Ehabo
08/11/2005, 02:48
كنتُ في غرفتِي بينَ زوايَا وحدتِي، أتأملُ السحبَ من بلور نافدةِ غرفتِي، فهذِهِ هِيَ عادتِي أنْ أتطلعَ إلى السماءِ حينَ تغلبُ همومِي على أحلامِي، وتختلط أحزانِي بأشجانِي.. ناظرًا مصيرَ تلكَ الغيماتِ التِّي لا تحملُ المطرَ، لكن بداخِلِهَا آمالُ البشرِ..
عجيبٌ كيفَ تتبدلُ الغيمةُ منْ شكلٍ إلى آخرَ، لتتغيرَ إلى مَا هوَ أسمَى من الأشكال وأبهَى، كأنهَا خطوطٌ تداخلت وألوان اختلطت في مخيلة رسام لتصير لوحة متمازجة خطوطها، متناسقة ألوانها، فبدت لِي تلكَ اللحظةُ كأنهَا أبديةٌ..
غريبٌ هذَا الشعورُ الذِي ينتابنِي كلمَا تأملتُ السماءَ هامسًا ببعضَ الأسئلةِ، محتفظًا بالباقِي فِي أعماقِي، لأنَّ هناكَ سأجدُ لهَا المخبأَ بجانبِ جراحِي وأحلامِي.
وَمَا زلتُ علَى هذا الحال حتى لمحتُ طيفاً يقتربُ منِّي مخترقاً الأفق، والسحب خلفه بدت كأنها أجنحة يلوح بها، فأمعنتُ النظرَ فإذا بي أرى الحكمة تبتسم وهي قادمة نحوي، فدخلتْ غرفتِي عبرَ النافذةِ كما تدخلُ وريقة أول زهور الربيع بيت شاعر لتملأ غرفته عطراً وتغمر نفسَه شعراً، فتضوّعَ في غرفتِي عطرُ الياسمينِ ممزوجا بعبيرِ مسكِ الليلِ، ثم قالتْ وهي تنتصبُ ماثلةً أمامِي واضعةً يدها على كتفِي: ها أنا ذا جئتُ مخترقةً جدرانَ الأبديةِ لأجيبكَ عن أسئلتكَ، فأجبتها متلعثماً: لكني لم أسألكِ أبداً!
فقالتْ: إنكَ لمْ تقلها بشفاه البشر التي تذم أشعة الشمس نهاراً، وتمدحها وهي معكوسة على صفحة القمر ليلاً، لكنكَ بُحتَ بها بذلكَ العصفورِ الذي ينشد في صدرك، فما إن سمعتُ إنشادهُ لبيتُ النداءَ متسلقةً الجبالَ، ممتطيةً العواصفَ، مرافقةً الجداولَ حتى وصلتُ إلى هنا.
فارتعشَ قلبِي بداخلِي وقدْ اختلطتِ الأمورُ بذهنِي ولمْ أعدْ أدرِي ما أقولُ، ثم زادتْ قائلةً: هلمَّ بنا نذهبُ فهناكَ ما يجبُ أنْ تراهُ، ولكنْ ليسَ بعيونِ البشرِ؛ لأنها عمياءُ لا ترَى غيرَ المتلألئ من الأمور، ثم وضعتْ يدها على خدي، فأحسستُ بحريةٍ لم أحسها منْ قبلُ وأنا أطيرُ فوقَ رأسها كفراشةٍ صغيرةٍ وحولنا أسرابُ الحمامِ ترفرف بأجنحتِها.. فطِرتُ والحكمةُ جنباً إلى جنبٍ فوقَ المدينةِ التي بدتْ كأخطبوطٍ عائمٍ فوقَ بحرٍ منَ السكون، موجُه دخان المصانع، وشاطئه رقعة صغيرة بين المقابر، حتَّى وصلنَا إلى نهرٍ عظيم انعكستْ عليهِ صورَةُ القمرِ والنجومِ فبدا كامتدادٍ للفضاءِ أو كبوابةٍ يدخلُ منها أهلُ الأرضِ ليسلمُوا سلامَ الشوقِ على أهلِ السماء، فتقدمتِ الحكمةُ مني وقالتْ وعلى عينيها بدتْ سيماءُ الحنوِّ والعطفِ: هوَ ذَا نهرُ الحياةِ فاشربْ، ولكنْ لا تنسَ أنهُ ليسَ ككلِّ الأنهار، ولا يمكنكَ الشربُ منهُ كمَا يرتوى من كلِّ الأنهارِ، وتذكرْ أنهُ ينبعُ منْ عمقِ الإنسانِ وليسَ منْ خارجهِ.
فقلتُ وأنَا لا أدرِي مَا يجبُ عليَّ قولهُ: أتقصدينَ أنَّ الإنسانَ يرتوِي منْ قلبهِِ، وليسَ عليهِ أنْ ينخدعَ بلمعانِ المياهِ رغمَ صفائِهَا وعذوبتِهَا مَا دامتْ ككلِّ المياهِ تنبعُ منَ الخارجِ. ولكنْ ما تراه يكون دورُ الفكر إذا كان الإنسان يرتوي من قلبه؟
فأجابتْ وهيَ تبتسمُ: أجلْ إنَّ القلبَ البشريَّ هو الذي يجسد العمقَ بكلِّ مَا يحملُهُ العمقُ منْ علمٍ بالطهرِ وإجلالٍ للجمال بكل ما يضمه الجمال من نقاءِ وتمردٍ على منْ يهدمون الأرواح (ليبنونَ) صروحَ الأجسادِ من أنقاضها. والفكرُ إنمَا هوَ أجنحةٌ تحملُ الروحَ إلى العلوِّ بكلٍّ ما فيهِ
منْ إدراكٍ لموحياتِ السعي وراء أسرار الكونِِ والتأمل في المرئيات لسبر غور المخفيات من الأمور، والتطلع دوما لمعرفة الحقيقة المكتوبة في سفر الوجود، فبقيتُ في مكانِي ساكِتاً وقتاً منَ الزمنِ لأننِي أدركتُ ساعتها أنَّ السكوتَ أقصرُ الطرقِ لمعرفةِ الحقيقةِ الكامنَةِ وراءَ الوجودِ. ثم قلتُ متلهفاً: وماذا عنْ هذا الحزنِ الذي يتربصُ بي ولا يكفُّ حتى يرى دموعِي تستعطفُهُ ليرحلَ عنْ صدري.
فقالتْ بصوتٍ كنسيمِ الليلِ رقةً: عندمَا نزرعُ بسمةً في شفاهٍ ، تزهرُ وروداً في الربيعِ وتشرقُ شمسُ الأملِ في سماءِ طموحهَا، لتنيرَ قمرَ فرحتها فوق بحرِ حياتهَا، فتصيرُ الحياةُ أنشودة حبٍّ سرمديةٍ تتغنَّى بهَا الملائكةُ قبيلَ الفجرِ وقطراتُ الندَى تلمعُ في مآقي الوجودِ. وحينَ يأتِي الصيفُ مبديا ملامحَ الجدِّ تذبلُ أوراقهَا وتنقلبُ شمسُهَا جرماً مظلماً، فيغدُو بحرُهَا مستنقعاً يتصادمُ فيهِ القنوطُ بالحسرَةِ وتصيرُ في الخريفِ ذكرَى تحنُّ لهَا النفسُ وينقبضُ منهَا القلبُ. فتتلاشَى في الشتاءِ لتضاهِي ظلاًّ ظهرَ عندَ طلوعِ الشمس واختفىَ ساعةَ غروبِهَا، لكننَا حينَ نغرسُ دمعةً في عيونٍ أبردتْهَا ثلوجُ الشتاءِ وامتلأتْ بالكآبةِ وكحِّلتْ بالوحدةِ، فإنهَا ترَى الربيعَ بعيونٍ صافيةٍ من الأنانيةِ نقيةٍ بالمحبةِ خاليةٍ منَ اليأسِ مليئةٍ بالأملِ، فتحيَى الصيفَ شوقاً إلى
أشعةِ الشمسِ التي تلونُ بشرتَهَا بألوَانِ العزمِ التي لا تزول، وتصبحُ إبانَ الخريفِ سنديانةً تعلمَتْ حبَّ كلِّ الفصول، وأدركتْ أنَّ طعمَ الدموعَ الحامضِ إنمَا وُجِدَ لتتلذذ الروحُ بنكهَةِ البسمةِ الكوثريةِ التي تجعلهَا تقبلُ المسراتِ ولكنْ بغيرِ الشفاهِ وتصافحُ السعادة الكامنةَ في الوجودِ لكنْ بغيرِ الأيادِي.
ثم أطبقتُ أجفانيِ وهي تضعُ يدهَا على خدي، ولمَّا فتحتهَا وجدتُنِي في غرفتِي، فنظرتُ حولِي فلمْ أجدْ سوَى خيالاتٍ تتلاشَى مبتعدةً نحوَ الأفق.. وصدَى كلماتٍ تتردد في أعماقِي هامسةً: اسعَ دوما وراء الحقيقة، وكن لي مُحبًّا، واربط دائما ظلمات العمقِ بأنوارِ العلوِّ حتى تبتسم الدموع في قلبك..
منقــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــول . . .
عجيبٌ كيفَ تتبدلُ الغيمةُ منْ شكلٍ إلى آخرَ، لتتغيرَ إلى مَا هوَ أسمَى من الأشكال وأبهَى، كأنهَا خطوطٌ تداخلت وألوان اختلطت في مخيلة رسام لتصير لوحة متمازجة خطوطها، متناسقة ألوانها، فبدت لِي تلكَ اللحظةُ كأنهَا أبديةٌ..
غريبٌ هذَا الشعورُ الذِي ينتابنِي كلمَا تأملتُ السماءَ هامسًا ببعضَ الأسئلةِ، محتفظًا بالباقِي فِي أعماقِي، لأنَّ هناكَ سأجدُ لهَا المخبأَ بجانبِ جراحِي وأحلامِي.
وَمَا زلتُ علَى هذا الحال حتى لمحتُ طيفاً يقتربُ منِّي مخترقاً الأفق، والسحب خلفه بدت كأنها أجنحة يلوح بها، فأمعنتُ النظرَ فإذا بي أرى الحكمة تبتسم وهي قادمة نحوي، فدخلتْ غرفتِي عبرَ النافذةِ كما تدخلُ وريقة أول زهور الربيع بيت شاعر لتملأ غرفته عطراً وتغمر نفسَه شعراً، فتضوّعَ في غرفتِي عطرُ الياسمينِ ممزوجا بعبيرِ مسكِ الليلِ، ثم قالتْ وهي تنتصبُ ماثلةً أمامِي واضعةً يدها على كتفِي: ها أنا ذا جئتُ مخترقةً جدرانَ الأبديةِ لأجيبكَ عن أسئلتكَ، فأجبتها متلعثماً: لكني لم أسألكِ أبداً!
فقالتْ: إنكَ لمْ تقلها بشفاه البشر التي تذم أشعة الشمس نهاراً، وتمدحها وهي معكوسة على صفحة القمر ليلاً، لكنكَ بُحتَ بها بذلكَ العصفورِ الذي ينشد في صدرك، فما إن سمعتُ إنشادهُ لبيتُ النداءَ متسلقةً الجبالَ، ممتطيةً العواصفَ، مرافقةً الجداولَ حتى وصلتُ إلى هنا.
فارتعشَ قلبِي بداخلِي وقدْ اختلطتِ الأمورُ بذهنِي ولمْ أعدْ أدرِي ما أقولُ، ثم زادتْ قائلةً: هلمَّ بنا نذهبُ فهناكَ ما يجبُ أنْ تراهُ، ولكنْ ليسَ بعيونِ البشرِ؛ لأنها عمياءُ لا ترَى غيرَ المتلألئ من الأمور، ثم وضعتْ يدها على خدي، فأحسستُ بحريةٍ لم أحسها منْ قبلُ وأنا أطيرُ فوقَ رأسها كفراشةٍ صغيرةٍ وحولنا أسرابُ الحمامِ ترفرف بأجنحتِها.. فطِرتُ والحكمةُ جنباً إلى جنبٍ فوقَ المدينةِ التي بدتْ كأخطبوطٍ عائمٍ فوقَ بحرٍ منَ السكون، موجُه دخان المصانع، وشاطئه رقعة صغيرة بين المقابر، حتَّى وصلنَا إلى نهرٍ عظيم انعكستْ عليهِ صورَةُ القمرِ والنجومِ فبدا كامتدادٍ للفضاءِ أو كبوابةٍ يدخلُ منها أهلُ الأرضِ ليسلمُوا سلامَ الشوقِ على أهلِ السماء، فتقدمتِ الحكمةُ مني وقالتْ وعلى عينيها بدتْ سيماءُ الحنوِّ والعطفِ: هوَ ذَا نهرُ الحياةِ فاشربْ، ولكنْ لا تنسَ أنهُ ليسَ ككلِّ الأنهار، ولا يمكنكَ الشربُ منهُ كمَا يرتوى من كلِّ الأنهارِ، وتذكرْ أنهُ ينبعُ منْ عمقِ الإنسانِ وليسَ منْ خارجهِ.
فقلتُ وأنَا لا أدرِي مَا يجبُ عليَّ قولهُ: أتقصدينَ أنَّ الإنسانَ يرتوِي منْ قلبهِِ، وليسَ عليهِ أنْ ينخدعَ بلمعانِ المياهِ رغمَ صفائِهَا وعذوبتِهَا مَا دامتْ ككلِّ المياهِ تنبعُ منَ الخارجِ. ولكنْ ما تراه يكون دورُ الفكر إذا كان الإنسان يرتوي من قلبه؟
فأجابتْ وهيَ تبتسمُ: أجلْ إنَّ القلبَ البشريَّ هو الذي يجسد العمقَ بكلِّ مَا يحملُهُ العمقُ منْ علمٍ بالطهرِ وإجلالٍ للجمال بكل ما يضمه الجمال من نقاءِ وتمردٍ على منْ يهدمون الأرواح (ليبنونَ) صروحَ الأجسادِ من أنقاضها. والفكرُ إنمَا هوَ أجنحةٌ تحملُ الروحَ إلى العلوِّ بكلٍّ ما فيهِ
منْ إدراكٍ لموحياتِ السعي وراء أسرار الكونِِ والتأمل في المرئيات لسبر غور المخفيات من الأمور، والتطلع دوما لمعرفة الحقيقة المكتوبة في سفر الوجود، فبقيتُ في مكانِي ساكِتاً وقتاً منَ الزمنِ لأننِي أدركتُ ساعتها أنَّ السكوتَ أقصرُ الطرقِ لمعرفةِ الحقيقةِ الكامنَةِ وراءَ الوجودِ. ثم قلتُ متلهفاً: وماذا عنْ هذا الحزنِ الذي يتربصُ بي ولا يكفُّ حتى يرى دموعِي تستعطفُهُ ليرحلَ عنْ صدري.
فقالتْ بصوتٍ كنسيمِ الليلِ رقةً: عندمَا نزرعُ بسمةً في شفاهٍ ، تزهرُ وروداً في الربيعِ وتشرقُ شمسُ الأملِ في سماءِ طموحهَا، لتنيرَ قمرَ فرحتها فوق بحرِ حياتهَا، فتصيرُ الحياةُ أنشودة حبٍّ سرمديةٍ تتغنَّى بهَا الملائكةُ قبيلَ الفجرِ وقطراتُ الندَى تلمعُ في مآقي الوجودِ. وحينَ يأتِي الصيفُ مبديا ملامحَ الجدِّ تذبلُ أوراقهَا وتنقلبُ شمسُهَا جرماً مظلماً، فيغدُو بحرُهَا مستنقعاً يتصادمُ فيهِ القنوطُ بالحسرَةِ وتصيرُ في الخريفِ ذكرَى تحنُّ لهَا النفسُ وينقبضُ منهَا القلبُ. فتتلاشَى في الشتاءِ لتضاهِي ظلاًّ ظهرَ عندَ طلوعِ الشمس واختفىَ ساعةَ غروبِهَا، لكننَا حينَ نغرسُ دمعةً في عيونٍ أبردتْهَا ثلوجُ الشتاءِ وامتلأتْ بالكآبةِ وكحِّلتْ بالوحدةِ، فإنهَا ترَى الربيعَ بعيونٍ صافيةٍ من الأنانيةِ نقيةٍ بالمحبةِ خاليةٍ منَ اليأسِ مليئةٍ بالأملِ، فتحيَى الصيفَ شوقاً إلى
أشعةِ الشمسِ التي تلونُ بشرتَهَا بألوَانِ العزمِ التي لا تزول، وتصبحُ إبانَ الخريفِ سنديانةً تعلمَتْ حبَّ كلِّ الفصول، وأدركتْ أنَّ طعمَ الدموعَ الحامضِ إنمَا وُجِدَ لتتلذذ الروحُ بنكهَةِ البسمةِ الكوثريةِ التي تجعلهَا تقبلُ المسراتِ ولكنْ بغيرِ الشفاهِ وتصافحُ السعادة الكامنةَ في الوجودِ لكنْ بغيرِ الأيادِي.
ثم أطبقتُ أجفانيِ وهي تضعُ يدهَا على خدي، ولمَّا فتحتهَا وجدتُنِي في غرفتِي، فنظرتُ حولِي فلمْ أجدْ سوَى خيالاتٍ تتلاشَى مبتعدةً نحوَ الأفق.. وصدَى كلماتٍ تتردد في أعماقِي هامسةً: اسعَ دوما وراء الحقيقة، وكن لي مُحبًّا، واربط دائما ظلمات العمقِ بأنوارِ العلوِّ حتى تبتسم الدموع في قلبك..
منقــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــول . . .