-
دخول

عرض كامل الموضوع : صلاة في عشر كلمات


fr.samir
27/11/2003, 20:44
صلاة في عشر كلمات
(( الصلاة الربيّة ))
مقدمة: "أبانا الذي في السماوات…" هي صلاة يسوع إلى أبيه، هي صلاة التلاميذ، هي صلاة الجماعة الأولى في الكنيسة، وهي أخيراً ولكن أولاً صلاة الكنيسة كلها على مدى الأجيال.
تأتي الصلاة الربّية، بحسب متى، في القسم الثاني من إنجيله، بعد عظة التطويبات وبعد التحريض على الصدقة ومحبة القريب. أراد يسوع أن يعلّم تلاميذه حقيقة الصلاة، "لا كالمرائين الذين يحبّون الصلاة قائمين في المجامع وملتقى الشوارع ليراهم الناس"، ولا كصلاة الوثنين الذين يكثرون الكلام والثرثرة، بل علّمهم أن يصلوا ضمن المخادع وفي الخفية أمام أبيهم السماوي فقط.
هناك قرابة بين "أبانا الذي في السماوات…" التي علّمها يسوع لتلاميذه، وصلوات اليهودي المتديّن، لكنها تختلف عن هذه الأخيرة ببساطتها، وبحريّة "أبناء الله" بالإضافة إلى أن ترتيب الطلبات في "الأبانا" يميز تعليم يسوع عمّا سبقه من تعاليم.
تبتدىء الصلاة بثلاث طلبات ملحّة لمجيء ملكوت الله وإحلاله على الأرض قبل أي طلب، ثم تأتي سلسلة الطلبات المعبّرة عن حاجات التلاميذ ـ وفي ما بعد عن حاجات كل المصلّين، وأخيراً صيغة جمع المتكلّم "نا" علامة توحيد المؤمنين في جماعة واحدة.
وردت الصلاة الربيّة عند متى وعند لوقا بصيغتين مختلفتين، وذلك كما كانت تُتلى في كنيسة كل منهما ومحيطه: كنيسة فلسطين وما يجاورها في عالم يهودي، هي كنيسة متى، وكنيسة أنطاكية وما يجاورها في عالم وثني، هي كنيسة لوقا. هكذا أدرجها كل في إطاره وأسلوبه الخاص.
1) مجيء الملكوت (متى 6: 9-10)
"أبانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض".
1/أ ـ "أبانا الذي في السماوات"
في القسم الأول من الآية 9، يعلّم يسوع تلاميذه أن يدعوا الله أباهم. فقد كشف هو أبوّته لشعبه المختار في العهد القديم، فحرّره من العبودية وسمّاه "ابنه البكر" (خر 4: 2)، وجعله شعبه الخاص حين أقام معه عهداً مؤبّداً، وكان يجدد معه دائماً هذا العهد ويذكره بأبوّته له حتى ولو خانه أو نسيه وعبد الأصنام. أظهر أبوّته له في المنفى، فلم يتركه يهلك.
والمسيح، مكمل التوراة، علّم تلاميذه أن يخاطبوا أباهم وهو واحد: "لا تدعوا أحداً أباً لكم في الأرض لأن لكم أباً واحد هو الآب السماوي" (متى 13: 9). والصفة "السماوي" ـ أسلوب سامي ـ لا تهدف إلى تحديد مكان الآب، بل إلى التأكيد في وقت واحد أن الله ملك الأرض كلها بما فيها الجلد والكواكب وكل ما فيها، وأنه بحبه الأبوي قريب من البشر، فهو إذاً أبونا.
عاش يسوع على الأرض متحداً بأبيه السماوي: "أحمدك يا أبت، رب السماء والأرض" (متى 11: 25). وكان يخاطبه ببساطة الابن لأبيه، وعلّم تلاميذه أن يقتربوا إليه: فهو " أبي وأبوكم": "أنا صاعد إلى أبي وأبيكم" (يو 20: 17). أشرك يسوع تلاميذه في حياة الثالوث: الآب تبنّانا، والابن خلّصنا والروح يعمل فينا. فتصبح حالتنا بهذا الاتحاد استباقاً للحياة الأخرى أي الاسكاتولوجية.
في الطلبة الأولى علّم يسوع تلاميذه أن يعظموا اسم الله ويبجّلوه ويمدحوه، أي أن يقرّوا بحضور الملكوت فيه. واسم الله في العهد القديم "يهوه" هو رمز. وحيث أعلن الله: "أنا هو من هو" (خر 3: 14)، لم يكشف عمّا هو في ذاته، بل أشار إلى سر كيانه الذي لا يُدرك. لقد كشف عن نفسه بحضوره الفاعل الخلاصي، فعرّف عن ذاته عبر حبّه: "فتعرفون أني أنا الرب".
في العهد الجديد كشف عن ذاته، كما هو، ثالوثاً متحداُ بالبشر. هو أب، وهو يجعلنا أبناءه الأخصاء. وهكذا يصبح عمله الخلاصي عمل تقديس وعمل تأليه للإنسان.
1/ب ـ "ليتقدّس اسمك"
هذه الدعوة لتقديس اسم الله واردة في الصلاة اليهودية التي تُتلى كل يوم وتدعى "قديش".
اسم الله لفظ كتابي مألوف يدلّ بإجلال على كيانه، ولا سيما في النصوص الطقسية. والعبارة "قدس الله" لا تعني أنه يضاف شيء إلى قداسته، بل تدل على أن الإنسان يعترف بسمو الله وقداسته، ويمجّد اسمه كما جاء في يوحنا: "يا أبتاه مجد اسمك" (يو 12: 28).
عرف الكتاب المقدس خاصة العهد القديم طريقتين لتقديس أو تمجيد الله:
أولاً: يدعوا علماء التوراة، في الإشارات التي يلقونها على المؤمنين، إلى تقديس الله بطاعة وصاياه والاعتراف بسلطته عليهم، والأمثال على ذلك كثيرة منها: (اح 22: 32) و(عد 27: 14). ولأن موسى لم يقدس اسم الرب هو وأخوه هارون، قاصصه الرب وحرمه من الدخول إلى أرض الميعاد: "لأنكما خالفتماني في وسط إسرائيل..، ولم تقدساني في وسط إسرائيل، فإنك ترى عن بعد تلك الأرض التي أعطيت لبني إسرائيل، ولكنك لا تدخلها" (تث 32: 51-52).
ثانياً: يعلن الأنبياء، في أقوالهم عن الخلاص الآتي، أن الله سيكشف عن قداسته بظهوره كالديان العادل والمخلّص لجميع الأمم كما جاء في أشعيا: "ويتعالى رب القوات بالقضاء، ويتقدس الإله القدوس" (أش 5: 16). هكذا عند حزقيال: "أرضى عنكم برائحة رضى، إذا أخرجكم من بين الشعوب، وأجمعكم من الأرض التي شتتكم فيها، وأتقدس فيكم على عيون الأمم" (حز 20: 41). فتقديس اسم الله يتماشى مع مجيء الملكوت الذي بدأه المسيح بتجسّده ونشره بين البشر.
في العهد الجديد يتحقق فيض القداسة الإلهية بواسطة المسيح وبحضور الروح الدائم فينا ليكرّسنا كهيكل لله. ويقودنا إلى ثمار القداسة التي بها يتمجد الآب: "ليروا أعمالكم الصالحة، ويمجدوا أباكم الذي في السماء" (متى 5: 16). هكذا تبني الكنيسة شعب الله الجديد والنسل المقدس: "وأنتم أيضاً شأن الحجارة الحية، تبنون بيتاً روحياً، فتكونون جماعة روحية كهنوتية مقدسة" (1بط 2: 5). وليتورجيا الكنيسة على الأرض تعلن بلا انقطاع قداسة الله مدى الدهر، حتى تضم تمجيدها إلى ليتورجيا السماء التي تسبح الله وتقدسه مدى الأبدية: "لا تنفك تقول نهاراً وليلاً: قدوس قدوس قدوس الرب الإله القدير الذي كان وهو كائن وسيأتي" (رؤ 4: 8).
1/ج ـ "ليأتِ ملكوتك"
يتمحور إنجيل متى حول الملكوت: تقع "الأبانا" في القسم الثاني من إعلان الملكوت: منذ بداية إنجيله، وقبل أي عمل للمسيح، يركز متى على إحلال هذا الملكوت على الأرض وبين بني البشر. فيهود التوراة ينتظرون مسيحاً يأتيهم ملكاً زمنياً. جاء يسوع وقلب المقاييس، فالملكوت الذي يبشر به ويحمله إلى البشر هو امتداد ملك الله السماوي. يحمل كل خيرات السماوات ووفرة السعادة، ويزرع السلام في القلوب. مع المسيح " تمّ ملء الزمن واقترب الملكوت" (مر 1: 15). تبيّن كتب العهد الجديد كلها بوضوح أن كل أعمال يسوع وأقواله، لا بل حياته بكاملها، وبالأخص موته على الصليب وقيامته من القبر، تتمحور حول إعلان ملكوت الله وتحقيقه بين البشر. ملكوت الله هو تلك الحقبة من التاريخ التي قرر الله فيها أن يحرر الإنسان من سيطرة الشر والخطيئة. يسوع المسيح، ابن الله الصائر إنساناً هو المكلّف، من قبل الله أبيه، أن ينفذ هذا القرار. فمن الطبيعي أن تكون حياة يسوع وتبشيره، خاصة موته وقيامته، تحقيقاً لهذا الملكوت، فهو كالخميرة في العجين ، وينمو ويكبر كحبة الخردل، على أن يصل بنا إلى يوم حلول الملكوت النهائي.
1/د ـ "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض"
أتمّ يسوع مشيئة أبيه في بستان الزيتون وعلى الجلجلة: "لتكن مشيئتك" (متى 26: 42). صلاة يسوع الأخيرة ورغبته ـ
الشديدة كانت أن يتمّ مشيئة أبيه وفق تخطيطه الخلاصي الذي بدأه هو بذاته وسلّمه إلى تلاميذه ليكملوه ويثبتوه في الكنيسة.
الله ملك السماء والأرض، يفعل من يشاء. هو يرفع مَن يشاء ويَحطّ مَن يشاء (طو 4: 19). وهكذا لا يستطيع أحد أن يقاوم إرادته: "فهو اختارنا منذ إنشاء العالم…على حسب مرضاة مشيئته، فيه نلنا الفداء… وقد أراد أن يعرفنا إلى سرّ مشيئته…" (اف 1: 3-10).
نحن على يقين أنّ قصد الله بدأ يتمّ منذ الآن، غير أنّ الله ينتظر جوابنا المحب ليتمّ قصده. يريدنا قديسين وأعضاء ملكوته. عندما نطلب أن تتم مشيئته الخلاصية، نحاول أن نتوافق مع هذه المشيئة في الصلاة والطاعة. أما المثال الأعلى عن هذه الطاعة والصلاة فنجده في يسوع ابن الله، عبد يهوه، والطائع الكامل… ففي الجسمانية، ليلة آلامه، كانت الساعة الحاسمة لتاريخ الخلاص، تلا يسوع صلاة سلّم بها ذاته كليّاً لأبيه: " إذا لم يمكن، أبتِ، أن تعبر عني هذه الكأس، وإلاّ أشربها، فلتكن مشيئتك" (متى 26: 42). على الصليب جعل إرادته تطابق إرادة أبيه الذي طلب منه الطاعة حتى الموت، موت على الصليب. والمسيحي يتقدّس بطاعة يسوع وإرادته الموافقة لإرادة الآب إذا جعلنا، بدورنا، إرادة الله إرادتنا، وإذا دخلنا بمحبة في طاعة ابن الله يسوع المسيح.
في العبارة "كما في السماء كذلك على الأرض"، نتمنّى أن يأتي على الأرض الملكوت الذي في السماوات حيث الله مع قديسيه الذين تقدسوا هنا وتمتعوا معه هناك، كما جاء في المزمور: "عرش الرب ثابت في السماء، ملكوته يسود على الجميع. باركوا الرب يا ملائكته أيها المقتدرون… باركوا الرب يا جميع خدامه العاملين ما يرضيه" (مز 103: 19) تختم عبارة "كما في السماء" القسم الأول الذي ابتدأ بـ " السماوات". هكذا تتركز الصلاة الربّية على الملكوت ومجيئه في العالم، في الكون، في حياتنا، في قلوبنا وفي إحلال السماء على الأرض.