-
دخول

عرض كامل الموضوع : قصة مترجمة:كيف أُنْقِذ وانج فو؟.


dot
31/05/2006, 16:16
:hart: :hart: :hart: للأديبة الفرنسية: مارجريت يورسنار
ترجمة : محمد سيف :hart: :hart: :hart:

راح الرسام العجوز وانج فو وتلميذه لينج يذرعان شوارع مملكة هان.

كانا يتقدمان ببطء, لأن وانج فو يقضي الليل بطوله في تأمل النجوم, والنهار في النظر لليعسوبات. وكانا محملين, فوانج فو الذي يحب صور الأشياء, وليس الأشياء نفسها, لم يجد شيئا جديرا بالامتلاك في العالم, سوى فرش الرسم وعلب الصمغ والأحبار الصينية, ولفائف الحرير وورق الأرز. كما كانا فقيرين, لأن وانج ـ فو يقايض رسومه بحصص من الأذرة المغلية ويزدري النقود. كان تلميذه لينج منثنيا تحت ثقل حقيبة مليئة بتخطيطات الرسوم, حانيا ظهره باحترام كما لو أنه يحمل قبة سماوية, لأن هذه الحقيبة, في نظر لينج, كانت تحوي الجبال المغطاة بالجليد, والأنهار الربيعية, وطلعة قمر الصيف.

لم يولد لينج لكي يذرع الطرقات إلى جوار رجل عجوز يستولي عليه في الفجر ويظل أسيره في الغسق. فقد كان والده يعمل في مقايضة الذهب, وكانت أمه هي الطفلة الوحيدة لتاجر أحجار كريمة حرمها من ممتلكاته لاعنا إياها لأنها لم تكن ولدا. وكبر لينج في بيت حجب الثراء عنه صروف الدهر. وجعل منه هذا الوجود الملبد على نحو حساس خجولا, فكان يخاف الحشرات, والرعد ووجوه الموتى. وعندما بلغ الخامسة عشرة, انتقى له أبوه زوجة تخيرها جميلة جدا, لأن فكرة حسن الطالع التي بذل كل جهده ليضمنها لابنه ظلت تغريه لبقية عمره. وكانت زوجة لينج نحيلة كعود من البوص, صبوحة كاللبن الحليب, حلوة كالرضاب, مالحة كالدموع, وبعد الزواج قضى والداه نحبهما, وظل الابن وحيدا بالمنزل المطلي باللون القرمزي, في صحبة زوجته الشابة, التي كانت تبتسم بلا انقطاع, وشجرة خوخ كانت كل ربيع تزهر وردا أحمر. وأحب لينج هذه المرأة بقلب صاف كما يحب المرء مرآة دائمة اللمعان, وتميمة للحياة الدائمة. وكان يرتاد بيوت الشاي ليكون معاصرا للموضة ويشجع باعتدال لاعبي الأكروبات والراقصات.

ذات ليلة, في حانة, التقى بوانج ـ فو كرفيق على منضدته. وكان الرجل العجوز قد سكر لكي يعيش حالة تساعده على رسم شخص سكير, كان رأسه محنيا إلى جانب, كما لو أنه يجهد نفسه لقياس البعد الذي يفصل يده عن كأسه. وأفلتت خمر الأرز لسان هذا الفنان الصموت, فتحدث وانج, في ذلك المساء, كما لو كان الصمت حائطا, والكلمات ألوانا قدر لها أن تغطيه. وبفضله, عرف لينج جمال وجوه الندماء التي يسبح حولها دخان الشراب الساخن, والرونق الداكن لقطع اللحم المشوية على ألسنة النار, واللون الوردي الشهي لبقع النبيذ المنتشرة على المفارش كالتويجات الذابلة. واندفعت هبة ريح عبر النافذة, فتدفق المطر لداخل الحجرة. وراح وانج ـ فو يعبر للينج عن إعجابه بالخط الأشهب للبرق, فكف لينج, المبهور, عن خوفه من الرعد.دفع لينج حساب الرسام العجوز, ولأن وانج ـ فو لا مال لديه ولابيت, عرض عليه بأدب أن يؤويه. ومضيا على الطريق معا, كان لينج يمسك مصباحا, عكس وميضه على البرك أضواء مفاجئة. في ذلك المساء, دهش لينج بمعرفة أن حوائط بيته لم تكن حمراء, كما اعتقد في السابق, وإنما ذات لون برتقالي أكل الدهر عليه وشرب. وفي فناء المنزل, لاحظ وانج ـ فو التكوين الدقيق لجذع, لم يكن قد جذب انتباه أحد إلى ذلك الحين, وقارنه بامرأة شابة ترخي شعرها ليجف. وفي الممشى, راح يتتبع بجذل المسيرة المتأرجحة لنملة على طول شق بالسور, فتلاشى كره لينج لهذه الدواب الصغيرة. عندئذ, ولإدراكه بأن وانج ـ فو أهداه روحا وأحاسيس جديدة, دعا لينج العجوز باحترام ليرقد في الغرفة التي مات فيها والده.

منذ سنوات, كان وانج ـ فو يحلم بعمل صورة نصفية لأميرة من الزمن القديم تعزف على العود تحت شجرة صفصاف. ولم تكن هناك امرأة تعطي انطباعا لاواقعيا كافيا كي تصلح نموذجا له, لكن لينج تمكن من أن يكون ذلك النموذج, بما أنه لم يكن امرأة. ثم تحدث وانج ـ فو عن صورة لأمير شاب يشد القوس تحت شجرة أرز كبيرة. ولم يكن هناك أي شاب في ذلك الزمن يعطي انطباعا كافيا باللاواقعية تجعله يصلح نموذجا. لكن لينج عرض زوجته تحت شجرة البرقوق في الحديقة. فرسمها وانج ـ فو في زي عفريتي بين سحب الغروب, وبكت المرأة الشابة, كون ذلك كان يمثل بالنسبة لها نذير الموت. وما إن أثنى لينج على الصور النصفية التي رسمها لها وانج ـ فو حتى ذبل وجهها, كوردة تعرضت لريح ساخنة أو تعرضت لمطر الصيف. وذات صباح وجدت مشنوقة على أفرع شجرة البرقوق الحمراء, وكانت أطراف اللفاع الذي اختنقت به تتموج مختلطة بضفائرها, فبدت أكثر رهافة من المعتاد, نقية كالجميلات اللاتي خلدهن شعراء الزمن الماضي. ورسمها وانج ـ فو مرة أخيرة, فقد كان يحب هذه السحنة الخضراء التي تكسو وجوه الموتى. وسحق له تلميذه لينج الألوان, وتطلبت هذه المهمة قدرا من المثابرة, لأنه نسي أن يخلطها بالدموع.

وباع لينج عبيده, ثم باع طرفه وبعد ذلك باع أسماك النافورة لكي يزود الأستاذ بعلب الحبر القرمزي المستوردة من الغرب. وعندما لم يعد هناك شي بالمنزل ليباع, تركاه, وأغلق لينج من ورائه باب ماضيه. وكان وانج ـ فو قد أصابه التعب من تلك المدينة التي لم تعد الوجوه فيها تسر له بأي سر للقبح أو للجمال, وراح الأستاذ والتلميذ يتسكعان معا على طرق مملكة هان.

كانت شهرتهما تسبقهما إلى القرى, ومداخل القصور والقلاع ودهاليز المعابد التي يأوي إليها المسافرون عند الغسق. ويمكن القول إن وانج ـ فو كانت لديه القدرة على إسباغ الحياة على رسومات وجوههم بلمسة أخيرة ملونة يضفيها إلى الأعين. كان المزارعون يأتون إليه ضارعين أن يرسم لهم كلب حراسة, كما كان السادة يطلبون منه صورا لهم في زي الجنود. وأسبغ الرهبان عليه شرف الحكمة, وكان الناس من عامة الشعب يخشونه كما لو أنه كان ساحرا. وقد أسعدت وانج هذه الآراء المختلفة التي سمحت له بأن يدرس من حوله تعبيرات العرفان, والخوف, والاحترام.

وراح لينج يتسول الطعام, ويسهر على راحة الأستاذ أثناء نومه ويتحين لحظات نشوته لكي يدلك له قدميه. وعند بزوغ النهار, أثناء نوم العجوز, كان يذهب لكي يتصيد المناظر الطبيعية الخجول وراء باقات الزهور. وبالمساء, عندما كان الأستاذ المحبط يلقي بفرش ألوانه على الأرض, كان يجمعها وينظمها. وعندما كانت تصيب وانج نوبات الحزن ويتحدث عن تقدمه في السن, كان لينج يبتسم وهو يشير له إلى الجذع القوي لشجرة صندل عجوز, وعندما كانت تنتابه حالات السعادة ويبدأ المزاح, كان لينج يبدي أدبا شديدا وهو يستمع إليه.

ذات يوم, عند غروب الشمس, وصلا إلى ضاحية من ضواحي المدينة الإمبراطورية, وبحث لينج عن نزل يمضي فيه وانج ـ فو ليلته. وبينما راح العجوز يتغطى بمزقه, رقد لينج ملتصقا به لكي يدفئه, لأن الربيع كان قد حل بالكاد, ومازالت الأرض الطينية بعد متجمدة. عند الفجر سمعت أصوات أقدام ثقيلة تدب في ممشى النزل, وتعالت الهمسات الخائفة لصاحب الفندق, والصيحات الآمرة بلغة بربرية. وارتعد لينج, وهو يتذكر أنه سرق في المساء كعكة أرز من أجل وجبة الأستاذ. ولم يكن هناك شك في أنهم جاءوا لاعتقاله, وتساءل عمن سيقوم غدا بمساعدة وانج ـ فو على عبور مخاضة النهر المقبل.ودخل جنود الشرطة بالمصابيح. ونفذت أضواء الشعل من الورق المزركش ملقية انعكاسات حمراء أو زرقاء على خوذاتهم الجلدية. وراح حبل قوس يهتز فوق أكتافهم. وانبعثت من أشرس واحد فيهم فجأة أصوات زمجرة بلا سبب. ووضعوا أيديهم بعنف على رقبة وانج ـ فو, الذي لم يتمكن من منع نفسه من ملاحظة أكمامهم لم تكن متلائمة مع لون معاطفهم.

ومستندا إلى تلميذه, تبع وانج ـ فو الجند وهو يترنح على طول الطرق غير المستوية. وراح العابرون المحتشدون يتهكمون من هذين المجرمين المقتادين بغير شك لتقطع أعناقهما. وكان الجنود يجيبون عن كل سؤال لوانج بتقطيبة وحشية. ونظر لينج اليائس لأستاذه مبتسما, بينما كانت أيديهما المقيدة تعاني من شدة القيد, وكانت تلك بالنسبة له طريقة أكثر رقة من البكاء.

ثم وصلوا إلى عتبة القصر الإمبراطوري, الذي انتصبت أسواره البنفسجية في وضح النهار كهدب طويل من أهداب الغسق. وعبر الجنود بوانج ـ فو قاعات مربعة أو دائرية لاتحصى رمزت أشكالها للفصول, وللجهات الأصلية, وللذكر والأنثى, ولطول العمر, ولامتيازات السلطة. كانت الأبواب تدور حول نفسها مقلدة نوتة موسيقية, وكان تنسيقها محكما متشابها إذا ما ذرعت القصر من الشرق إلى الغرب. كان كل شيء في تناغمه يشي بجبروت ودقة فوق بشرية, ويعطي الشعور بأن الأوامر التي يتم النطق بها هنا نهائية ومرعبة كحكمة الأجداد. ثم تخلخل الهواء, أخيرا, وصار الصمت عميقا بحيث لايمكن حتى لشخص يجري تعذيبه أن يجرؤ على الصياح, ورفع أحد الخصيان ستارة, وارتعد الجنود كالنساء, ودخل الجمع الصغير القاعة التي يجلس فيها على العرش ابن السماء.

كانت قاعة تخلو من الجدران, تستند إلى دعائم من أعمدة سميكة من الحجر الأزرق, وكانت بها حديقة مزهرة على الناحية الأخرى من الأعمدة المرمرية, وكانت كل زهرة من الزهور في غياضها تنتمي لنوع نادر جيء به مما وراء الميحط. ولكن لم تكن تصدر عن أي منها رائحة, خوفا من أن تثير روائحها بلبلة للإمبراطور أثناء تأملاته. واحتراما للصمت الذي تسبح فيه أفكاره, لم يسمح لأي عصفور بالوجود داخل هذا النطاق, الذي تم اصطياد النحل منه لمنع أزيزه. وقام حائط ضخم بفصل الحديقة عن بقية العالم, حتى لايسمح للريح, التي تمر في الخارج بالكلاب النافقة وجثث ميادين المعارك, من أن تمس أكمام الإمبراطور.

كان الإمبراطور جالسا على عرش من حجر اليشب, وكانت يداه متغضنتين كيدي رجل عجوز, في حين أنه لم يكن قد بلغ العشرين من العمر بالكاد. كان ثوبه أزرق ليصور الشتاء, وأخضر ليذكر بالربيع, ووجهه جميلا, لكنه هادئ كمرآة وضعت في مكان شديد العلو حتى لاتنعكس عليها سوى صور الأفلاك والسماء الزرقاء. وقد وقف إلى يمينه وزيره المختص بشئون المتع الكاملة, وإلى يساره مستشاره لشئون الأعاصير المحكمة. أما محظياته, فقد اصطففن إلى جوار الأعمدة, يرهفن السمع لكي يستقبلن أية كلمة تخرج من شفتيه, فقد تعود دائما الحديث بصوت خفيض.

ـ أيها التنين السماوي المقدس, قال وانج ـ فو وهو يخر ساجدا, إنني عجوز, وفقير, وضعيف. أنت كالصيف, وأنا كالشتاء. وأنت لك ألف حياة, وليس لي إلا واحدة, في طريقها للزوال. ماذا فعلت لك? لقد أوثقوا يدي, اللتين لم تتسببا لك أبدا في أي ضرر.

ـ أتسألني ماذا فعلت لي, أيها العجوز وانج ـ فو? قال الإمبراطور.

كان صوته شجيا لدرجة إثارة الرغبة في البكاء. وقد رفع يده اليمنى, التي أظهرها انعكاس بلاط اليشب خضراء كطفيليات أعماق البحر, فانبهر وانج ـ فو من رهافة وطول أصابعه, وراح يبحث في ذاكرته إذ لم يكن قد رسم للإمبراطور, أو لأي من أولاده, صورة حقيرة يستحق الموت عقابا عليها. لكن ذلك كان احتمالا مستبعدا, لأن وانج ـ فو لم يكن إلى هذه اللحظة قد تردد على بلاط الإمبراطور إلا فيما ندر, فقد كان يفضل أكواخ المزارعين, وضواحي المحظيات بالمدن, وبارات الأرصفة التي يتشاجر فيها الحمالون.

dot
31/05/2006, 16:17
ـ أنت تسألني ماذا فعلت لي, أيها العجوز وانج ـ فو? عاود الإمبراطور وهو يحني عنقه النحيل باتجاه الرجل العجوز الذي أرهف السمع إليه. سأقول لك. ولكن, وكما أن سم الآخرين لايمكنه التسلل فينا إلا عبر فتحاتنا التسعة, ولكي أضعك أمام أخطائك, علي أن أجعلك تذرع ممرات ذاكرتي, وأن أقص عليك حياتي. لقد جمع أبي مجموعة من لوحاتك في أكثر الغرف سرية بالقصر, فقد رأى ضرورة أن تنأى الشخوص المرسومة بها عن نظر الجهلاء, وألا تظهر إلا لمن لا يستطيعون خفض أعينهم عنها. وفي هذه القاعة, أيها العجوز وانج ـ فو, نشأت أنا, وقد نظمت هذه اللوحات من حولي الوحدة التي مكنتني من أن أكبر. ولتجنب أن يتلطخ نموي بتلوث الأنفس البشرية, أبعد عني الحفيف الذي يثيره أتباعي المقبلون, ولم يسمح لشخص بالمرور أمام العتبة, خوفا من أن يصل ظل هذا الرجل أو تلك المرأة لعندي. فحتى القليل من الكهول الذين سخروا لخدمتي لم يخالطوني إلا في حدود الضرورات القصوى, ودارت الساعات دورتها, وكانت ألوان رسوماتك تشتعل مع الفجر, وتشحب مع الغسق. وبالمساء, عندما كان يمتنع علي النوم, كنت أنظر إليها. لعشر سنوات تقريبا, ظللت أحدق فيها كل ليلة. وبالنهار, وأنا جالس على بساط أحفظ تصميمه عن ظهر قلب, واضعا راحتي المبسوطتين على ركبتين من الحرير الأصفر, كنت أحلم بالفرح الذي سيأتي لي به المستقبل. وكنت أمثل العالم لنفسي, وبلاد هان في منتصفه, بما يشبه السهل المستوي المحفورة فيه باليد الخطوط المقدرة للأنهار الخمسة. وكل شيء حولها. البحر الذي تولد فيه الوحوش الخرافية, ووراءه بعض الشيء, الجبال التي تقيم السماء. ولكي أتمكن من بسط الأشياء كلها أمامي, كنت أستعين برسوماتك. لقد جعلتني أعتقد أن البحر يشبه سماط الماء المفرود في لوحاتك القماشية, وأنه أزرق كحجر سائل من الياقوت لايمكن أن يتغير لونه, وأن النساء ينغلقن وينفتحن كالأزهار, وأنهن يشبهن في هذا المخلوقات التي تتقدم, مدفوعة بفعل الريح في حدائقك, وأن المقاتلين الشباب دقيقي الحجم الذين يتناوبون الحراسة في قلاعك الجبهوية كانوا هم أنفسهم السهام التي بوسعها اختراق القلب. وفي سن السادسة عشرة, وجدت الأبواب التي تفصلني عن العالم تتفتح لي, فصعدت إلى شرفة القصر كي أراقب الغيوم, ولكنها كانت أقل جمالا من غيوم غسقك. فأمرت بالمحفة, ورحت أترجرج على الطرقات التي لم أكن أتوقع أن أرى بها الطين ولا الأحجار, وذرعت أقاليم الإمبراطورية فلم أعثر على حدائقك المليئة بالنساء اللاتي يشبهن (الحباحب), نساءك اللواتي كانت أجسادهن ذاتها حدائق. وجعلتني أحجار الشواطئ أمقت المحيطات, ووجدت أن دماء المعدمين أقل احمرارا من الرمان المصور بلوحاتك, وحرمتني حشرات القرى من رؤية جمال حقول أرزك, ونفرني لحم النسوة الأحياء كأنه اللحم الميت المعلق بخطاطيف الجزارين, وأصابتني الضحكات الغليظة لجنودي بالغثيان. لقد كذبت علي يا وانج ـ فو, أيها النصاب العجوز, فالعالم ليس سوى كومة بقع غامضة, ملقاة في الفراغ بواسطة رسام عديم الشعور, تمحوها أدمعنا باستمرار. وليست مملكة هان أبدا بأجمل الممالك, ولست أنا الآخر بإمبراطور. فالإمبراطورية الوحيدة التي تستحق مشقة حكمها هي تلك الماثلة في رسوماتك. أيها العجوز وانج ـ فو, فأنت وحدك الذي تتسلطن في سلام, من خلال الألف منحنى والعشرة آلاف لون,على الجبال المغطاة بالجليد الذي لايذوب, وعلى حقول النرجس التي لاتذبل. وهو ما جعلني, يا وانج ـ فو, أفكر كيف سأعذبك, فأنت صاحب السحر الذي جعلني أكره كل ما أملك, وجعلني أرغب في كل ما ليس لدي. ولكي أسجنك في السجن الوحيد الذي لاتستطيع الخروج منه, قررت أن تسمل عيناك, لأن عينيك, يا وانج ـ فو, هما البابان السحريان اللذان يفتحان مملكتك. كما قررت كذلك قطع يديك, لأنهما الطريقان اللذان يتفرعان عشرة أفرع تقودك إلى قلب إمبراطوريتك. أفهمتني, أيها العجوز وانج ـ فو?.

عند سماع هذه الجملة, سحب التلميذ لينج من حزامه سكينا ثلما وألقى بنفسه على الإمبراطور. وتصدى دونه حارسان فمنعاه. عندئذ تبسم ابن السماء وأضاف وهو يتنهد:

ـ كما أنني أكرهك أيضا, أيها العجوز وانج ـ فو, لأنك عرفت كيف تجعل الناس يحبونك. اقتلوا هذا الكلب.

عندئذ قفز لينج صوب الأمام كي يتفادى أن يصل دمه إلى ثوب الأستاذ فيبقعه. وشرع أحد الجنود سيفه, فانفصلت رأس لينج عن عنقه, كزهرة قطعت من فرعها. وحمل الخدم بقيته, فلفتت انتباه وانج ـ فو اليائس, وشدت إعجابه تلك البقعة الكبيرة القرمزية التي صنعها دم تلميذه على أحجار البلاط الخضراء. وأشار الإمبراطور, فانبرى خصيان وجففا أعين وانج ـ فو.

ـ اسمع, أيها العجوز وانج ـ فو, قال الإمبراطور, جفف دموعك, فليس هذا وقت البكاء. فلابد أن تظل عيناك مضيئتين, حتى لايحترق ما بقي لهما من نور ضئيل بفعل البكاء. وليس الحقد الذي يجعلني أشتهي موتك, ولا التوحش الذي يجعلني أريد رؤيتك تتعذب هما كل ما لدي لك فحسب. فلدي مشروعات أخرى, أيها العجوز وانج ـ فو. لأنني أملك ضمن مجموعة أعمالك الموجودة عندي لوحة بديعة تصور الجبال, ومصاب الأنهار والبحر, بشكل صغير جدا بلاشك, لكن بساطتها تجعل ما فيها من أشكال تتألق, كأنها تكوينات تتباهى على حافة فلك من الأفلاك. لكن هذه اللوحة غير مكتملة, يا وانج ـ فو, رائعتك ما زالت بعد تخطيطا, فبالطبع, في اللحظة التي كنت ترسمها فيها, وأنت جالس في واد فريد, لعلك لاحظت طائرا عبر, أو طفلا يتعقب هذا الطائر. وجعلك منقار الطائر أو ألعاب الطفل تنسى طيات الموج الزرقاء. فلم تكمل أهداب معطف البحر, ولا ضفائر طحلب الصخور. يا وانج ـ فو, أريد منك أن تكرس ساعات الضوء الباقية لعينيك في إنهاء هذه اللوحة. التي ستضم بهذا الشكل الأسرار الأخيرة التي تجمعت على امتداد عمرك. وليس من شك في أن يديك, اللتين على وشك السقوط, لن ترتجفا على نسيج الحرير, وسوف يعبر اللامتناهي عن نفسه في عملك بظلال سوء طالعك. فلايوجد شك في أن عينيك, القريبتين هكذا من الفناء, لن تكتشفا أية علاقات تعبر عن الشعور الإنساني. هذا هو مشروعي, أيها العجوز وانج ـ فو, وبوسعي إجبارك على إتمامه. فلو رفضت هذا العمل, قبل أن تسمل عيناك, سأحرق كل أعمالك, وسيصبح حالك كحال الأب الذي ذبحوا كل أولاده ودمروا آماله في الذرية. ولكن, فكر بالأحرى, لو شئت, في أن هذا الطلب الأخير ليس إلا تعبيرا عن طيبتي, لأنني أعرف أن اللوحة هي معشوقتك الوحيدة التي تغار عليها, لذا فإن أمري بالفرش, وبالألوان وبالحبر لك كي تشغل ساعاتك الأخيرة, كالتصدق ببنت هوى على رجل ذاهب للإعدام.

بإشارة من الإصبع الصغير للإمبراطور, حمل اثنان من الخصيان باحترام اللوحة غير المكتملة التي خط فيها وانج ـ فو صورة البحر والسماء, فجفف وانج ـ فو دموعه وابتسم, لأن هذا التخطيط الصغير ذكره بشبابه. كان كل ما في اللوحة يشهد بطهارة النفس, التي لم يعد بوسع وانج ـ فو بعد أن يدعيها, لكنها كان ينقصها مع ذلك شيء ما, لأنه في الحقبة التي رسمها فيها لم يكن بعد قد تأمل على نحو كاف أشكال الجبال, ولا الصخور التي تسبح خواصرها الجرداء بالبحر, ولم يكن قد أدرك بعد ذلك تلك الأحزان التي تقتحم المرء عند الغروب. وتخير وانج ـ فو فرشاة قدمها له أحد العبيد وشرع يبسط على البحر غير المكتمل سيلا من اللون الأزرق. وأقعى خصي على مقربة منه يهرس له الألوان, ولم يكن يجيد هذا العمل, فتحسر وانج ـ فو أكثر من أي وقت مضى على تلميذه لينج.

وشرع وانج في وشي طرف جناح سحابة تتكئ على جبل باللون الأحمر. ثم أضاف لسطح البحر بعض تغضنات صغيرة جعلت الإحساس بسكينته يزداد عمقا. وابتل بلاط اليشب فجأة على نحو غريب, ولم يلحظ وانج ـ فو, المستغرق في رسمه, أنه كان يعمل وهو جالس بالماء.

وتحت ضربات فرشاة الرسام, تضخم زورق هزيل وصار يحتل مقدمة اللوحة الحريرية, وراحت الضجة المنتظمة لمجدافيه تتعالى في المدى فجأة, وتشارعت ونشطت كأنها خفقات أجنحة. واقتربت الضجة أكثر, وغمرت بنعومة كل القاعة, ثم توقفت, وتعلقت قطرات مرتجفة بمجدافي البحار.

وانطفأ الحديد الأحمر المصوب جهة أعين وانج على جمر الجلاد. وشبت المحظيات المشلولات بفعل المراسيم, واللاتي غمرهن الماء للأكتاف على أصابع أقدامهن. وارتفع الماء في النهاية حتى بلغ مستوى قلب الإمبراطور. وصار الصمت عميقا لدرجة سمع فيها صوت تساقط الدموع.كان بحار الزورق هو لينج, بثوبه القديم الذي ظل يرتديه دائما, وبكمه الأيمن الذي بدا حاملا آثار تمزقات لم يجد في الصباح وقتا لرتقها. قبل حضور الجند, وكان يلف رقبته بلفاع غريب أحمر.

قال له وانج ـ فو بصوت خفيض وهو يستمر في الرسم:

ـ لقد اعتقدت أنك مت.

ـ إنك حي, قال لينج باحترام, فكيف لي أن أموت?

وأعان لينج الأستاذ على الصعود للزورق. وانعكس سقف اليشب على الماء, بما أوحى أنه يبحر في مغارة. كانت ضفائر المحظيات الطافية تتموج على سطح الماء كالثعابين, وكانت رأس الإمبراطور الشاحبة عائمة عليه كأنها زهرة لوتس.

ـ انظر, يا تلميذي, قال وانج ـ فو بأسى, هؤلاء التعساء سوف يهلكون, إن لم يكونوا قد هلكوا. أنا لم يخطر لي أبدا أن بالبحر ماء يكفي لإغراق إمبراطور. فهل هذا ما حدث?

ـ لاتخش شيئا, يا معلمي, غمغم التلميذ. فسرعان ما يجدون أنفسهم قد جفوا ولن يذكروا حتى أن الماء بلل أكمامهم, فقط الإمبراطور هو الذي سيحتفظ في قلبه ببعض المرارة تجاه الماء. هؤلاء الناس لم يخلقوا ليتوهوا داخل لوحة.

وأضاف لينج:

ـ البحر جميل, والريح حسنة, وطيور البحر تقيم أعشاشها. لنرحل, يا أستاذي لبلاد ما وراء الموج.

ـ لنرحل, قال الرسام العجوز.

وأمسك وانج ـ فو بالدفة, وعكف لينج على المجدافين, وغمر إيقاع التجديف القاعة كلها من جديد, على نحو ثابت ومنتظم كضربات القلب. وانخفض مستوى الماء بشكل غير محسوس حول الصخور المنتصبة التي صارت من جديد أعمدة, وسرعان ما راحت تلتمع بعض برك الماء القليلة على البلاط الكابي لليشب, وجفت أثواب المحظيات, ولكن ظلت هناك سبخة زبد عالقة بهدب معطف الإمبراطور.كانت اللوحة التي أكملها وانج ـ فو موضوعة لا تزال على الطاولة المرجانية. وقد احتل كل مقدمتها زورق, راح يتباعد شيئا فشيئا, تاركا خلفه أثرا دقيقا راح ينغلق وراءه البحر الساكن. ولم يعد بمقدور أحد أن يميز وجهي الرجلين بالمركب. لكن البعض كان مازال يلحظ لفاع لينج الأحمر, ولحية وانج ـ فو الطائرة في الريح.وضعف دفق المجاديف, ثم توقف وتلاشي بفعل المسافة. وراح الإمبراطور, المنحني للأمام, وهو يضع يده على عينيه, يراقب ابتعاد زورق وانج الذي لم يعد بعد إلا بقعة لا يلحظها أحد في شحوب الغسق. وتعالى بخار ذهبي ثم انعطف على البحر. وأخيراً, دار الزورق حول صخرة تسد مدخل عرض البحر, وسقط ظل شاطئ صخري عليه, فانمحى الأثر على السطح المقفر, واختفى الرسام وانج ـ فو وتلميذه لينج إلى الأبد في بحر اليشب الأزرق الذي أبدعه.
__________________