yass
20/01/2005, 15:17
عاد الى مبتدئه بعد 23 سنة في «الطوفان»... عمر أميرالاي: فداحة تسجيل الخراب
حمل العام المنصرم حدثاً سينمائياً كان في ذاته كفيلاً بإنقاذ مشهدية الفيلم التسجيلي السوري، لئلا نتحدّث عن كامل مشهدية الإنتاج السينمائي على اختلاف أجناسه. ونقصد شريط عمر أميرالاي «الطوفان» (46 دقيقة)، الذي أنجز في العام 2003 ولكنه عُرض على قناة Arte الفرنسية - الألمانية في العام الماضي، وفي العام نفسه أيضاً حاز على جائزة «معهد العالم العربي» للفيلم التسجيلي القصير، في المهرجان السابع للفيلم العربي.
هناك اعتبرت لجنة التحكيم أن الشريط «عمل مرجعي يوثق لعمليات التلقين
الأيديولوجي الفادحة. وهو يلتقط هذا في صورة واقعية جمالية تلتفت بالقدر نفسه وعلى الدرجة نفسها من الحساسية إلى كل من موضوع الفيلم وجمال التعبير الساخر عنه. ولذا، فاللجنة تعتبره وكأنه وثيقة مرجعية تنسحب على جميع المجتمعات الشمولية في البلدان التي يسود فيها استبداد الحزب الواحد».
وبمعنى السيرة الإنتاجية، أو الفيلموغرافيا، يمكن القول إن «الطوفان» يستأنف عملاً سابقاً أنجزه أميرالاي في منطقة حوض الفرات، وكان أوّل أفلامه في الواقع، هو «محاولة عن سدّ الفرات»، (1970). لكن أميرالاي 2003 لم يعد ذلك الشاب العائد من حاضنة اليسار الفرنسي الأخصب آنذاك، أي حركة مظاهرات 1968 التي بدأت من طلاب الجامعات ثمّ شملت المجتمع بأسره. في عام 1970 رأى في سدّ الفرات حلماً تحديثياً يتحقق، وقدّر أنّ من واجبه تسجيل الحلم بصرف النظر عن تحفظاته على الحكم. وفي العام 2002 انهار سدّ زيزون في حوض العاصي هذه المرّة، ولوحظت تشققات على سدّين آخرين أحدهما سدّ الفرات ذاته، فرأى أميرالاي أنّ من واجبه العودة الى المكان الذي كان تفاؤل الشباب قد قاده إليه.
مفارقات
وهكذا يحكي الفيلم عن قرية «الماشي» الواقعة في حوض الفرات، والتي ينطق بلسان أهلها شيخ العشيرة دياب الماشي، العضو المخضرم في مجلس الشعب. تتجول الكاميرا في القرية، ثمّ تستقرّ زمناً أطول في المدرسة، ونظامها اليومي، وأطفالها، ومديرها إبن أخ شيخ العشيرة، ثمّ المسؤول الحزبي في القرية. وما تدوّنه هذه الجولة كثير ومتنوّع، ولكن رسالته الكبرى هي المفارقات الفادحة الناجمة عن التدجين العقائدي لهذا «المجتمع» الصغير، بما يمكن أن تعكسه من دلائل على تدجين مماثل، أقسى، يعيشه المجتمع الأكبر.
والورطة التي يمكن أن ينتظرها المشاهد العليم جرّاء هذا التناظر اليسير شبه المباشر، لا تقع في نهاية المطاف بسبب تلك الأسلوبية الذكية التي اعتمدها أميرالاي، في مستويين تربطهما وشائج جدلية. ففي المستوى الأول يتحوّل الواقع الحقيقي (التسجيلي، بالضرورة) إلى خشبة مسرح افتراضي تتسلل الكوميديا الخافية إلى أكثر فصوله جدّية وهيبة، وفي المستوى الثاني تتجرّد الشخوص من «ملموسية» وجودها المادي لتنخرط في ما يشبه الأدوار الكرتونية التي تستثير أقصى الضحك الأسود وأقصى الحزن القاتل في آن معاً. وفي النهاية، عندما تتوقف الكاميرا، يجد المتفرج نفسه وحيداً، عارياً، محاطاً بظلمات ثقيلة، واقفاً وجهاً لوجه أمام تلك البقعة الوحيدة المنكشفة التي تتركها له الكاميرا: الخيبة!
ليس «الطوفان» شريطاً تسجيلياً بحتاً، بارداً وتقريرياً ومحايداً، بل هو مغامرة إبداعية في نوع سينمائي شاقّ وجذّاب وحمّال أوجه، أداته الأولى والأبعد أثراً وإثارة هي الكاميرا، وهي البطل رقم واحد، ورقم اثنين، ورقم ثلاثة. ذلك لأنّ لغة الكاميرا، التي حوّلت الفيلم إلى نصوص متباينة ومفارقات شكّلت لبنات بناء الفكرة الذكية، لعبت ذلك الدور «التناصّي» الذي تحدثت عنه الناقدة الفرنسية جوليا كريستيفا. كلّ لقطة هي نصّ، ولكلّ نصّ دلالات، وكل نصّ متعالق مع النصّ الذي يسبقه أو يليه، ويُفسّر بما قبله أو ما بعده... وحال الاشتغال والتشابك هذه هي التي أعادت إنتاج مشاهد تشبه التقارير اليومية في التلفزيون السوري المحلي.
كذلك فإنّ حال الاشتغال والتشابك ذاتها، ولكن هذه المرّة على صعيد ارتباط الأفكار والمقولات بما تنقله الصورة والصوت وما يستقبله المشاهد، تزجّ الشريط في ثنائية غريبة عن سابق قصد وتصميم: الكاميرا تقول ولا تقول، والصوت يعلن ولا يعلن، والأفكار نفسها تخلق ضدّها! ثمّة، مثلاً، ذلك المشهد المدهش الذي ينطوي على لعبة التضادّ التبادلي، أو الجدلي ربما، بين صوت تلاميذ المدرسة وهم يقولون إنّ الحيوان لا يستطيع العيش من دون حرية، والكاميرا التي تبتعد عن الشخوص، وتنأى عن الصوت، وتعلو فوق الأطفال، وتتجول في أرجاء مدرسة أخذت تبدو كسجن كبير، بنوافذها المسيجة بقضبان من حديد، وأطفالها الذين يشبهون حيوانات خائفة، مدجنة.
في مشهد آخر، يظهر مدير المدرسة وهو يتحدث عن تطور المعلوماتية في البلد، ويشير إلى أجهزة كومبيوتر تخصّ المدرسة، لكنها حبيسة علب كرتونية مغلقة، مصفوفة بعيداً، وكأنّ يداً لم تلمسها، ولن تلمسها مطلقاً! مشهد آخر نتابع فيه عضو مجلس الشعب المخضرم وشيخ القرية، دياب الماشي، يستعرض إيمانه بالإشتراكية وسعيه طوال عمره لتطبيق أفكارها. لكننا نراه في بيئة مختلفة تماماً: مجلسه الفسيح الوثير، محاطاً بابن أخيه، وأفراد عشيرته، وخادمه الذي يصبّ له القهوة.
ذاكرة ما...
«الطوفان» يواصل تدوين الذاكرة المخرّبة، بالصوت والصورة والتناصّ البصري، ضمن هندسة للمعنى تعتمد استثارة المفارقة والضحك والبكاء واليأس والأمل. بل إنّ أميرالاي لا يتردد في اختتام الشريط بلقطة شديدة الدلالة، ولكنها شديدة الإشكالية أيضاً، تمزج الترهيب بالتحذير ربما، هي تركيز العدسة على جدار أسود تتوسطه نافذة ضيّقة تنفتح على مئذنة في الصورة، وعلى الأذان في الصوت. كأنه يقول إنّ الذاكرة المخرّبة التي سعى الى تدوينها في الدقائق الـ46 الماضية يمكن أن تعيد إنتاج عناصرها في هذا البديل. وما يزيد الفداحة أن الأطفال التلاميذ هم مادّة التخريب المنظّم الراهن، وهم بالتالي مادّة التخريب الآخر المقبل!
وهكذا فإنّ الجسارة الأسلوبية التي اكتنفت تنفيذ الفيلم على مختلف الأصعدة الفنّية، وبصفة خاصة في جماليات التصوير ومسحة الشاعرية هنا وهناك وذكاء ارتباط الصوت بالصورة، اقترنت على نحو وثيق بجسارة فكرية وأخلاقية تتوسّل كشف «صورة العجز المشين الذي نتخبط فيه جميعاً، مثقفين، وفنانين». ولعلّها كذلك «تفضح استقالتنا المفجعة أمام رؤية الخراب» كما يقول أميرالاي في أحد حواراته الصحافية. وثمة في الشريط تمثيلات متعدّدة لمظاهر ذلك الخراب، في الواقع وفي المجاز على حدّ سواء، بينها بالطبع حقيقة أنّ «الطوفان» 2003 نقيض «محاولة عن سدّ الفرات» 1970، أو بالأحرى تتمته المعكوسة والتراجيدية!
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////
حمل العام المنصرم حدثاً سينمائياً كان في ذاته كفيلاً بإنقاذ مشهدية الفيلم التسجيلي السوري، لئلا نتحدّث عن كامل مشهدية الإنتاج السينمائي على اختلاف أجناسه. ونقصد شريط عمر أميرالاي «الطوفان» (46 دقيقة)، الذي أنجز في العام 2003 ولكنه عُرض على قناة Arte الفرنسية - الألمانية في العام الماضي، وفي العام نفسه أيضاً حاز على جائزة «معهد العالم العربي» للفيلم التسجيلي القصير، في المهرجان السابع للفيلم العربي.
هناك اعتبرت لجنة التحكيم أن الشريط «عمل مرجعي يوثق لعمليات التلقين
الأيديولوجي الفادحة. وهو يلتقط هذا في صورة واقعية جمالية تلتفت بالقدر نفسه وعلى الدرجة نفسها من الحساسية إلى كل من موضوع الفيلم وجمال التعبير الساخر عنه. ولذا، فاللجنة تعتبره وكأنه وثيقة مرجعية تنسحب على جميع المجتمعات الشمولية في البلدان التي يسود فيها استبداد الحزب الواحد».
وبمعنى السيرة الإنتاجية، أو الفيلموغرافيا، يمكن القول إن «الطوفان» يستأنف عملاً سابقاً أنجزه أميرالاي في منطقة حوض الفرات، وكان أوّل أفلامه في الواقع، هو «محاولة عن سدّ الفرات»، (1970). لكن أميرالاي 2003 لم يعد ذلك الشاب العائد من حاضنة اليسار الفرنسي الأخصب آنذاك، أي حركة مظاهرات 1968 التي بدأت من طلاب الجامعات ثمّ شملت المجتمع بأسره. في عام 1970 رأى في سدّ الفرات حلماً تحديثياً يتحقق، وقدّر أنّ من واجبه تسجيل الحلم بصرف النظر عن تحفظاته على الحكم. وفي العام 2002 انهار سدّ زيزون في حوض العاصي هذه المرّة، ولوحظت تشققات على سدّين آخرين أحدهما سدّ الفرات ذاته، فرأى أميرالاي أنّ من واجبه العودة الى المكان الذي كان تفاؤل الشباب قد قاده إليه.
مفارقات
وهكذا يحكي الفيلم عن قرية «الماشي» الواقعة في حوض الفرات، والتي ينطق بلسان أهلها شيخ العشيرة دياب الماشي، العضو المخضرم في مجلس الشعب. تتجول الكاميرا في القرية، ثمّ تستقرّ زمناً أطول في المدرسة، ونظامها اليومي، وأطفالها، ومديرها إبن أخ شيخ العشيرة، ثمّ المسؤول الحزبي في القرية. وما تدوّنه هذه الجولة كثير ومتنوّع، ولكن رسالته الكبرى هي المفارقات الفادحة الناجمة عن التدجين العقائدي لهذا «المجتمع» الصغير، بما يمكن أن تعكسه من دلائل على تدجين مماثل، أقسى، يعيشه المجتمع الأكبر.
والورطة التي يمكن أن ينتظرها المشاهد العليم جرّاء هذا التناظر اليسير شبه المباشر، لا تقع في نهاية المطاف بسبب تلك الأسلوبية الذكية التي اعتمدها أميرالاي، في مستويين تربطهما وشائج جدلية. ففي المستوى الأول يتحوّل الواقع الحقيقي (التسجيلي، بالضرورة) إلى خشبة مسرح افتراضي تتسلل الكوميديا الخافية إلى أكثر فصوله جدّية وهيبة، وفي المستوى الثاني تتجرّد الشخوص من «ملموسية» وجودها المادي لتنخرط في ما يشبه الأدوار الكرتونية التي تستثير أقصى الضحك الأسود وأقصى الحزن القاتل في آن معاً. وفي النهاية، عندما تتوقف الكاميرا، يجد المتفرج نفسه وحيداً، عارياً، محاطاً بظلمات ثقيلة، واقفاً وجهاً لوجه أمام تلك البقعة الوحيدة المنكشفة التي تتركها له الكاميرا: الخيبة!
ليس «الطوفان» شريطاً تسجيلياً بحتاً، بارداً وتقريرياً ومحايداً، بل هو مغامرة إبداعية في نوع سينمائي شاقّ وجذّاب وحمّال أوجه، أداته الأولى والأبعد أثراً وإثارة هي الكاميرا، وهي البطل رقم واحد، ورقم اثنين، ورقم ثلاثة. ذلك لأنّ لغة الكاميرا، التي حوّلت الفيلم إلى نصوص متباينة ومفارقات شكّلت لبنات بناء الفكرة الذكية، لعبت ذلك الدور «التناصّي» الذي تحدثت عنه الناقدة الفرنسية جوليا كريستيفا. كلّ لقطة هي نصّ، ولكلّ نصّ دلالات، وكل نصّ متعالق مع النصّ الذي يسبقه أو يليه، ويُفسّر بما قبله أو ما بعده... وحال الاشتغال والتشابك هذه هي التي أعادت إنتاج مشاهد تشبه التقارير اليومية في التلفزيون السوري المحلي.
كذلك فإنّ حال الاشتغال والتشابك ذاتها، ولكن هذه المرّة على صعيد ارتباط الأفكار والمقولات بما تنقله الصورة والصوت وما يستقبله المشاهد، تزجّ الشريط في ثنائية غريبة عن سابق قصد وتصميم: الكاميرا تقول ولا تقول، والصوت يعلن ولا يعلن، والأفكار نفسها تخلق ضدّها! ثمّة، مثلاً، ذلك المشهد المدهش الذي ينطوي على لعبة التضادّ التبادلي، أو الجدلي ربما، بين صوت تلاميذ المدرسة وهم يقولون إنّ الحيوان لا يستطيع العيش من دون حرية، والكاميرا التي تبتعد عن الشخوص، وتنأى عن الصوت، وتعلو فوق الأطفال، وتتجول في أرجاء مدرسة أخذت تبدو كسجن كبير، بنوافذها المسيجة بقضبان من حديد، وأطفالها الذين يشبهون حيوانات خائفة، مدجنة.
في مشهد آخر، يظهر مدير المدرسة وهو يتحدث عن تطور المعلوماتية في البلد، ويشير إلى أجهزة كومبيوتر تخصّ المدرسة، لكنها حبيسة علب كرتونية مغلقة، مصفوفة بعيداً، وكأنّ يداً لم تلمسها، ولن تلمسها مطلقاً! مشهد آخر نتابع فيه عضو مجلس الشعب المخضرم وشيخ القرية، دياب الماشي، يستعرض إيمانه بالإشتراكية وسعيه طوال عمره لتطبيق أفكارها. لكننا نراه في بيئة مختلفة تماماً: مجلسه الفسيح الوثير، محاطاً بابن أخيه، وأفراد عشيرته، وخادمه الذي يصبّ له القهوة.
ذاكرة ما...
«الطوفان» يواصل تدوين الذاكرة المخرّبة، بالصوت والصورة والتناصّ البصري، ضمن هندسة للمعنى تعتمد استثارة المفارقة والضحك والبكاء واليأس والأمل. بل إنّ أميرالاي لا يتردد في اختتام الشريط بلقطة شديدة الدلالة، ولكنها شديدة الإشكالية أيضاً، تمزج الترهيب بالتحذير ربما، هي تركيز العدسة على جدار أسود تتوسطه نافذة ضيّقة تنفتح على مئذنة في الصورة، وعلى الأذان في الصوت. كأنه يقول إنّ الذاكرة المخرّبة التي سعى الى تدوينها في الدقائق الـ46 الماضية يمكن أن تعيد إنتاج عناصرها في هذا البديل. وما يزيد الفداحة أن الأطفال التلاميذ هم مادّة التخريب المنظّم الراهن، وهم بالتالي مادّة التخريب الآخر المقبل!
وهكذا فإنّ الجسارة الأسلوبية التي اكتنفت تنفيذ الفيلم على مختلف الأصعدة الفنّية، وبصفة خاصة في جماليات التصوير ومسحة الشاعرية هنا وهناك وذكاء ارتباط الصوت بالصورة، اقترنت على نحو وثيق بجسارة فكرية وأخلاقية تتوسّل كشف «صورة العجز المشين الذي نتخبط فيه جميعاً، مثقفين، وفنانين». ولعلّها كذلك «تفضح استقالتنا المفجعة أمام رؤية الخراب» كما يقول أميرالاي في أحد حواراته الصحافية. وثمة في الشريط تمثيلات متعدّدة لمظاهر ذلك الخراب، في الواقع وفي المجاز على حدّ سواء، بينها بالطبع حقيقة أنّ «الطوفان» 2003 نقيض «محاولة عن سدّ الفرات» 1970، أو بالأحرى تتمته المعكوسة والتراجيدية!
////////////// الروابط الي بيحطوها الأعضاء بيقدر فقط الأعضاء يشوفوها ، اذا مصرّ تشوف الرابط بك تسجل يعني تصير عضو بأخوية سوريا بالأول -///////////////