-
دخول

عرض كامل الموضوع : سوريا تتجه الى نظام "القفص المغلق"


عاشق من فلسطين
18/02/2005, 17:19
.. سوريا تتجه الى نظام "القفص المغلق" *
ميشال كيلو

أعتقد أنه صار من الضروري طرح بعض الاسئلة على المعارضة السياسية السورية، وطلب بعض الاجوبة منها، بعد اربعة اعوام ونصف العام من وعد الاصلاح، والتطورات التي عاشتها بلادنا، وتأكد خلالها عجز المعارضة السورية عن الخروج من دوائر ومربعات حشرها النظام فيها وحشرت نفسها، خلال السنوات الثلاثين الماضية، وبعد الحال التي آلت اليها اليوم، وهي لا تسر او تبهج من جوانب كثيرة.

في الاحتمالات

سأبدأ من سؤال كان قد طرحه مواطني الدكتور منذر بدر حلوم في مقالة مهمة عنوانها "الاوليغاركية السورية والاعداد لمرحلة الما بعد" نشرها قبل قرابة شهرين في جريدة "السفير" اللبنانية.

ماذا ينتظر بلادنا والى أين يذهب نظامها؟ وهو اليوم ما كانه بالامس: اللاعب الرئيس في بلادنا: سياسة واقتصاداً واجتماعاً... الذي قرر البارحة ويرجح أن يقرر غداً مصيرها، لا لشيء الا لغياب من يمكن أن ينافسه على هذا الدور، او يشاركه بهذا القدر او ذاك فيه، او بقول آخر: بسبب افتقار بلدنا الى معارضة فاعلة، متوطنة في المجتمع، متماسكة ومتكاملة الادوار والتنظيمات، واضحات في ما تريد، وفي سبل بلوغه، تمتلك خطة قصيرة الامد ومتوسطته، ناهيك عن مخطط استراتيجي حقيقي يغطي الفسحة الزمنية التي تفصل يومنا عن اليوم الذي ستحقق فيه أهدافها، بعد تبديل علاقات القوى الداخلية، والجو الدولي، لمصلحتها؟.

كي لا أطيل، أذكر بمقالة نشرتها قبل قرابة سبعة أعوام في جريدة "الحياة" اللندنية تحت عنوان "ديموقراطية القفص المغلق"، يلخصها ما يأتي:

اذا ما راقبنا تطور اميركا اللاتينية منذ أواسط القرن العشرين، وتطور مصر بعد كمب ديفيد، نجد أنفسنا امام نظام تابع، "مافيوزي" الممارسات والعقلية، يمثل تشكيلات طبقية تمتد من الطبقة الوسطى العليا الى بورجوازيات الدولة والسوق والخارج المتنوعة، ونظام سياسي تعددي يعبر عن حساسيات سياسية مختلفة، دينية ودنيوية، اتنية وثقافية، يستند الى جهاز أمن ضارب، محدث وموحد وقادر على احتواء أي حراك معارض او مجتمعي، فهو، اذن، نظام مستقر وقادر على التكيف مع السيطرة الاميركية ومع ما يطمح هو نفسه الى تحقيقه، بمفرده أم بالتفاهم مع الخارج.

هذا النظام يمتص الممانعات الداخلية من خلال فسحة داخلية حرة، يسمح للمعارضات أن تنشط فيها، دون أن يترتب على نشاطها أي تبدل في توازنات وعلاقات القوى الداخلية، توازنات السلطة وعلاقاتها بالمجتمع او بالاحزاب السياسية المعارضة، حتى كأن المعارضات تشبه سجيناً في قفص مغلق، يتحرك داخله طوال الوقت دون ان يتمكن من مغادرته او كسر قضبانه. هذا النظام ليس ديموقراطياً، لكنه نظام يتيح قدراً معقولاً من الحريات، بدءاً بحرية القول والتعبير وانتهاء بحرية التنظيم والاجتماع، والصحافة... الخ، وهو، كنظام، مستقبل البلدان العربية وخاصة سوريا، التي يبدو أنها تتجه اليه، لأنه خيار أميركي، ولأن نظامها الراهن لا يملك بدائل منه، ويستطيع بواسطته إخماد وامتصاص القلق والاعتراض الداخلي غير المنظم سياسياً ومجتمعياً، وتوسيع قاعدة السلطة السياسية – المجتمعية دون المس بطابعها الامني، بينما يحيّد المواطن عبر إعطائه فرصة التعبير الحر نسبياً عن نفسه في اطار شمولي، ويتيح للسلطة إجراء ما تريده من تغيير ضمن الامر القائم، فهو إذن افضل البدائل، لأنه أكثرها حفظاً للمصالح والتوازنات الراهنة، وقبولاً لدى الخارج، وقدرة على مقاومة أية ممانعة داخلية.

في نهاية تلك المقالة القديمة، استشهدت بحال المعارضة المصرية، التي تضم مجمل التيارات التي صنعت مصر الحديثة من ناصرية واسلامية وماركسية وليبرالية، لكنها لم تنجح، رغم تاريخيتها وأدوارها السياسية، في ايصال عدد من النواب الى البرلمان يوازي عدد من تهربوا من خدمة العلم، او طردوا من البرلمان بسبب تجارتهم بالمخدرات من اعضاء الحزب الوطني الديموقراطي، الذي أسسه أنور السادات ويديره بجدارة واقتدار رجل يكاد يكون غير سياسي اسمه حسني مبارك، بينما تعجز أحزاب هذه التيارات – عدا الاسلاميين – عن التوطن بفاعلية في الشارع المصري، وعن إحداث أي تحول جدي في علاقات القوى داخل البلد.

هل تذهب سوريا الى وضع كهذا او الى حال تشبهه؟ كم يتمنى المواطن من أمثالنا ان يسمع رأي المعارضة في هذا الموضوع المهم، فربما كانت لديها وجهة نظر اخرى تسوغ سياستها الحالية، التي لا أعرف كيف أصفها، لكنني لست مرتاحاً لها او قابلاً بها؟ أما اذا كانت المعارضة تفتقر الى تصور مغاير حول المستقبل، وتقر بأن هذا الذي شرحته مرجح الوقوع، فإنني اسألها عما فعلته لاستباق نتائجه وآثاره، وللخروج من دوائره المغلقة، التي ستضعها في قفص مغلق تتحرك فيه بالطريقة التي تريدها، دون أن يترتب على حركتها أي عائد سياسي، أو يحدث أي تبدل حقيقي في علاقات القوى وموازينها الداخلية بين المجتمع والسلطة القديمة/ الجديدة؟



في التجارب

تعرف المعارضة كيف تم احتواؤها في الحقبة السابقة، قبل غياب حافظ الاسد وبدء حديث الاصلاح. لقد حدث ذلك عبر تدابير معينة قامت على:

- التفريق بين مكوناتها، والتعامل معها على أساس تمييزي، يخاطب هذا الحزب بود مفتعل، بينما يسحق حزباً آخر او يبطل وجوده، ويلاحق مجموعة محدودة من حزب ثالث هي جهازه العصبي ومركز قيادته... الخ.

- رسم دوائر محددة لا يتخطاها العمل المعارض بمجموعه، بعد أن رفع شعار البديل الديموقراطي، لكن تطبيق الشعار والترويج له اختلف من حزب لآخر في درجة حدته والالحاح عليه ونوع قراءته. ولو شئنا اجراء تصنيف لقلنا إن حزب البعث الديموقراطي كان ممنوع الوجود، لذلك تم القضاء عليه، أما المكتب السياسي فكان هدفاً للسحق بدوره، لكنه تمكن من النجاة وإن بعدد قليل من كوادره واعضائه، وبقي حزباً قائماً في الساحة، بينما كان حزب العمال الثوري تحت العين الحمراء، ممنوعاً من اعادة تنظيم نفسه، وموضوعاً في مواجهة التفكك والتلاشي، وحزب الاتحاد الاشتراكي عرضة في بعض دوائره القيادية لهذه الاشكال جميعها، فضلاً عن محاولات استهدفت فتح قنوات حوار مع بعض قادته لتليين مواقفه.

- اخيراً، بدّل النظام تكتيكه بعد بلوغ احزاب المعارضة حداً من التآكل والضمور، ورسم تكتيكاً جديداً قام على تركها تحت العين واليد والسوط، مع الافادة من وجودها اعلامياً، وما تطلبه ذلك من وجود معين لبعض تمثيلاتها في الساحة، مع استمرار الضغط عليها كي تنتهج سياسات تراجعية، وتنطوي على ذاتها، وتمتنع عن تطوير بدائل حقيقية لاوضاعها. بذلك، لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم، كما يقول المثل الشعبي، ولا تغيب المعارضة تماماً أو تكون حاضرة بصورة جدية في أي وسط مجتمعي!

واليوم، وبعد مرور حوالى اربعة اعوام، هل اتخذت المعارضة التدابير وانتهجت السياسات، التي من شأنها تغيير الارضية السياسية العامة في البلد وتبديل هذه العلاقة مع السلطة والمجتمع، ومع نفسها؟ هل أفادت المعارضة من الفرص الداخلية والخارجية، التي أتاحها تبدل الوضعين الدولي والداخلي، او بالاصح أزمة النظام مع الخارج ومع ذاته كنظام تقادم خارجياً ووطنياً؟ أم أنها واصلت العمل بالطريقة القديمة، ولكن في دائرة مجتمعية وسياسية أوسع من الدائرة القديمة، الضيقة جداً، التي اعتادت العمل فيها والعيش؟ وهل المعارضة السياسية هي التي وسعت هذه الدائرة أم أن توسيعها عائد الى عوامل عديدة بعضها يرتبط بأزمة السلطة، وبعضها الآخر بحراك المجتمع المدني ونشاطه؟

اعتقد ان المعارضة ضيعت على نفسها فرصاً ثمينة هي:

1- فرصة تغيير طرق عملها وتوسيع دائرة نظرها وتطوير مناهجها التنظيمية والفكرية، بحيث يذهب عائد الحراك المجتمعي اليها. لم تفعل المعارضة هذا طوال السنوات الاربع الماضية، لأنها لم تكن مؤهلة لفعله، لذلك ضاع عليها عائده الذي كان يمكن ان يكون عظيماً من الوجهين الكمي والنوعي. واليوم، وبعد أن بدأ منذ أكثر من عام تراجع العمل المعارض، واصاب الوهن والتراخي العمل الديموقراطي وفصائله، حل الانكفاء عن العمل العام من جديد محل الانخراط فيه، ودخل الحراك السياسي والمدني في طور من الركود والسكون، وظهر أن المعارضة السياسية – وخاصة منها الحزبية – لم تفهم ما حدث في العالم وبلادها، او انها فهمته بصورة ناقصة، في حين حالت امكاناتها الفكرية والتنظيمية بينها وبين تحويله الى رافعة تزحزح بواسطتها التوازنات التي كانت قائمة في السنوات العشرة الاخيرة. ومن يراجع وثائقها المشتركة، يجدها بسيطة ومحكومة بالنظرة التي بلورتها في ظل النظام السابق، ويدهش للتكرارية في لغتها وطرحها، ولانعدام الخيال في موضوعاتها وصيغها.

-2 فرصة توسيع دائرة تحالفاتها، وخاصة مع مضطهدي المجتمع السوري، وبالاخص منهم الاكراد والاخوان المسلمين، الذين أجروا تغييراً مهماً، بل ثورياً، في نهجهم، لا نجد مثيلاً له لدى الاحزاب الاخرى، ويبدو أنهم كانوا أكثر فصائل العمل المعارض مرونة وقدرة على الاستجابة للمتغيرات وفهماً لها.

-3 فرصة التعرف على المجتمع السوري، والانتقال من سياسة مركزها الموقف من السلطة الى سياسة مركزها المجتمع والدولة والسلطة والفرد، ترسمها في ضوء ملفات تجرد الواقع السوري في تفاصيله الدقيقة ووقائعه الحقيقية، وتمكنها من تحقيق اختراق ضروري في علاقاتها مع الواقع، ومع الثقافة والمثقفين، القوة الجديدة، التي شعرت المعارضة الديموقراطية بالضيق، حين رأتها تتحمل مسؤولياتها المستقلة في العمل العام، مع أنها أفادت من بعض أنشطتها، ثم رأت فيها قوة غير منظمة – غير حزبية – وقصّرت في التعامل معها، ومالت الى تجاهل مشكلاتها، كأنها ليست جزءاً من القوى الديموقراطية، أو كأن دورها وحضورها في الشأن العام غير مرغوب فيه. لا تعرف المعارضة اليوم مجتمعاً سورياً أكثر مما كانت تعرفه قبل عشرين سنة، ولا تتجاوز معرفتها المحدودة للواقع ولمشكلاته العموميات، التي كثيراً ما تكون مضللة، وهي لا تعي ضرورة المعرفة الجديدة، بل تعتقد ان شعاراتها وعمومياتها تحيط بكل شيء وتشرح كل شيء.

-4 هل أضيف أن المعارضة، ممثلة اساساً في المجتمع الوطني الديموقراطي، لم تعِ ضرورة توسيع هامش حركتها الدولية، انطلاقاً من جوامع مشتركة تتقاسمها مع العالم الساعي الى حماية حقوق الانسان، واقامة نظم سياسية عربية جديدة على مبدأ الحرية والديموقراطية، ولم تبذل أي جهد حقيقي في هذا الاتجاه، بل سجنت نفسها في فكرة شديدة السطحية عن علاقة الداخل بالخارج في عالم تتداخل فيه المواقف والمصالح، كما يؤكد نشاط السلطة ذاتها؟ إن ضعف المعارضة وعجزها عن التفاعل مع التحولات الدولية لعب دوراً جدياً في جعل الدول الاوروبية تتراجع عن أولوياتها في سوريا وتوقع اتفاقية شراكة مع النظام القائم لا تستند على الحرية وحقوق الانسان والديموقراطية؟ صحيح ان البديل الديموقراطي ضعيف في سوريا، لكن مشكلة المعارضة لا تكمن هنا، بل ترجع اساساً الى عجزها عن الخروج من ضعفها الذاتي، الذي يتجلى على الصعيد الفكري/ المعرفي أكثر مما يظهر على أي صعيد آخر. وهنا المشكلة الخطيرة، التي لم تعالج بأي قدر من الجدية الى اليوم، حتى في البرنامج الجديد للمكتب السياسي.



والنتيجة

بعد فترة من الحيرة، بحث النظام خلالها عن ضمانة خارجية تكفل استمراره، وجعلها شرطاً لقيامه بأي تغيير داخلي، يبدو ان الممسكين بالسلطة في سوريا غيروا في الآونة الاخيرة أولوياتهم وبدأوا في تنفيذ نمط من التغيير سيفضي الى نظام "القفص المغلق"، الذي وصفته في بداية هذه المقالة، ويعتقدون أن الخارج سيضمنه حتماً، وانه سيتكفل وحده بإدامة الامر القائم، وإن في صيغ معدلة بهذا القدر او ذاك.

هذا التطور له معان كثيرة ومهمة، منها اولاً: أن سوريا بدأت سيرها الجدي نحو حقبة مختلفة، ستغير الحاضنة الوطنية العامة للنظام وللمعارضة. وفي حين يعرف الاول ما يريد، تبدو الثانية عاجزة عن تجديد خياراتها وتكرر مطالب تتحول أكثر فأكثر الى ضرب من أخلاقيات مدنية دون فاعلية سياسية، او أن فاعليتها المحدودة تتهتك وتتراجع، بينما تستمر الاطر التنظيمية والفكرية، التي كانت لها خلال ربع القرن الماضي، رغم أنها بحاجة الى تجديد جدي يضفي، اخيراً، طابعاً ديموقراطياً على أحزاب تطالب النظام بالديموقراطية.

ومنها ثانياً ان البلد سيواجه خلال اعوام قليلة نظاماً يختلف عن نظامه الراهن، الذي ألفت المعارضة التعاطي مع جوانب محدودة منه؛ نظام أثبت فاعليته في مناطق اخرى كثيرة من العالم منها مصر، يتمتع بغطاء خارجي محكم، وبمران داخلي تتيحه تشكيلة جديدة تمكنه من التكيف مع ما يتطلبه الوضع الاجتماعي ووضع الدولة من تبديل وتجديد.

ومنها ثالثاً ان العالم لن يقف كثيراً عند مطلب ديموقراطي حملته ضعفاء، تتراجع قدراتهم حتى لا يكاد يشعر بهم أحد، رغم أن فيهم رموزاً وطنية مهمة بكل المعايير الوطنية والقومية والدولية.

هل ستبقى المعارضة حيث هي، فينتقل النظام من اسلوب في احتجازها جربه بنجاح بين 1980 و2000، الى اسلوب آخر، جديد وفاعل، جربته مصر ببراعة خلال السنوات العشرين الماضية، أثبت جدواه وجدارته بدوره؟ أم تقرر، اخيراً، اعادة انتاج نفسها في إطار وطني جديد، يبدلها ويخلصها من حقبة جمدت نموها في الماضي، وستحولها من الآن فصاعداً الى تكوين سيجعل منها، في أحسن الاحوال، كاريكاتور معارضة، وعقبة في وجه الانتقال الى الديموقراطية؟



كاتب سوري