عاشق من فلسطين
18/02/2005, 15:41
من هو اليهودي ـ القسم الأول ـ تأسيس دولة اليهود
الخميس 3 شباط 2005
طباعة المقال
إعلان قيام دولة إسرائيل ("إعلان الاستقلال") الذي تم في 14 أيار / مايو من العام 1948 يحتوي على عدد من الصيغ التي تكمن أهميتها في أنها تُحير أي شخص ليس على دراية من الأزمة المعاصرة للحضارة اليهودية. وأحد هذه الصيغ يؤكد "استقلال" الدولة حيث يجب أن تكون على النحو التالي: "إننا نعلن إنشاء دولة مستقلة في فلسطين" عوضاً عن العبارة التي تنصّ: "إننا نعلن إنشاء دولة يهودية، تدعى دولة إسرائيل، في فلسطين".
وهكذا، فعوضاً عن الإعلان عن دولة مستقلة جرى الإعلان عن "دولة يهودية". ومن الممكن أن يوحي هذا بأنه لا يوجد أي فارق بين التعبيرين كما أنهما لا يحملان أي تحليل خاص. هذا، مع أنه قد تمت صياغة مسودة الإعلان بدقة، كما أنه تم اختيار كل كلمة وعبارة بعناية فائقة، وتمّ الاتفاق عليها من قبل جميع الأطراف التي عملت من أجل تكوني الدولة الجديدة. وقد تم ذلك لإرضاء التيارات العلمانية والدينية المتصارعة داخل اليهودية المعاصرة.
وليس لدى الإعلان أية شرعية قانونية في أية محكمة إسرائيلية. فهو ليس وثيقة بإمكان القاضي أو المحامي استخدامها، بل يُعبّر عن روح الصهيونية السياسية، وعن تكوين دولة إسرائيل، وهو سبب وجود كل مؤسساتها. و"دولة إسرائيل" تعبّر عن مفهوم هو شخصية تختلف عن عبارة "دولة مستقلة". فهي دولة أهم صفاتها "يهوديتها" أكثر من "استقلاليتها". وكذلك الأمر، فإن عبارة "دولة يهودية" تختلف عن "دولة اليهود" حيث تعني هذه الأخية أنها ملجأ يجد فيه اليهود مأوى لهم. بينما العبارة الأولى تعني دولة تتجسد في مؤسساتها الصفات الأساسية لليهودية. والاختلاف بين هاتين الصيغتين كان واضحاً أمام أولئك الذين وضعوا مسودة الإعلان. وفي الحقيقة، بالنسبة الى العديد من الناس، في جميع أرجاء العالم اليوم، فإن دولة إسرائيل ليست مجرد دولة مستقلة بل يجري اعتبارها من زاوية معينة بأنها تجسيد لليهودية المعاصرة.
* * * *
عندما اجتمع في قاعة متحف تل أبيب أعضاء المجلس الوطني، الذين كانوا يمثلون اليهود في فلسطين والحركة الصهيونية العالمية، وأعلنوا إنشاء دولة اليهود، لم يدر في خلدهم أن يهودية دولة اليهود العلمية ستكون مشكلة معقدة سوف تقسِّم اليهود في كل مكان، كما أنها ستخلق المشاكل العديدة داخل إسرائيل نفسها. ولم يجتمع أعضاء المجلس الوطني في الكنيس الكبير في تل أبيب وإنما في متحف هذه المدينة.
بالإضافة الى هذا، عندما اجتمعت اللجنة المعيّنة لصياغة المسودة الأخيرة لإعلان الاستقلال، فإن العضو الديني في اللجنة الحاخام "ي. ل. فيشمان" أصرّ على أن تحتوي العبارة الأخيرة في مسودة الإعلان إشارة الى "إله" إسرائيل، بينما عارض العضو الماركسي "أ. زيسلينغ" أية عبارة دينية. عند ذلك، اقترح بن غوريون حلاً وسطاً وهو العبارة: "برعاية دعامة (إله) إسرائيل، نبدأ العمل بهذا الإعلان". وكلمة "دعامة" هنا إما أن تعني إله في نظر المتدينين، أو دعامة في نظر العلمانيين.
واستناداً الى "إعلان الاستقلال"، فإن دولة إسرائيل "ستحافظ على المساواة الاجتماعية والسياسية الكاملة بين جميع مواطنيها بدون تمييز لجهة الدين، أو العرق، أو الجنس. والأمر الهام الذي تم حذفه هنا هو "الأصل الإثني أو القومي". ولم تكن المساواة السياسية الكاملة لجميع المواطنين، بما فيهم العرب الفلسطينيين، هي ما دار في مخيلة مؤسسي "دولة اليهود"، لأنها كانت دولة يهودية تضم يهوداً فقط يتساوون بالامتيازات السياسية. وأما بالنسبة الى المساواة الاجتماعية والسياسية الكاملة للمواطن العربي في إسرائيل، فهذا أمر يرفضه معظم الإسرائيليين واليهود حتى أيامنا هذه، وذلك بعد مضي عدة عقود على "الاستقلال".
يعتقد بعض الإسرائيليين أن المساواة السياسية الكاملة للمواطنين العرب في إسرائيل تعرّض أمن إسرائيل للخطر، بينما يعتقد آخرون أن مثل تلك المساواة تقوّض الهوية اليهودية "لدولة اليهود". ومهما يكن من أمر، فقد أصبح واضحاً، فيما بعد، أن عدم شمولية المساواة السياسية والاجتماعية الكاملة لمواطنين غير يهود لم يكن خطأ ارتكبه الذين أصاغوا إعلان "الاستقلال" في عام 1948، بل هو مشكلة حساسة لليهود في كل الأزمنة. إذ ليس باستطاعة دولة يهودية أن تشمل غير اليهود بمساواة سياسية كاملة، كما هو الحال في أية دولة عربية بالنسبة الى غير العرب، أو في دولة علمانية.
الاختلاف بين "دولة يهودية" و "دولة مستقلة" يتعدى التعبير اللفظي. فهو تعبير مُفعم بالمشاعر العميقة والمواقف إزاء وجود اجتماعي وإزاء مفهوم الشخصية للإنسان الاجتماعي. ولو أن إسرائيل قد منحت جميع مواطنيها المساواة السياسية الكاملة بدون تمييز بالنسبة الى الدين، أو العرق، أو الجنس، أو القومية، أو الأصل الحضاري، فلن تلقى الدعم والتأييد من جميع يهود العالم.
ومع ذلك، فمن الخطأ الاستنتاج أن مؤسسي "دولة اليهود" قد أرادوا التمييز ضد غير اليهود. أرادوا أن يميزوا، وقد ميزّوا بالفعل، لصالح اليهود، ولكن معظمهم رفض ذلك التمييز لصالح اليهود ضد غيرهم. في الحقيقة، هناك صراع داخلي داخل نفوس العديد من اليهود عندما يقرّون بأن أي تمييز لصالح اليهود يتضمن تمييزاً ضد غير اليهود. وحاول إعلان "الاستقلال" التخلص من هذا الصراع المعضلة وذلك "بدعوته المواطنين العرب في إسرائيل بأن يلعبوا دورهم في تنمية وتطوير الدولة على أساس المساواة في المواطنية والتمثيل في كل هيئاتها ومؤسساتها"، أي: حقوق الأقليات. وفي الحقيقة، فإن العرف في فلسطين لم يُسمح لهم بتشكيل أحزابهم السياسية لخوض الانتخابات البرلمانية "الكنيست" وذلك لدواع أمنية.
إن الصعوبات أمام حل الحقوق المتساوية في دولة اليهود لغير اليهود، وبصورة خاصة بالنسبة الى الفلسطينيين العرب، نلحظها في وثيقة "إعلان الاستقلال". إلا أن الصراع بين الصهيونية والشعب الفلسطيني، على الرغم من سيطرته على السياسات الإسرائيلية، هو هامشي بالنسبة الى النزاع الداخلي والحضاري والثقافي داخل المجتمع اليهودي. وقد حدث هذا الصراع في أوروبا منذ الثورة الفرنسية، ووصل الى ذروته في فلسطين خلال العشرينات عندما انضم سياسياً اليهود الأرثوذكس المتدينون الى الأحزاب العربية الفلسطينية ضد الصهيونية. وفي 30 حزيران / يونيو من العام 1924، اغتال الصهيونيون يعقوب إسرائيل دهان، رجل العلاقات العامة البارز بين اليهود الأرثوذكس، بينما كان خارجاً من صلاة الاغتيال على يد الجناح العسكري لحركة العمال الصهيونية وذلك نتيجة لمشادة كلامية مع المغدور. واعترف التاريخ الرسمي للهاغاناه لاحقاً بهذه العملية.
وفي الثلاثينات والأربعينات، هيمنت الصهيونية العلمانية، وكوّن معظم اليهود المتدينين في فلسطين أحزاباً سياسية توصّلت الى تسوية مع الأحزاب الصهيونية. ومن بقايا المعارضة الأرثوذكسية القديمة للصهيونية طائفة "ناطوراي – كارتا" (نواطير أو حرّاس المدنية، أي اليهودية) التي لا تزال حتى الآن مناوئة للصهيونية، كما أن أعضاؤها في إسرائيل لا يشتركون في الانتخابات ولا يعترفون بالدولة.
لقد تقبّل القطاع الديني في إسرائيل الزعامة السياسية للحركة الصهيونية العلمانية واعترف بها كممثل سياسي للشعب اليهودي اليوم. وفي المقابل، فإن الصهيونيين تقبّلوا سلطة اليهودية الأرثوذكسية في كل الشرائع المتعلقة بالولادة، والزواج، والطلاق ومراسم دفن الموتى. ولم يقتنع أي طرف من هذين الطرفين بالحلو الوسط. فاليهود الأرثوذكس منزعجون من غير المؤمنين اليهود ومن الأحزاب التي تقود الشعب اليهودي. كما أن الغالبية العلمانية مغتاظة من القوانين الدينية البالية والطقوس المتعلقة بأمور الزواج والطلاق والولادة ودفن الموتى، لأن هذه الأمور مفروضة على أناس لا يؤمنون بالدين. ولا يمكن تشريع القانون المدني في هذه الميادين لأن ذلك سيؤدي الى حرب بين العلمانيين والمتدينيين، كما أنه سيزرع بذور الشقاق بين اليهودي في كل مكان. ولهذا السبب، فإن كلا الطرفين قد وافقا على الحلول الوسط مع أن كلا الطرفين لا يرغبان في ذلك. والجدير بالذكر أن كلا القطاعين لا يتفقان على تحديد التعبير الأساسي "لدولة اليهود"، وبخاصة عبارة "يهودي"، فاليهود الأرثوذكس لا يقبلون التعريف غير الديني، بينما غير المؤمنين لا يقبلون بالتعريف المبني على الدين، الذي لا يؤمنون به.
دولة بلا دستور
كانت مشكلة الدستور المرحلة الأولى من الصراع بين اليهودية العلمانية والدينية في إسرائيل. لقد عيّن مجلس الدولة المكلّف بإعداد النصوص لجنة خاصة لتحضير مسودّة الدستور، أي وضع مجموعة من القوانين لتحديد الحقوق الأساسية. وأعرب جميع ممثلي الأحزاب عن الحاجة الى مثل ذلك الدستور. وفي أعقاب الانتخابات الأولى للكنيست، التي جرت في 25 كانون الثاني / يناير من العام 1949، أثناء الكنيست لجنة برلمانية جديدة لإعداد الدستور والقانون واجتهادات المحاكم حيث كانت أولى واجباتها إعداد مسودّة دستور. واليوم، وبعد إنقضاء مدة طويلة على ذلك، لا تزال تلك اللجنة قائمة، ولكن لا يوجد لدى إسرائيل دستور. وقد أعلم رئيس اللجنة الكنيست في العام 1950، وبعد انقضاء سنة على عملها، أن وجهات النظر المتضاربة تدعو الى إيجاد دستور جديد. وقد ورد في تقرير رئيس اللجنة الى الكنيست ما يلي:
حضرات أعضاء الكنيست،
يشرفني افتتاح مناقشة الكنيست حول دستور دولة إسرائيل وذلك بعد سنة من افتتاح الكنيست الأول. لقد اختارنا الكنيست في نيسان / أبريل من العام 1949، كلجنة لصياغة الدستور، والقانون، واجتهادات المحاكم، للقيام بواجباتنا المقررة من قبل الكنيست وهي دراسة الدستور، والقانون واجتهادات المحاكم. واعتقد البعض أن مهمتنا هي البداية بتحضير دستور، بينما اعتقد البعض الآخر غير ذلك. وقيل لنا بأنه لو عُرض أمامنا دستور لكان علينا العمل عليه، ولكن حتى الآن، لم تُلقَ علينا هذه المبادرة. ومن ثم واجهنا مشكلة إذا كان علينا تطوير دستور خلال هذه السنة بكاملها. واستغرقت مناقشاتنا العديد من الاجتماعات. وقد ابتدأ بحضور وزير العدل الذي شكرناه على تزويدنا بمعلومات تنم عن وجهة نظره بخصوص الدستور الذي نحن بحاجة اليه. وركّز على تقويمه للقيمة الثقافية للدستور. وأعلمنا أن لدى رئيس الوزراء رأي مغاير لرأيه. فطلبنا من رئيس الوزراء حضور اجتماعاتنا لإبداء رأيه. وأعرب رئيس الوزراء، الذي حضر اجتماعاتنا مشكوراً، عن وجهة نظره المغايرة لمسودة الدستور.. .
[محاضر الكنيست (العبرية)، ج 4، ص 715، محضر جلسة أول شباط / 1950].
تُشير هذه الخُطب الى أن المشكلة قد تفجرت. إذ أن الأحزاب الدينية في إسرائيل، بالإضافة الى الأقلية الدينية برمتها، قد اعتبرت الدستور العلماني في دولة اليهود كارثة لا مثيل لها، مما دعاها الى شجب مثل تلك الدولة لأنها تتناقض مع اليهودية ولا تسير على هداها.
ولذا، لا غرابة إذا ما رأينا الغالبية العظمى من العلمانيين تعارض بل تقاوم ذلك. فالخيار لم يكن سهلاً وذلك لأن الدستور يحدّد ويصون بعض الحقوق المدنية للفرد، التي تعتبر أساسية للوجود العلماني، مثل الزواج المدني والطلاق. ففي إسرائيل لا يوجد زواج مدني وطلاق، ولذا، فإن العديد من المشاكل والمآسي في الحياة الشخصية يعود الى "الإكراه الديني". إلا أن الأقلية الدينية ليس بإمكانها إكراه الغالبية العلمانية. ومن هنا، فإن الأحزاب السياسية. التي تمثّل الغالبية العلمانية، هي التي تحدد قبول هذه العقبات وذلك لكي تمنع الصراع الدائم مع الأقلية الدينية في إسرائيل.
وقد خاطب "نعوم نيرر ريفليكس"، رئيس لجنة الدستور والقانون واجتهادات المحاكم، وعضو حزب "المابام" الصهيوني الماركسي، أعضاء الكنيست المتدينين بقوله:
"إننا، كحركة عمالية، سواء كنا يمينيين أو يساريين، نطمح الى تغيير النظام القائم. وليس بإمكان أي شخص تغيير النظام القائم بدون القيام بأي عمل. وأن أي عمل سلبي سيواجه رفضاً من قبل حركة العمال. وإنني أقترح عليكم قراءة كتاب المؤلف الروسي "بير – بوروشوف". الذي حاول أن يجمع بين الماركسية واليهودية، وإنني أريد إعلامكم أنكم تمارسون ضغطاً على غير المؤمنين عندما تطلبون منهم التوقيع على الدستور".
[محاضر الكنيست (بالعبرية)، ج 4، ص 718، محضر جلسة واحد شباط / فبراير 1950].
وعلى الرغم من هذا التوسل العاطفي، فقد اختارت حركة العمل الصهيونية قبول مطالب الأقلية الدينية. ولم يتم استخدام القوة في ذلك. إذ أنها فضّلت خداع نفسها على الصراع الثقافي الدائم.
وأشار عضو آخر من حزب العمل الصهيوني (ماباي)، وهو "يونان كوسوي"، الى أن المتدينين قد غيّروا رأيهم، في الحال، عندما قبلوا الزعامة السياسية للصهيونية العلمانية وذلك عندما قال:
". . . إن ما يقترحه السيد "ليفنشتين" ليس مجرد حرب روحية، بل حرباً مخيفة ومدمّرة وذلك في كل مجالات حياتنا في هذا البلد. وعلى الجبهة الدينية التفكير في هذا قبل فوات الأوان. واحذروا من تقييد أرواحنا، ومعتقداتنا، وأفكارنا. وما تقترحونه يعني، في الواقع، هيمنة كلية للأقلية على الأكثرية في هذه الأمة وذلك في الأمور التي تمس روحنا وجوهر ضميرنا. إنكم أخلاقيون مثلنا، وإن ختم الله ليس بين أيديكم. وللنزعة الدينية في هذه الدولة الحق في الوصول على حقوقها العادلة للمواطنين المتديّنين في إسرائيل، ولكن إذا ما حاولتهم بالقوة، الهيمنة على سياسات هذا البلد فإنكم ستشيدون الصراع العنيف والمخيف، وإنني متأكد بأنكم لن تخرجوا سالمين. ولا تحاولوا السيطرة على كل الأمور مخافة أن لا تحصلوا على أي شيء.
أود أن أقول شيئاً مهماً وخاصة الى عضو الكنيست ليفنشتين: لقد قاطع حزبك، باسم الكتاب المقدس وتقاليده، الصهيونية والصهاينة. وباسم الكتاب المقدس وتقاليده، حكمت على أن الصهيونية هي نتاج غريب في اليهودية وقد منعها الكتاب المقدس، وأدنت الصهاينة لأنهم خونة لليهودية. ومَن يدري ويقدّر تكاليف حملتك على الصهيونية .. . ولو أن جماهير شعبنا قد أطاعوك لما كنا قد حققنا ما حققناه الآن. ولما كانت دولة اسمها إسرائيل، ولما بقي دين وتقاليد حتى الآن، لأنه بدون شعب، وبدون أرض، لن يكون هناك دين، ولا تقاليد حتى ولا إله لإسرائيل. وعلى هذا الأساس من التجربة التاريخية، فإننا نشك في إمكانية قيامك بدور فعّال في مصير الشعب اليهودي ومستقبله".
[محاضر الكنيست (بالعبرية، ج 4، ص 782، محضر جلسة 13 شباط / فبراير 1950].
وكان الأعضاء المتدينون لا يريدون أن يتذكروا ماضيهم ضد الصهيونية لأن ذلك يكشف عن قبولهم للصهيونية العلمانية لقاء مساومتهم على بعض معتقداتهم الدينية.
ولذا، فإن الأعضاء المتدينين استخدموا حججاً أيديولوجية فقط والتي لها وزن على الصهيونية العلمانية. وفي هذا المجال، قال أبراهام حاييم شاغ من "الجبهة الدينية المتحدة):
"كيف بإمكان أي شخص تجاهل الحقيقة التي تفيد بأن الكتاب المقدس نفسه الذي طالبنا به في أرضنا ودولتنا هو الآن يُقدّم على أنه مخادع. . . ".
[المصدر السابق ص 795]
وبعبارة أخرى، بينما راح الصهيونيون يصرّون على أنه يجب إنشاء "دولة اليهود" في "صهيون" فقط، وكانت حججهم في ذلك عاطفية تعتمد على التاريخ اليهودي الوارد في الكتاب المقدس، وإنه عمل غير نزيه إذا ما وصفنا الكتاب المقدس بأنه وثيقة صالحة لإقامة دولة اليهود في صهيون، بينما نحن نرفضه كوثيقة لتنظيم الحياة اليهودية في تلك الدولة.
وأصرّ وزير الخدمات الإجتماعية الحاخام إسحاق مائير ليفين (الجبهة الدينية المتحدة) على أن مشكلة الدستور ليست سياسية إلا أنها قضية وجود تتعلق بفحوى اليهودية، وقال:
"لقد قيل أن النقاش حول الدستور يتعلق بالشخصية، والجوهر، والتطلعات الروحية لشعبنا في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، إن ذلك يتضمن أكثر من هذا، إذ أن النقاش حول الدستور يعني تحري طبيعة الميزة التي تتميز بها دولتنا، والتي تنقلنا من مجموعة أفراد الى أمة موحدة. . . والسؤال الأول الذي تثيره المناقشات حول الدستور هو: ماذا نحن؟ وماذا هو الشعب اليهودي؟ هناك وجهتا نظر إزاء هذه المشكلة: إحداهما، تقول: "إننا شعب كبقية الشعوب الأخرى، أي أنه هناك شعوب متعددة في العالم ونحن أحد هذه الشعوب، ونحن مثلهم لا أكثر ولا أقل. ووجهة النظر الثانية، تقول: "إننا شعب مميز ولا مثيل له، أي شعب الله. وفي الاختلاف بين هاتين النظريتين تكمن المشكلة برمتها.
ولهذا، عندما نحاول أن نخلق دستوراً لإسرائيل، لا يوجد أمامنا خيار سوى الرجوع الى أنفسنا، وسنجد أنفسنا "عُدّ الى إسرائيل، الى ربك". يجب إيجاد أنفسنا. وعلينا أن نرفض الميراث الغريب برمته والعودة الى أصولنا وجذورنا. والعدالة الاجتماعية واردة في الكتاب المقدس وفي رؤيا الأنبياء. واسمحوا لي بالقول بأن كل الأنبياء، وبدون تمييز، قد ركزّوا على أن بإمكان الشعب اليهودي الاحتفاظ بوجوده وذلك بتقيّده بالكتاب المقدس الذي هو من الله الذي هو مصدر كل القوانين الدينية. وإذا ما قرأتم الكتاب المقدس ستجدون أن الأنبياء قد أقروا إمكانية تواجدنا على هذه الأرض وذلك إذا ما تقيدنا بالكتاب المقدس".
[المصدر السابق، صفحات 808-811]
وهذا القول غير مقنع بالنسبة الى غير المؤمنين لأنه يتضمن السؤال الذي عجزت الصهيونية العلمانية عن الجواب عليه وهو: ما هو معنى اليهودية، بالنسبة الى الفرد والأمة، بدون الديانة اليهودية؟ وعدم القدرة على الإجابة على هذا السؤال يُحيّر ويثير العديد من اليهود غير المؤمنين في كل مكان، وخاصة بالنسبة الى يهود "دولة اليهود".
"قانون العودة" يتمتع بوضع دستوري
مع أن مشكلة الدستور بقيت عالقة، إلا أنه هناك في إسرائيل قانون واحد لديه وضع دستوري يعبّر، حتى الآن، عن طموحات الصهيونية العلمانية، وعن هدف "دولة إسرائيل" وروح سياساتها. ألا وهو قانون الهجرة. ولكن في إسرائيل تمت تسمية ذلك بقانون العودة لأنه يختص بعودة المهاجرين اليهود فقط الى إسرائيل. واستناداً الى الصهيونية، فاليهود "لا يهاجرون" الى إسرائيل بل يعودون اليها. والتركيز على هذا المعنى هو عنصر هام بالنسبة الى الصهيونية. فالحركة الصهيونية لا تطمح الى خلق "دولة يهودية"، بل إنها تصرّ على أن يتم إقامتها حسب صهيونية الكتاب المقدس. وهي تعتبر أن اليهود الذين يفدون الى فلسطين هم منفيون يعودون الى وطنهم. وهذا الادعاء الصهيوني بفلسطين مبني على هذه العقيدة. إنه ليس إدعاءً سياسياً وإنما هو عقيدة راسخة. ولهذا السبب باءت بالفشل كل المحاولات لإيجاد "دولة يهودية" في مكان آخر، مثل أوغندا.
في 5 تموز / يوليو من عام 1950، وافق الكنيست الإسرائيلي بجميع أعضائه على قانون العودة الذي ينص:
1- لكل يهودي الحق في الهجرة الى إسرائيل.
2- أ) ستكون الهجرة وفق فيزا (تأشيرة) هجرة.
ب) سيتم إصدار تأشيرة الهجرة الى أي يهودي يرغب في العيش في إسرائيل ما عدا إذا كان وزير الهجرة مقتنعاً بأن طالب الهجرة:
1. يعمل ضد الأمة اليهودية، أو 2. يمكن أن يهدد الصحة العامة أو أمن الدولة، أو 3. له ماضٍ حافل بالإجرام ويهدد الأمن العام في إسرائيل .
3- أ) إن اليهودي الذي يأتي الى إسرائيل، وبعد وصوله يعرف عن رغبته في الاستقرار فيها، يحصل على شهادة مهاجر. ب) والذين لا يحصلون على شهادة مهاجر بسبب أحد الأمور الواردة في البند (2) من قانون العودة فإنهم (ج) سيقدمون طلباً، بالنسبة الى شهادة الهجرة، على أنهم لا يشكلون تهديداً للصحة العامة نتيجة مرضهم، حيث سيتم إجراء تعاقد معهم بعد وصولهم الى إسرائيل.
4- يتمتع بنفس الأوضاع، التي يتمتع بها كل مهاجر وفقاً لهذا القانون، كل يهودي هاجر الى إسرائيل قبل أن يصبح هذا القانون نافذ المفعول، وكل يهودي قد وُلد في إسرائيل قبل أو بعد أن أصبح هذا القانون نافذ المفعول.
5- يُفوّض وزير الهجرة بتطبيق هذا القانون وبإجراء الترتيبات المتعلقة بتنفيذ إصدار فيز وشهادات الهجرة.
ولا يوجد في إسرائيل قانون ينظّم هجرة غير اليهود. إذ أن هذا الأمر متروك الى استنساب وزير الهجرة حيث أن سياسته العامة تهدف الى عدم تشجيع غير اليهود على الهجرة الى إسرائيل.
إن قانون العودة متعلق، بصورة مباشرة، بقانون المواطنية الذي ينص على أن أي يهودي يأتي الى إسرائيل بموجب قانون العودة يصبح، بصورة اوتوماتيكية، مواطناً إسرائيلياً، وليس داعياً أن يمر المهاجر اليهودي بأية إجراءات قانونية لكي يصبح مواطناً. وعلى عكس ذلك، فعلى مثل ذلك المهاجر، أن يمرّ بإجراءات قانونية ليؤكد – إذا ما رغب – بأنه لم يصبح مواطناً في إسرائيل.
"المهاجر" اليهودي = مواطن عائد
وكانت معارضة رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون ضد هذه القوانين، من وجهة نظر صهيونية، المعارضة الأهم. فقد افتتح المناقشات حول هذه القوانين في الكنيست بإلقائه الخطاب التالي في 3 تموز / يوليو 1950:
"حضرة الرئيس، حضرات أعضاء الكنيست،
إن قانون العودة وقانون المواطنية المعروضين أمام حضراتكم مُرتبطان مع بعضهما ارتباطاً وثيقاً ولديهما مصدر أيديولوجي مشترك واحد وهو ينبع من الفرادة التاريخية لدولة إسرائيل، فرادة في العلاقات بالماضي والمستقبل، وفي العلاقات الخارجية والداخلية. ويحدد هذان القانونان الميزة والمهمة الخاصة لدولة إسرائيل بوصفها دولة تجسّد تخليص الشعب اليهودي مما يعانيه.
ودولة إسرائيل هي كبقية الدول الأخرى، كما أن كل المميزات والصفات الموجودة في دول أخرى موجودة في "دولة إسرائيل". فهي تشغل مقاطعة معينة يعيش فيها شعب، وتتميز بسيادة داخلية وخارجية، وقوانينها لا تتعدى حدودها، فقوانين "دولة إسرائيل" لا يمكن تطبيقها إلا على مواطنيها. وليس لدى يهود الشتات، الذين هم مواطنون في بلدانهم، أية علاقات شرعية ومدنية بإسرائيل التي بدورها لا تمثلهم في أي مضمون شرعي. إلا أن دولة إسرائيل تختلف عن الدول الأخرى في مجالات وجودها على قيد الحياة وفي الغاية من وجودها. ومع أنها قد تكون تمنذ سنتين فقط إلا أن جذورها ضاربة في أعماق الماضي، فهي تتغذى بمصادر قديمة. كما أن قوانينها مقتصرة على سكانها مع أن أبوابها مُشرّعة أمام كل يهودي أينما وُجد. وهي ليست مجرّد "دولة اليهود" لأن اليهود يشكلون فيها الغالبية العظمى من السكان، بل هي لليهود في كل مكان، ولكل يهودي يريد الهجرة اليها. ومن المستحيل إدراك بقاء "دولة اليهود" بدون إدراك المستوطنات الجديدة التي تمت إقامتها، خلال الأجيال الثلاثة المنصرمة من حياة حركة "احبّاء صهيون" والأدب العبري، والحركات الثورية الوطنية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وانبعاث المجر، وإيطاليا، ودول البلقان.
ويستحيل علينا تفهم انبعاث "دولة اليهود" بدون إدراك الشعب اليهودي ابتداءً من الأيام الأولى للهيكل، وانتهاء بتاريخ النبوة وتاريخ اليهود في الشتات.
وان انبعاث اسرائيل حدث لا يقتصر على مكانها وزمانها، فهو حدث عالمي، حدث عالمي يجسّد تطوراً تاريخياً كبيراً.
وعلى قوانين إسرائيل أن تتضمن دور إسرائيل في نظام القوى الدولية ومساهمتها في إعادة تكوين الانسانية. ومنذ بداية تأسيس "دولة اليهود" كان واضحاً أن هذا الأمر لا يهم اليهود داخل إسرائيل وإنما كل يهودي في أي مكان.
وليس من الغرابة إذا ما وردت في وثيقة إعلان قيام إسرائيل عبارات تُظهر الروابط ما بين الشعب اليهودي ووطنه القديم، وقد جاء في هذا الخصوص: "إن دولة إسرائيل ستفتح أبوابها أمام هجرة اليهود المتواجدين في جميع أنحاء العالم". وفي مكان آخر من وثيقة إعلان إسرائيل جاء نداء الى "جميع يهود العالم بأن يقفوا الى جانبنا في عمليتي الهجرة والبناء وفي كفاحنا من أجل تحقيق حلم الأجيال القاضي بتحرير إسرائيل".
فقانون العودة هو أحد القوانين الأساسية في "دولة اليهود" لأنه يجسّد الغرض الرئيسي في دولتنا، كما أنه يجمع اليهود في الشتات. ويختلف قانون العودة عن قوانين الهجرة التي تحدد الشروط التي بموجبها تقبل إسرائيل المهاجرين.
ومن حق كل يهودي، من زاوية تاريخية، العودة والاستقرار في إسرائيل سواء كان ذلك راجعاً الى كونه قد حُرم من حقوقه في المنفى أو لحماية وجوده، أو لأنه لا يستطيع أن يعيش الحياة اليهودية التي يطمح اليها، أو لأنه يحب تقاليده، القديمة والثقافة العبرية، والاستقلال اليهودي.
وإن قانون المواطنية يُكمّل قانون العودة، وهو ينص على أن أي يهودي، في الشتات، يعود الى وطنه، يتمّ منحه بطاقة المواطنية".
الخميس 3 شباط 2005
طباعة المقال
إعلان قيام دولة إسرائيل ("إعلان الاستقلال") الذي تم في 14 أيار / مايو من العام 1948 يحتوي على عدد من الصيغ التي تكمن أهميتها في أنها تُحير أي شخص ليس على دراية من الأزمة المعاصرة للحضارة اليهودية. وأحد هذه الصيغ يؤكد "استقلال" الدولة حيث يجب أن تكون على النحو التالي: "إننا نعلن إنشاء دولة مستقلة في فلسطين" عوضاً عن العبارة التي تنصّ: "إننا نعلن إنشاء دولة يهودية، تدعى دولة إسرائيل، في فلسطين".
وهكذا، فعوضاً عن الإعلان عن دولة مستقلة جرى الإعلان عن "دولة يهودية". ومن الممكن أن يوحي هذا بأنه لا يوجد أي فارق بين التعبيرين كما أنهما لا يحملان أي تحليل خاص. هذا، مع أنه قد تمت صياغة مسودة الإعلان بدقة، كما أنه تم اختيار كل كلمة وعبارة بعناية فائقة، وتمّ الاتفاق عليها من قبل جميع الأطراف التي عملت من أجل تكوني الدولة الجديدة. وقد تم ذلك لإرضاء التيارات العلمانية والدينية المتصارعة داخل اليهودية المعاصرة.
وليس لدى الإعلان أية شرعية قانونية في أية محكمة إسرائيلية. فهو ليس وثيقة بإمكان القاضي أو المحامي استخدامها، بل يُعبّر عن روح الصهيونية السياسية، وعن تكوين دولة إسرائيل، وهو سبب وجود كل مؤسساتها. و"دولة إسرائيل" تعبّر عن مفهوم هو شخصية تختلف عن عبارة "دولة مستقلة". فهي دولة أهم صفاتها "يهوديتها" أكثر من "استقلاليتها". وكذلك الأمر، فإن عبارة "دولة يهودية" تختلف عن "دولة اليهود" حيث تعني هذه الأخية أنها ملجأ يجد فيه اليهود مأوى لهم. بينما العبارة الأولى تعني دولة تتجسد في مؤسساتها الصفات الأساسية لليهودية. والاختلاف بين هاتين الصيغتين كان واضحاً أمام أولئك الذين وضعوا مسودة الإعلان. وفي الحقيقة، بالنسبة الى العديد من الناس، في جميع أرجاء العالم اليوم، فإن دولة إسرائيل ليست مجرد دولة مستقلة بل يجري اعتبارها من زاوية معينة بأنها تجسيد لليهودية المعاصرة.
* * * *
عندما اجتمع في قاعة متحف تل أبيب أعضاء المجلس الوطني، الذين كانوا يمثلون اليهود في فلسطين والحركة الصهيونية العالمية، وأعلنوا إنشاء دولة اليهود، لم يدر في خلدهم أن يهودية دولة اليهود العلمية ستكون مشكلة معقدة سوف تقسِّم اليهود في كل مكان، كما أنها ستخلق المشاكل العديدة داخل إسرائيل نفسها. ولم يجتمع أعضاء المجلس الوطني في الكنيس الكبير في تل أبيب وإنما في متحف هذه المدينة.
بالإضافة الى هذا، عندما اجتمعت اللجنة المعيّنة لصياغة المسودة الأخيرة لإعلان الاستقلال، فإن العضو الديني في اللجنة الحاخام "ي. ل. فيشمان" أصرّ على أن تحتوي العبارة الأخيرة في مسودة الإعلان إشارة الى "إله" إسرائيل، بينما عارض العضو الماركسي "أ. زيسلينغ" أية عبارة دينية. عند ذلك، اقترح بن غوريون حلاً وسطاً وهو العبارة: "برعاية دعامة (إله) إسرائيل، نبدأ العمل بهذا الإعلان". وكلمة "دعامة" هنا إما أن تعني إله في نظر المتدينين، أو دعامة في نظر العلمانيين.
واستناداً الى "إعلان الاستقلال"، فإن دولة إسرائيل "ستحافظ على المساواة الاجتماعية والسياسية الكاملة بين جميع مواطنيها بدون تمييز لجهة الدين، أو العرق، أو الجنس. والأمر الهام الذي تم حذفه هنا هو "الأصل الإثني أو القومي". ولم تكن المساواة السياسية الكاملة لجميع المواطنين، بما فيهم العرب الفلسطينيين، هي ما دار في مخيلة مؤسسي "دولة اليهود"، لأنها كانت دولة يهودية تضم يهوداً فقط يتساوون بالامتيازات السياسية. وأما بالنسبة الى المساواة الاجتماعية والسياسية الكاملة للمواطن العربي في إسرائيل، فهذا أمر يرفضه معظم الإسرائيليين واليهود حتى أيامنا هذه، وذلك بعد مضي عدة عقود على "الاستقلال".
يعتقد بعض الإسرائيليين أن المساواة السياسية الكاملة للمواطنين العرب في إسرائيل تعرّض أمن إسرائيل للخطر، بينما يعتقد آخرون أن مثل تلك المساواة تقوّض الهوية اليهودية "لدولة اليهود". ومهما يكن من أمر، فقد أصبح واضحاً، فيما بعد، أن عدم شمولية المساواة السياسية والاجتماعية الكاملة لمواطنين غير يهود لم يكن خطأ ارتكبه الذين أصاغوا إعلان "الاستقلال" في عام 1948، بل هو مشكلة حساسة لليهود في كل الأزمنة. إذ ليس باستطاعة دولة يهودية أن تشمل غير اليهود بمساواة سياسية كاملة، كما هو الحال في أية دولة عربية بالنسبة الى غير العرب، أو في دولة علمانية.
الاختلاف بين "دولة يهودية" و "دولة مستقلة" يتعدى التعبير اللفظي. فهو تعبير مُفعم بالمشاعر العميقة والمواقف إزاء وجود اجتماعي وإزاء مفهوم الشخصية للإنسان الاجتماعي. ولو أن إسرائيل قد منحت جميع مواطنيها المساواة السياسية الكاملة بدون تمييز بالنسبة الى الدين، أو العرق، أو الجنس، أو القومية، أو الأصل الحضاري، فلن تلقى الدعم والتأييد من جميع يهود العالم.
ومع ذلك، فمن الخطأ الاستنتاج أن مؤسسي "دولة اليهود" قد أرادوا التمييز ضد غير اليهود. أرادوا أن يميزوا، وقد ميزّوا بالفعل، لصالح اليهود، ولكن معظمهم رفض ذلك التمييز لصالح اليهود ضد غيرهم. في الحقيقة، هناك صراع داخلي داخل نفوس العديد من اليهود عندما يقرّون بأن أي تمييز لصالح اليهود يتضمن تمييزاً ضد غير اليهود. وحاول إعلان "الاستقلال" التخلص من هذا الصراع المعضلة وذلك "بدعوته المواطنين العرب في إسرائيل بأن يلعبوا دورهم في تنمية وتطوير الدولة على أساس المساواة في المواطنية والتمثيل في كل هيئاتها ومؤسساتها"، أي: حقوق الأقليات. وفي الحقيقة، فإن العرف في فلسطين لم يُسمح لهم بتشكيل أحزابهم السياسية لخوض الانتخابات البرلمانية "الكنيست" وذلك لدواع أمنية.
إن الصعوبات أمام حل الحقوق المتساوية في دولة اليهود لغير اليهود، وبصورة خاصة بالنسبة الى الفلسطينيين العرب، نلحظها في وثيقة "إعلان الاستقلال". إلا أن الصراع بين الصهيونية والشعب الفلسطيني، على الرغم من سيطرته على السياسات الإسرائيلية، هو هامشي بالنسبة الى النزاع الداخلي والحضاري والثقافي داخل المجتمع اليهودي. وقد حدث هذا الصراع في أوروبا منذ الثورة الفرنسية، ووصل الى ذروته في فلسطين خلال العشرينات عندما انضم سياسياً اليهود الأرثوذكس المتدينون الى الأحزاب العربية الفلسطينية ضد الصهيونية. وفي 30 حزيران / يونيو من العام 1924، اغتال الصهيونيون يعقوب إسرائيل دهان، رجل العلاقات العامة البارز بين اليهود الأرثوذكس، بينما كان خارجاً من صلاة الاغتيال على يد الجناح العسكري لحركة العمال الصهيونية وذلك نتيجة لمشادة كلامية مع المغدور. واعترف التاريخ الرسمي للهاغاناه لاحقاً بهذه العملية.
وفي الثلاثينات والأربعينات، هيمنت الصهيونية العلمانية، وكوّن معظم اليهود المتدينين في فلسطين أحزاباً سياسية توصّلت الى تسوية مع الأحزاب الصهيونية. ومن بقايا المعارضة الأرثوذكسية القديمة للصهيونية طائفة "ناطوراي – كارتا" (نواطير أو حرّاس المدنية، أي اليهودية) التي لا تزال حتى الآن مناوئة للصهيونية، كما أن أعضاؤها في إسرائيل لا يشتركون في الانتخابات ولا يعترفون بالدولة.
لقد تقبّل القطاع الديني في إسرائيل الزعامة السياسية للحركة الصهيونية العلمانية واعترف بها كممثل سياسي للشعب اليهودي اليوم. وفي المقابل، فإن الصهيونيين تقبّلوا سلطة اليهودية الأرثوذكسية في كل الشرائع المتعلقة بالولادة، والزواج، والطلاق ومراسم دفن الموتى. ولم يقتنع أي طرف من هذين الطرفين بالحلو الوسط. فاليهود الأرثوذكس منزعجون من غير المؤمنين اليهود ومن الأحزاب التي تقود الشعب اليهودي. كما أن الغالبية العلمانية مغتاظة من القوانين الدينية البالية والطقوس المتعلقة بأمور الزواج والطلاق والولادة ودفن الموتى، لأن هذه الأمور مفروضة على أناس لا يؤمنون بالدين. ولا يمكن تشريع القانون المدني في هذه الميادين لأن ذلك سيؤدي الى حرب بين العلمانيين والمتدينيين، كما أنه سيزرع بذور الشقاق بين اليهودي في كل مكان. ولهذا السبب، فإن كلا الطرفين قد وافقا على الحلول الوسط مع أن كلا الطرفين لا يرغبان في ذلك. والجدير بالذكر أن كلا القطاعين لا يتفقان على تحديد التعبير الأساسي "لدولة اليهود"، وبخاصة عبارة "يهودي"، فاليهود الأرثوذكس لا يقبلون التعريف غير الديني، بينما غير المؤمنين لا يقبلون بالتعريف المبني على الدين، الذي لا يؤمنون به.
دولة بلا دستور
كانت مشكلة الدستور المرحلة الأولى من الصراع بين اليهودية العلمانية والدينية في إسرائيل. لقد عيّن مجلس الدولة المكلّف بإعداد النصوص لجنة خاصة لتحضير مسودّة الدستور، أي وضع مجموعة من القوانين لتحديد الحقوق الأساسية. وأعرب جميع ممثلي الأحزاب عن الحاجة الى مثل ذلك الدستور. وفي أعقاب الانتخابات الأولى للكنيست، التي جرت في 25 كانون الثاني / يناير من العام 1949، أثناء الكنيست لجنة برلمانية جديدة لإعداد الدستور والقانون واجتهادات المحاكم حيث كانت أولى واجباتها إعداد مسودّة دستور. واليوم، وبعد إنقضاء مدة طويلة على ذلك، لا تزال تلك اللجنة قائمة، ولكن لا يوجد لدى إسرائيل دستور. وقد أعلم رئيس اللجنة الكنيست في العام 1950، وبعد انقضاء سنة على عملها، أن وجهات النظر المتضاربة تدعو الى إيجاد دستور جديد. وقد ورد في تقرير رئيس اللجنة الى الكنيست ما يلي:
حضرات أعضاء الكنيست،
يشرفني افتتاح مناقشة الكنيست حول دستور دولة إسرائيل وذلك بعد سنة من افتتاح الكنيست الأول. لقد اختارنا الكنيست في نيسان / أبريل من العام 1949، كلجنة لصياغة الدستور، والقانون، واجتهادات المحاكم، للقيام بواجباتنا المقررة من قبل الكنيست وهي دراسة الدستور، والقانون واجتهادات المحاكم. واعتقد البعض أن مهمتنا هي البداية بتحضير دستور، بينما اعتقد البعض الآخر غير ذلك. وقيل لنا بأنه لو عُرض أمامنا دستور لكان علينا العمل عليه، ولكن حتى الآن، لم تُلقَ علينا هذه المبادرة. ومن ثم واجهنا مشكلة إذا كان علينا تطوير دستور خلال هذه السنة بكاملها. واستغرقت مناقشاتنا العديد من الاجتماعات. وقد ابتدأ بحضور وزير العدل الذي شكرناه على تزويدنا بمعلومات تنم عن وجهة نظره بخصوص الدستور الذي نحن بحاجة اليه. وركّز على تقويمه للقيمة الثقافية للدستور. وأعلمنا أن لدى رئيس الوزراء رأي مغاير لرأيه. فطلبنا من رئيس الوزراء حضور اجتماعاتنا لإبداء رأيه. وأعرب رئيس الوزراء، الذي حضر اجتماعاتنا مشكوراً، عن وجهة نظره المغايرة لمسودة الدستور.. .
[محاضر الكنيست (العبرية)، ج 4، ص 715، محضر جلسة أول شباط / 1950].
تُشير هذه الخُطب الى أن المشكلة قد تفجرت. إذ أن الأحزاب الدينية في إسرائيل، بالإضافة الى الأقلية الدينية برمتها، قد اعتبرت الدستور العلماني في دولة اليهود كارثة لا مثيل لها، مما دعاها الى شجب مثل تلك الدولة لأنها تتناقض مع اليهودية ولا تسير على هداها.
ولذا، لا غرابة إذا ما رأينا الغالبية العظمى من العلمانيين تعارض بل تقاوم ذلك. فالخيار لم يكن سهلاً وذلك لأن الدستور يحدّد ويصون بعض الحقوق المدنية للفرد، التي تعتبر أساسية للوجود العلماني، مثل الزواج المدني والطلاق. ففي إسرائيل لا يوجد زواج مدني وطلاق، ولذا، فإن العديد من المشاكل والمآسي في الحياة الشخصية يعود الى "الإكراه الديني". إلا أن الأقلية الدينية ليس بإمكانها إكراه الغالبية العلمانية. ومن هنا، فإن الأحزاب السياسية. التي تمثّل الغالبية العلمانية، هي التي تحدد قبول هذه العقبات وذلك لكي تمنع الصراع الدائم مع الأقلية الدينية في إسرائيل.
وقد خاطب "نعوم نيرر ريفليكس"، رئيس لجنة الدستور والقانون واجتهادات المحاكم، وعضو حزب "المابام" الصهيوني الماركسي، أعضاء الكنيست المتدينين بقوله:
"إننا، كحركة عمالية، سواء كنا يمينيين أو يساريين، نطمح الى تغيير النظام القائم. وليس بإمكان أي شخص تغيير النظام القائم بدون القيام بأي عمل. وأن أي عمل سلبي سيواجه رفضاً من قبل حركة العمال. وإنني أقترح عليكم قراءة كتاب المؤلف الروسي "بير – بوروشوف". الذي حاول أن يجمع بين الماركسية واليهودية، وإنني أريد إعلامكم أنكم تمارسون ضغطاً على غير المؤمنين عندما تطلبون منهم التوقيع على الدستور".
[محاضر الكنيست (بالعبرية)، ج 4، ص 718، محضر جلسة واحد شباط / فبراير 1950].
وعلى الرغم من هذا التوسل العاطفي، فقد اختارت حركة العمل الصهيونية قبول مطالب الأقلية الدينية. ولم يتم استخدام القوة في ذلك. إذ أنها فضّلت خداع نفسها على الصراع الثقافي الدائم.
وأشار عضو آخر من حزب العمل الصهيوني (ماباي)، وهو "يونان كوسوي"، الى أن المتدينين قد غيّروا رأيهم، في الحال، عندما قبلوا الزعامة السياسية للصهيونية العلمانية وذلك عندما قال:
". . . إن ما يقترحه السيد "ليفنشتين" ليس مجرد حرب روحية، بل حرباً مخيفة ومدمّرة وذلك في كل مجالات حياتنا في هذا البلد. وعلى الجبهة الدينية التفكير في هذا قبل فوات الأوان. واحذروا من تقييد أرواحنا، ومعتقداتنا، وأفكارنا. وما تقترحونه يعني، في الواقع، هيمنة كلية للأقلية على الأكثرية في هذه الأمة وذلك في الأمور التي تمس روحنا وجوهر ضميرنا. إنكم أخلاقيون مثلنا، وإن ختم الله ليس بين أيديكم. وللنزعة الدينية في هذه الدولة الحق في الوصول على حقوقها العادلة للمواطنين المتديّنين في إسرائيل، ولكن إذا ما حاولتهم بالقوة، الهيمنة على سياسات هذا البلد فإنكم ستشيدون الصراع العنيف والمخيف، وإنني متأكد بأنكم لن تخرجوا سالمين. ولا تحاولوا السيطرة على كل الأمور مخافة أن لا تحصلوا على أي شيء.
أود أن أقول شيئاً مهماً وخاصة الى عضو الكنيست ليفنشتين: لقد قاطع حزبك، باسم الكتاب المقدس وتقاليده، الصهيونية والصهاينة. وباسم الكتاب المقدس وتقاليده، حكمت على أن الصهيونية هي نتاج غريب في اليهودية وقد منعها الكتاب المقدس، وأدنت الصهاينة لأنهم خونة لليهودية. ومَن يدري ويقدّر تكاليف حملتك على الصهيونية .. . ولو أن جماهير شعبنا قد أطاعوك لما كنا قد حققنا ما حققناه الآن. ولما كانت دولة اسمها إسرائيل، ولما بقي دين وتقاليد حتى الآن، لأنه بدون شعب، وبدون أرض، لن يكون هناك دين، ولا تقاليد حتى ولا إله لإسرائيل. وعلى هذا الأساس من التجربة التاريخية، فإننا نشك في إمكانية قيامك بدور فعّال في مصير الشعب اليهودي ومستقبله".
[محاضر الكنيست (بالعبرية، ج 4، ص 782، محضر جلسة 13 شباط / فبراير 1950].
وكان الأعضاء المتدينون لا يريدون أن يتذكروا ماضيهم ضد الصهيونية لأن ذلك يكشف عن قبولهم للصهيونية العلمانية لقاء مساومتهم على بعض معتقداتهم الدينية.
ولذا، فإن الأعضاء المتدينين استخدموا حججاً أيديولوجية فقط والتي لها وزن على الصهيونية العلمانية. وفي هذا المجال، قال أبراهام حاييم شاغ من "الجبهة الدينية المتحدة):
"كيف بإمكان أي شخص تجاهل الحقيقة التي تفيد بأن الكتاب المقدس نفسه الذي طالبنا به في أرضنا ودولتنا هو الآن يُقدّم على أنه مخادع. . . ".
[المصدر السابق ص 795]
وبعبارة أخرى، بينما راح الصهيونيون يصرّون على أنه يجب إنشاء "دولة اليهود" في "صهيون" فقط، وكانت حججهم في ذلك عاطفية تعتمد على التاريخ اليهودي الوارد في الكتاب المقدس، وإنه عمل غير نزيه إذا ما وصفنا الكتاب المقدس بأنه وثيقة صالحة لإقامة دولة اليهود في صهيون، بينما نحن نرفضه كوثيقة لتنظيم الحياة اليهودية في تلك الدولة.
وأصرّ وزير الخدمات الإجتماعية الحاخام إسحاق مائير ليفين (الجبهة الدينية المتحدة) على أن مشكلة الدستور ليست سياسية إلا أنها قضية وجود تتعلق بفحوى اليهودية، وقال:
"لقد قيل أن النقاش حول الدستور يتعلق بالشخصية، والجوهر، والتطلعات الروحية لشعبنا في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، إن ذلك يتضمن أكثر من هذا، إذ أن النقاش حول الدستور يعني تحري طبيعة الميزة التي تتميز بها دولتنا، والتي تنقلنا من مجموعة أفراد الى أمة موحدة. . . والسؤال الأول الذي تثيره المناقشات حول الدستور هو: ماذا نحن؟ وماذا هو الشعب اليهودي؟ هناك وجهتا نظر إزاء هذه المشكلة: إحداهما، تقول: "إننا شعب كبقية الشعوب الأخرى، أي أنه هناك شعوب متعددة في العالم ونحن أحد هذه الشعوب، ونحن مثلهم لا أكثر ولا أقل. ووجهة النظر الثانية، تقول: "إننا شعب مميز ولا مثيل له، أي شعب الله. وفي الاختلاف بين هاتين النظريتين تكمن المشكلة برمتها.
ولهذا، عندما نحاول أن نخلق دستوراً لإسرائيل، لا يوجد أمامنا خيار سوى الرجوع الى أنفسنا، وسنجد أنفسنا "عُدّ الى إسرائيل، الى ربك". يجب إيجاد أنفسنا. وعلينا أن نرفض الميراث الغريب برمته والعودة الى أصولنا وجذورنا. والعدالة الاجتماعية واردة في الكتاب المقدس وفي رؤيا الأنبياء. واسمحوا لي بالقول بأن كل الأنبياء، وبدون تمييز، قد ركزّوا على أن بإمكان الشعب اليهودي الاحتفاظ بوجوده وذلك بتقيّده بالكتاب المقدس الذي هو من الله الذي هو مصدر كل القوانين الدينية. وإذا ما قرأتم الكتاب المقدس ستجدون أن الأنبياء قد أقروا إمكانية تواجدنا على هذه الأرض وذلك إذا ما تقيدنا بالكتاب المقدس".
[المصدر السابق، صفحات 808-811]
وهذا القول غير مقنع بالنسبة الى غير المؤمنين لأنه يتضمن السؤال الذي عجزت الصهيونية العلمانية عن الجواب عليه وهو: ما هو معنى اليهودية، بالنسبة الى الفرد والأمة، بدون الديانة اليهودية؟ وعدم القدرة على الإجابة على هذا السؤال يُحيّر ويثير العديد من اليهود غير المؤمنين في كل مكان، وخاصة بالنسبة الى يهود "دولة اليهود".
"قانون العودة" يتمتع بوضع دستوري
مع أن مشكلة الدستور بقيت عالقة، إلا أنه هناك في إسرائيل قانون واحد لديه وضع دستوري يعبّر، حتى الآن، عن طموحات الصهيونية العلمانية، وعن هدف "دولة إسرائيل" وروح سياساتها. ألا وهو قانون الهجرة. ولكن في إسرائيل تمت تسمية ذلك بقانون العودة لأنه يختص بعودة المهاجرين اليهود فقط الى إسرائيل. واستناداً الى الصهيونية، فاليهود "لا يهاجرون" الى إسرائيل بل يعودون اليها. والتركيز على هذا المعنى هو عنصر هام بالنسبة الى الصهيونية. فالحركة الصهيونية لا تطمح الى خلق "دولة يهودية"، بل إنها تصرّ على أن يتم إقامتها حسب صهيونية الكتاب المقدس. وهي تعتبر أن اليهود الذين يفدون الى فلسطين هم منفيون يعودون الى وطنهم. وهذا الادعاء الصهيوني بفلسطين مبني على هذه العقيدة. إنه ليس إدعاءً سياسياً وإنما هو عقيدة راسخة. ولهذا السبب باءت بالفشل كل المحاولات لإيجاد "دولة يهودية" في مكان آخر، مثل أوغندا.
في 5 تموز / يوليو من عام 1950، وافق الكنيست الإسرائيلي بجميع أعضائه على قانون العودة الذي ينص:
1- لكل يهودي الحق في الهجرة الى إسرائيل.
2- أ) ستكون الهجرة وفق فيزا (تأشيرة) هجرة.
ب) سيتم إصدار تأشيرة الهجرة الى أي يهودي يرغب في العيش في إسرائيل ما عدا إذا كان وزير الهجرة مقتنعاً بأن طالب الهجرة:
1. يعمل ضد الأمة اليهودية، أو 2. يمكن أن يهدد الصحة العامة أو أمن الدولة، أو 3. له ماضٍ حافل بالإجرام ويهدد الأمن العام في إسرائيل .
3- أ) إن اليهودي الذي يأتي الى إسرائيل، وبعد وصوله يعرف عن رغبته في الاستقرار فيها، يحصل على شهادة مهاجر. ب) والذين لا يحصلون على شهادة مهاجر بسبب أحد الأمور الواردة في البند (2) من قانون العودة فإنهم (ج) سيقدمون طلباً، بالنسبة الى شهادة الهجرة، على أنهم لا يشكلون تهديداً للصحة العامة نتيجة مرضهم، حيث سيتم إجراء تعاقد معهم بعد وصولهم الى إسرائيل.
4- يتمتع بنفس الأوضاع، التي يتمتع بها كل مهاجر وفقاً لهذا القانون، كل يهودي هاجر الى إسرائيل قبل أن يصبح هذا القانون نافذ المفعول، وكل يهودي قد وُلد في إسرائيل قبل أو بعد أن أصبح هذا القانون نافذ المفعول.
5- يُفوّض وزير الهجرة بتطبيق هذا القانون وبإجراء الترتيبات المتعلقة بتنفيذ إصدار فيز وشهادات الهجرة.
ولا يوجد في إسرائيل قانون ينظّم هجرة غير اليهود. إذ أن هذا الأمر متروك الى استنساب وزير الهجرة حيث أن سياسته العامة تهدف الى عدم تشجيع غير اليهود على الهجرة الى إسرائيل.
إن قانون العودة متعلق، بصورة مباشرة، بقانون المواطنية الذي ينص على أن أي يهودي يأتي الى إسرائيل بموجب قانون العودة يصبح، بصورة اوتوماتيكية، مواطناً إسرائيلياً، وليس داعياً أن يمر المهاجر اليهودي بأية إجراءات قانونية لكي يصبح مواطناً. وعلى عكس ذلك، فعلى مثل ذلك المهاجر، أن يمرّ بإجراءات قانونية ليؤكد – إذا ما رغب – بأنه لم يصبح مواطناً في إسرائيل.
"المهاجر" اليهودي = مواطن عائد
وكانت معارضة رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون ضد هذه القوانين، من وجهة نظر صهيونية، المعارضة الأهم. فقد افتتح المناقشات حول هذه القوانين في الكنيست بإلقائه الخطاب التالي في 3 تموز / يوليو 1950:
"حضرة الرئيس، حضرات أعضاء الكنيست،
إن قانون العودة وقانون المواطنية المعروضين أمام حضراتكم مُرتبطان مع بعضهما ارتباطاً وثيقاً ولديهما مصدر أيديولوجي مشترك واحد وهو ينبع من الفرادة التاريخية لدولة إسرائيل، فرادة في العلاقات بالماضي والمستقبل، وفي العلاقات الخارجية والداخلية. ويحدد هذان القانونان الميزة والمهمة الخاصة لدولة إسرائيل بوصفها دولة تجسّد تخليص الشعب اليهودي مما يعانيه.
ودولة إسرائيل هي كبقية الدول الأخرى، كما أن كل المميزات والصفات الموجودة في دول أخرى موجودة في "دولة إسرائيل". فهي تشغل مقاطعة معينة يعيش فيها شعب، وتتميز بسيادة داخلية وخارجية، وقوانينها لا تتعدى حدودها، فقوانين "دولة إسرائيل" لا يمكن تطبيقها إلا على مواطنيها. وليس لدى يهود الشتات، الذين هم مواطنون في بلدانهم، أية علاقات شرعية ومدنية بإسرائيل التي بدورها لا تمثلهم في أي مضمون شرعي. إلا أن دولة إسرائيل تختلف عن الدول الأخرى في مجالات وجودها على قيد الحياة وفي الغاية من وجودها. ومع أنها قد تكون تمنذ سنتين فقط إلا أن جذورها ضاربة في أعماق الماضي، فهي تتغذى بمصادر قديمة. كما أن قوانينها مقتصرة على سكانها مع أن أبوابها مُشرّعة أمام كل يهودي أينما وُجد. وهي ليست مجرّد "دولة اليهود" لأن اليهود يشكلون فيها الغالبية العظمى من السكان، بل هي لليهود في كل مكان، ولكل يهودي يريد الهجرة اليها. ومن المستحيل إدراك بقاء "دولة اليهود" بدون إدراك المستوطنات الجديدة التي تمت إقامتها، خلال الأجيال الثلاثة المنصرمة من حياة حركة "احبّاء صهيون" والأدب العبري، والحركات الثورية الوطنية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وانبعاث المجر، وإيطاليا، ودول البلقان.
ويستحيل علينا تفهم انبعاث "دولة اليهود" بدون إدراك الشعب اليهودي ابتداءً من الأيام الأولى للهيكل، وانتهاء بتاريخ النبوة وتاريخ اليهود في الشتات.
وان انبعاث اسرائيل حدث لا يقتصر على مكانها وزمانها، فهو حدث عالمي، حدث عالمي يجسّد تطوراً تاريخياً كبيراً.
وعلى قوانين إسرائيل أن تتضمن دور إسرائيل في نظام القوى الدولية ومساهمتها في إعادة تكوين الانسانية. ومنذ بداية تأسيس "دولة اليهود" كان واضحاً أن هذا الأمر لا يهم اليهود داخل إسرائيل وإنما كل يهودي في أي مكان.
وليس من الغرابة إذا ما وردت في وثيقة إعلان قيام إسرائيل عبارات تُظهر الروابط ما بين الشعب اليهودي ووطنه القديم، وقد جاء في هذا الخصوص: "إن دولة إسرائيل ستفتح أبوابها أمام هجرة اليهود المتواجدين في جميع أنحاء العالم". وفي مكان آخر من وثيقة إعلان إسرائيل جاء نداء الى "جميع يهود العالم بأن يقفوا الى جانبنا في عمليتي الهجرة والبناء وفي كفاحنا من أجل تحقيق حلم الأجيال القاضي بتحرير إسرائيل".
فقانون العودة هو أحد القوانين الأساسية في "دولة اليهود" لأنه يجسّد الغرض الرئيسي في دولتنا، كما أنه يجمع اليهود في الشتات. ويختلف قانون العودة عن قوانين الهجرة التي تحدد الشروط التي بموجبها تقبل إسرائيل المهاجرين.
ومن حق كل يهودي، من زاوية تاريخية، العودة والاستقرار في إسرائيل سواء كان ذلك راجعاً الى كونه قد حُرم من حقوقه في المنفى أو لحماية وجوده، أو لأنه لا يستطيع أن يعيش الحياة اليهودية التي يطمح اليها، أو لأنه يحب تقاليده، القديمة والثقافة العبرية، والاستقلال اليهودي.
وإن قانون المواطنية يُكمّل قانون العودة، وهو ينص على أن أي يهودي، في الشتات، يعود الى وطنه، يتمّ منحه بطاقة المواطنية".