنا" لكي ينشروا دينهم في حين هم أبعد الناس عن الديمقراطية في بلادهم, و يجب أن نمنعهم من استغلال حرية الرأي و المعتقد هنا لأنهم يدافعون عنها هنا و يحتمون بها لممارسة نشاطاتهم في حين يرفضونها في بلادهم.
بالتأكيد لا تغيب عن الحملة صور كنائس مدمّرة في العراق بعمليات إرهابية, أو قصص عن تهجير و تصفية الأقلية المسيحية في العراق أو القيود على الممارسة الدينية المسيحية في بعض الدول الإسلامية.
أعتقد أن جزءاً كبيراً من الخطاب الإسلامي السياسي, خصوصاً ذلك الموجّه إلى أوربا, هو أفضل حليف لليمين الأوربي المتطرّف لأنه يمنحه كل الذرائع و الحجج و لا يترك لليمين الأوربي من واجبات إلا أن ينشر هذا الخطاب, مثل الكثير من الخطابات التي تؤكد أن الإسلام يغزو أوربا و أن بعض الدول ستصبح "إسلامية" خلال عدد محدد من العقود, و نجد في صحفهم و مواقعهم و خطاباتهم أقوالاً للشيخ فلان الذي قال كذا و كذا.. و فعلاً الشيخ فلان قال كذا و كذا... هم فقط ينقلون كلامه و يضعونه في السياق الذي يلائمهم. و اليمين ينشر هذه الخطابات كتأكيد على أن هؤلاء المسلمين لا يأتون إلى أوربا كي يعيشوا بسلام و يندمجوا في المجتمع الأوربي بل أنهم يريدون التوسع في العالم على حساب إنهاء الحضارة الأوربية و احتلال محلها, و هنا لا نستطيع أن نلوم المواطن العادي على خوفه من هذا الأمر لأنه من حق أي منا أن يخاف على وطنه و خصائصه في لحظةٍ معيّنة, المشكلة هنا تكمن في من يلعب على وتر هذا الخوف لمصالح سياسية, و أيضاً في من يساعد هذا اللاعب و يعطيه الذرائع.
كملاحظة أخيرة على غرائزية و عاطفية الخطاب الذي طلب هذا الاستفتاء و نجح فيه أشير إلى قصده المباشر: المآذن.. لم يطالبوا بوضع نشاط الأئمة تحت إشراف و تحكّم الدولة مثلاً, لم يطالبوا بقرار سياسي أو اجتماعي بخصوص مراقبة النشاط السياسي و الاجتماعي للمنظمات و الجمعيات الإسلامية, بل أنهم وجّهوا جهدهم نحو الرمز, نجحوا في زرع مفهوم المئذنة في ذهن الكثير من مواطنيهم كنوع من أنواع العنف الرمزي, بمعنى أنه يعرف أن هذا البناء جامع, لكنه لا يريد أن يرى المئذنة, لأن المآذن هي حراب المسلمين في غزوهم للعالم (و هو جزء من كلمة قديمة ألقاها الرئيس التركي و تم استخدامها أيضاً في الحملة الإعلامية).
الوضع العام للجاليات و الأقليات المسلمة في أوربا جيد, أو على الأقل مقبول (حتى في سويسرا لا يوجد مشاكل تعايش كبيرة خارج هذا الاستفتاء), لا يدخل دائرة الخطر أو التهديد بل هو بعيدٌ عنها جداً, و في هذا الخصوص, و عدا استثناءات لا يمكن اعتبارها إلا هامشية و قليلة, يمكننا تأكيد أن الرأي العام الأوربي مناهض لما حدث في سويسرا لأنه اعتبر أن قرار منع المآذن يمس حرّية الممارسة الدينية و يذهب إلى ما هو أبعد من الدعوة "المنطقية" للحفاظ على الهوية القومية الحضارية. أجل هناك إشارات مقلقة يجب أخذها بعين الاعتبار و التصدّي لها من بدايتها قبل أن تستفحل و تكبر, خصوصاً في سياق مناخ اقتصادي يعيش أزمة خانقة ترفع معدلات البطالة و يمكن استغلالها دوماً للإشارة إلى من أتى من الخارج لأخذ فرصة عمل "ابن البلد" كمسبّب, و الخطوة الأولى لهذا التصدي تبدأ من النقد الذاتي, و تمر إجباراً بمحاولة فهم الطرف الآخر و تفهّم مخاوفه و العمل على مسح هذه المخاوف و التركيز على عوامل التعايش المشترك, بدل العمل على إذكاء هذه المخاوف و إشعالها و مساعدة من يريد استغلالها لمصالحه الإيديولوجية و السياسية.