keko
03/10/2004, 01:02
هادا مقال عجبني من أحد المواقع .....
د. عماد فوزي ُشعيبي، سوريا
قيل لأحدهم: هل يحكم الرئيس السوري سورية فأجاب بدهشة: لا يحكم..! عجباً، إنه لا يحكم فحسب، بل يحكم ويحكم!
منذ أربع سنوات تتردد في بعض الأروقة السياسية ووسائل الإعلام مقولات تدور في الفلك نفسه وتتناول الرئيس السوري بشار الأسد بصورة خاصة بمقولات من نوع:
) الرئيس السوري لا يحكم، لا يقدر على اتخاذ قرار الإصلاح)، (أجنحة الصقور التقليدية تمنعه من العمل)، (الحرس القديم يسيطر على القرار في سورية)، (الرئيس السوري بلا خبرة ويغامر كثيراً..)..
راقبنا هذه المقولات التي كانت تصدر تارة عن أعضاء الكونغرس التقينا بعضهم ورددوا على مسامعنا هذه الأسطوانة وكانوا يبدون دهشة عارمة عندما نتحدث لهم عن طبيعة النظام السياسي في دمشق، والتي سنعرض توصيفنا لها في هذا المقام، وتارة أخرى نسمع نفس المقولات من سياسيين وباحثين إسرائيليين كان أبرزهم إيال زاسر، الذي كتب عشرات المقالات يحلل فيها وضعية النظام السياسي في سورية ومكانة الرئيس بطريقة بوليسية تأملية، إلى أن انتهى إلى كتاب لا يخرج عن السياق نفسه تحت عنوان: "ابن أبيه". ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه بصورة لافتة إلى تحليلات من كتاب في الخارج تنغِّم على النغم نفسه ويكررها آخرون، وذلك كله بخلاف ما نسمع من بعض الناس العاديين.
أربع سنوات كانت لافتة بإنتاج وإعادة إنتاج المقولات نفسها. تسير الأحداث في طريق لا يعطي أياً من المقولات السابقة أية مصداقية، ومع ذلك نسمع ونقرأ نفس المقولات.
في الحقيقة، كان هذا الأمر يثير انتباهي إلى درجة أنه لم تخلو جلسة بيني وبين مسؤول سوري إلا وتطرقنا بدهشة إلى تدوال هذه المقولات.
كان هنالك عدة احتمالات لخلفيات الطرفين الأمريكي والإسرائيلي من تداول هذا التوصيفات لحكم الرئيس بشار الأسد وشخصه:
1 ـ أنهم يعرفون أنها توصيفات ليست صحيحة لكنهم يصّرون على تداولها إما لدفع الرئيس السوري إلى أن يتحرك على الطريقة التي تناسبهم، أو أنهم يعممونها كصورة نمطية عنه لخلق مبررات لاحقة للقول إنه غير قادر على التغيير والإصلاح وبالتالي فهم مضطرون للقدوم بأنفسهم لصنع ذلك على الطريقة العراقية سواء إسرائيلياً (حيث هي الموكلة بالشأنين السوري واللبناني) أو أمريكياً إذا ما كان للمحافظين الجدد أن يكملوا ثورتهم المستمرة!!؛ وهي في صلب إيديولوجيتهم، ويورطوا واشنطن ـ مرة أخرى ـ في حرب عبثية تطيح بالاستقرار.
2 ـ أنهم ـ فعلاً ـ يجهلون واقع سورية، وهم بالتالي يقرؤون العناوين بطريقة إعادة إنتاج المقولات العامة في ما يسمى (بالماكرو سياسة) وهي طريقة إيديولوجية فيها الكثير من التأمل والإسقاط واستخدام المقولات غير المقاربة للواقع الأمر الذي يرسم واقعاً افتراضياً لا تتم عملية مقارنته بالواقع الحقيقي، ما يجعل القائلين به يعيشونه في ذواتهم ويعيدون إنتاجه(دورانياً) فيصبح حقيقة لهم بخلاف الواقع نفسه وسرعان ما يتم تداوله واتساع دائرة ذلك التداول فيصبح شائعاً إلى حدّ كبير وتبنى عليه مواقف وإجراءات. وما يعزز هذا التحليل أن الطرفين الإسرائيلي والأمريكي اثبتا هزال تقديراتهم في غير مكان، وعلى رأسها في العراق، وقبل ذلك بالنسبة للولايات المتحدة في إيران.. ويدعم هذا التصور أن المعلومات يتم استقاؤها إما من محللين (محلّقين ومتأملين) أو مِن مَن هم على نموذج الأخيرين أو بإضافة عوامل شخصية (وبهارات!) لتعزيز هذه الصورة.
ومن مخاطر هذه الصورة الزائفة أنها قد يبنى عليها ما هو لاحق ويخدم التصور الذي أوردناه في الاحتمال الأول سابق الذكر.
3 ـ ثالث الاحتمالات هو الاحتمال الذي يقول بأنه كلما حاولت السياسة السورية أن تتخذ لنفسها خطها المختلف الرافض للامتثال، كان على الرئيس الأسد أن يواجه تسويقاً لتلك التحليلات بهدف إشعاره بأن عدم الامتثال يساوي إضعافه!؟.
وقد تكون صورة الحكم في سورية ـ كما قرأناها مراراً ـ مزيجاً هجيناً من كل الاحتمالات السابقة، في بعض التحليلات الأخرى.
نفس الأسئلة والتحليلات تلقيتها في لقاء عميق لندوة تلفزيونية إثر سقوط بغداد أعدتها قناة الأوربيت.. وهي نفس الأسئلة والتحليلات التي لا تزال تزخر بها وسائل الإعلام. الأمر الذي يجعل المرء يغوص في عدد من التساؤلات منها:
1 ـ تراهم ألا يعرفون؟ (نقصد الدوائر الغربية والأمريكية)؟. أليس لديهم سفراء ومراكز استخبارات تزودهم بالمعلومات الحقيقية. والحقيقة أن الجواب عن هذا السؤال يكمن في أنني لم ألتق سفيراً عربياً أو أجنبياً في سورية إلا وسألني نفس الأسئلة وأجاب عنها بنفس الإجابات، الأمر الذي ولّد في داخلي قناعة أنهم ـ على الأغلب ـ لا يعرفون!
2 ـ لماذا لم يعمد الرئيس الأسد إلى امتصاص هذه التصورات بإجراءات سريعة ودراماتيكية تؤكد مدى قوته؟ الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى حيرة أخرى على الضفة الثانية وهي: ماذا يستوجب أن يقوم به بعد كل ما قام به الرئيس السوري كي يرى من يجب عليه أن يرى أنه (القوي الوحيد). ثم لماذا يستوجب على الرئيس الأسد أن يكون فعله رد فعل وفقاً لإيقاع الآخرين؟، ثم لماذا عليه أن يفتح مدرسة لتعليم الذين لا يقدرون على التعلم؟!
3 ـ لمصلحة من تسويق صورة زائفة عن الرئيس الضعيف ومراكز القوى المتحكمة والحرس القديم وانسداد آفاق الإصلاح بسبب كل ذلك؟ وماذا سيبنى عليها في الداخل لمن يجهل وفي الخارج لمن يعرف ويتجاهل أو لا يعرف!!!، والأخطار أكبر من أن تترك الزمن كي يعلم من لم يتعلم، ما يجعل الضغط على سورية أكبر انطلاقاً من توهمٍ أنها بالصورة التي يتم تسويقها.
4 ـ هل يحق لنا أن نعكر على الرئيس الأسد صفوة سكينته وعدم اكتراثه بكل ما يقال طالما أنه يعرف أنه(الـ) (قوي) ويمارس ذلك ـ فعلياً ـ على الأرض؟. ثم هل حقيقة قوة الرئيس المتنسّك ـ مبكراً ـ ملكه وحده؟، أم إنها ملك للسوريين ولمستقبل سورية والمنطقة، بما يفسح لنا في المجال أن نقول ما يجب أن يُقال؟، وهو تقديرنا والدافع وراء هذا المقال.
وبين تأرجحنا، بين الحرص المفرط والتقدير بأن مخاطر هذه الصورة النمطية أكبر بكثير من أن تُترك لتجري على عواهنها، وبين ما يضاف من طبيعة مهنتي كأستاذ جامعي وكاتب إعلامي وسياسي وظيفته أن يضع الناس في صورة ما يراه، أقله لجهة التقاسم في المعلومات والتحليلات، كان لابد من التوجه لشرح طبيعة النظام السياسي في سورية:
في تأسيس أي دولة هنالك مراحل (موضوعية) تمرّ هذه الدولة فيها أولها أن تحكم بقبضة قوية. وسورية في هذا السياق عندما بدأت فيها الدولة بالمعنى الحقيقي للكلمة كان لابد للرئيس الراحل حافظ الأسد أن يبني فيها نظاماً قوياً كان فيه (القويّ) على مجموعة كان يحقنها من عندياته بالقوة، فظنت نفسها قوية. أي أن الحكم كان آنذاك يتمثل بصورة (القوي على مجموعة من أظناء القوة). إذ لم يفت الرئيس الراحل أن عليه أن يحسم قضية (مراكز القوى) في نظام يريد أن يستمر فكان النظام يبدو وكأنه محكوم برجل قويّ ومراكز للقوة، لكن الأسد كان بارعاً في تفريغ تلك القوى من محتوى القوة، فكانت قوية كلما ارتبطت بقوته وضعيفة: فرادى أو مجتمعة.. لا فرق.
لقد بنى الرئيس الراحل النظام السياسي في سورية بطريقة فريدة للغاية تجمعها أربع نظريات وهي البراغماتية والميكيافيلية الحديثة والوظيفة والأداتية.
كان مزجه بين هذه النظريات على مستوى الواقع العملي مدعاة للانتباه، أقله منّا نحن الذين ندّرس ونتعايش مع الفكر والعمل السياسي معاً. وكان مثيراً للانتباه كيف وفّق بين ضرورات النظام القوى وضرورة تفريغ الذين يظنون أنفسهم أقوياء من محتوى القوة: ونقطة تأثيرها وشدتها واتجاهها ومنحاها. والمؤكد أن إزالة كل الأسماء التي كانت تتصور نفسها قوية ذات يوم سواء بالتقادم أو القضم بالتدريج أو بالشطب أو بالإحالة إلى التقاعد أو بالترفيع إلى مواقع فضفاضة.. كانت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة النظام الذي يريد أن يبني دولة من لا شيء وفي ظل ظروف صعبة للغاية.
لم يكن لهذا النوع من الدولة أن يستمر لأن ـ طبيعة الأمور ـ ألا تستهلك طبيعة الدولة السابقة نفسها وإلا لقضت على الدولة نفسها، لأنها تحتمل أن تكون في مرحلة تاريخية ولا تحتمل كل المراحل، أضف إلى أن الزمان اختلف وحاجات الدولة والشعب وطبيعة المرحلة الدولية تقتضي التحوّل ولهذا بدأت نذر هذا التحول نهاية التسعينيات.
مع الرئيس بشار الأسد بدأت الدولة في سورية مرحلة جديدة من مراحل تطورها؛ أي مرحلة تعزيز دور الدولة والمؤسسات على حساب الأفراد، أو بكلمة واسعة نسبياً: تعزيز دولة القانون والمؤسسات لأن المسألة ليست ـ عملياً ـ قراراً يتم تنفيذه بعد التوقيع ولهذا كان لابد أن تتم عملية مركبة في هذا الاتجاه:
1 ـ سبر إمكانيات القوى الاجتماعية والمؤسساتية على تقبل ودعم وأزر هذا التحول ما استدعى مرحلة انتقالية يراها البعض قد طالت، وتزعجنا وقائعها البطيئة، لكنها تندرج في سياق التاريخانية التي تقتضيها أية مرحلة للانتقال من طبيعة نظام سياسي إلى طبيعة نظام سياسيّ مغاير، وهذا توصيف للوضع، يحاول تناوله بعقل بارد، وليس تبريراً للوقائع المذكورة، فنحن ضد كلّ الأخطاء وحماستنا للتغيير لا توازيها حماسة، ولكننا نقرأ الوقائع التي تفرض نفسها في المآل الأخير باعتبارها طبيعة الأشياء!
2 ـ فرض الرئيس لوقائع جديدة على الأرض بانتظار أن تثمر عن ذلك التحول المنشود، وهي وقائع قد تفسر على أنها بغياب للسطوة لدى بعض مسؤولي المؤسسات على أنها حالة ميوعة في القرار أو تنفيذه لدى بعض المؤسسات مما استدعى لدى البعض سؤالاً ما فتيء يقارب المسألة بدهشة: من يحكم البلاد؟ وهو سؤال ـ للأسف ـ يتجاوز حدود سؤال هل يحكم الرئيس الأسد سورية إلى الحديث الذي يكاد يوصف مسألة دون أن يدركها وهي تتمثل باختصار على النحو التالي:
عندما أراد الرئيس بشار الأسد أن يرسم دولة للقانون والمؤسسات، إكمالاً لمشروع الرئيس الراحل كان عليه تغييب (الشخصنة) وابتدأ بنفسه فمنع طبع صوره أو إقامة احتفالات ومظاهر تجميلية دعائية شخصانية ولم يسمح بصنع تمثال واحد له في أي مرفق عام طلباً للمداهنة.. وعلى التوازي مع ذلك حجّم دور الأشخاص في الأجهزة وحصر أداءهم في مسؤولياتهم مما خلق صورة وهمية عن الضعف العام في الأجهزة و النظام.
هذا الضعف الظاهري هو ضعف صوريّ مرده تراجع صورة التسلط الشخصي للأفراد على رقاب الناس ومصائرهم، وهو على الرغم من أنه رسم صورة مختلفة عن الأجهزة إلا أنه عملياً قوّاها.. فقط في حدود اختصاصاتها؛ لأن القوة (المنتشرة) والتي لم يكن لها حدود بلغت أحياناً كثيرة حدّ التسلط وقهر الناس، كلما انتشرت وتمادت كلما قاربت الضعف؛ لأنها تضعف النظام أو الدولة وتخلق شعوراً قهرياً لدى الناس فتتباعد المسافة بين الدولة ومواطنيها وفي هذا ذروة الضعف رغم القوة الظاهرة.
هذا ما نقصده بالمرحلة الانتقالية إلى دولة القانون والمؤسسات. وهي مرحلة تغيرت فيها طبيعة النظام السياسي في سورية إلى نظام(الـ) (قوي) على مجموعة هي تروس في ماكينة الدولة لكن رأس النظام القوي لم يصبح أقوى الضعفاء بل غدا القوي الوحيد الذي يشكل (مركز ثقل) النظام السائر نحو المؤسساتية ونقطة تقاطع كل الفعاليات التي لم تعد قوىً.
وعليه فإذا كان الرئيس الراحل حافظ الأسد قد بنى نظاماً بلا مراكز قوة رغم ظواهر افتراضية دون ذلك، فإن الرئيس بشار الأسد قد بنى نظاماً بلا مراكز قوة على الإطلاق لا ظاهراً ولا باطناً.
هي خطوة أولى تجاه تعزيز المؤسساتية. نعم يرافق هذه الخطوة صورة وهمية عن ضعف في النظام، وهذا صحيح وغير صحيح؟!.
صحيح لأن من اعتاد على أن يكون اقطاعياً في مزرعته لم يعد قادراً على التصرف بمفرده فغابت حالة اتخاذ القرار فوق القانون لصالح التدريب على اتخاذ القرارات ضمن ماكينة الدولة وهذا بحد ذاته يفسر في أحد جوانبه التعثر في الإصلاح لأن القرار أصبح مؤسساتياً (أو هكذا يؤمل) في ظل غياب مؤسساتيين من ناحية وإرث مؤسساتي من ناحية أخرى فدخل الفعل في متاهة من عدم التعوَّد وعدم وجود كوادر صاحبة قرار بالمعنى المؤسساتي والقانوني. إذ أن هنالك هرماً تعوّد على الاستلزلام وعلى التجاوز وعلى عدم اتخاذ القرار أو على مفهوم (الدعم) في تجاوزاته. نعم كانت العجلة تدور ولكنها لم تكن تدور ـ دائماً ـ مؤسساتياً وبالقوانين.
اليوم، لا يسمح الرئيس الأسد بتجاوز مفهوم المؤسساتية والتراتبية ومبدأ القوانين مرجعاً للعقل في الدولة، ولهذا تتعثر الحركة، ولكن بالتأكيد القطار على الطريق.
هل يرحمنا الزمن؟.. سؤال يضغط علينا جميعاً، لكنه لا يجد إجابته في انفعالاتنا وإحساسنا بذواتنا(الفاعلة) والنقيّة والوطنية فحسب، إذ أنه يجد إجابته في توافر(التراكم) في الدولة ومؤسساتها ومؤسساتيين؛ نعني الكوادر التي عليها أن تساهم في بناء سورية باعتبارها دولة مؤسسات وليست دولة للأشخاص.
في هذه المرحلة الانتقالية تسود صورة نمطية ووهمية أيضاً عن تسلط الأجهزة والأفراد هي من الماضي بالتأكيد لكنها تسير بقوة العطالة. ويستفيد منها بعض الأفراد في إيهام الآخرين بما يسمح بالتسلط أو النفوذ أو حتى الابتزاز بأشكاله العديدة: النفسية والمالية.. في وقت تتغير فيه آليات اتخاذ القرار أو تنفيذ القوانين.
عندما يقول إيال زاسر أن سورية لا تحكم إلا بنظام ذي قبضة قوية فإنه لم يُخالف الحقيقة لأن كل دول العالم الثالث لا تحكم إلا بنظام قوى وليس بذي قبضة وفقاً للصورة النمطية التي يُراد استعادتها. إلا أن النظام في سورية ليس ضعيفاً فهو قوي فعلياً بدليل الأحداث الأخيرة وطريقة التعامل معها. صحيح أن هنالك أكثر من رأي حول الطريقة التي استخدمت بها تلك الطريقة بخلاف غيرها إلا أنها آراء في صلب النظام نفسه وهدفها هو(أمثلية التعامل) بدليل أن الرئيس بشار الأسد ساهم في تصحيح أخطاء بعض الأجهزة علناً وكأنه يشير إلى أن ليس ثمة من أحد فوق النقد وأن على الجميع أن يسيروا على خطه في النقد بدون أن يتحول هذا النقد إلى تخريب أو إلى نسف.. فهنالك بالتأكيد أخطاء لأن الذين يمارسون الفعل هم من البشر والبشر خطّاؤون بالضرورة.
في المراحل الانتقالية ترتج الصورة الساكنة التي تم التعوّد عليها وهذا ما يجعل أية صورة حالية أو قادمة إما مرفوضة أو موضع عدم فهم أو سوء فهم أحياناً.
التاريخ والتجربة البشريتان لا يسيران دائماً وفقاً لإيقاع ثابت، ومن المؤكد أن على المرحلة الانتقالية ألا تطول لأنها تغدو خطراً على الدولة والمهم ألا تضيع في متاهة ولا تستطيع أن تخرج منها ولكن من المؤكد أيضاً أن على الدولة دائماً أن تحافظ على هيبتها وسرعة أدائها، وعلينا أن نتمتع بقدر أكبر من التكيّف مع المتغيرّات وأن نرى بشكل أعمق صورة السياسة السورية التي تنطبق عليها مقولة معروفة في (نقد العلم) وهي أن كل معرفة شائعة تتحول إلى عقبة معرفية تمنع رؤية المعرفة الجديدة ولا بد من القطيعة مع المعرفة القديمة الشائعة حتى يمكن التعرف على تلك المعرفة الجديدة. ومن المؤكد أن ما يفعله الرئيس بشار الأسد هو من قبيل المعرفة الجديدة أي الواقع الجديد الذي لا يجب علينا أن نجعل ما اعتدنا عليه يأسر قدرتنا على فهم السياسة الجديدة في سورية.. وباختصار الرئيس بشار الأسد قوي في دولة تتطور من نموذج إلى آخر وهذا هو واقع الحال وتلك هي طبيعة الأشياء، ونحن هنا لا نسوّق لأحد أو ننتهج أسلوباً إعلانياً، ولكن ما يحدونا في هذا المقام هو أن نقاسم الآخرين ما نعرفه، علّ هذه الصورة تفسح في المجال أمام توافق في مساحة الرؤية المشتركة للأهداف والعقبات. هذا على صعيد التلقيّ لدى إخواننا العرب والسوريين خصوصاً.
أما بخصوص المتلقين من الإسرائيليين أو الأمريكيين فهدف هذا البحث ينحصر في أمرين ـ بصراحة ـ: الأول أن يعرفوا إن لم يكونوا يعرفون، والثاني أن نلعب على المكشوف!؟
د. عماد فوزي ُشعيبي، سوريا
قيل لأحدهم: هل يحكم الرئيس السوري سورية فأجاب بدهشة: لا يحكم..! عجباً، إنه لا يحكم فحسب، بل يحكم ويحكم!
منذ أربع سنوات تتردد في بعض الأروقة السياسية ووسائل الإعلام مقولات تدور في الفلك نفسه وتتناول الرئيس السوري بشار الأسد بصورة خاصة بمقولات من نوع:
) الرئيس السوري لا يحكم، لا يقدر على اتخاذ قرار الإصلاح)، (أجنحة الصقور التقليدية تمنعه من العمل)، (الحرس القديم يسيطر على القرار في سورية)، (الرئيس السوري بلا خبرة ويغامر كثيراً..)..
راقبنا هذه المقولات التي كانت تصدر تارة عن أعضاء الكونغرس التقينا بعضهم ورددوا على مسامعنا هذه الأسطوانة وكانوا يبدون دهشة عارمة عندما نتحدث لهم عن طبيعة النظام السياسي في دمشق، والتي سنعرض توصيفنا لها في هذا المقام، وتارة أخرى نسمع نفس المقولات من سياسيين وباحثين إسرائيليين كان أبرزهم إيال زاسر، الذي كتب عشرات المقالات يحلل فيها وضعية النظام السياسي في سورية ومكانة الرئيس بطريقة بوليسية تأملية، إلى أن انتهى إلى كتاب لا يخرج عن السياق نفسه تحت عنوان: "ابن أبيه". ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه بصورة لافتة إلى تحليلات من كتاب في الخارج تنغِّم على النغم نفسه ويكررها آخرون، وذلك كله بخلاف ما نسمع من بعض الناس العاديين.
أربع سنوات كانت لافتة بإنتاج وإعادة إنتاج المقولات نفسها. تسير الأحداث في طريق لا يعطي أياً من المقولات السابقة أية مصداقية، ومع ذلك نسمع ونقرأ نفس المقولات.
في الحقيقة، كان هذا الأمر يثير انتباهي إلى درجة أنه لم تخلو جلسة بيني وبين مسؤول سوري إلا وتطرقنا بدهشة إلى تدوال هذه المقولات.
كان هنالك عدة احتمالات لخلفيات الطرفين الأمريكي والإسرائيلي من تداول هذا التوصيفات لحكم الرئيس بشار الأسد وشخصه:
1 ـ أنهم يعرفون أنها توصيفات ليست صحيحة لكنهم يصّرون على تداولها إما لدفع الرئيس السوري إلى أن يتحرك على الطريقة التي تناسبهم، أو أنهم يعممونها كصورة نمطية عنه لخلق مبررات لاحقة للقول إنه غير قادر على التغيير والإصلاح وبالتالي فهم مضطرون للقدوم بأنفسهم لصنع ذلك على الطريقة العراقية سواء إسرائيلياً (حيث هي الموكلة بالشأنين السوري واللبناني) أو أمريكياً إذا ما كان للمحافظين الجدد أن يكملوا ثورتهم المستمرة!!؛ وهي في صلب إيديولوجيتهم، ويورطوا واشنطن ـ مرة أخرى ـ في حرب عبثية تطيح بالاستقرار.
2 ـ أنهم ـ فعلاً ـ يجهلون واقع سورية، وهم بالتالي يقرؤون العناوين بطريقة إعادة إنتاج المقولات العامة في ما يسمى (بالماكرو سياسة) وهي طريقة إيديولوجية فيها الكثير من التأمل والإسقاط واستخدام المقولات غير المقاربة للواقع الأمر الذي يرسم واقعاً افتراضياً لا تتم عملية مقارنته بالواقع الحقيقي، ما يجعل القائلين به يعيشونه في ذواتهم ويعيدون إنتاجه(دورانياً) فيصبح حقيقة لهم بخلاف الواقع نفسه وسرعان ما يتم تداوله واتساع دائرة ذلك التداول فيصبح شائعاً إلى حدّ كبير وتبنى عليه مواقف وإجراءات. وما يعزز هذا التحليل أن الطرفين الإسرائيلي والأمريكي اثبتا هزال تقديراتهم في غير مكان، وعلى رأسها في العراق، وقبل ذلك بالنسبة للولايات المتحدة في إيران.. ويدعم هذا التصور أن المعلومات يتم استقاؤها إما من محللين (محلّقين ومتأملين) أو مِن مَن هم على نموذج الأخيرين أو بإضافة عوامل شخصية (وبهارات!) لتعزيز هذه الصورة.
ومن مخاطر هذه الصورة الزائفة أنها قد يبنى عليها ما هو لاحق ويخدم التصور الذي أوردناه في الاحتمال الأول سابق الذكر.
3 ـ ثالث الاحتمالات هو الاحتمال الذي يقول بأنه كلما حاولت السياسة السورية أن تتخذ لنفسها خطها المختلف الرافض للامتثال، كان على الرئيس الأسد أن يواجه تسويقاً لتلك التحليلات بهدف إشعاره بأن عدم الامتثال يساوي إضعافه!؟.
وقد تكون صورة الحكم في سورية ـ كما قرأناها مراراً ـ مزيجاً هجيناً من كل الاحتمالات السابقة، في بعض التحليلات الأخرى.
نفس الأسئلة والتحليلات تلقيتها في لقاء عميق لندوة تلفزيونية إثر سقوط بغداد أعدتها قناة الأوربيت.. وهي نفس الأسئلة والتحليلات التي لا تزال تزخر بها وسائل الإعلام. الأمر الذي يجعل المرء يغوص في عدد من التساؤلات منها:
1 ـ تراهم ألا يعرفون؟ (نقصد الدوائر الغربية والأمريكية)؟. أليس لديهم سفراء ومراكز استخبارات تزودهم بالمعلومات الحقيقية. والحقيقة أن الجواب عن هذا السؤال يكمن في أنني لم ألتق سفيراً عربياً أو أجنبياً في سورية إلا وسألني نفس الأسئلة وأجاب عنها بنفس الإجابات، الأمر الذي ولّد في داخلي قناعة أنهم ـ على الأغلب ـ لا يعرفون!
2 ـ لماذا لم يعمد الرئيس الأسد إلى امتصاص هذه التصورات بإجراءات سريعة ودراماتيكية تؤكد مدى قوته؟ الإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى حيرة أخرى على الضفة الثانية وهي: ماذا يستوجب أن يقوم به بعد كل ما قام به الرئيس السوري كي يرى من يجب عليه أن يرى أنه (القوي الوحيد). ثم لماذا يستوجب على الرئيس الأسد أن يكون فعله رد فعل وفقاً لإيقاع الآخرين؟، ثم لماذا عليه أن يفتح مدرسة لتعليم الذين لا يقدرون على التعلم؟!
3 ـ لمصلحة من تسويق صورة زائفة عن الرئيس الضعيف ومراكز القوى المتحكمة والحرس القديم وانسداد آفاق الإصلاح بسبب كل ذلك؟ وماذا سيبنى عليها في الداخل لمن يجهل وفي الخارج لمن يعرف ويتجاهل أو لا يعرف!!!، والأخطار أكبر من أن تترك الزمن كي يعلم من لم يتعلم، ما يجعل الضغط على سورية أكبر انطلاقاً من توهمٍ أنها بالصورة التي يتم تسويقها.
4 ـ هل يحق لنا أن نعكر على الرئيس الأسد صفوة سكينته وعدم اكتراثه بكل ما يقال طالما أنه يعرف أنه(الـ) (قوي) ويمارس ذلك ـ فعلياً ـ على الأرض؟. ثم هل حقيقة قوة الرئيس المتنسّك ـ مبكراً ـ ملكه وحده؟، أم إنها ملك للسوريين ولمستقبل سورية والمنطقة، بما يفسح لنا في المجال أن نقول ما يجب أن يُقال؟، وهو تقديرنا والدافع وراء هذا المقال.
وبين تأرجحنا، بين الحرص المفرط والتقدير بأن مخاطر هذه الصورة النمطية أكبر بكثير من أن تُترك لتجري على عواهنها، وبين ما يضاف من طبيعة مهنتي كأستاذ جامعي وكاتب إعلامي وسياسي وظيفته أن يضع الناس في صورة ما يراه، أقله لجهة التقاسم في المعلومات والتحليلات، كان لابد من التوجه لشرح طبيعة النظام السياسي في سورية:
في تأسيس أي دولة هنالك مراحل (موضوعية) تمرّ هذه الدولة فيها أولها أن تحكم بقبضة قوية. وسورية في هذا السياق عندما بدأت فيها الدولة بالمعنى الحقيقي للكلمة كان لابد للرئيس الراحل حافظ الأسد أن يبني فيها نظاماً قوياً كان فيه (القويّ) على مجموعة كان يحقنها من عندياته بالقوة، فظنت نفسها قوية. أي أن الحكم كان آنذاك يتمثل بصورة (القوي على مجموعة من أظناء القوة). إذ لم يفت الرئيس الراحل أن عليه أن يحسم قضية (مراكز القوى) في نظام يريد أن يستمر فكان النظام يبدو وكأنه محكوم برجل قويّ ومراكز للقوة، لكن الأسد كان بارعاً في تفريغ تلك القوى من محتوى القوة، فكانت قوية كلما ارتبطت بقوته وضعيفة: فرادى أو مجتمعة.. لا فرق.
لقد بنى الرئيس الراحل النظام السياسي في سورية بطريقة فريدة للغاية تجمعها أربع نظريات وهي البراغماتية والميكيافيلية الحديثة والوظيفة والأداتية.
كان مزجه بين هذه النظريات على مستوى الواقع العملي مدعاة للانتباه، أقله منّا نحن الذين ندّرس ونتعايش مع الفكر والعمل السياسي معاً. وكان مثيراً للانتباه كيف وفّق بين ضرورات النظام القوى وضرورة تفريغ الذين يظنون أنفسهم أقوياء من محتوى القوة: ونقطة تأثيرها وشدتها واتجاهها ومنحاها. والمؤكد أن إزالة كل الأسماء التي كانت تتصور نفسها قوية ذات يوم سواء بالتقادم أو القضم بالتدريج أو بالشطب أو بالإحالة إلى التقاعد أو بالترفيع إلى مواقع فضفاضة.. كانت جزءاً لا يتجزأ من طبيعة النظام الذي يريد أن يبني دولة من لا شيء وفي ظل ظروف صعبة للغاية.
لم يكن لهذا النوع من الدولة أن يستمر لأن ـ طبيعة الأمور ـ ألا تستهلك طبيعة الدولة السابقة نفسها وإلا لقضت على الدولة نفسها، لأنها تحتمل أن تكون في مرحلة تاريخية ولا تحتمل كل المراحل، أضف إلى أن الزمان اختلف وحاجات الدولة والشعب وطبيعة المرحلة الدولية تقتضي التحوّل ولهذا بدأت نذر هذا التحول نهاية التسعينيات.
مع الرئيس بشار الأسد بدأت الدولة في سورية مرحلة جديدة من مراحل تطورها؛ أي مرحلة تعزيز دور الدولة والمؤسسات على حساب الأفراد، أو بكلمة واسعة نسبياً: تعزيز دولة القانون والمؤسسات لأن المسألة ليست ـ عملياً ـ قراراً يتم تنفيذه بعد التوقيع ولهذا كان لابد أن تتم عملية مركبة في هذا الاتجاه:
1 ـ سبر إمكانيات القوى الاجتماعية والمؤسساتية على تقبل ودعم وأزر هذا التحول ما استدعى مرحلة انتقالية يراها البعض قد طالت، وتزعجنا وقائعها البطيئة، لكنها تندرج في سياق التاريخانية التي تقتضيها أية مرحلة للانتقال من طبيعة نظام سياسي إلى طبيعة نظام سياسيّ مغاير، وهذا توصيف للوضع، يحاول تناوله بعقل بارد، وليس تبريراً للوقائع المذكورة، فنحن ضد كلّ الأخطاء وحماستنا للتغيير لا توازيها حماسة، ولكننا نقرأ الوقائع التي تفرض نفسها في المآل الأخير باعتبارها طبيعة الأشياء!
2 ـ فرض الرئيس لوقائع جديدة على الأرض بانتظار أن تثمر عن ذلك التحول المنشود، وهي وقائع قد تفسر على أنها بغياب للسطوة لدى بعض مسؤولي المؤسسات على أنها حالة ميوعة في القرار أو تنفيذه لدى بعض المؤسسات مما استدعى لدى البعض سؤالاً ما فتيء يقارب المسألة بدهشة: من يحكم البلاد؟ وهو سؤال ـ للأسف ـ يتجاوز حدود سؤال هل يحكم الرئيس الأسد سورية إلى الحديث الذي يكاد يوصف مسألة دون أن يدركها وهي تتمثل باختصار على النحو التالي:
عندما أراد الرئيس بشار الأسد أن يرسم دولة للقانون والمؤسسات، إكمالاً لمشروع الرئيس الراحل كان عليه تغييب (الشخصنة) وابتدأ بنفسه فمنع طبع صوره أو إقامة احتفالات ومظاهر تجميلية دعائية شخصانية ولم يسمح بصنع تمثال واحد له في أي مرفق عام طلباً للمداهنة.. وعلى التوازي مع ذلك حجّم دور الأشخاص في الأجهزة وحصر أداءهم في مسؤولياتهم مما خلق صورة وهمية عن الضعف العام في الأجهزة و النظام.
هذا الضعف الظاهري هو ضعف صوريّ مرده تراجع صورة التسلط الشخصي للأفراد على رقاب الناس ومصائرهم، وهو على الرغم من أنه رسم صورة مختلفة عن الأجهزة إلا أنه عملياً قوّاها.. فقط في حدود اختصاصاتها؛ لأن القوة (المنتشرة) والتي لم يكن لها حدود بلغت أحياناً كثيرة حدّ التسلط وقهر الناس، كلما انتشرت وتمادت كلما قاربت الضعف؛ لأنها تضعف النظام أو الدولة وتخلق شعوراً قهرياً لدى الناس فتتباعد المسافة بين الدولة ومواطنيها وفي هذا ذروة الضعف رغم القوة الظاهرة.
هذا ما نقصده بالمرحلة الانتقالية إلى دولة القانون والمؤسسات. وهي مرحلة تغيرت فيها طبيعة النظام السياسي في سورية إلى نظام(الـ) (قوي) على مجموعة هي تروس في ماكينة الدولة لكن رأس النظام القوي لم يصبح أقوى الضعفاء بل غدا القوي الوحيد الذي يشكل (مركز ثقل) النظام السائر نحو المؤسساتية ونقطة تقاطع كل الفعاليات التي لم تعد قوىً.
وعليه فإذا كان الرئيس الراحل حافظ الأسد قد بنى نظاماً بلا مراكز قوة رغم ظواهر افتراضية دون ذلك، فإن الرئيس بشار الأسد قد بنى نظاماً بلا مراكز قوة على الإطلاق لا ظاهراً ولا باطناً.
هي خطوة أولى تجاه تعزيز المؤسساتية. نعم يرافق هذه الخطوة صورة وهمية عن ضعف في النظام، وهذا صحيح وغير صحيح؟!.
صحيح لأن من اعتاد على أن يكون اقطاعياً في مزرعته لم يعد قادراً على التصرف بمفرده فغابت حالة اتخاذ القرار فوق القانون لصالح التدريب على اتخاذ القرارات ضمن ماكينة الدولة وهذا بحد ذاته يفسر في أحد جوانبه التعثر في الإصلاح لأن القرار أصبح مؤسساتياً (أو هكذا يؤمل) في ظل غياب مؤسساتيين من ناحية وإرث مؤسساتي من ناحية أخرى فدخل الفعل في متاهة من عدم التعوَّد وعدم وجود كوادر صاحبة قرار بالمعنى المؤسساتي والقانوني. إذ أن هنالك هرماً تعوّد على الاستلزلام وعلى التجاوز وعلى عدم اتخاذ القرار أو على مفهوم (الدعم) في تجاوزاته. نعم كانت العجلة تدور ولكنها لم تكن تدور ـ دائماً ـ مؤسساتياً وبالقوانين.
اليوم، لا يسمح الرئيس الأسد بتجاوز مفهوم المؤسساتية والتراتبية ومبدأ القوانين مرجعاً للعقل في الدولة، ولهذا تتعثر الحركة، ولكن بالتأكيد القطار على الطريق.
هل يرحمنا الزمن؟.. سؤال يضغط علينا جميعاً، لكنه لا يجد إجابته في انفعالاتنا وإحساسنا بذواتنا(الفاعلة) والنقيّة والوطنية فحسب، إذ أنه يجد إجابته في توافر(التراكم) في الدولة ومؤسساتها ومؤسساتيين؛ نعني الكوادر التي عليها أن تساهم في بناء سورية باعتبارها دولة مؤسسات وليست دولة للأشخاص.
في هذه المرحلة الانتقالية تسود صورة نمطية ووهمية أيضاً عن تسلط الأجهزة والأفراد هي من الماضي بالتأكيد لكنها تسير بقوة العطالة. ويستفيد منها بعض الأفراد في إيهام الآخرين بما يسمح بالتسلط أو النفوذ أو حتى الابتزاز بأشكاله العديدة: النفسية والمالية.. في وقت تتغير فيه آليات اتخاذ القرار أو تنفيذ القوانين.
عندما يقول إيال زاسر أن سورية لا تحكم إلا بنظام ذي قبضة قوية فإنه لم يُخالف الحقيقة لأن كل دول العالم الثالث لا تحكم إلا بنظام قوى وليس بذي قبضة وفقاً للصورة النمطية التي يُراد استعادتها. إلا أن النظام في سورية ليس ضعيفاً فهو قوي فعلياً بدليل الأحداث الأخيرة وطريقة التعامل معها. صحيح أن هنالك أكثر من رأي حول الطريقة التي استخدمت بها تلك الطريقة بخلاف غيرها إلا أنها آراء في صلب النظام نفسه وهدفها هو(أمثلية التعامل) بدليل أن الرئيس بشار الأسد ساهم في تصحيح أخطاء بعض الأجهزة علناً وكأنه يشير إلى أن ليس ثمة من أحد فوق النقد وأن على الجميع أن يسيروا على خطه في النقد بدون أن يتحول هذا النقد إلى تخريب أو إلى نسف.. فهنالك بالتأكيد أخطاء لأن الذين يمارسون الفعل هم من البشر والبشر خطّاؤون بالضرورة.
في المراحل الانتقالية ترتج الصورة الساكنة التي تم التعوّد عليها وهذا ما يجعل أية صورة حالية أو قادمة إما مرفوضة أو موضع عدم فهم أو سوء فهم أحياناً.
التاريخ والتجربة البشريتان لا يسيران دائماً وفقاً لإيقاع ثابت، ومن المؤكد أن على المرحلة الانتقالية ألا تطول لأنها تغدو خطراً على الدولة والمهم ألا تضيع في متاهة ولا تستطيع أن تخرج منها ولكن من المؤكد أيضاً أن على الدولة دائماً أن تحافظ على هيبتها وسرعة أدائها، وعلينا أن نتمتع بقدر أكبر من التكيّف مع المتغيرّات وأن نرى بشكل أعمق صورة السياسة السورية التي تنطبق عليها مقولة معروفة في (نقد العلم) وهي أن كل معرفة شائعة تتحول إلى عقبة معرفية تمنع رؤية المعرفة الجديدة ولا بد من القطيعة مع المعرفة القديمة الشائعة حتى يمكن التعرف على تلك المعرفة الجديدة. ومن المؤكد أن ما يفعله الرئيس بشار الأسد هو من قبيل المعرفة الجديدة أي الواقع الجديد الذي لا يجب علينا أن نجعل ما اعتدنا عليه يأسر قدرتنا على فهم السياسة الجديدة في سورية.. وباختصار الرئيس بشار الأسد قوي في دولة تتطور من نموذج إلى آخر وهذا هو واقع الحال وتلك هي طبيعة الأشياء، ونحن هنا لا نسوّق لأحد أو ننتهج أسلوباً إعلانياً، ولكن ما يحدونا في هذا المقام هو أن نقاسم الآخرين ما نعرفه، علّ هذه الصورة تفسح في المجال أمام توافق في مساحة الرؤية المشتركة للأهداف والعقبات. هذا على صعيد التلقيّ لدى إخواننا العرب والسوريين خصوصاً.
أما بخصوص المتلقين من الإسرائيليين أو الأمريكيين فهدف هذا البحث ينحصر في أمرين ـ بصراحة ـ: الأول أن يعرفوا إن لم يكونوا يعرفون، والثاني أن نلعب على المكشوف!؟