yass
13/09/2004, 10:49
يجسد رياض الترك كإنسان وكسجين وكقيادي نموذجاً في السياسية قل نظيره. إنه رجل سياسي محترف في المعنى النبيل للكلمة. السياسة هي معنى حياته (أو كما يحلو له أن يردد: السياسة في دمي). يخدمها أكثر مما تخدمه. يتواضع بها وتفتخر به. يكرس لها جل وقته وجهده, فتعطيه السجن حينا طويلا, ولا تلبث أن تكرمه عن جدارة بعوائدها الرمزية الأهم: تقدير الناس والتفافهم من حوله. انه يرتقي بها ومعها إلى المعاني الاسمى في العدالة ورفعة الإنسان وحريته.
قد يتصور البعض عند قراءة هذه المقابلة أن رياض الترك لم يتعلم الدرس من سجنه المتجدد. وها هو ذا يعاود أساليبه القديمة في تحدي السلطة ومقارعتها. لكن الأمل يبقى في أن يتعلم الجميع الدرس الأهم والأشمل, وهو أن قوة السلطة ومناعتها يتجسدان في قدرتها على تقبل النقد والاستفادة منه. رياض الترك, كما قال عنه شيخ المثقفين السوريين أنطون مقدسي, هو رجل دولة في تصريحاته ومواقفه. ورجل الدولة حين يدعو إلى المصالحة لا يودع السجن ولكن يحاور ويناقش لما فيه مصلحة الوطن والمواطن. رياض الترك حر من جديد وتبقى سورية في انتظار موعدها مع الحرية!
الحوار
* هل تعتقد أن الإفراج عنك هو خطوة جدية على طريق الانفتاح الديمقراطي؟
- الانفتاح الديمقراطي لا يكون بالإفراج عن سجين بمفرده, فأنت تعيد إلى هذا السجين حريته وحقه الذي سلب, ولا معنى لخروجي من السجن إذا لم يخرج بقية السجناء السياسيين. الانفتاح الحقيقي يكون بوضع خطة لحل مشكلات البلد المستعصية وتجاوز الأخطاء السياسية السابقة. هناك مطالب أساسية عبرت عنها القوى السياسية المعارضة وبيانات المثقفين, ولم تتخذ السلطة إلى الآن أي خطوات جدية في اتجاهها.
* كيف كان شعورك عندما أتوا يبحثون عنك في عيادة الطبيب بمدينة طرطوس؟ وهل كنت تتوقع أن يتم اعتقالك من جديد؟
- رغم أنه كان هناك حالة من الترقب في البلد تتوقع اعتقالي, وأن العديد من الأصدقاء القلقين نصحوني بالتواري, إلا أني لم أكن أتوقع ذلك باعتباري "أشتغل" سياسية. لقد تصورت أن اعتقالي غير مفيد لهم, رغم كل الإنذارات التي وصلت.
عندما جاءت عناصر الأمن لاعتقالي رفضت الذهاب معهم بدون تبيان لصفتهم الرسمية أو إبراز لمذكرة توقيف. تركوني محاصرا, ثم أتوا بعد ذلك برفقة ضابط في الأمن العسكري يعرفه الطبيب فذهبت معهم. ساقوني إلى فرع الأمن السياسي في طرطوس, ثم جهزوا دورية لنقلي إلى فرع التحقيق التابع لشعبة الأمن السياسي في دمشق في مساء اليوم نفسه حيث أمضيت ليليتن, نقلت بعدها إلى سجن عدرا المركزي.
* بماذا فكرت خلال اليومين اللذين قضيتهما وحيدا في فرع التحقيق التابع لشعبة الأمن السياسي بدمشق, ثم خلال الفترة الانفرادية الأولى التي أمضيتها في سجن عدرا المركزي؟ هل حاولت أن تحلل معنى وأسباب توقيفك, والى أي مدى يمكن أن يدوم هذا الاعتقال؟
- لم أفكر في شيء .. عندما أدخل السجن أتوقف عن التفكير والتحليل وعن انتظار اليوم الذي سيطلق فيه سراحي, لأن ذلك سيزيد معاناتي ولن يفيدني شيئاً. "خلص" أنا دخلت إلى السجن, ولا مجال للتفكير متى الخروج منه. في السجن أنا مقيد, وأهم الأمور المطلوبه مني أن أصمد وأن أحافظ على موقفي السياسي وأن لا أقدم مثلا سيئا وأن لا أبوح بأسرار حزبي وأن لا أتراجع عن أقوالي وتصريحاتي السابقة, وهذا ما فعلته.
* لكن الظروف السياسية العامة تغيرت مقارنة بسجنك الأول, مما جعل أمل الإفراج عنك حاضرا منذ اللحظة الأولى. هل راودك هذا الأمل وأنت داخل سجنك الجديد؟
- لا .. أبداً. أنا رجل واقعي, ولا أراهن على الآمال, وكل ما يهمني هو أن يكون سلوكي قوياً في السجن. فما فائدة أن أعيش على أمل خروجي بعد شهر أو سنة ثم تنقضي المدة ولا يأتي الإفراج! شعور الخيبة هذا يمكنه أن يحطم السجين السياسي, ولذلك تجنبته.
حتى بعد صدور الحكم بسجني سنتين ونصف سنة, كان رأيي أنه يمكن أن أبقى مدة أطول بأمر عرفي جديد, وهذا ناجم عن عدم ثقتي بنظام تسوده الأحكام العرفية وتغيب عنه دولة القانون. مع ذلك كان لدي اقتناع منذ البداية بإمكان خروجي في أي لحظة حتى قبل انقضاء مدة الحكم. فدخولي إلى السجن وخروجي منه لا يرتبط بأحكام قضائية بقدر ما يرتبط بقرار سياسي نابع من ظروف سياسية جديدة.
* من نقاط خلافنا الأساسية في فيلم "ابن العم" قولك بقدرتك على نسيان العالم الخارجي خلال فترة سجنك الأولى والمديدة؟ ألم تكن موضوعياً في فترة سجنك الثانية أكثر احتكاكاً بالعالم الخارجي, من خلال تواتر الزيارات العائلية واللقاء مع المحامين والنزول إلى المحكمة؟
- هذا صحيح, وخصوصاً عندما كنت برفقة البعض من المعتقلين العشرة. لكن كوني أقاوم آثار السجن وأنا في داخله, فإن مثل هذه الأفكار لا تفيدني. أنا لدي منهج ثبتت نجاعته في السلوك داخل المعتقل, وذلك مهما تبدلت ظروف السجن ومهما قصرت مدته أو طالت. وأهم نقطة وأنت حبيس العالم السفلي هي عدم التفكير في العالم الخارجي. أنا مثل طائر أسرته ووضعته في القفص وتالياً لا فائدة من التفكير.
* لكن الطائر الأسير يظل يحلم بالطيران؟
- وأنا أيضاً أحب أن أغادر السجن, لكن التفكير في الخروج وفي العالم الخارجي لن يفعل شيئاً سوى زيادة معاناتي.
* هل أفهم من كلامك هذا أن قدوم زوجتك الدكتورة أسمى وابنتيك وأحفادك لزيارتك في السجن, لم يكن يدفعك للتفكير بالعالم الخارجي؟
- صدقني .. صدقني يا "ابن العم", لم أكن أتمنى أن يأتوا لزيارتي, حتى لا يؤثروا على عاطفتي. لأنه في يوم الزيارة, أصبح كالمشلول! لاأعرف كيف أتصرف, فالعالم الخارجي يسيطر عليّ, وأحتاج إلى بضعة أيام حتى يعود إلي توازني كسجين, ويخرج "بخار" الزيارة من رأسي. وما عليك إلا سؤال الدكتورة أسمى, كم مرة رجوتهم أن يأتوا كل شهرين أو حتى كل فصل, فأنا لا اريد لهذا العالم الخارجي أن يدخل عالمي السفلي ويزيد معاناتي. نسيان العالم الخارجي راحة للسجين ولكنه لا يعني أبدا نقصا في العواطف حيال عائلته.
* إذاً, تكاد تكون فترة سجنك القصيرة هذه, أصعب من الفترة التي سبقتها من جهة العلاقة مع العالم الخارجي والتواصل مع الأهل؟
- من وجهة النظر التي ذكرتها كانت أصعب بكثير من الناحية العاطفية والمعنوية, لأن الزيارات كانت شبه متواترة. أما من ناحية المعاملة والشروط المادية والصحية لسجن عدرا, فلا مجال للمقارنة مع سجني السابق, رغم أن السجن السياسي يظل سجناً يحجز حرية الإنسان بغير حق, وهذا هو الأساس.
* في ظاهرة لم تعهدها المدن السورية منذ زمن بعيد, لم ينفك المتضامنون معك عن الاعتصام أمام مبنى محكمة أمن الدولة مصفقين في كل مرة كنت تخرج فيها مخفورا من الجلسة, وتجرأوا ورفعوا الشعارات الديمقراطية في الشارع من مثل تلك التي تدعوا للإفراج عن المعتقلين السياسيين وإلغاء حالة الطوارئ .. ترى هل كنت تعتبر رؤيتك لهم على باب المحكمة تواصلاً لا تريده هو الآخر مع العالم الخارجي؟
- لا, هنا يغيب الجانب العاطفي في بعده العائلي, وتصبح القضية قضية نضال ترفع معنوياتي. وهذا دليل على أن التحرك الديمقراطي لم يتوقف, وأن هناك أناساً لا يزالون مستعدين للتضحية. لقد فرحت كثيرا لجرأة الشباب وابتداعهم أساليب جديدة في الإحتجاج, مما يفوق مستوى تصوري. وهذا دليل على أن حالة الكمون والصمت بدأت تتزحزح الأمر الذي له دلالات مهمة لمستقبل العمل الديمقراطي في سورية.
* ألا ترى معي, أن بعض أحداث العالم الخارجي يمكنها أن ترفع معنويات السجين؟
- طبعاً, ولكن الأمور محسومة بالنسبة إليّ. فحتى لو لم يأت أي شخص للتضامن على باب المحكمة سأظل صامدا, فما أدراك إذا جاء المتضامنون للاحتجاج بالشكل الذي سارت عليه الأمور أمام المحكمة؟
* إذاً أنت متفق معي, أن للعالم الخارجي أحياناً بعض الفائدة في رفع معنويات السجين؟
- إذا كان ما تريده من إلحاحك هو إجباري على الإقرار بأهمية اطلاع السجين على ما يجري في العالم الخارجي, فليكن أنا أقر وأعترف بذلك!
* ما الذي كنت تفتقده كثيراً داخل سجنك المتجدد؟
- غريب حقاً هذا الأمر, أنت تجرني إلى موضوعات وأنا أدفعك إلى موضوعات مغايرة. في السجن أنا لا أفتقد شيئا ولا أريد شيئا, وكل ما يأتي أنا راض به. لم أطلب شيئا من أحد وتدبرت أموري بمفردي, ولماذا أعذب نفسي إذا كان هناك احتمال برفض طلبي! حتى هذه الكرتونات وأكياس النايلون التي تراها الآن أمامك ممتلئة بالأغراض, لم أطلبها من أحد ولممتها في طريقي إلى ساحة التنفس من مرميات بقية السجناء. وستجد بين هذه الأغراض مئات علب التبغ الفارغة التي لممتها لأستفيد من ورقها لاحقا في كتابة الفواتير وتسجيل بعض الملاحظات.
في الفترة الأولى الانفرادية داخل سجن عدرا, حظيت وأنا في طريقي إلى التنفس بجريدة وسخة مرمية على الأرض, أخذتها ونظفتها فإذا بي أُفاجَأ بصفحتين كاملتين تتحدثان عن اعتداءات نيويورك وواشنطن, وكانت هذه أول مرة أسمع بها عن أحداث الحادي عشر من أيلول.
* بماذا أفادتك خبرتك السابقة هذه المرة, وهل صنعت لوحات الأرابيسك من الحبات السوداء في بقايا شوربة العدس, لقتل الوقت؟
- الفائدة الأساسية كانت في المحافظة على علاقة حسنة مع السجانين, وفي جعل وقع الزمن عليّ أقل شدة. أما شوربة العدس فهي بسبب نوعيتها الجيدة في هذا السجن تكاد تكون خالية من الحبات السوداء, ولذا كان الوقت يمضي في تبادل الأحاديث مع بقية المعتقلين عندما كنا مجموعين في مهجعين, أو في الطبخ وتحضير الطعام, أو في القراءة بعد أن فُتحت لنا مكتبة السجن.
* هناك بعض من شاهد فيلم "ابن العم" ورأى في قوة صمودك خلال سجنك الأول حالة غير إنسانية, ما تعليقك؟
- من يقول هذا ربما لم يُعانِ معاناة شعبنا في ظل الاستبداد. في سجني الأول أنا كنت أصمد عن وعي وأقابل وحشية ظروف اعتقالي باستعداد للموت, كما لو أني في معركة. من أجل ماذا يصمد الإنسان, أليس دفاعاً عن إنسانيته؟ لم يحصل في التاريخ أن صمد إنسان في مثل هذه الظروف من أجل شيء غير إنساني. أنا لم أرَ في نفسي ضحية ولم أكن أبحث عن عطف أحد, أنا كنت في سجني أدفع ضريبة تمسكي بمواقفي ولو أنها كانت ضريبة ظالمة وغير عادلة.
* بعد خروجك المتجدد من السجن قدمت أعداد غفيرة من الناس من مختلف المحافظات والمشارب لتهنئتك بالحرية, بماذا تفسر هذا الإقبال؟
- لم أتوقع هذا الاحتضان والمحبة, وبرأيي هناك عطش للحرية وعطش لرؤية مناضلين ضد الاستبداد, ولربما كان هناك تقدير مبالغ فيه لبعض مواقفي, وكل خوفي أن لا أكون أهلا لهذه الثقة الكبيرة.
* ألا يمكن أن تصاب بنوع من الغرور نتيجة هذه المشاعر الفياضة التي منحك أياها الناس؟
- لا .. لا أبداً, لا يمكن أن أُصاب بأي نوع من أنواع الغرور. فأنا محصن ضد هذه الظواهر التي قاومناها بشدة يوم كانت موجودة في حزبنا وخصوصاً عند خالد بكداش. وسأظل أقاومها أينما وجدت.
* بماذا تشعر تجاه حركة التضامن مع قضيتك, التي عبرت عن نفسها بقوة خارج حدود سورية؟ وما رأيك في قول البعض: إن دعوة بعض الحكومات الأوروبية السلطات السورية لإطلاق سراحك, وقرار البرلمان الأوروبي الذي جاء يحمل اسمك, أتيا في سياق ممارسة الضغوط السياسية لإضعاف المواقف السورية؟
- أتقدم بجزيل الشكر والامتنان من كل من تضامن معي أو مع غيري من المعتقلين السياسيين في سورية في الداخل والخارج. وهذا يثبت أن قضية حقوق الإنسان وكرامته أصبحت تعبر عن قيم إنسانية مشتركة بين كل شعوب الأرض على اختلاف مشاربها. طبعاً علينا هنا أن ننظر إلى الغرب على أنه غَربان وليس غرباً واحداً, وعلى أن هناك الكثير من القوى والفعاليات الثقافية والسياسية في الغرب, لا تزال تحمل قيم عصر التنوير وعقلانيته, وتطورها, والتي يجب أن نلتقي معها في المستقبل على قاعدة الديمقراطية وحق الإنسان في الحرية والعيش الكريم.
* كان لبعض القوى والشخصيات ووسائل الإعلام اللبنانية دور متميز في التضامن معك, ماذا تقول لهم ومن خلالهم للشعب اللبناني؟
- اليوم نحن "سوا" ضد الذين يقولون "سوا ربينا". أقولها بصراحة: "دعونا وشأننا حتى تعود المياه إلى مجاريها بين الشعبين". صحيح أننا كنا بلدا واحدا في الماضي, لكن جاءت ظروف وأصبحنا دولتين ومن واجبنا نحن السوريين أن نتعامل اليوم على أساس احترام سيادة لبنان واستقلاله. في رأيي التسلط السوري هو أحد أكبر العلل التي أُضيفت إلى الحياة السياسية اللبنانية والتي تساهم في عرقلة عودة الحياة الديمقراطية الصحيحة إلى هذا البلد. وإذا كف التدخل السوري في الشئون الداخلية اللبنانية, أنا أجزم أن الشعب اللبناني سيقدر ذلك ولن يسمح للطائفيين المتزمتين بتعميق الشرخ بين الشعبين بسبب عجزهم المزمن عن التمييز بين النظام والشعب في سورية. لكن الأساس هو أن نسلك نحن السلوك الصحيح وفي الأخص منه عدم التدخل في شئونهم الداخلية.
اليوم, المشترك الأول بين الشعبين هو النضال من أجل الديمقراطية, لأن خصمها في البلدين مشترك. وأي تقدم تحققه الديمقراطية في أي من البلدين هو تقدم في الاتجاه ذاته للبلد الآخر. ومن هنا يوجد مصالح مشتركة بيننا وبين الحركة الديمقراطية في لبنان.
* وهل تعتقد أن في لبنان اليوم هناك حركة ديمقراطية تستطيع أن تلتقي معها على برنامج مشترك لمصلحة الشعبين؟
- بالتأكيد هناك حركة ديمقراطية ألتقي معها, وإن كنت أتمنى على بعض أطرافها أن يأخذوا طابعاً مترفعاً عن مسألة الطائفية يأخذ مصالح لبنان أولاً والموقف من إسرائيل. وأنا مستعد لأن ألتقي معها على ضرورة خروج الجيش السوري من لبنان ضمن اتفاق يسمح له إذا ارتضى اللبنانيون واقتضت الحاجة, بمساعدة لبنان ضد إسرائيل. وأظن أن الحركة الديمقراطية السورية إذا تخلصت من بعض المظاهر الحدية والانتهازية ستلتقي معها هي الأخرى. كما أنني لست من أنصار أن يحتكر حزب الله مسألة الدفاع عن الجنوب, ويجب أن يكون هذا الحزب جزءاً من حركة عامة, ولكن مع الأسف لعبت السياسية السورية هذا الدور المفرق على أساس طائفي, رغم أن الحركة الوطنية اللبنانية كان لها في البداية دور مهم وأساسي في المقاومة ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
الوضع اليوم في لبنان معقد, وعلينا ربطه بالتوجهات الأمريكية في المنطقة التي تضع حزب الله على قائمة المنظمات الإرهابية, وتالياً, هناك حاجة لحركة ديمقراطية تستطيع أن تتعاون مع هذا الحزب لما فيه مصلحة لبنان أولاً, وتقطع الطريق على المخطط الأمريكي الذي يستهدف هذا البلد وهذه المقاومة.
* كيف تنظر إلى الأوضاع الحالية في فلسطين والعراق؟ وأين دور الشعوب العرببة في كل ما يجري؟
- يخوض الشعب الفلسطيني وحيداً اليوم معركته الحاسمة من أجل الاستقلال في ظل ظروف عربية ودولية غاية في الصعوبة. وأنا أشعر بالخجل لأن الشعوب العربية لا تأثير لها في القرار الرسمي العربي. الشوارع هي ساحة التعبير عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني, هذا إذا سمحت لها حكوماتها بالتظاهر. ومن مسئوليتنا جميعاً اليوم ابتداع أساليب جديدة في دعم صمود الشعب الفلسطيني في الضغط وإجبار حكوماتنا العربية على تجاوز المواقف اللفظية إلى الفعل الحقيقي والمثمر في الضغط على إسرائيل ومساندة الفلسطينيين.
لكن الأمل الأول يظل معقوداً على قدرة هذا الشعب الجبار على الصمود رغم الضحايا والخسائر الفادحة. وعسى أن تتمكن الفصائل الفلسطينية من الالتقاء على إستراتيجيا موحدة في الصمود ومواجهة الإحتلال, تستطيع من خلالها منع شارون من استغلال الخلافات الفلسطينية وتحد من قدرته على طمس البعد الأخلاقي لهذه القضية. طبعاً لا ضرر في أن تتعدد أساليب المقاومة من النضال السلمي إلى العمليات العسكرية, بشرط أن لا تتناقض مع الهدف المعلن في دحر الاحتلال. إسرائيل هي اليوم آخر دولة استعمارية استيطانية في العالم, وتخطئ كثيراً طبقتها السياسية إن هي تصورت أن في إمكانها وأد التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال والعيش الكريم, وهي لن تفعل شيئاً آخر سوى تأخير موعد مقبل لا محالة: قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
ليس لنا في مواجهة إسرائيل وهولاكو أمريكا القادم إلى منطقتنا إلا المقاومة, والمقاومة الفعالة لا تقدر عليها إلا الشعوب المتحررة من نير العبودية والاستبداد, أما الأنظمة الحاكمة في منطقتنا فإنها لن تفعل شيئاً في سبيل الحفاظ على عروشها ومصالحها سوى إحناء رأسها للعاصفة المقبلة. معركتنا مع أمريكا وإسرائيل هي أولاً وقبل كل شيء معركة إرساء الديمقراطية وتمكين الشعوب العربية من التعبير الحر عن آرائها وانتخاب قيادتها القادرة على الارتقاء إلى مستوى التحدي المفروض علينا. الجيوش الأمريكية المنتشرة اليوم في كامل منطقة الخليج العربي, أتت إلينا ليس من أجل فرض احترام حقوق الإنسان العربي في المنطقة أو إعادة الحياة الديمقراطية إلى العراق؟! إنها هنا من أجل فرض السيطرة الكاملة على منابع النفط وإعادة تأهيل الأنظمة التابعة بما يخدم مصالح أمريكا وإسرائيل.
* يجري الحديث عن نية السلطة إصدار قانون جديد للأحزاب وقانون جديد للانتخابات, ينظم العملية السياسية قبيل موعد الانتخابات المقبلة, ما مدى مصداقية هذه التوقعات برأيك؟
- الفترة الزمنية التي تفصلنا اليوم عن الانتخابات القادمة باتت قصيرة جداً, وليس هناك أي مؤشر لصدور قانون جديد للأحزاب أو قانون جديد لانتخابات يشكلان فاتحة لمرحلة جديدة, حتى أن النقاش من حول هذه القوانين لا يزال يجري في الظل داخل الدوائر الضيقة بعيداً عن المجال العام. وإذا كان الطيف السياسي العريض في سورية قد أكد مراراً على أن قانون الأحزاب وقانون الانتخابات يشكلان جزءاً أساسياً من عملية الإصلاح السياسي, فإنه في الظروف الحالية يصعب الوصول إلى هذا الهدف من طريق التعامل الإيجابي مع الاستحقاق الانتخابي المقبل.
إذاً من شبه المستحيل اليوم في ظل ضيق الوقت وغياب الحوار الجاد بين الأطراف المعنية أن تقدم السلطة على خطوات فعلية في اتجاه الانفراج الجزئي أو الكلي. وكل ظني أن الانتخابات القادمة ستجري وفق الأساليب القديمة التي اعتادت عليها الأجهزة الأمنية وأتقنتها. وهذا يعني استحالة أن يتمكن أي مرشح من التعبير الحر عن آرائه وأن يطرح على الناخبين مشروعات جدية ومتكاملة للإصلاح, وتالياً ستأتي تركيبة المجلس الجديد مماثلة لتركيبة المجالس السابقة.
إن شرط تحول الاستحقاق الانتخابي إلى استحقاق سياسي فعلي هو أن يتمتع المرشح بحرية الحركة والتعبير الحر عن آرائه وأن يتمكن من إصدار البيانات والبرامج السياسية بعيداً عن الرقابة المسبقة وأن تكون هناك ضمانات فعلية ورقابة قانونية لعملية التصويت والفرز وإعلان النتائج. وهذا غير متوفر اليوم في ظل الإشراف المباشر للسلطة التنفيذية ممثلة بوزارة الداخلية على العملية الانتخابية وفي ظل قانون يؤكد مسبقاً على أن للحزب الحاكم كحد أدنى نصف المقاعد زائداً واحد في أي مجلس منتخب.
* لكن يقال إن هناك نية لدى بعض أطراف التجمع الوطني الديمقراطي في دخول الانتخابات؟
- عندما نُقل إليّ هذا الخبر وكنت وقتها لا أزال في السجن, كان رأيي أن الأمر سابق لاوانه, لأن السلطة لم تتخذ بعد أي إجراءات جدية للتهيئة لإنتخابات حرة ونزيهة تشارك فيها جميع الأطراف في السلطة والمعارضة. وأعتقد أن سبب هذا التسرع لدى البعض من قيادة حزب اللتحاد الإشتراكي وقيادة التجمع, ربما كان غرضه احتواء الضغوط التي يتعرض لها من بعض النافذين فيه من أجل الترشح.
إن فكرة التعاطي السياسي الإيجابي مع العملية الانتخابية الواردة في بيان التجمع الأخير, هي فكرة مطاطة, وتالياً فهذا الكلام لا يكفي في ذاته وينبغي أن توضع أسس ومبادئ موجزة نقيس من خلالها وعلى ضوء الواقع ضرورة المشاركة أو المقاطعة. لست ضد النظر إلى الإنتخابات كعملية سياسية, ولكن بما أننا لا نزال نعيش في ظل الاستبداد فالمبادرة في إطار هذه العملية السياسية يجب أن تأتي من جانب السلطة على شكل خطوات ملموسة في إطار الإصلاح السياسي.
* في ضوء هذا الذي تقول, هل تعتقد اليوم أن التجمع الوطني الديمقراطي كتحالف للأحزاب المعارضة يستطيع أن يقود التحرك الوطني المعارض داخل سورية, وما هي حقيقة تمثيله للطيف السياسي الواسع في المعارضة؟
- نشأ التجمع في نهاية السبعينات من القرن المنصرم كإطار سياسي معارض يضم داخله أحزاباً ذات منحى يساري ديمقراطي متحدرة من التيارين القومي والماركسي التقليديين. وكان له الدور السباق والأساسي في طرح الحل الديمقراطي كمخرج لأزمة البلاد وكان ذلك قبل احتدام الصراع الدموي بين السلطة و"الإخوان المسلمين". لكن دور التجمع خفت شيئاً فشيئاً خصوصاً خلال فترة القمع الدموي والإرهاب التي سادت في الثمانينات. وإذا كان التجمع سبق له أن سجل مواقف مبدئية تحت قيادة الدكتور جمال الأتاسي بفضل التعاون والتنسيق بين أحزابه المتعددة, فإن المعطيات تبدلت كثيراً اليوم بعد رحيل الدكتور جمال الأتاسي وتغير المعطيات الدولية والإقليمية وعجز أطراف التجمع عن تجديد خطابها الموروث وتطوير وسائل عمله المعارض واتخاذ مواقف أكثر وضوحا والانفتاح على جمهور الشباب.
مع ذلك أنا أعتقد بضرورة بقاء وتطوير عمل التجمع كإحدى أداوات العمل المعارض وكجزء من الطيف السياسي الواسع, وبسبب تفاؤلي بالمستقبل لا أرى أنه يصح أن يتعامل مع نفسه بوصفه قائداً للعمل السياسي المعارض كما يحلم ويحاول البعض. وتجديد دور التجمع مشروط بتجديد شبابه وبخاصة قيادته وبإعادة النظر في ما سمي "البرنامج السياسي للتجمع الوطني الديمقراطي", في شكل يخالف اللائحة التي تنظم عمل التجمع, علماً أنه كان مسودة مشروع ولم ينعقد مؤتمر رسمي لمناقشته وإقراره.
* لكنك عضو في قيادة التجمع تتحمل جزءاً من المسئولية عن قرارات التجمع وعن الحالة التي آلت إليها الأحزاب؟
- أنا لا أنكر تحملي جزءاً من المسئولية, لكن الكثير من وجهات النظر التي عبرت عنها كتابة أو تصريحاً بصفتي الشخصية, أعتقد أنه كان واضحا للرأي العام أنها غير مطابقة لرأي التجمع المعبر عنه على لسان الناطق باسمه أو من خلال نشراته. أعود لأقول مرة أخرى إن التجمع جزء مهم من الطيف السياسي المعارض, ولكنه لا يمثل كل تيارات هذا الطيف.
* لكن أين هي القوى الأخرى التي تتحدث عنها, وفي حال وُجدت فما هي الأطر التي يمكن أن تضمها وتنسق بينها؟
- هناك بالتأكيد قوى عديدة بعضها كامن وبعضها الآخر يحاول أن يجد لنفسه تعبيرات خارج أطر العمل السياسي التقليدي من خلال الأحزاب. واليوم, هناك حاجة لوجود أكثر من إطار سياسي ومجتمعي يتجاوز المفاهيم التقليدية لليمين واليسار إلى الإطار الوطني العريض. فسورية اليوم في حاجة إلى إعادة تأسيس سياسي واجتماعي وثقافي, وهذا ليس من حق حزب أو تيار سياسي بعينه مهما كانت صبغته الإيديولوجية, هذا من حق الوطن والمواطن. طبعاً هذا لا يعني انتهاء دور الأحزاب ولكن علينا أن نقبل ابتداع صيغ أخرى موازية في العمل السياسي والمجتمعي. وهذا لن يكون إلا من خلال حوار ديمقراطي واسع تشارك فيه كل الأطراف المعنية بإخراج سورية من أزماتها المستعصية.
وفي هذا الإطار الواسع ومن خلال تناقض المصالح وإدارتها بشكل سلمي, أنا سأظل يسارياً في تفكيري ومنحازاً إلى جانب الفقراء والمستضعفين, وضد كل من يستغلهم. لكن تجربة الأربعين سنة الماضية من حكم البعث بينت لنا أن الأولوية السياسية اليوم تتجاوز مقولة اليسار واليمين, إلى العمل الجماعي من أجل أن الهدف الوطني الأول وهو نقل سورية من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية وإرساء حياة سياسية قائمة على تداول السلطة سلمياً وعلى حق الجميع في العمل السياسي.
* هل تعتقد اليوم أن على الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي أن يحافظ على اسمه, أم أن هناك ضرورة لتطوير خطابه وهويته واسمه؟
- لقد تطورت الراسمالية كثيراً خلال القرن المنصرم, وليس هناك إلا الفكر المادي العقلاني مخرجاً لفهم هذا التطور ولابتداع أساليب جديدة في العمل السياسي ترتقي إلى مستوى تحدي العولمة وتستطيع مواجهة جشع الشركات متعددة الجنسيات العابرة للقارات, وتطرح حلول تسمح بالوصول إلى عالم أكثر عدلا وإنصافا. وعلينا أن ننظر إلى ما وراء حدود المنطقة العربية للاستفادة من تجارب حركات اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية وأوروبا في بحثها الدؤوب عن مخارج لأزمات العالم المستعصية. أنا أفهم اليسار اليوم على أنه دفاع عن مصالح الفقراء والمضهدين, ودفاع عن حق الإنسان في العمل والطبابة والتعليم المجاني وفي التعبيرالحر عن رأيه بمعزل عن موقعه الاجتماعي.
أما بالنسبة إلى هوية حزبنا واسمه, فإن هذا الأمر متروك للمؤتمر, رغم أن خطابنا ومنذ فترة طويلة يختلف عن خطاب الأحزاب الشيوعية التقليدية, وعلينا أن نعمل على تطويره, ومن يقول اليوم بدكتاتورية البروليتاريا في سورية هو كمن يحارب طواحين الهواء, وهذه ليست حالنا. نحن كنا سباقين في وضع حزبنا على سكة الحركة الديمقراطية, وإذا قرر المؤتمر تغيير اسم الحزب فأنا لن أقف عائقاً, والفكر اليساري عنده متسع استناداً لماديته لأن يتجدد. نحن اليوم يسار جديد بلافتة قديمة.
* لماذا إذا كان إصرارك السابق على التمسك بهذه اللافتة والحفاظ على اسم الحزب؟
- يجب أن تتفهم عواطفي كإنسان أمضى جزءاً كبيراً من حياته إلى جانب رفاقه في النضال ضد الاستبداد ومن أجل الديمقراطية تحت لواء هذه اللافتة. هذا إضافة إلى أننا لم نتلط بها بحثاً عن مصالح ضيقة أوتورية لسلوك مشين. ولعلك ستفهم موقفي من هذه اللافتة القديمة وحنيني إليها إذا رأيت كمية الأغراض غير المفيدة التي أصررت على إخراجها معي إلى خارج السجن يوم أطلق سراحي. ورغم أن لهذه الأغراض مكانة خاصة في نفسي فإن الكثير منها لم يعد صالحاً للاستعمال, وهناك أفضل منها في العالم الخارجي. اليوم مهمة الجيل الجديد أن يجد أفضل منها, وأنا كما قلت لن أقف عائقاً.
* لكن "أغراض" الماضي تعني في جزء منها الذاكرة, فهل علينا أيضاً نسيانها؟
- كلا بالتأكيد, لأنه في السياسة لا يمكن لنا أن نبني الحاضر والمستقبل بنسيان الماضي, ففي بلد مثل بلدنا لا يمكن أن نبني سياسية سليمة دون أن نعرف ماذا جرى في الماضي لكي نتجنبه في المستقبل. البحث في ماضي الاستبداد مسألة ضرورية ليس رغبة في التشفي والتشهير ولكن حتى لا تعود سنوات القمع الأسود إلينا مجدداً. ومع ذلك يبقى الحاضر والمستقبل هما الأساس, أما الماضي فهو زائل رغماً عني وعنك. وحتى السلطة, هل تستطيع اليوم إذا إرادت أن تحكم بنفس الأساليب السابقة؟ مستحيل, والتغيير موضوعياً يفرض نفسه من خلال مجمل حركة المجتمع ومجمل نتائج الاستبداد.
نحن نحاول اليوم أن نصل إلى التغيير بطريقة سلمية, لكن بعض أطراف السلطة الخائفين على مصالحهم لا يريدون ذلك. وكل ظني أن سبب سجني لم يكن عبارة قاسية قلتها هنا أو هناك, بل هو الطرح المعتدل في الدعوة إلى المصالحة عن طريق التعاقد التي قدمتها في محاضرتي في منتدى جمال الأتاسي. فهذا الطرح خلق حالة من الانزعاج الشديد لدى أصحاب الرؤوس الحامية ومراكز القوى النافذة في السلطة الخائفة على مصالحها والمستفيدة من حالة الجمود التي تسود الحياة السياسية في البلد.
لنأخذ مثلا سلسلة القوانيين التي صدرت والتي لم تر طريقها إلى التنفيذ. ولنسأل من هو المسئول عن ذلك؟ أنا لا أعتقد أن رئيس الجمهورية هو المسئول عن بقاء معظمها حبراً على الورق, بل هي حالة العطالة والتخشب الموجودة في بنية السلطة والدولة ومؤسساتها, وهذا ما يجب تغييره اليوم. ومن هنا أهمية أن تترافق عملية الإصلاح الاقتصادي والإدراي بالإصلاح السياسي, والذي بدونه لن يكون هناك مخرج لأزمة البلد.
* كيف ترى اليوم آفاق عملية الإصلاح السياسي في سورية, في ظل بقاء الماضي وشجونه؟
- جوهر موقفي هو أنه لا يمكن أن تجتمع الاستمرارية مع الإصلاح. هذه فكرة جوهرية يجب تثبيتها. فكيف يمكن أن أصلح وفي الوقت ذاته أشيد بالمرحلة السابقة. هذا غير ممكن وهو يعني إما حالة خداع أو أنه يجري تسويف الأمور تحت وهم الإصلاح لامتصاص اندفاع الناس نحو الانعتاق. الاستمرارية هي لسان حال الورثة الفعليين لحالة الاستبداد السابقة والمنتفعين منها. كلمة الإصلاح يقابلها الفساد, فهناك صالح وفاسد, والفاسد لا يمكن له أن يصلح, أما الذي يريد أن يصلح فعليه أن يضع حداً للفساد. فالإصلاح لا يكون بوجود رجال فاسدين لا هم لهم سوى الحفاظ على مصالحهم.
وإذا كانت بعض أطراف السلطة تريد فعلاً أن تصلح, فأول شرط هو إقصاء الأسماء الكبيرة الفاسدة وكسر الهيكلية المولدة للفساد. ومن هنا تم التهرب في السابق من الإصلاح السياسي الذي يمكن له إذا ما تزامن مع ديناميكية سياسية حقيقية, أن يؤدي إلى الكشف عن هذه العناصر الفاسدة, ونزع غطاء المزاودة والتزلف والتأليه الذي تتلطى خلفه.
الشرط الرئيس لقيام إصلاح حقيقي وفاعل, هو الاعتراف الصريح (أو ليكن الضمني) بأخطاء العهد السابق وسلبياته. وأول هذه الأخطاء هو شخصنة النظام وتعميم الحالة الاستبدادية والاعتماد على الموالين دون غيرهم في أجهزة الدولة المختلفة, ما أدى إلى غياب المحاسبة ونهب ثروات البلاد. إن تأليه الحاكم وتنزيهه من الأخطاء ما هو إلا وليد منظومة معقدة من المصالح والتوازنات, التي تلتقي من حول تقديس النخبة الحاكمة, الأمر الذي يؤدي إلى وأد السياسية في المجتمع وإلغاء أي إمكانية لكشف الفاسدين ومحاسبة المقصرين.
الفساد ليس إلا نتيجة لحكم الاستبداد. طبعاً هذا لا يعني أن نظام الحكم الديمقراطي لا ينطوي على الفساد, ولكنه لا يوازي بشيء هذا الفساد الشامل والمعمم الذي يجعل من ثروات سورية مادة للنهب تتقاسمها أطراف من الفئة الحاكمة مع أزلامهم.
إن كلامي السابق عن الدكتاتورية لم يكن بقصد الإساءة الشخصية في حق أي إنسان, إنما أتى ضمن سياق الفكرة الأساسية التي حاولت إيصالها في محاضرتي في منتدى جمال الأتاسي والتي تقول بضرورة نقل سورية من حال الاستبداد إلى حال الحرية والديمقراطية, وهذه الفكرة تعني نفي فكرة الاستمرارية مع العهد السابق.
* إذا انتقلنا إلى موضوع تخوف بعض أطراف السلطة من احتمال أن يشكل الحل الديمقراطي مدخلاً لعبور حركة "الإخوان المسلمين" إلى السلطة, ما هو رأيك بهذا الطرح؟
- مرة أخرى علينا من أجل حاضر البلد ومستقبله الخروج من صراعات الماضي المقيتة. المسألة ليست مسألة "إخوان مسلمين" أو حزب بعث أو حزب شيوعي, المسألة مسألة وطن لم يعد في الإمكان حكمه إلا بأسلوب ديمقراطي. وعلى جميع الأطراف, بما فيها حركة "الإخوان المسلمين", أن يتوافقوا على هذا الأسلوب الديمقراطي في الحكم. علينا أن نأخذ العبر من تجاربنا السابقة, فلا مكان اليوم لأحزاب تتسلق إلى السلطة من خلال العملية الديمقراطية ومن ثم تتمترس فيها وتنقلب على كل المبادئ الديمقراطية. إن دولة القانون والمؤسسات, قادرة على حماية نفسها وحماية المواطنين من تجاوزات السلطة.
"الإخوان المسلمون" سلكوا في الماضي طريق العنف, وكانوا ضحية لقمع النظام وكذلك ضحية لعقلية متخلفة في العمل السياسي ولبرنامج ثبتت عدم واقعيته. لكن الإنسان يتعلم من تجاربه السابقة, وها هم أولاء اليوم يعدلون في خطابهم ويطرحون ميثاق شرف للعمل الوطني يأخذ بالمبادئ الديمقراطية، وهذه خطوة مهمة ولكنها غير كافية إذا لم تترافق مع نقد لتجربتهم السابقة في استخدام العنف ونبذ دعاته والاعتذار لمن تضرر منه. مع ذلك فإن "الإخوان المسلمين" قطعوا أشواطاً في الاتجاه الصحيح, ومن الخطأ الفادح أن تُبقي السلطة الأبواب موصدة في وجههم. وهذا يحتم على الجميع محاورتهم حول حاجة سورية إلى نظام ديمقراطي لا يقوم على العنف ولا على الطائفية ولا على التزمت الديني ولا على استغلال المساجد من أجل المصالح الأنانية الضيقة. هم كتيار سياسي لهم وجهة نظرهم في العلاقة بين الإسلام والسياسة, فليكن .. ولكن بشرط عدم احتكار الدين وعدم التخلي عن أساليب الحكم الديمقراطية. وفي أي حوار يمكن أن نتبادل الآراء وأن ينتقد بعضنا البعض في ظل الاحترام المتبادل بعيداً عن التكفير أو التخوين. أنا مثلاً لدي عدة ملاحظات من داخل الإسلام على خطاب بعض تيارات الإخوان المسلمين في فهمها المتزمت للقرآن الكريم, كون باب الاجتهاد القائم على القياس ضيقاً جداً ولم يعد يكفي لتلبية متطلبات العصر التي تختلف جذرياً عن حاجات الماضي ومتطلباته. وباتالي يجب فتح الاجتهاد وفقاً لمناهج عقلانية حديثة في الفهم والتأويل.
* يكثر الحديث هذه الأيام عن وجود تيار مصلح وآخر محافظ داخل النظام, ما رأيك بهذا الكلام؟
- لنقل بداية إن الرئيس بشار الأسد لم يرث وحده السلطة بل ورثها معه رفاق الرئيس الراحل حافظ الأسد, وهو إذا بدأ ولايته بالحديث عن ضرورة الإصلاح واحترام الرأي الآخر فإنه لم يأت إلى الحكم محاطاً بطاقم جديد وشاب قادر على تطبيق أي مشروع فعلي للإصلاح. وما التباطؤ في تنفيذ المراسيم والقوانين الجديدة كقانون المصارف إلا دليل على ممانعة الطبقة المستفيدة لأي تقدم ولو جزئي على طريق الإصلاح. وضمن نفس السياق يجب فهم الحملة على ما يسمى "ربيع دمشق" واعتقال العشرة كضربة لصدقية الحديث عن الرأي الآخر ومحاولة لإضعاف أي توجه إصلاحي في السلطة. ولديّ إحساس أن العناصر المحيطة بالرئيس بشار الأسد في مواجهة أزمة الحكم هذه, تراهن على عامل الزمن من أجل إزاحة مراكز القوى النافذة. في حين أن أي مشروع فعلي للإصلاح لا يمكن له أن يأتي بـ "ثورة من الأعلى", بل عليه أن يقرن أي تدبير إداري أو اقتصادي بتدابير سياسية, تسمح بتحرير طاقات المجتمع وببلورة قوى جديدة ذات مشروعية شعبية تسمح لها بالمضي قدما في أي مشروع إصلاح.
إذاً الحديث عن وجود تيارين في السلطة يعني الحديث عن صراع, ولكن إلى الآن لم نَرَ أي دليل على وجود صراع كهذا, وكل ما نراه هو محاولة بعض أطراف السلطة للخروج من أزمة النظام من دون أن تشكل أي تهديد فعلي لمصالح مراكز القوى, ومن هنا البطء والتردد في عملية الإصلاح.
أما في حال تبلور مشروع جدي للإصلاح السياسي والاقتصادي من داخل دوائر السلطة, يستجيب لتطلعات الشعب ويترافق مع خطوات ملموسة على أرض الواقع, فسنكون من الذين سيقدمون له الدعم لما فيه خير الوطن والمواطن. وإذا خطا هؤلاء خطوة فسنقابلها بخطوتين.
* هل تعتقد اليوم بإمكانية أن ترى في حياتك تحول سورية إلى بلد ديمقراطي, وألا تخاف أن تذهب تضحياتك هباءً؟
- الحالات الفردية يمكن أحياناً أن تحرض ضمائر الناس وتساعد على كسر جدار الخوف والصمت. مع ذلك لا أملك أي وهم لتحقيق انتصارات على طريقة عنترة, أنا لبنة في صرح أراه لمستقبل سورية الديمقراطي وعلى غيري أن يضع لبنات أخرى, كما فعل ويفعل غيري. وهذا هو أساس الأمل الذي يدفعني إلى أن أضحي رغم صعوبة المرحلة الراهنة. هناك في تاريخنا الكثيرون ممن ضحوا وكانت الآفاق مسدودة أمامهم لكنهم ظلوا قدوة لمن أتى بعدهم. رغم ذلك أنا متفائل بمجمل الوضع السياسي حتى في ظل وجود معارضة ضعيفة, لأنه أصبح صعباً جداً على أصحاب الرؤوس الحامية أن يُرجعوا البلد إلى الوراء وأن يعيدوا التاريخ مرة أخرى.
قد يتصور البعض عند قراءة هذه المقابلة أن رياض الترك لم يتعلم الدرس من سجنه المتجدد. وها هو ذا يعاود أساليبه القديمة في تحدي السلطة ومقارعتها. لكن الأمل يبقى في أن يتعلم الجميع الدرس الأهم والأشمل, وهو أن قوة السلطة ومناعتها يتجسدان في قدرتها على تقبل النقد والاستفادة منه. رياض الترك, كما قال عنه شيخ المثقفين السوريين أنطون مقدسي, هو رجل دولة في تصريحاته ومواقفه. ورجل الدولة حين يدعو إلى المصالحة لا يودع السجن ولكن يحاور ويناقش لما فيه مصلحة الوطن والمواطن. رياض الترك حر من جديد وتبقى سورية في انتظار موعدها مع الحرية!
الحوار
* هل تعتقد أن الإفراج عنك هو خطوة جدية على طريق الانفتاح الديمقراطي؟
- الانفتاح الديمقراطي لا يكون بالإفراج عن سجين بمفرده, فأنت تعيد إلى هذا السجين حريته وحقه الذي سلب, ولا معنى لخروجي من السجن إذا لم يخرج بقية السجناء السياسيين. الانفتاح الحقيقي يكون بوضع خطة لحل مشكلات البلد المستعصية وتجاوز الأخطاء السياسية السابقة. هناك مطالب أساسية عبرت عنها القوى السياسية المعارضة وبيانات المثقفين, ولم تتخذ السلطة إلى الآن أي خطوات جدية في اتجاهها.
* كيف كان شعورك عندما أتوا يبحثون عنك في عيادة الطبيب بمدينة طرطوس؟ وهل كنت تتوقع أن يتم اعتقالك من جديد؟
- رغم أنه كان هناك حالة من الترقب في البلد تتوقع اعتقالي, وأن العديد من الأصدقاء القلقين نصحوني بالتواري, إلا أني لم أكن أتوقع ذلك باعتباري "أشتغل" سياسية. لقد تصورت أن اعتقالي غير مفيد لهم, رغم كل الإنذارات التي وصلت.
عندما جاءت عناصر الأمن لاعتقالي رفضت الذهاب معهم بدون تبيان لصفتهم الرسمية أو إبراز لمذكرة توقيف. تركوني محاصرا, ثم أتوا بعد ذلك برفقة ضابط في الأمن العسكري يعرفه الطبيب فذهبت معهم. ساقوني إلى فرع الأمن السياسي في طرطوس, ثم جهزوا دورية لنقلي إلى فرع التحقيق التابع لشعبة الأمن السياسي في دمشق في مساء اليوم نفسه حيث أمضيت ليليتن, نقلت بعدها إلى سجن عدرا المركزي.
* بماذا فكرت خلال اليومين اللذين قضيتهما وحيدا في فرع التحقيق التابع لشعبة الأمن السياسي بدمشق, ثم خلال الفترة الانفرادية الأولى التي أمضيتها في سجن عدرا المركزي؟ هل حاولت أن تحلل معنى وأسباب توقيفك, والى أي مدى يمكن أن يدوم هذا الاعتقال؟
- لم أفكر في شيء .. عندما أدخل السجن أتوقف عن التفكير والتحليل وعن انتظار اليوم الذي سيطلق فيه سراحي, لأن ذلك سيزيد معاناتي ولن يفيدني شيئاً. "خلص" أنا دخلت إلى السجن, ولا مجال للتفكير متى الخروج منه. في السجن أنا مقيد, وأهم الأمور المطلوبه مني أن أصمد وأن أحافظ على موقفي السياسي وأن لا أقدم مثلا سيئا وأن لا أبوح بأسرار حزبي وأن لا أتراجع عن أقوالي وتصريحاتي السابقة, وهذا ما فعلته.
* لكن الظروف السياسية العامة تغيرت مقارنة بسجنك الأول, مما جعل أمل الإفراج عنك حاضرا منذ اللحظة الأولى. هل راودك هذا الأمل وأنت داخل سجنك الجديد؟
- لا .. أبداً. أنا رجل واقعي, ولا أراهن على الآمال, وكل ما يهمني هو أن يكون سلوكي قوياً في السجن. فما فائدة أن أعيش على أمل خروجي بعد شهر أو سنة ثم تنقضي المدة ولا يأتي الإفراج! شعور الخيبة هذا يمكنه أن يحطم السجين السياسي, ولذلك تجنبته.
حتى بعد صدور الحكم بسجني سنتين ونصف سنة, كان رأيي أنه يمكن أن أبقى مدة أطول بأمر عرفي جديد, وهذا ناجم عن عدم ثقتي بنظام تسوده الأحكام العرفية وتغيب عنه دولة القانون. مع ذلك كان لدي اقتناع منذ البداية بإمكان خروجي في أي لحظة حتى قبل انقضاء مدة الحكم. فدخولي إلى السجن وخروجي منه لا يرتبط بأحكام قضائية بقدر ما يرتبط بقرار سياسي نابع من ظروف سياسية جديدة.
* من نقاط خلافنا الأساسية في فيلم "ابن العم" قولك بقدرتك على نسيان العالم الخارجي خلال فترة سجنك الأولى والمديدة؟ ألم تكن موضوعياً في فترة سجنك الثانية أكثر احتكاكاً بالعالم الخارجي, من خلال تواتر الزيارات العائلية واللقاء مع المحامين والنزول إلى المحكمة؟
- هذا صحيح, وخصوصاً عندما كنت برفقة البعض من المعتقلين العشرة. لكن كوني أقاوم آثار السجن وأنا في داخله, فإن مثل هذه الأفكار لا تفيدني. أنا لدي منهج ثبتت نجاعته في السلوك داخل المعتقل, وذلك مهما تبدلت ظروف السجن ومهما قصرت مدته أو طالت. وأهم نقطة وأنت حبيس العالم السفلي هي عدم التفكير في العالم الخارجي. أنا مثل طائر أسرته ووضعته في القفص وتالياً لا فائدة من التفكير.
* لكن الطائر الأسير يظل يحلم بالطيران؟
- وأنا أيضاً أحب أن أغادر السجن, لكن التفكير في الخروج وفي العالم الخارجي لن يفعل شيئاً سوى زيادة معاناتي.
* هل أفهم من كلامك هذا أن قدوم زوجتك الدكتورة أسمى وابنتيك وأحفادك لزيارتك في السجن, لم يكن يدفعك للتفكير بالعالم الخارجي؟
- صدقني .. صدقني يا "ابن العم", لم أكن أتمنى أن يأتوا لزيارتي, حتى لا يؤثروا على عاطفتي. لأنه في يوم الزيارة, أصبح كالمشلول! لاأعرف كيف أتصرف, فالعالم الخارجي يسيطر عليّ, وأحتاج إلى بضعة أيام حتى يعود إلي توازني كسجين, ويخرج "بخار" الزيارة من رأسي. وما عليك إلا سؤال الدكتورة أسمى, كم مرة رجوتهم أن يأتوا كل شهرين أو حتى كل فصل, فأنا لا اريد لهذا العالم الخارجي أن يدخل عالمي السفلي ويزيد معاناتي. نسيان العالم الخارجي راحة للسجين ولكنه لا يعني أبدا نقصا في العواطف حيال عائلته.
* إذاً, تكاد تكون فترة سجنك القصيرة هذه, أصعب من الفترة التي سبقتها من جهة العلاقة مع العالم الخارجي والتواصل مع الأهل؟
- من وجهة النظر التي ذكرتها كانت أصعب بكثير من الناحية العاطفية والمعنوية, لأن الزيارات كانت شبه متواترة. أما من ناحية المعاملة والشروط المادية والصحية لسجن عدرا, فلا مجال للمقارنة مع سجني السابق, رغم أن السجن السياسي يظل سجناً يحجز حرية الإنسان بغير حق, وهذا هو الأساس.
* في ظاهرة لم تعهدها المدن السورية منذ زمن بعيد, لم ينفك المتضامنون معك عن الاعتصام أمام مبنى محكمة أمن الدولة مصفقين في كل مرة كنت تخرج فيها مخفورا من الجلسة, وتجرأوا ورفعوا الشعارات الديمقراطية في الشارع من مثل تلك التي تدعوا للإفراج عن المعتقلين السياسيين وإلغاء حالة الطوارئ .. ترى هل كنت تعتبر رؤيتك لهم على باب المحكمة تواصلاً لا تريده هو الآخر مع العالم الخارجي؟
- لا, هنا يغيب الجانب العاطفي في بعده العائلي, وتصبح القضية قضية نضال ترفع معنوياتي. وهذا دليل على أن التحرك الديمقراطي لم يتوقف, وأن هناك أناساً لا يزالون مستعدين للتضحية. لقد فرحت كثيرا لجرأة الشباب وابتداعهم أساليب جديدة في الإحتجاج, مما يفوق مستوى تصوري. وهذا دليل على أن حالة الكمون والصمت بدأت تتزحزح الأمر الذي له دلالات مهمة لمستقبل العمل الديمقراطي في سورية.
* ألا ترى معي, أن بعض أحداث العالم الخارجي يمكنها أن ترفع معنويات السجين؟
- طبعاً, ولكن الأمور محسومة بالنسبة إليّ. فحتى لو لم يأت أي شخص للتضامن على باب المحكمة سأظل صامدا, فما أدراك إذا جاء المتضامنون للاحتجاج بالشكل الذي سارت عليه الأمور أمام المحكمة؟
* إذاً أنت متفق معي, أن للعالم الخارجي أحياناً بعض الفائدة في رفع معنويات السجين؟
- إذا كان ما تريده من إلحاحك هو إجباري على الإقرار بأهمية اطلاع السجين على ما يجري في العالم الخارجي, فليكن أنا أقر وأعترف بذلك!
* ما الذي كنت تفتقده كثيراً داخل سجنك المتجدد؟
- غريب حقاً هذا الأمر, أنت تجرني إلى موضوعات وأنا أدفعك إلى موضوعات مغايرة. في السجن أنا لا أفتقد شيئا ولا أريد شيئا, وكل ما يأتي أنا راض به. لم أطلب شيئا من أحد وتدبرت أموري بمفردي, ولماذا أعذب نفسي إذا كان هناك احتمال برفض طلبي! حتى هذه الكرتونات وأكياس النايلون التي تراها الآن أمامك ممتلئة بالأغراض, لم أطلبها من أحد ولممتها في طريقي إلى ساحة التنفس من مرميات بقية السجناء. وستجد بين هذه الأغراض مئات علب التبغ الفارغة التي لممتها لأستفيد من ورقها لاحقا في كتابة الفواتير وتسجيل بعض الملاحظات.
في الفترة الأولى الانفرادية داخل سجن عدرا, حظيت وأنا في طريقي إلى التنفس بجريدة وسخة مرمية على الأرض, أخذتها ونظفتها فإذا بي أُفاجَأ بصفحتين كاملتين تتحدثان عن اعتداءات نيويورك وواشنطن, وكانت هذه أول مرة أسمع بها عن أحداث الحادي عشر من أيلول.
* بماذا أفادتك خبرتك السابقة هذه المرة, وهل صنعت لوحات الأرابيسك من الحبات السوداء في بقايا شوربة العدس, لقتل الوقت؟
- الفائدة الأساسية كانت في المحافظة على علاقة حسنة مع السجانين, وفي جعل وقع الزمن عليّ أقل شدة. أما شوربة العدس فهي بسبب نوعيتها الجيدة في هذا السجن تكاد تكون خالية من الحبات السوداء, ولذا كان الوقت يمضي في تبادل الأحاديث مع بقية المعتقلين عندما كنا مجموعين في مهجعين, أو في الطبخ وتحضير الطعام, أو في القراءة بعد أن فُتحت لنا مكتبة السجن.
* هناك بعض من شاهد فيلم "ابن العم" ورأى في قوة صمودك خلال سجنك الأول حالة غير إنسانية, ما تعليقك؟
- من يقول هذا ربما لم يُعانِ معاناة شعبنا في ظل الاستبداد. في سجني الأول أنا كنت أصمد عن وعي وأقابل وحشية ظروف اعتقالي باستعداد للموت, كما لو أني في معركة. من أجل ماذا يصمد الإنسان, أليس دفاعاً عن إنسانيته؟ لم يحصل في التاريخ أن صمد إنسان في مثل هذه الظروف من أجل شيء غير إنساني. أنا لم أرَ في نفسي ضحية ولم أكن أبحث عن عطف أحد, أنا كنت في سجني أدفع ضريبة تمسكي بمواقفي ولو أنها كانت ضريبة ظالمة وغير عادلة.
* بعد خروجك المتجدد من السجن قدمت أعداد غفيرة من الناس من مختلف المحافظات والمشارب لتهنئتك بالحرية, بماذا تفسر هذا الإقبال؟
- لم أتوقع هذا الاحتضان والمحبة, وبرأيي هناك عطش للحرية وعطش لرؤية مناضلين ضد الاستبداد, ولربما كان هناك تقدير مبالغ فيه لبعض مواقفي, وكل خوفي أن لا أكون أهلا لهذه الثقة الكبيرة.
* ألا يمكن أن تصاب بنوع من الغرور نتيجة هذه المشاعر الفياضة التي منحك أياها الناس؟
- لا .. لا أبداً, لا يمكن أن أُصاب بأي نوع من أنواع الغرور. فأنا محصن ضد هذه الظواهر التي قاومناها بشدة يوم كانت موجودة في حزبنا وخصوصاً عند خالد بكداش. وسأظل أقاومها أينما وجدت.
* بماذا تشعر تجاه حركة التضامن مع قضيتك, التي عبرت عن نفسها بقوة خارج حدود سورية؟ وما رأيك في قول البعض: إن دعوة بعض الحكومات الأوروبية السلطات السورية لإطلاق سراحك, وقرار البرلمان الأوروبي الذي جاء يحمل اسمك, أتيا في سياق ممارسة الضغوط السياسية لإضعاف المواقف السورية؟
- أتقدم بجزيل الشكر والامتنان من كل من تضامن معي أو مع غيري من المعتقلين السياسيين في سورية في الداخل والخارج. وهذا يثبت أن قضية حقوق الإنسان وكرامته أصبحت تعبر عن قيم إنسانية مشتركة بين كل شعوب الأرض على اختلاف مشاربها. طبعاً علينا هنا أن ننظر إلى الغرب على أنه غَربان وليس غرباً واحداً, وعلى أن هناك الكثير من القوى والفعاليات الثقافية والسياسية في الغرب, لا تزال تحمل قيم عصر التنوير وعقلانيته, وتطورها, والتي يجب أن نلتقي معها في المستقبل على قاعدة الديمقراطية وحق الإنسان في الحرية والعيش الكريم.
* كان لبعض القوى والشخصيات ووسائل الإعلام اللبنانية دور متميز في التضامن معك, ماذا تقول لهم ومن خلالهم للشعب اللبناني؟
- اليوم نحن "سوا" ضد الذين يقولون "سوا ربينا". أقولها بصراحة: "دعونا وشأننا حتى تعود المياه إلى مجاريها بين الشعبين". صحيح أننا كنا بلدا واحدا في الماضي, لكن جاءت ظروف وأصبحنا دولتين ومن واجبنا نحن السوريين أن نتعامل اليوم على أساس احترام سيادة لبنان واستقلاله. في رأيي التسلط السوري هو أحد أكبر العلل التي أُضيفت إلى الحياة السياسية اللبنانية والتي تساهم في عرقلة عودة الحياة الديمقراطية الصحيحة إلى هذا البلد. وإذا كف التدخل السوري في الشئون الداخلية اللبنانية, أنا أجزم أن الشعب اللبناني سيقدر ذلك ولن يسمح للطائفيين المتزمتين بتعميق الشرخ بين الشعبين بسبب عجزهم المزمن عن التمييز بين النظام والشعب في سورية. لكن الأساس هو أن نسلك نحن السلوك الصحيح وفي الأخص منه عدم التدخل في شئونهم الداخلية.
اليوم, المشترك الأول بين الشعبين هو النضال من أجل الديمقراطية, لأن خصمها في البلدين مشترك. وأي تقدم تحققه الديمقراطية في أي من البلدين هو تقدم في الاتجاه ذاته للبلد الآخر. ومن هنا يوجد مصالح مشتركة بيننا وبين الحركة الديمقراطية في لبنان.
* وهل تعتقد أن في لبنان اليوم هناك حركة ديمقراطية تستطيع أن تلتقي معها على برنامج مشترك لمصلحة الشعبين؟
- بالتأكيد هناك حركة ديمقراطية ألتقي معها, وإن كنت أتمنى على بعض أطرافها أن يأخذوا طابعاً مترفعاً عن مسألة الطائفية يأخذ مصالح لبنان أولاً والموقف من إسرائيل. وأنا مستعد لأن ألتقي معها على ضرورة خروج الجيش السوري من لبنان ضمن اتفاق يسمح له إذا ارتضى اللبنانيون واقتضت الحاجة, بمساعدة لبنان ضد إسرائيل. وأظن أن الحركة الديمقراطية السورية إذا تخلصت من بعض المظاهر الحدية والانتهازية ستلتقي معها هي الأخرى. كما أنني لست من أنصار أن يحتكر حزب الله مسألة الدفاع عن الجنوب, ويجب أن يكون هذا الحزب جزءاً من حركة عامة, ولكن مع الأسف لعبت السياسية السورية هذا الدور المفرق على أساس طائفي, رغم أن الحركة الوطنية اللبنانية كان لها في البداية دور مهم وأساسي في المقاومة ضد الاجتياح الإسرائيلي للبنان.
الوضع اليوم في لبنان معقد, وعلينا ربطه بالتوجهات الأمريكية في المنطقة التي تضع حزب الله على قائمة المنظمات الإرهابية, وتالياً, هناك حاجة لحركة ديمقراطية تستطيع أن تتعاون مع هذا الحزب لما فيه مصلحة لبنان أولاً, وتقطع الطريق على المخطط الأمريكي الذي يستهدف هذا البلد وهذه المقاومة.
* كيف تنظر إلى الأوضاع الحالية في فلسطين والعراق؟ وأين دور الشعوب العرببة في كل ما يجري؟
- يخوض الشعب الفلسطيني وحيداً اليوم معركته الحاسمة من أجل الاستقلال في ظل ظروف عربية ودولية غاية في الصعوبة. وأنا أشعر بالخجل لأن الشعوب العربية لا تأثير لها في القرار الرسمي العربي. الشوارع هي ساحة التعبير عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني, هذا إذا سمحت لها حكوماتها بالتظاهر. ومن مسئوليتنا جميعاً اليوم ابتداع أساليب جديدة في دعم صمود الشعب الفلسطيني في الضغط وإجبار حكوماتنا العربية على تجاوز المواقف اللفظية إلى الفعل الحقيقي والمثمر في الضغط على إسرائيل ومساندة الفلسطينيين.
لكن الأمل الأول يظل معقوداً على قدرة هذا الشعب الجبار على الصمود رغم الضحايا والخسائر الفادحة. وعسى أن تتمكن الفصائل الفلسطينية من الالتقاء على إستراتيجيا موحدة في الصمود ومواجهة الإحتلال, تستطيع من خلالها منع شارون من استغلال الخلافات الفلسطينية وتحد من قدرته على طمس البعد الأخلاقي لهذه القضية. طبعاً لا ضرر في أن تتعدد أساليب المقاومة من النضال السلمي إلى العمليات العسكرية, بشرط أن لا تتناقض مع الهدف المعلن في دحر الاحتلال. إسرائيل هي اليوم آخر دولة استعمارية استيطانية في العالم, وتخطئ كثيراً طبقتها السياسية إن هي تصورت أن في إمكانها وأد التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال والعيش الكريم, وهي لن تفعل شيئاً آخر سوى تأخير موعد مقبل لا محالة: قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
ليس لنا في مواجهة إسرائيل وهولاكو أمريكا القادم إلى منطقتنا إلا المقاومة, والمقاومة الفعالة لا تقدر عليها إلا الشعوب المتحررة من نير العبودية والاستبداد, أما الأنظمة الحاكمة في منطقتنا فإنها لن تفعل شيئاً في سبيل الحفاظ على عروشها ومصالحها سوى إحناء رأسها للعاصفة المقبلة. معركتنا مع أمريكا وإسرائيل هي أولاً وقبل كل شيء معركة إرساء الديمقراطية وتمكين الشعوب العربية من التعبير الحر عن آرائها وانتخاب قيادتها القادرة على الارتقاء إلى مستوى التحدي المفروض علينا. الجيوش الأمريكية المنتشرة اليوم في كامل منطقة الخليج العربي, أتت إلينا ليس من أجل فرض احترام حقوق الإنسان العربي في المنطقة أو إعادة الحياة الديمقراطية إلى العراق؟! إنها هنا من أجل فرض السيطرة الكاملة على منابع النفط وإعادة تأهيل الأنظمة التابعة بما يخدم مصالح أمريكا وإسرائيل.
* يجري الحديث عن نية السلطة إصدار قانون جديد للأحزاب وقانون جديد للانتخابات, ينظم العملية السياسية قبيل موعد الانتخابات المقبلة, ما مدى مصداقية هذه التوقعات برأيك؟
- الفترة الزمنية التي تفصلنا اليوم عن الانتخابات القادمة باتت قصيرة جداً, وليس هناك أي مؤشر لصدور قانون جديد للأحزاب أو قانون جديد لانتخابات يشكلان فاتحة لمرحلة جديدة, حتى أن النقاش من حول هذه القوانين لا يزال يجري في الظل داخل الدوائر الضيقة بعيداً عن المجال العام. وإذا كان الطيف السياسي العريض في سورية قد أكد مراراً على أن قانون الأحزاب وقانون الانتخابات يشكلان جزءاً أساسياً من عملية الإصلاح السياسي, فإنه في الظروف الحالية يصعب الوصول إلى هذا الهدف من طريق التعامل الإيجابي مع الاستحقاق الانتخابي المقبل.
إذاً من شبه المستحيل اليوم في ظل ضيق الوقت وغياب الحوار الجاد بين الأطراف المعنية أن تقدم السلطة على خطوات فعلية في اتجاه الانفراج الجزئي أو الكلي. وكل ظني أن الانتخابات القادمة ستجري وفق الأساليب القديمة التي اعتادت عليها الأجهزة الأمنية وأتقنتها. وهذا يعني استحالة أن يتمكن أي مرشح من التعبير الحر عن آرائه وأن يطرح على الناخبين مشروعات جدية ومتكاملة للإصلاح, وتالياً ستأتي تركيبة المجلس الجديد مماثلة لتركيبة المجالس السابقة.
إن شرط تحول الاستحقاق الانتخابي إلى استحقاق سياسي فعلي هو أن يتمتع المرشح بحرية الحركة والتعبير الحر عن آرائه وأن يتمكن من إصدار البيانات والبرامج السياسية بعيداً عن الرقابة المسبقة وأن تكون هناك ضمانات فعلية ورقابة قانونية لعملية التصويت والفرز وإعلان النتائج. وهذا غير متوفر اليوم في ظل الإشراف المباشر للسلطة التنفيذية ممثلة بوزارة الداخلية على العملية الانتخابية وفي ظل قانون يؤكد مسبقاً على أن للحزب الحاكم كحد أدنى نصف المقاعد زائداً واحد في أي مجلس منتخب.
* لكن يقال إن هناك نية لدى بعض أطراف التجمع الوطني الديمقراطي في دخول الانتخابات؟
- عندما نُقل إليّ هذا الخبر وكنت وقتها لا أزال في السجن, كان رأيي أن الأمر سابق لاوانه, لأن السلطة لم تتخذ بعد أي إجراءات جدية للتهيئة لإنتخابات حرة ونزيهة تشارك فيها جميع الأطراف في السلطة والمعارضة. وأعتقد أن سبب هذا التسرع لدى البعض من قيادة حزب اللتحاد الإشتراكي وقيادة التجمع, ربما كان غرضه احتواء الضغوط التي يتعرض لها من بعض النافذين فيه من أجل الترشح.
إن فكرة التعاطي السياسي الإيجابي مع العملية الانتخابية الواردة في بيان التجمع الأخير, هي فكرة مطاطة, وتالياً فهذا الكلام لا يكفي في ذاته وينبغي أن توضع أسس ومبادئ موجزة نقيس من خلالها وعلى ضوء الواقع ضرورة المشاركة أو المقاطعة. لست ضد النظر إلى الإنتخابات كعملية سياسية, ولكن بما أننا لا نزال نعيش في ظل الاستبداد فالمبادرة في إطار هذه العملية السياسية يجب أن تأتي من جانب السلطة على شكل خطوات ملموسة في إطار الإصلاح السياسي.
* في ضوء هذا الذي تقول, هل تعتقد اليوم أن التجمع الوطني الديمقراطي كتحالف للأحزاب المعارضة يستطيع أن يقود التحرك الوطني المعارض داخل سورية, وما هي حقيقة تمثيله للطيف السياسي الواسع في المعارضة؟
- نشأ التجمع في نهاية السبعينات من القرن المنصرم كإطار سياسي معارض يضم داخله أحزاباً ذات منحى يساري ديمقراطي متحدرة من التيارين القومي والماركسي التقليديين. وكان له الدور السباق والأساسي في طرح الحل الديمقراطي كمخرج لأزمة البلاد وكان ذلك قبل احتدام الصراع الدموي بين السلطة و"الإخوان المسلمين". لكن دور التجمع خفت شيئاً فشيئاً خصوصاً خلال فترة القمع الدموي والإرهاب التي سادت في الثمانينات. وإذا كان التجمع سبق له أن سجل مواقف مبدئية تحت قيادة الدكتور جمال الأتاسي بفضل التعاون والتنسيق بين أحزابه المتعددة, فإن المعطيات تبدلت كثيراً اليوم بعد رحيل الدكتور جمال الأتاسي وتغير المعطيات الدولية والإقليمية وعجز أطراف التجمع عن تجديد خطابها الموروث وتطوير وسائل عمله المعارض واتخاذ مواقف أكثر وضوحا والانفتاح على جمهور الشباب.
مع ذلك أنا أعتقد بضرورة بقاء وتطوير عمل التجمع كإحدى أداوات العمل المعارض وكجزء من الطيف السياسي الواسع, وبسبب تفاؤلي بالمستقبل لا أرى أنه يصح أن يتعامل مع نفسه بوصفه قائداً للعمل السياسي المعارض كما يحلم ويحاول البعض. وتجديد دور التجمع مشروط بتجديد شبابه وبخاصة قيادته وبإعادة النظر في ما سمي "البرنامج السياسي للتجمع الوطني الديمقراطي", في شكل يخالف اللائحة التي تنظم عمل التجمع, علماً أنه كان مسودة مشروع ولم ينعقد مؤتمر رسمي لمناقشته وإقراره.
* لكنك عضو في قيادة التجمع تتحمل جزءاً من المسئولية عن قرارات التجمع وعن الحالة التي آلت إليها الأحزاب؟
- أنا لا أنكر تحملي جزءاً من المسئولية, لكن الكثير من وجهات النظر التي عبرت عنها كتابة أو تصريحاً بصفتي الشخصية, أعتقد أنه كان واضحا للرأي العام أنها غير مطابقة لرأي التجمع المعبر عنه على لسان الناطق باسمه أو من خلال نشراته. أعود لأقول مرة أخرى إن التجمع جزء مهم من الطيف السياسي المعارض, ولكنه لا يمثل كل تيارات هذا الطيف.
* لكن أين هي القوى الأخرى التي تتحدث عنها, وفي حال وُجدت فما هي الأطر التي يمكن أن تضمها وتنسق بينها؟
- هناك بالتأكيد قوى عديدة بعضها كامن وبعضها الآخر يحاول أن يجد لنفسه تعبيرات خارج أطر العمل السياسي التقليدي من خلال الأحزاب. واليوم, هناك حاجة لوجود أكثر من إطار سياسي ومجتمعي يتجاوز المفاهيم التقليدية لليمين واليسار إلى الإطار الوطني العريض. فسورية اليوم في حاجة إلى إعادة تأسيس سياسي واجتماعي وثقافي, وهذا ليس من حق حزب أو تيار سياسي بعينه مهما كانت صبغته الإيديولوجية, هذا من حق الوطن والمواطن. طبعاً هذا لا يعني انتهاء دور الأحزاب ولكن علينا أن نقبل ابتداع صيغ أخرى موازية في العمل السياسي والمجتمعي. وهذا لن يكون إلا من خلال حوار ديمقراطي واسع تشارك فيه كل الأطراف المعنية بإخراج سورية من أزماتها المستعصية.
وفي هذا الإطار الواسع ومن خلال تناقض المصالح وإدارتها بشكل سلمي, أنا سأظل يسارياً في تفكيري ومنحازاً إلى جانب الفقراء والمستضعفين, وضد كل من يستغلهم. لكن تجربة الأربعين سنة الماضية من حكم البعث بينت لنا أن الأولوية السياسية اليوم تتجاوز مقولة اليسار واليمين, إلى العمل الجماعي من أجل أن الهدف الوطني الأول وهو نقل سورية من حالة الاستبداد إلى الديمقراطية وإرساء حياة سياسية قائمة على تداول السلطة سلمياً وعلى حق الجميع في العمل السياسي.
* هل تعتقد اليوم أن على الحزب الشيوعي السوري - المكتب السياسي أن يحافظ على اسمه, أم أن هناك ضرورة لتطوير خطابه وهويته واسمه؟
- لقد تطورت الراسمالية كثيراً خلال القرن المنصرم, وليس هناك إلا الفكر المادي العقلاني مخرجاً لفهم هذا التطور ولابتداع أساليب جديدة في العمل السياسي ترتقي إلى مستوى تحدي العولمة وتستطيع مواجهة جشع الشركات متعددة الجنسيات العابرة للقارات, وتطرح حلول تسمح بالوصول إلى عالم أكثر عدلا وإنصافا. وعلينا أن ننظر إلى ما وراء حدود المنطقة العربية للاستفادة من تجارب حركات اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية وأوروبا في بحثها الدؤوب عن مخارج لأزمات العالم المستعصية. أنا أفهم اليسار اليوم على أنه دفاع عن مصالح الفقراء والمضهدين, ودفاع عن حق الإنسان في العمل والطبابة والتعليم المجاني وفي التعبيرالحر عن رأيه بمعزل عن موقعه الاجتماعي.
أما بالنسبة إلى هوية حزبنا واسمه, فإن هذا الأمر متروك للمؤتمر, رغم أن خطابنا ومنذ فترة طويلة يختلف عن خطاب الأحزاب الشيوعية التقليدية, وعلينا أن نعمل على تطويره, ومن يقول اليوم بدكتاتورية البروليتاريا في سورية هو كمن يحارب طواحين الهواء, وهذه ليست حالنا. نحن كنا سباقين في وضع حزبنا على سكة الحركة الديمقراطية, وإذا قرر المؤتمر تغيير اسم الحزب فأنا لن أقف عائقاً, والفكر اليساري عنده متسع استناداً لماديته لأن يتجدد. نحن اليوم يسار جديد بلافتة قديمة.
* لماذا إذا كان إصرارك السابق على التمسك بهذه اللافتة والحفاظ على اسم الحزب؟
- يجب أن تتفهم عواطفي كإنسان أمضى جزءاً كبيراً من حياته إلى جانب رفاقه في النضال ضد الاستبداد ومن أجل الديمقراطية تحت لواء هذه اللافتة. هذا إضافة إلى أننا لم نتلط بها بحثاً عن مصالح ضيقة أوتورية لسلوك مشين. ولعلك ستفهم موقفي من هذه اللافتة القديمة وحنيني إليها إذا رأيت كمية الأغراض غير المفيدة التي أصررت على إخراجها معي إلى خارج السجن يوم أطلق سراحي. ورغم أن لهذه الأغراض مكانة خاصة في نفسي فإن الكثير منها لم يعد صالحاً للاستعمال, وهناك أفضل منها في العالم الخارجي. اليوم مهمة الجيل الجديد أن يجد أفضل منها, وأنا كما قلت لن أقف عائقاً.
* لكن "أغراض" الماضي تعني في جزء منها الذاكرة, فهل علينا أيضاً نسيانها؟
- كلا بالتأكيد, لأنه في السياسة لا يمكن لنا أن نبني الحاضر والمستقبل بنسيان الماضي, ففي بلد مثل بلدنا لا يمكن أن نبني سياسية سليمة دون أن نعرف ماذا جرى في الماضي لكي نتجنبه في المستقبل. البحث في ماضي الاستبداد مسألة ضرورية ليس رغبة في التشفي والتشهير ولكن حتى لا تعود سنوات القمع الأسود إلينا مجدداً. ومع ذلك يبقى الحاضر والمستقبل هما الأساس, أما الماضي فهو زائل رغماً عني وعنك. وحتى السلطة, هل تستطيع اليوم إذا إرادت أن تحكم بنفس الأساليب السابقة؟ مستحيل, والتغيير موضوعياً يفرض نفسه من خلال مجمل حركة المجتمع ومجمل نتائج الاستبداد.
نحن نحاول اليوم أن نصل إلى التغيير بطريقة سلمية, لكن بعض أطراف السلطة الخائفين على مصالحهم لا يريدون ذلك. وكل ظني أن سبب سجني لم يكن عبارة قاسية قلتها هنا أو هناك, بل هو الطرح المعتدل في الدعوة إلى المصالحة عن طريق التعاقد التي قدمتها في محاضرتي في منتدى جمال الأتاسي. فهذا الطرح خلق حالة من الانزعاج الشديد لدى أصحاب الرؤوس الحامية ومراكز القوى النافذة في السلطة الخائفة على مصالحها والمستفيدة من حالة الجمود التي تسود الحياة السياسية في البلد.
لنأخذ مثلا سلسلة القوانيين التي صدرت والتي لم تر طريقها إلى التنفيذ. ولنسأل من هو المسئول عن ذلك؟ أنا لا أعتقد أن رئيس الجمهورية هو المسئول عن بقاء معظمها حبراً على الورق, بل هي حالة العطالة والتخشب الموجودة في بنية السلطة والدولة ومؤسساتها, وهذا ما يجب تغييره اليوم. ومن هنا أهمية أن تترافق عملية الإصلاح الاقتصادي والإدراي بالإصلاح السياسي, والذي بدونه لن يكون هناك مخرج لأزمة البلد.
* كيف ترى اليوم آفاق عملية الإصلاح السياسي في سورية, في ظل بقاء الماضي وشجونه؟
- جوهر موقفي هو أنه لا يمكن أن تجتمع الاستمرارية مع الإصلاح. هذه فكرة جوهرية يجب تثبيتها. فكيف يمكن أن أصلح وفي الوقت ذاته أشيد بالمرحلة السابقة. هذا غير ممكن وهو يعني إما حالة خداع أو أنه يجري تسويف الأمور تحت وهم الإصلاح لامتصاص اندفاع الناس نحو الانعتاق. الاستمرارية هي لسان حال الورثة الفعليين لحالة الاستبداد السابقة والمنتفعين منها. كلمة الإصلاح يقابلها الفساد, فهناك صالح وفاسد, والفاسد لا يمكن له أن يصلح, أما الذي يريد أن يصلح فعليه أن يضع حداً للفساد. فالإصلاح لا يكون بوجود رجال فاسدين لا هم لهم سوى الحفاظ على مصالحهم.
وإذا كانت بعض أطراف السلطة تريد فعلاً أن تصلح, فأول شرط هو إقصاء الأسماء الكبيرة الفاسدة وكسر الهيكلية المولدة للفساد. ومن هنا تم التهرب في السابق من الإصلاح السياسي الذي يمكن له إذا ما تزامن مع ديناميكية سياسية حقيقية, أن يؤدي إلى الكشف عن هذه العناصر الفاسدة, ونزع غطاء المزاودة والتزلف والتأليه الذي تتلطى خلفه.
الشرط الرئيس لقيام إصلاح حقيقي وفاعل, هو الاعتراف الصريح (أو ليكن الضمني) بأخطاء العهد السابق وسلبياته. وأول هذه الأخطاء هو شخصنة النظام وتعميم الحالة الاستبدادية والاعتماد على الموالين دون غيرهم في أجهزة الدولة المختلفة, ما أدى إلى غياب المحاسبة ونهب ثروات البلاد. إن تأليه الحاكم وتنزيهه من الأخطاء ما هو إلا وليد منظومة معقدة من المصالح والتوازنات, التي تلتقي من حول تقديس النخبة الحاكمة, الأمر الذي يؤدي إلى وأد السياسية في المجتمع وإلغاء أي إمكانية لكشف الفاسدين ومحاسبة المقصرين.
الفساد ليس إلا نتيجة لحكم الاستبداد. طبعاً هذا لا يعني أن نظام الحكم الديمقراطي لا ينطوي على الفساد, ولكنه لا يوازي بشيء هذا الفساد الشامل والمعمم الذي يجعل من ثروات سورية مادة للنهب تتقاسمها أطراف من الفئة الحاكمة مع أزلامهم.
إن كلامي السابق عن الدكتاتورية لم يكن بقصد الإساءة الشخصية في حق أي إنسان, إنما أتى ضمن سياق الفكرة الأساسية التي حاولت إيصالها في محاضرتي في منتدى جمال الأتاسي والتي تقول بضرورة نقل سورية من حال الاستبداد إلى حال الحرية والديمقراطية, وهذه الفكرة تعني نفي فكرة الاستمرارية مع العهد السابق.
* إذا انتقلنا إلى موضوع تخوف بعض أطراف السلطة من احتمال أن يشكل الحل الديمقراطي مدخلاً لعبور حركة "الإخوان المسلمين" إلى السلطة, ما هو رأيك بهذا الطرح؟
- مرة أخرى علينا من أجل حاضر البلد ومستقبله الخروج من صراعات الماضي المقيتة. المسألة ليست مسألة "إخوان مسلمين" أو حزب بعث أو حزب شيوعي, المسألة مسألة وطن لم يعد في الإمكان حكمه إلا بأسلوب ديمقراطي. وعلى جميع الأطراف, بما فيها حركة "الإخوان المسلمين", أن يتوافقوا على هذا الأسلوب الديمقراطي في الحكم. علينا أن نأخذ العبر من تجاربنا السابقة, فلا مكان اليوم لأحزاب تتسلق إلى السلطة من خلال العملية الديمقراطية ومن ثم تتمترس فيها وتنقلب على كل المبادئ الديمقراطية. إن دولة القانون والمؤسسات, قادرة على حماية نفسها وحماية المواطنين من تجاوزات السلطة.
"الإخوان المسلمون" سلكوا في الماضي طريق العنف, وكانوا ضحية لقمع النظام وكذلك ضحية لعقلية متخلفة في العمل السياسي ولبرنامج ثبتت عدم واقعيته. لكن الإنسان يتعلم من تجاربه السابقة, وها هم أولاء اليوم يعدلون في خطابهم ويطرحون ميثاق شرف للعمل الوطني يأخذ بالمبادئ الديمقراطية، وهذه خطوة مهمة ولكنها غير كافية إذا لم تترافق مع نقد لتجربتهم السابقة في استخدام العنف ونبذ دعاته والاعتذار لمن تضرر منه. مع ذلك فإن "الإخوان المسلمين" قطعوا أشواطاً في الاتجاه الصحيح, ومن الخطأ الفادح أن تُبقي السلطة الأبواب موصدة في وجههم. وهذا يحتم على الجميع محاورتهم حول حاجة سورية إلى نظام ديمقراطي لا يقوم على العنف ولا على الطائفية ولا على التزمت الديني ولا على استغلال المساجد من أجل المصالح الأنانية الضيقة. هم كتيار سياسي لهم وجهة نظرهم في العلاقة بين الإسلام والسياسة, فليكن .. ولكن بشرط عدم احتكار الدين وعدم التخلي عن أساليب الحكم الديمقراطية. وفي أي حوار يمكن أن نتبادل الآراء وأن ينتقد بعضنا البعض في ظل الاحترام المتبادل بعيداً عن التكفير أو التخوين. أنا مثلاً لدي عدة ملاحظات من داخل الإسلام على خطاب بعض تيارات الإخوان المسلمين في فهمها المتزمت للقرآن الكريم, كون باب الاجتهاد القائم على القياس ضيقاً جداً ولم يعد يكفي لتلبية متطلبات العصر التي تختلف جذرياً عن حاجات الماضي ومتطلباته. وباتالي يجب فتح الاجتهاد وفقاً لمناهج عقلانية حديثة في الفهم والتأويل.
* يكثر الحديث هذه الأيام عن وجود تيار مصلح وآخر محافظ داخل النظام, ما رأيك بهذا الكلام؟
- لنقل بداية إن الرئيس بشار الأسد لم يرث وحده السلطة بل ورثها معه رفاق الرئيس الراحل حافظ الأسد, وهو إذا بدأ ولايته بالحديث عن ضرورة الإصلاح واحترام الرأي الآخر فإنه لم يأت إلى الحكم محاطاً بطاقم جديد وشاب قادر على تطبيق أي مشروع فعلي للإصلاح. وما التباطؤ في تنفيذ المراسيم والقوانين الجديدة كقانون المصارف إلا دليل على ممانعة الطبقة المستفيدة لأي تقدم ولو جزئي على طريق الإصلاح. وضمن نفس السياق يجب فهم الحملة على ما يسمى "ربيع دمشق" واعتقال العشرة كضربة لصدقية الحديث عن الرأي الآخر ومحاولة لإضعاف أي توجه إصلاحي في السلطة. ولديّ إحساس أن العناصر المحيطة بالرئيس بشار الأسد في مواجهة أزمة الحكم هذه, تراهن على عامل الزمن من أجل إزاحة مراكز القوى النافذة. في حين أن أي مشروع فعلي للإصلاح لا يمكن له أن يأتي بـ "ثورة من الأعلى", بل عليه أن يقرن أي تدبير إداري أو اقتصادي بتدابير سياسية, تسمح بتحرير طاقات المجتمع وببلورة قوى جديدة ذات مشروعية شعبية تسمح لها بالمضي قدما في أي مشروع إصلاح.
إذاً الحديث عن وجود تيارين في السلطة يعني الحديث عن صراع, ولكن إلى الآن لم نَرَ أي دليل على وجود صراع كهذا, وكل ما نراه هو محاولة بعض أطراف السلطة للخروج من أزمة النظام من دون أن تشكل أي تهديد فعلي لمصالح مراكز القوى, ومن هنا البطء والتردد في عملية الإصلاح.
أما في حال تبلور مشروع جدي للإصلاح السياسي والاقتصادي من داخل دوائر السلطة, يستجيب لتطلعات الشعب ويترافق مع خطوات ملموسة على أرض الواقع, فسنكون من الذين سيقدمون له الدعم لما فيه خير الوطن والمواطن. وإذا خطا هؤلاء خطوة فسنقابلها بخطوتين.
* هل تعتقد اليوم بإمكانية أن ترى في حياتك تحول سورية إلى بلد ديمقراطي, وألا تخاف أن تذهب تضحياتك هباءً؟
- الحالات الفردية يمكن أحياناً أن تحرض ضمائر الناس وتساعد على كسر جدار الخوف والصمت. مع ذلك لا أملك أي وهم لتحقيق انتصارات على طريقة عنترة, أنا لبنة في صرح أراه لمستقبل سورية الديمقراطي وعلى غيري أن يضع لبنات أخرى, كما فعل ويفعل غيري. وهذا هو أساس الأمل الذي يدفعني إلى أن أضحي رغم صعوبة المرحلة الراهنة. هناك في تاريخنا الكثيرون ممن ضحوا وكانت الآفاق مسدودة أمامهم لكنهم ظلوا قدوة لمن أتى بعدهم. رغم ذلك أنا متفائل بمجمل الوضع السياسي حتى في ظل وجود معارضة ضعيفة, لأنه أصبح صعباً جداً على أصحاب الرؤوس الحامية أن يُرجعوا البلد إلى الوراء وأن يعيدوا التاريخ مرة أخرى.