-
دخول

عرض كامل الموضوع : معوقات الحركة نحو التغيير الديمقراطي وحقوق الإنسان في سورية


yass
10/10/2004, 14:03
بقلم: المحامي أنور البني
أخبار الشرق
مقدمة:

بمرور أربع سنوات على استلام الرئيس بشار الأسد للسلطة في سورية، ومع تزايد الاهتمام المحلي والإقليمي والدولي بمسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبناء على الإعلانات المتزايدة من قبل السلطات السورية أنها بصدد إجراء تطوير وتحديث لإدارتها للمجتمع تتماشى مع هذا الاهتمام ومع صدور عدد كبير من القوانين والمراسيم التشريعية خلال هذه الفترة، مما يوحي أن هناك اتجاهاً جاداً لدى القيادة السياسية لإجراء هذا التغيير وتحريك المجتمع نحو وضع أكثر ديمقراطية وأكثر احتراماً لحقوق الإنسان.

ومع النظر إلى النتيجة المخيبة للآمال بعد مرور هذه الفترة، والتي بدأت ببشائر إصلاح سياسي مع خطاب القسم في تموز عام 2000 وظهور بوادر حراك سياسي حقوقي ديمقراطي انحسرت باعتقال مجموعة ربيع دمشق العشرة، وتراجعت الوعود إلى إصلاح اقتصادي يعد برفع مستوى المعيشة لفئات الشعب، وعندما لم تظهر أية نتائج ذات مغزى لهذه الوعود، طرح موضوع الإصلاح الإداري الذي كان مثل سابقه وتم تحميل المسؤولية للهيكلية الإدارية المتخلفة وأصبحت الآمال الكبيرة مجرد أحلام.

أمام هذه الحقائق، يتبادر إلى الذهن (تساؤل) عن المسؤول حقيقة، وما هي المعوقات؟ وكيف يمكن أن تخرج سورية من هذا النفق المظلم وتبادر إلى وضع خطواتها الأولى على طريق بناء مجتمع ديمقراطي حقيقي؟ وتختلف وجهات النظر بتحميل مسؤولية التدهور الذي وصل إليه الوضع مع كل الوعود والشعارات البرّاقة التي أطلقت، فمنهم من حمّل الممانعة الكبيرة للحرس القديم الذي يقف حائلاً أمام ترجمة قرارات التطوير إلى واقع ملموس، وأن المشروع الإصلاحي سيبعد هذه الفئة عن مراكزها وامتيازاتها وهذا يحتاج إلى الوقت وإلى دعم المشروع والانتظار حتى تظهر نتائجه على الأرض.

وهناك رأي آخر يرى أن المشكلة تكمن في عدم وجود مشروع إصلاحي، وإنما أفكار وجهود إصلاحية متفرقة دون رؤية استراتيجية أو مشروع متكامل، وتفتقر أيضاً للأدوات التي تترجم هذه الأفكار، وأن الأدوات المتاحة هي الأدوات القديمة ذاتها، وبالتالي فلا يمكن لهذه الأفكار أن ترى النور أو تترجم لواقع. وهناك من يرى أن النظام لم يتغير ومستمر في مشروعه القديم، وهو السيطرة الكاملة على المجتمع وسلب موارده، وأن ما تردد عن مشروع إصلاحي تغيرت صوره ما هو إلا محاولة لتخفيف الاحتقان في المجتمع من جهة، وتمرير خطوة انتقال السلطة بالشكل الذي انتقلت به بأقل قدر ممكن من ردود الأفعال، وعبر تسويق إعلامي لمحاولات تغيير واختلاف في الرأي بين مراكز السلطة والقرار، لخلق بلبلة وانقسام في الجانب الآخر وتمييع المواقف المعارضة وإضعافها، بينما في الواقع أن النظام متماسك وموحد ويمارس نفس سياسته القديمة بأسلوب مختلف، وأن ما يراه المراقب الخارجي من تخفيف للقبضة الأمنية وتراجع في علنية سيطرة السلطة على المجتمع ووجود هامش أوسع للأصوات المعارضة، ما هو إلا تحوّل شكلّي مؤقت فرضته التطورات الدولية، وليس نابعاً من رغبة أو إرادة حقيقية لدى النظام، وهو محاولة للهروب من الانتقادات والمطالبات الدولية وكسب للوقت، أملاً بتحول ما يعيد إليه القدرة على ممارساته القديمة بحق المجتمع والانتقام من منتقديه، وأن الهدف الأساس للنظام ما زال باستمرار هيمنته على المجتمع والدولة، والتمتع بكل مميزات السلطة والقوة والسيطرة مهما كلف الأمر من تنازلات على المحاور الأخرى.

لست أحاول هنا أن أدعم وجهة نظر على أخرى، ولكن أحاول قدر الممكن أن ألقي الضوء على الآلية القانونية التي صنعتها السلطة خلال ربع القرن الماضي، والتي أحكمت بموجبها القبض على كافة جوانب المجتمع في سورية، وشكلت بهذه القوانين دائرة محكّمة قيدت كل النشاطات ووضعتها تحت الوصاية والهيمنة المباشرة. ولا بد قبل الحديث عن أي إصلاح أو بوادر إصلاح من كسر هذه الحلقة وتغيير هذه القوانين، مما يحرر المجتمع من القبضة السلطوية ويحقق أبسط المعايير الأخلاقية لحقوق الإنسان وضمان حريات النشاط والتعبير.

لا أدعي أن هذه الدراسة شاملة، ولكنها تتطرق للقوانين الأساسية التي تعتبر مفتاح حركة المجتمع وحريته، والبوابة الأساسية لمشاركة المواطن في بناء بلده، والتي تقلب تسميتنا من رعية إلى مواطنين.

أتطرق للدستور وقانون الطوارئ والمحاكم الاستثنائية والقوانين الاستثنائية وقانون السلطة القضائية وقانون العمل وقانون المطبوعات وملحقاته من القوانين المقيدة لحرية الإعلام وقانون الانتخابات والأحزاب والجمعيات وقوانين النقابات المهنية وقوانين هيئات الرقابة والتفتيش والتعذيب.

أولاَ: الدستور:

صدر الدستور السوري عام 1973، وقد تضمن أول وأهم وأساس المبادئ القانونية في تفرد الحزب والسلطة في السيطرة على المجتمع والدولة. فجاءت المادة 8 منه لتقونن التمييز على أساس الانتماء الحزبي، حيث نصّت على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي" يقود الدولة والمجتمع من خلال "جبهة وطنية تقدمية". كما نصت المادة 84 على أن اختيار رئيس الجمهورية يتم عبر استفتاء عام يطرحه مجلس الشعب بناء على اقتراح القيادة القطرية لحزب "البعث"، أي أنه لا يجوز لأي شخص أن يترشح لرئاسة الجمهورية من خارج الحزب الحاكم وعبر اقتراح من قيادة الحزب ويطرح للاستفتاء، وإذا لم ينجح تقترح غيره وهكذا حتى ينجح مرشحها.

وإذا ما عرفنا أن ميثاق "الجبهة الوطنية التقدمية" الموقع عام 1972 قد أعطى لحزب "البعث" نصف الأصوات زائد واحد، أي الأغلبية، وأن القرارات تتخذ بالأغلبية، لوضح أن القرار بالنهاية بيد حزب "البعث" وحده، وأن الجبهة ما هي إلا ديكور سياسي لتغطية الهيمنة الكاملة. وهذا يعتبر الأساس القانوني للهيمنة والتمييز على أساس الانتماء الحزبي، وهو أول انتهاك لإعلان مبادئ حقوق الإنسان التي منعت التمييز على أساس الانتماء الحزبي، يوازي في وضوحه سياسة التمييز العنصري، مع التوضيح بأن سيطرة الحزب على الدولة لم تأت نتيجة فوز بانتخابات أو تأييد شعبي كاسح، وإنما جاءت بانقلاب عسكري. وإذا ما فرضنا جدلاً أن الحزب كان يتمتع بأغلبية في تلك الفترة، فإنه وظّفها لضمان استمرار سيادته وسيطرته بإقرارها عبر نصوص الدستور، دون اعتبار لحق الشعب بتغيير آرائه ومواقفه، وهذا يشكل انتهاكاً آخر لحقوق الإنسان. هذا إذا استثنينا المادة الثالثة من الدستور التي تميز على أساس الانتماء الديني، حيث نصت على وجوب أن يكون دين رئيس الجمهورية هو الإسلام.

كما نصّت المواد 93 - 94 من الدستور على أن رئيس الجمهورية يرأس السلطة التنفيذية ويعين رئيس مجلس الوزراء ويحدد السياسة العامة للحكومة والدولة. كما نصت المادة 91 على أنه لا يمكن محاسبة أو مساءلة رئيس الجمهورية على تصرفاته فيما خلا حالة الخيانة العظمى، وأنه لا يحاكم إلا أمام المحكمة الدستورية العليا (التي يعين أعضاءها هو كما سنرى لاحقاً)، وهذا يعطي حماية مطلقة من المحاسبة والمساءلة له وللسلطة التنفيذية التي يرأسها، وبالتالي فإن رئيس الجمهورية (وهو الحاكم العرفي كذلك بموجب قانون الطوارئ) مهما ارتكب من تجاوزات أو انتهاكات فإنه محميّ من المساءلة والمحاسبة القضائية أو الشعبية بموجب الدستور، وهذا خرق واضح بالنسبة لحق المقاضاة ومسؤولية الشخص عن الأفعال التي يرتكبها.

ونصت المادة 132 من الدستور على أن رئيس الجمهورية يرأس مجلس القضاء الأعلى، أي أعلى الهرم القضائي، كما نصت على أن رئيس الجمهورية يضمن استقلال القضاء، فكيف يمكن أن يجتمع الضدّان؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن استقلال القضاء إذا كان رئيس السلطة التنفيذية نفسه يرأس السلطة القضائية ومحميّ من أي مساءلة؟

ونصت المادة 111 من الدستور على إعطاء رئيس الجمهورية حقوق التشريع كاملة، بإعطائه حق إصدار القوانين والتشريعات في فترة عدم انعقاد مجلس الشعب أو بين دورتين متتاليتين، أي أن رئيس الجمهورية يمسك بيديه جميع السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، مما يجعله يمارس سلطة مطلقة كاملة على إدارة الدولة والمجتمع دون حسيب أو رقيب أو مساءلة، وهذا يناقض الدستور نفسه الذي نصّ على مبدأ فصل السلطات.

ونصّت المادة 139 على إنشاء المحكمة الدستورية العليا للطعن بدستورية القوانين والطعن بالانتخابات. ولكن تشكيها وحق ممارستها لمهامها عطلت هذه المحكمة وجعلتها أداة بيد رئيس الجمهورية، فأعضاء المحكمة يعينهم رئيس الجمهورية بمرسوم ولمدة أربع سنوات فقط (مدة ولاية رئيس الجمهورية سبع سنوات قابلة للتجديد إلى ما لا نهاية) مما يعطيه الوصاية الكاملة على أعضاء هذه المحكمة المدينين بوجودهم لاختيار الرئيس.

كما نصّت المادة 145 على أن الطعن بدستورية القوانين لا يتم إلا عن طريق رئيس الجمهورية أو بطلب من ربع أعضاء مجلس الشعب فقط، فكيف يمكن أن نتصور أن من يصدر القوانين سيقوم نفسه بالطعن بدستوريتها؟ مما أدى إلى وجود مئات القوانين التي تخالف الدستور ولا أحد يطعن بدستوريتها، لأنه لا يحق لأحد القيام بذلك إلا من أصدرها، ولم يحدث أي سابقة في سورية للطعن بدستورية أي قانون لمخالفته الدستور حتى الآن مع كثرة هذه القوانين التي تخالف الدستور.

كما أن صلاحية المحكمة الدستورية العليا بالطعن بشرعية وصحة الانتخابات معطلة، لأن المادة 62 من الدستور تحصر هذه الصلاحية برفع تقرير إلى مجلس الشعب المنتخب وهو (المجلس) وحده الذي يقرر العمل بالتقرير أو إهماله، مما يؤدي إلى تعطيل كامل للمحكمة ويعطي الخصم سلطة الحكم، وبالتالي فإن أي عمليات تزوير أو بطلان بالانتخابات يمكن أن تمر بدون حساب أو مساءلة، طالما المجلس المطعون بشرعية انتخابه هو صاحب القرار في النهاية.

وأخيراً، جاءت المادة 153 لتتوّج كل هذه الانتهاكات والتناقضات، بإبقاء التشريعات والقوانين السابقة له دون تغيير وسارية العمل دون أن أي إلزام بتعديلها أو إلغاء ما يخالف منها الدستور، مما أدى إلى استمرار العمل بقانون الطوارئ والقرارات الصادرة عن مجلس الثورة بصورة غير شرعية، والقوانين التي تنتهك الحقوق الأساسية للإنسان والمقيدة والمانعة لحركة وحريّة المجتمع، وتخالف مواد الدستور التي تنص على حرية الرأي والتعبير والعمل السياسي وتأليف الأحزاب والجمعيات وحريّة الصحافة التي بقيت حبراً على ورق دون، أي تطبيق لتعطيلها أساساً بالقوانين السابقة التي لم تلغ. وبذلك كان الدستور وسيلة قانونية للإطباق الكامل على المجتمع من جهة، ودون أي فائدة أو جدوى على صعيد الحريات العامة وحقوق الإنسان.

وبالتالي، فإنه لا يكفي المطالبة بإلغاء المادة الثامنة فقط من الدستور، بل لا بد من تغيير كل الآلية التي جاءت ضمن مواد الدستور، والتي تميّز فئة معينة وشخص واحد وتركّز السلطات جميعها بيدهم وتمنع المحاسبة.

ثانياً: قانون الطوارئ:

صدر قانون الطوارئ برقم 51 لعام 1962، وحدد بنصوصه طريقة وحالات إعلان حالة الطوارئ وحدد سلطات الحاكم العرفي.

فقد أوجبت المادة الأولى فقرة ( أ ) منه على أن حالة الطوارئ تعلن في حالة الحرب أو الزلازل أو الكوارث، كما نصت المادة الثانية فقرة ( أ ) منه على أن حالة الطوارئ تعلن من قبل مجلس الوزراء المنعقد برئاسة رئيس الجمهورية وبأكثرية ثلثي أعضائه، على أن يعرض على مجلس النواب بأول جلسة يعقدها.

ومنح قانون الطوارئ بالمواد التالية صلاحيات استثنائية للسلطة التنفيذية باتخاذ إجراءات دون العودة للمرجع القانوني، منها منع التجمعات ومراقبة ومصادرة المطبوعات والتحري والتوقيف ومداهمة وتحري البيوت والمحلات وتحديد مواعيد فتح وإغلاق المحلات، ولكنه أبقى المراقبة والمساءلة القضائية في تجاوز السلطات صلاحياتها أو تجاوز أهداف إعلان الطوارئ بحماية أمن البلاد من التهديد وليس بقمع الحريّات العامة.

ولكن الذي حدث ويحدث في سورية، أن إعلان حالة الطوارئ تم بموجب الأمر العسكري رقم 2 الصادر عن مجلس قيادة الثورة الذي استولى على السلطة بانقلاب عسكري مسلّح بتاريخ 8/ 3/1963، ولم يصدر عن مجلس الوزراء، ولم يعرض على أي مجلس نواب حتى هذا التاريخ، وحتى لم يصدره رئيس الجمهورية بعد إقرار الدستور الدائم عام 1973 الذي منحت هذه الصلاحية له. مما يجعل إعلانه واستمرار العمل به دون إسباغ أي شرعيه قانونية عليه عملاً غير شرعي حتى الآن، ويجعل جميع الإجراءات التي اتخذت تحت ستار إعلان حالة الطوارئ غير شرعية، وترقى لمرتبة الجرائم بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

كما أن إعلان حالة الطوارئ قد خالف شروط إعلانه التي حددها القانون بحالة الحرب أو الكوارث. وقد شرح قانون الجيش حالة الحرب بأنها الحالة التي تندلع فيها المعارك العسكرية وتتم التعبئة العامة، وحيث أن فترة إعلان حالة الطوارئ لم تشهد حالة من هذا النوع، وحيث أنه ومنذ توقيع اتفاق الهدنة على جبهة الجولان عام 1974 لم تعلن في سورية التعبئة العامة ولم تندلع معارك عسكرية، مما يفقد إعلان حالة الطوارئ الشرط الموضوعي لإعلانه.

كما أن القضاء الإداري المختص بالنظر بتجاوزات السلطة التنفيذية أحجم وامتنع عن النظر بقضايا إبطال تصرفات وتجاوزات السلطة التنفيذية لصلاحياتها بموجب قانون الطوارئ، لوضعه تحت وصاية رئاسة مجلس الوزراء بموجب التعديل الذي تم على قانونه، وبالتالي أصبح القضاء الإداري خاضعاً لرئاسة مجلس الوزراء، وأصبح هو الحكم والخصم في آن واحد هذا من جهة، ومن جهة أخرى لإهمال السلطة التنفيذية لقرارات القضاء الإداري وعدم تنفيذها في المرات النادرة التي تصدى بها هذا القضاء لإبطال تصرف أو قرار صادر عن صلاحيات قانون الطوارئ. وبهذه الطريقة تغوّلت السلطات التنفيذية، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية، تحت ستار حالة الطوارئ على كل شؤون البلاد والعباد، والتدخل في كلّ صغيرة وكبيرة دون حسيب أو رقيب ودون أي شرعية قانونية.

ثالثاًً: القوانين والمحاكم الاستثنائية:

1- قانون حماية أهداف الثورة:

صدر قانون حماية أهداف الثورة بالمرسوم رقم 6 لعام 1964 بموجب قانون الطوارئ. وقد نص هذا القانون على تجريم ومعاقبة كل من يناهض أهداف الثورة (الوحدة والحرية والاشتراكية حسب الشعار المعلن) وكل من يقاوم تطبيق النظام الاشتراكي بالقول أو بالكتابة أو بالفعل، بالسجن مدى الحياة، وتصل العقوبة في حال التشديد إلى الإعدام. وأحدثت لهذا القانون الاستثنائي محكمة استثنائية خاصة معينّة.

ويعتبر هذا القانون السلاح الأمضى الذي أشهرته السلطات ليس بوجه معارضيها السياسيين فقط، وإنما بوجه كل من ينتقدها أو يعلن عدم موافقته على سياساتها ونشطاء المجتمع المدني وحقوق الإنسان. وبتجاوز عدم شرعية هذا القانون لعدم شرعية السلطة التي أصدرته والتي تم التطرق لها سابقاً، فإن هذا القانون يخالف مبدأ قانونياً أساسياً، وهو عدم جواز المحاسبة على الأقوال والآراء والأفكار والنوايا، وأن العقوبة هي على الأفعال، كما أنه يخالف مبدأ أساسياً من مبادئ حقوق الإنسان التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأكدّ عليها العهدين الدولييّن الخاصّين بالحقوق المدنية والسياسية، والتي التزمت بها سورية ووقعت عليها في عام 1969، والتي نصّت على حرية الفكر والرأي والتعبير والعمل السياسي والحقوقي، ومنعت تجريم أصحاب الآراء والرأي. ومع أن نصوص القانون المدني في سورية قد وضعت المعاهدات الدولية في مرتبة أعلى من القوانين الداخلية، وأوجبت تطبيق نصوص المعاهدة في حال تعارضت مع نصوص القانون الداخلي، إلا أن السلطات والمحاكم ما زالت تضرب عرض الحائط بنصوص المعاهدات الدولية لمصلحة القوانين الاستثنائية، وتزج بالمعارضين وأصحاب الرأي بالسجون لعشرات السنين.

ولعل آخر من سلطّت السلطات السورية سيفها عليهم بموجب هذا القانون، المحامي أكثم نعيسة رئيس لجان الدفاع عن الحرياّت الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، وتم اعتقاله لأكثر من أربعة أشهر، وأخلي سبيله بعدها، وما زالت المحاكمة مستمرة، والطالبان مهند الدبس ومحمد عرب اللذان شاركا باعتصام للتعبير عن احتجاجهما حول قانون جديد يلغي التزام الدولة بتعيين المهندسين، وما زالا موقوفين حتى الآن. وهناك العشرات الذين حكم عيهم وأمضوا فترات تصل لعشرات السنين، ما زال قسم منهم حتى الآن في السجن ومنهم من أعدم بموجب هذا القانون. ولم يحدد القانون ماهية أو طبيعة الأفعال أو الأقوال أو الكتابة التي تعتبر مناهضة لأهداف الثورة أو مقاومة للنظام الاشتراكي، وإنما جعل هذا الأمر غامضاً مبهماً تاركاً للأجهزة الأمنية والمحكمة الاستثنائية التي أحدثها من أجله تفسير وتركيب التهم كما تريد وتشتهي، دون أي رقابة عليها بذلك. وبذلك أصبح هذا السيف مسلطاً على رقاب جميع المواطنين، فأي عمل أو قول أو رأي يخالف السياسة العامة للدولة أو يعارضها أو ينتقدها يمكن أن توجه له هذه التهمة ويرسل إلى السجن لأعوام عديدة من أجلها! ونجح القانون بخلق حالة من الرعب (وما زالت).

2- القانون 49/1981:

هو قانون خاص استثنائي أصدرته السلطات إثر المواجهات التي جرت مع جماعة الأخوان المسلمين، وقد نصّ القانون على الحكم بالإعدام على كل من ينتمي للجماعة المذكورة. ولعله من أغرب القوانين في العالم، حيث يدين ويعاقب على مجرد الانتماء السياسي، دون أن يشترط القيام بأي فعل أو عمل مخالف للقانون. وهذا يتعارض بشدة مع مبادئ حقوق الإنسان التي تمنع التجريم بسبب الانتماء السياسي أو الديني، وللقواعد القانونية العامة التي تمنع العقاب دون فعل، ومع أن القانون متعارض مع كل ذلك، إلا أنه لا يزال ساري المفعول ومعمولاً به حتى الآن.

3- قانون العقوبات الاقتصادية:

وهو قانون استثنائي أيضاً صدر للتحكم بالحركة الاقتصادية وتوجيهها وتقييدها، وقد نصّ على عقوبات تصل للسجن المؤبد في حال مخالفة أحكامه. وقد أصدرت قوانين مكملة له، هي المرسوم 13 الخاص بمنع التهريب، والمرسوم 24 الخاص بمنع تداول العملات الأجنبية والذهب. وقد أنشئت محكمة استثنائية لتحاكم المتهمين بهذه القوانين، ولكن ألغيت منذ أشهر، وخففت بعض العقوبات المنصوص عليها بالقوانين المذكورة، ولكن ما زالت هذه القوانين سارية المفعول ويعمل بها إلى الآن.

4- محكمة أمن الدولة العليا:

أنشئت محكمة أمن الدولة العليا الاستثنائية بالمرسوم رقم 47 لعام 1968 على أنقاض المحكمة العسكرية الدائمة التي ألغيت. وينص مرسوم إحداثها على اختصاصها بالنظر بالجرائم المنصوص عنها بالمرسوم رقم 6 لعام 1964 الخاص بناهضة أهداف الثورة، وأضيفت إليها جميع القضايا التي يحيلها إليها الحاكم العسكري بغض النظر عن علاقتها بأمن الدولة أم لا. وقد شكلت هيئتها من قاضي نيابة يقوم بمهمة النيابة العامة والتحقيق والاتهام والإحالة، ومنع الطعن بقرارات النيابة العامة، كما شكلت هيئة المحكمة من رئيس وضابط من الجيش وقاض يندبه وزير العدل وتسمى هيئة المحكمة بمرسوم. وحصنت قرارات المحكمة من الطعن أمام أيّ جهة، وأخضعها المرسوم للتصديق من الحاكم العرفي وحده، الذي هو خصم المتهم وهو من أحاله أمام المحكمة، ويعتبر ذلك انتهاكاً واضحاً لمبدأ حيادية ونزاهة واستقلال المحكمة. كما أعفى المرسوم المحكمة من التقيد بالضمانات الأساسية للمتهم، مما يؤدي إلى انتهاك واضح لمعايير المحاكم العادلة. وقد حاكمت محكمة أمن الدولة آلاف المتهمين أمامها، وأصدرت أحكاماً تصل للإعدام والسجن المؤبد، وما زال المئات في السجون نتيجة لذلك، كل ذلك بشكل غير شرعي أو دستوري، منهم مجموعات الإخوان المسلمين وحزب العمل الشيوعي والحزب الشيوعي (رياض الترك) ولجان الدفاع عن حقوق الإنسان ونشطاء وكوادر الأحزاب والحركات الكردية وحزب الاتحاد الاشتراكي (جمال الأتاسي) وحزب التحرير الإسلامي ونشطاء المنظمات الفلسطينية ومعتقلي ربيع دمشق (الدكتور عارف دليلة والمحامي حبيب عيسى ورفاقهم) والصحفيين (إبراهيم حميدي وعزيزة ونسرين سبيني) والمتهمين بالدخول إلى شبكة الإنترنت وقراءة المواقع الممنوعة وإرسال الأخبار عن طريقها (مهند قطيش وشقيقه ويحيى الأوس) والعائدون من العراق وحزب البعث (جناح العراق) وحزب البعث (صلاح جديد) وما زال قسم منهم في السجون حتى الآن وبعضهم منذ عشرات السنين.

5- المحكمة الميدانية:

أحدثت بالقانون رقم 109 لعام 1968، وهي تابعة لوزارة الدفاع، وتشّكل أثناء المعارك العسكرية لمحاكمة الجنود الذين يخالفون الأوامر العسكرية أو يتراجعون أمام العدو أو يفرّون من أمامه، وتؤلف هيئتها من قادة التشكيلات العسكرية. لا يتمثّل فيها دفاع أو محامون، ولا تتقيد بأي أصول من أصول المحاكمات. ولكن الحاكم العرفي بموجب قانون الطوارئ مدّ اختصاصها وزمانها لتشمل المدنيين، وكلّ الدعاوى التي يحيلها إليها الحاكم العرفي في أي وقت، وجعلها دائمة. وقد أحيلت أمامها دعاوى كثيرة، منها قضايا اقتصادية تتعلق بالفساد (مجموعة سليم ألتون ورفاقه، ومجموعة ضباط وصف ضباط الجمارك بتهم تتعلق بالفساد 1986، ومدير الجمارك السابق بشير نجار ومجموعته نهاية التسعينات، ومجموعة معتقلي داريا 2003 التي تنادت لمحاربة الفساد والرشاوى. ولعلّ أكبر دور قامت به على امتداد الثمانينات إعدام الآلاف من الإخوان المسلمين بجلسات عقدت في سجن تدمر دون شهود أو محامين وعبر استجواب شكّلي في أحيان كثيرة)..

6- القضاء العسكري:

وهو قضاء مختص قانوناً بالجرائم التي نصّ عليها قانون العقوبات العسكرية، أي يختص بالنظر في الجرائم التي يرتكبها العسكريون بما يتعلق بإخلالهم بمهماتهم وتنفيذ الأوامر والتعليمات العسكرية فقط، ولكن الحاكم العرفي بموجب قانون الطوارئ مدّ اختصاصها استثنائيا لتشمل كافة الدعاوى التي يكون طرفاً فيها عنصر عسكري حتى لو كان الجرم منصوصاً عليه في قانون العقوبات العادي. كما شمّل اختصاصها دعاوى معينة حتى لو كان أطرافها مدنيين (الجرائم التموينية لفترة ليست بعيدة)، ويمكن للحاكم العرفي بموجب قانون الطوارئ إحالة أي دعوى أمام القضاء العسكري للنظر فيها (قضية المحامي هيثم المالح وطباعة مجلة تيارات - قضية الأربعة عشر ناشطا في حلب بحضور محاضرة - مروان عثمان وحسن صالح باعتصام أمام مجلس الشعب - قسم من الأكراد الذين أوقفوا على خلفية أحداث القامشلي).

7 - المحاكم الأمنية:

أعطي الحاكم العرفي للفروع الأمنية صلاحيات قضائية استثنائية بالبت في ما يمكن تسميتها "جرائم صغيرة" (تهكم على النظام أو انتقاد أو شتم أحد المسؤولين …) وتعقد هذه المحاكم جلساتها ضمن الفروع الأمنية، وطبعاً دون محامين أو شهود أو دفاع، ويمكن دون حضور المتهم المعتقل نفسه وتصدر حكمها عليه ويصدّق من رئيس الشعبة الأمنية العائد لها الفرع وتنفذ العقوبة؟ وتكون أحكام هذه المحاكم بين الشهر والسنة سجن.

8 - لجنة تسريح العمال:

وهي لجنة استثنائية مشكلة للبت بقضايا علاقات العمل لدى القطاع الخاص وتسريحهم، ويرأسها قاضي وبقية الأعضاء موظفون خاضعون للتسلسل الوظيفي والسلطة التنفيذية وغير مستقلين، إضافة إلى ممثل عن نقابة العمال. ولا تتبع أمام هذه اللجنة الأصول والقاعد القانونية العامة، بل تحاكم حسب أصول خاصّة نص عليها المرسوم 47 لعام 1962، الذي يعطي ميزات خاصة للعامل بمواجهة ربّ العمل.

9 - لجنة تحديد أجور العمل الزراعي والمجلس الزراعي الأعلى:

وهي هيئة استثنائية خاصة تختص بوقف أصول خاصة بالنظر بالقضايا المتعلقة بين المزارعين والعمال الزراعيين وأصحاب الأراضي، من حيث الأجور وإنهاء علاقة المزارعة، وقراراتها يطعن بها أمام المجلس الزراعي الأعلى. وتعين الهيئتان تعييناً، من قاض رئيساً وأعضاء موظفين خاضعين للتسلسل الوظيفي والسلطة التنفيذية، إضافة إلى ممثل للفلاحين من اتحاد الفلاحين. ولا تطبق الأصول والقواعد العامة، وإنما أصول خاصّة وقانون خاص هو قانون العلاقات الزراعية، ويعطي هذا القانون مميزات خاصة للمزارعين بمواجهة مالك الأرض.

_________

* محام سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان - دمشق