lonely child
19/10/2005, 15:43
مع محمد الماغوط في سأخون وطني
نصيحة لكل مواطن عربي يمينياً كان أم يسارياً، مع الحل السلمي أم مع الحل العسكري، إذا ما أصابه عارض صحي، ألا يراجع طبيباً مختصاً.
كنت أردد هذا الكلام وسواه. وأنا في طريقي إلى آخر عيادة رسمية أو خاصة لم أطرق بابها بعد. وكانت كأية عيادة في العالم الثالث، أرضها مغطاة بالمرضى وجدرانها مغطاة بالشعارات، وعندما جاء دوري امتثلت على الفور بين يدي الطبيب ومعي كل الوثائق التي تثبت خطورة حالتي وقلت له: دكتور، أستحلفك بالله، بالبنسلين، بالترومايسين، وبقضية قضايانا الكبرى فلسطين، أنقذني. أذني مسدودة منذ أمد طويل. فسألني الدكتور بصوت مرتفع: منذ متى يا بني؟
ـ لا أعرف يا دكتور، كل ما أعرفه أن قناة السويس فتحت وأذني لم تفتح.
ـ هل أصبت بمثل هذه الحالة في صغرك، أو بالأحرى هل تحمل من طفولتك مرضاً معيناً؟
ـ أبداً، لم أحمل من طفولتي حتى الآن سوى هموم القضية وكنت دائماً سليم الجسم والطوية، ودائم البهجة والسرور لأن الله الحبيب خلقني في هذه المنطقة الحبيبة. وكنت طوال حياتي، إذا ما طنت أذني أو التهب حلقي نتيجة الإفراط في السهر والتدخين والشراب، أعرج على أقرب صيدلية وآخذ حبة أو ملعقة شراب وينتهي الأمر عند هذا الحد، إلى أن التقيت ذات يوم بأحد أصدقائي المثقفين وأنا أهم بدخول إحدى الصيدليات لمثل هذه الغاية. فسألني باهتمام مما أشكو، فقلت له لا شيء مجرد "وشة" خفيفة في الأذن... برشامة وينتهي الأمر. فاستوقفني بحزم قائلاً: لا، راجع طبيباً مختصاً. لقد تطور الطب كثيراً في السنوات الأخيرة، وعلينا نحن المثقفين أن نؤمن بالاختصاص، ونشجع المختصين ونسهل عليهم مهمتهم. لا تقاطعني. وإذا لم تفعل بنصيحتي، لا أنت صديقي ولا أنا صديقك.
وفي اليوم التالي راجعت طبيباً مختصاً. وفي الأسبوع التالي كان عندي من التحاليل والصور الشعاعية والوصفات الطبية ما يعادل مؤلفاتي كلها.
لقد كان له ما أراد واستأصل لي اللوزتين. وكل ما أذكره بعد ذلك، هو أنني منذ غادرت المستشفى وقال الطبيب وهو يودعني "معافى إن شاء الله" لم أعرف طعم العافية. فبعد يومين التهبت أذني اليسرى واليمنى، والتهبت المنطقة، وصارت الوشة اثنتين. وكلما شربت قدح ماء، يعود بعد قليل ليخرج من فمي وأنفي. أما بالنسبة لانسداد الأذن فقد أصبح عندي تقليداً لا يناقش فيه. فصرت لا أسمع ما يقال ولا يفهم ما أقول. ولما كنت جليس مقاهي ومدمن مناقشات، فكنت لا تراني إلا ويدي حول صيوان أذني متسائلاً بصوت مرتفع عن كل كلمة تقال ومستفسراً عن كل رأي يطرح على طاولتي وطاولات الآخرين. ولما كانت معظم مناقشات المقاهي سياسية، فقد أخذ روادها يطنون بي الظنون، واعتقدوا أنني من إياهم، ولذلك صاروا يتهربون من أسئلتي إذا سألت، ويصمتون إذا ما دخلت.
وكنت لا أنفك أراجع الطبيب تلو الطبيب والمستشفى تلو المستشفى دون نتيجة. لقد كانوا يتقاذفونني ككرة القدم، شعبة الأذنية حولتني إلى العينية، ومن العينية إلى العصبية، ومن العصبية حولوني إلى الداخلية، ولو تابعت الانصياح لأوامرهم لحولوني إلى الخارجية والدفاع.
ولذلك عيل صبري وسلمت أمري لله. ورتبت أموري على أساس أن أعيش بقية عمري بأذن واحدة خاصة وأنه لم يعد في المنطقة، بشعاراتها وسياساتها وخطبائها وإذاعاتها وأخبارها وأغانيها ما يستحق أن يسمع. لكن يا دكتور، لاحظت في الآونة الأخيرة أن الضجر قد زال من النفوس وحل محله الهياج والترقب والانفعال، وحمى وطيس المناقشات من جديد في المقاهي. واستنفر الجميع حول أجهزة الإذاعة والتلفزيون، فثار فضولي خاصة وأنه صار يتناهى إلى سمعي بكثرة اسم سادات سادات ـ بيغن بيغن، فقلت: الحالة غير طبيعية ولا بد أن أنباء هامة تتواتر في المنطقة، ويجب أن أسمعها، وبأذنيّ الاثنتين، لا بأذن واحدة. فقال لي الطبيب بصوت مرتفع كعادته منذ أول المعاينة: من الأفضل ألا تسمعها؟
فقلت له: ما الفائدة؟ إذا كنت سأعيش نتائجها
فقال: هل قمت بتحليل للدم؟
ـ طبعاً. انظر هذه هي التحاليل وهذه هي الأدوية وهذه هي الصور الشعاعية. انظر هذه صورة للجيوب الأنفية، وهذه صورة للرئتين، وهذه صورة للأذن الملتهبة... وهذه... لا لا هذه لا علاقة لها بالموضوع. فسألني مقطباً: ما هذه الصورة العجيبة التي تحاول إخفاءها وراء ظهرك.
فقلت له: هذه صورة للوضع السياسي في المنطقة ولا علاقة لها بالموضوع.
فقال: هل قمت بتحليل للدم؟
ـ طبعاً. انظر هذه هي التحاليل وهذه هي الأدوية وهذه هي الصور الشعاعية. انظر هذه صورة للجيوب الأنفية، وهذه صورة للرئتين، وهذه صورة للأذن الملتهبة... وهذه... لا لا هذه لا علاقة لها بالموضوع. فسألني مقطباً: ما هذه الصورة العجيبة التي تحاول إخفاؤها وراء ظهرك.
فقلت له: هذه صورة للوضع السياسي في المنطقة ولا علاقة لها بالموضوع.
فقال وهو يحدق إلى الصور والتحاليل: من الواضح أن في أذنك سوائل تؤدي إلى انسدادها. ماء أم زلال أو ما شابه.
فقلت له: حتى ولو كان فيها بترول يجب أن تفتح.
فقال بعصبية: يا بني أذنك بحاجة إلى عملية جراحية.
فقلت له: وأنا أستلقي بثيابي على طاولة العمليات: إنني جاهز، هات أمواسك ومشارطك.
قال: انهض لا يوجد عندي مخدر.
قلت: لا داعي لذلك، إنني مخدر منذ عام 1948.
نصيحة لكل مواطن عربي يمينياً كان أم يسارياً، مع الحل السلمي أم مع الحل العسكري، إذا ما أصابه عارض صحي، ألا يراجع طبيباً مختصاً.
كنت أردد هذا الكلام وسواه. وأنا في طريقي إلى آخر عيادة رسمية أو خاصة لم أطرق بابها بعد. وكانت كأية عيادة في العالم الثالث، أرضها مغطاة بالمرضى وجدرانها مغطاة بالشعارات، وعندما جاء دوري امتثلت على الفور بين يدي الطبيب ومعي كل الوثائق التي تثبت خطورة حالتي وقلت له: دكتور، أستحلفك بالله، بالبنسلين، بالترومايسين، وبقضية قضايانا الكبرى فلسطين، أنقذني. أذني مسدودة منذ أمد طويل. فسألني الدكتور بصوت مرتفع: منذ متى يا بني؟
ـ لا أعرف يا دكتور، كل ما أعرفه أن قناة السويس فتحت وأذني لم تفتح.
ـ هل أصبت بمثل هذه الحالة في صغرك، أو بالأحرى هل تحمل من طفولتك مرضاً معيناً؟
ـ أبداً، لم أحمل من طفولتي حتى الآن سوى هموم القضية وكنت دائماً سليم الجسم والطوية، ودائم البهجة والسرور لأن الله الحبيب خلقني في هذه المنطقة الحبيبة. وكنت طوال حياتي، إذا ما طنت أذني أو التهب حلقي نتيجة الإفراط في السهر والتدخين والشراب، أعرج على أقرب صيدلية وآخذ حبة أو ملعقة شراب وينتهي الأمر عند هذا الحد، إلى أن التقيت ذات يوم بأحد أصدقائي المثقفين وأنا أهم بدخول إحدى الصيدليات لمثل هذه الغاية. فسألني باهتمام مما أشكو، فقلت له لا شيء مجرد "وشة" خفيفة في الأذن... برشامة وينتهي الأمر. فاستوقفني بحزم قائلاً: لا، راجع طبيباً مختصاً. لقد تطور الطب كثيراً في السنوات الأخيرة، وعلينا نحن المثقفين أن نؤمن بالاختصاص، ونشجع المختصين ونسهل عليهم مهمتهم. لا تقاطعني. وإذا لم تفعل بنصيحتي، لا أنت صديقي ولا أنا صديقك.
وفي اليوم التالي راجعت طبيباً مختصاً. وفي الأسبوع التالي كان عندي من التحاليل والصور الشعاعية والوصفات الطبية ما يعادل مؤلفاتي كلها.
لقد كان له ما أراد واستأصل لي اللوزتين. وكل ما أذكره بعد ذلك، هو أنني منذ غادرت المستشفى وقال الطبيب وهو يودعني "معافى إن شاء الله" لم أعرف طعم العافية. فبعد يومين التهبت أذني اليسرى واليمنى، والتهبت المنطقة، وصارت الوشة اثنتين. وكلما شربت قدح ماء، يعود بعد قليل ليخرج من فمي وأنفي. أما بالنسبة لانسداد الأذن فقد أصبح عندي تقليداً لا يناقش فيه. فصرت لا أسمع ما يقال ولا يفهم ما أقول. ولما كنت جليس مقاهي ومدمن مناقشات، فكنت لا تراني إلا ويدي حول صيوان أذني متسائلاً بصوت مرتفع عن كل كلمة تقال ومستفسراً عن كل رأي يطرح على طاولتي وطاولات الآخرين. ولما كانت معظم مناقشات المقاهي سياسية، فقد أخذ روادها يطنون بي الظنون، واعتقدوا أنني من إياهم، ولذلك صاروا يتهربون من أسئلتي إذا سألت، ويصمتون إذا ما دخلت.
وكنت لا أنفك أراجع الطبيب تلو الطبيب والمستشفى تلو المستشفى دون نتيجة. لقد كانوا يتقاذفونني ككرة القدم، شعبة الأذنية حولتني إلى العينية، ومن العينية إلى العصبية، ومن العصبية حولوني إلى الداخلية، ولو تابعت الانصياح لأوامرهم لحولوني إلى الخارجية والدفاع.
ولذلك عيل صبري وسلمت أمري لله. ورتبت أموري على أساس أن أعيش بقية عمري بأذن واحدة خاصة وأنه لم يعد في المنطقة، بشعاراتها وسياساتها وخطبائها وإذاعاتها وأخبارها وأغانيها ما يستحق أن يسمع. لكن يا دكتور، لاحظت في الآونة الأخيرة أن الضجر قد زال من النفوس وحل محله الهياج والترقب والانفعال، وحمى وطيس المناقشات من جديد في المقاهي. واستنفر الجميع حول أجهزة الإذاعة والتلفزيون، فثار فضولي خاصة وأنه صار يتناهى إلى سمعي بكثرة اسم سادات سادات ـ بيغن بيغن، فقلت: الحالة غير طبيعية ولا بد أن أنباء هامة تتواتر في المنطقة، ويجب أن أسمعها، وبأذنيّ الاثنتين، لا بأذن واحدة. فقال لي الطبيب بصوت مرتفع كعادته منذ أول المعاينة: من الأفضل ألا تسمعها؟
فقلت له: ما الفائدة؟ إذا كنت سأعيش نتائجها
فقال: هل قمت بتحليل للدم؟
ـ طبعاً. انظر هذه هي التحاليل وهذه هي الأدوية وهذه هي الصور الشعاعية. انظر هذه صورة للجيوب الأنفية، وهذه صورة للرئتين، وهذه صورة للأذن الملتهبة... وهذه... لا لا هذه لا علاقة لها بالموضوع. فسألني مقطباً: ما هذه الصورة العجيبة التي تحاول إخفاءها وراء ظهرك.
فقلت له: هذه صورة للوضع السياسي في المنطقة ولا علاقة لها بالموضوع.
فقال: هل قمت بتحليل للدم؟
ـ طبعاً. انظر هذه هي التحاليل وهذه هي الأدوية وهذه هي الصور الشعاعية. انظر هذه صورة للجيوب الأنفية، وهذه صورة للرئتين، وهذه صورة للأذن الملتهبة... وهذه... لا لا هذه لا علاقة لها بالموضوع. فسألني مقطباً: ما هذه الصورة العجيبة التي تحاول إخفاؤها وراء ظهرك.
فقلت له: هذه صورة للوضع السياسي في المنطقة ولا علاقة لها بالموضوع.
فقال وهو يحدق إلى الصور والتحاليل: من الواضح أن في أذنك سوائل تؤدي إلى انسدادها. ماء أم زلال أو ما شابه.
فقلت له: حتى ولو كان فيها بترول يجب أن تفتح.
فقال بعصبية: يا بني أذنك بحاجة إلى عملية جراحية.
فقلت له: وأنا أستلقي بثيابي على طاولة العمليات: إنني جاهز، هات أمواسك ومشارطك.
قال: انهض لا يوجد عندي مخدر.
قلت: لا داعي لذلك، إنني مخدر منذ عام 1948.