dot
31/05/2006, 16:16
:hart: :hart: :hart: للأديبة الفرنسية: مارجريت يورسنار
ترجمة : محمد سيف :hart: :hart: :hart:
راح الرسام العجوز وانج فو وتلميذه لينج يذرعان شوارع مملكة هان.
كانا يتقدمان ببطء, لأن وانج فو يقضي الليل بطوله في تأمل النجوم, والنهار في النظر لليعسوبات. وكانا محملين, فوانج فو الذي يحب صور الأشياء, وليس الأشياء نفسها, لم يجد شيئا جديرا بالامتلاك في العالم, سوى فرش الرسم وعلب الصمغ والأحبار الصينية, ولفائف الحرير وورق الأرز. كما كانا فقيرين, لأن وانج ـ فو يقايض رسومه بحصص من الأذرة المغلية ويزدري النقود. كان تلميذه لينج منثنيا تحت ثقل حقيبة مليئة بتخطيطات الرسوم, حانيا ظهره باحترام كما لو أنه يحمل قبة سماوية, لأن هذه الحقيبة, في نظر لينج, كانت تحوي الجبال المغطاة بالجليد, والأنهار الربيعية, وطلعة قمر الصيف.
لم يولد لينج لكي يذرع الطرقات إلى جوار رجل عجوز يستولي عليه في الفجر ويظل أسيره في الغسق. فقد كان والده يعمل في مقايضة الذهب, وكانت أمه هي الطفلة الوحيدة لتاجر أحجار كريمة حرمها من ممتلكاته لاعنا إياها لأنها لم تكن ولدا. وكبر لينج في بيت حجب الثراء عنه صروف الدهر. وجعل منه هذا الوجود الملبد على نحو حساس خجولا, فكان يخاف الحشرات, والرعد ووجوه الموتى. وعندما بلغ الخامسة عشرة, انتقى له أبوه زوجة تخيرها جميلة جدا, لأن فكرة حسن الطالع التي بذل كل جهده ليضمنها لابنه ظلت تغريه لبقية عمره. وكانت زوجة لينج نحيلة كعود من البوص, صبوحة كاللبن الحليب, حلوة كالرضاب, مالحة كالدموع, وبعد الزواج قضى والداه نحبهما, وظل الابن وحيدا بالمنزل المطلي باللون القرمزي, في صحبة زوجته الشابة, التي كانت تبتسم بلا انقطاع, وشجرة خوخ كانت كل ربيع تزهر وردا أحمر. وأحب لينج هذه المرأة بقلب صاف كما يحب المرء مرآة دائمة اللمعان, وتميمة للحياة الدائمة. وكان يرتاد بيوت الشاي ليكون معاصرا للموضة ويشجع باعتدال لاعبي الأكروبات والراقصات.
ذات ليلة, في حانة, التقى بوانج ـ فو كرفيق على منضدته. وكان الرجل العجوز قد سكر لكي يعيش حالة تساعده على رسم شخص سكير, كان رأسه محنيا إلى جانب, كما لو أنه يجهد نفسه لقياس البعد الذي يفصل يده عن كأسه. وأفلتت خمر الأرز لسان هذا الفنان الصموت, فتحدث وانج, في ذلك المساء, كما لو كان الصمت حائطا, والكلمات ألوانا قدر لها أن تغطيه. وبفضله, عرف لينج جمال وجوه الندماء التي يسبح حولها دخان الشراب الساخن, والرونق الداكن لقطع اللحم المشوية على ألسنة النار, واللون الوردي الشهي لبقع النبيذ المنتشرة على المفارش كالتويجات الذابلة. واندفعت هبة ريح عبر النافذة, فتدفق المطر لداخل الحجرة. وراح وانج ـ فو يعبر للينج عن إعجابه بالخط الأشهب للبرق, فكف لينج, المبهور, عن خوفه من الرعد.دفع لينج حساب الرسام العجوز, ولأن وانج ـ فو لا مال لديه ولابيت, عرض عليه بأدب أن يؤويه. ومضيا على الطريق معا, كان لينج يمسك مصباحا, عكس وميضه على البرك أضواء مفاجئة. في ذلك المساء, دهش لينج بمعرفة أن حوائط بيته لم تكن حمراء, كما اعتقد في السابق, وإنما ذات لون برتقالي أكل الدهر عليه وشرب. وفي فناء المنزل, لاحظ وانج ـ فو التكوين الدقيق لجذع, لم يكن قد جذب انتباه أحد إلى ذلك الحين, وقارنه بامرأة شابة ترخي شعرها ليجف. وفي الممشى, راح يتتبع بجذل المسيرة المتأرجحة لنملة على طول شق بالسور, فتلاشى كره لينج لهذه الدواب الصغيرة. عندئذ, ولإدراكه بأن وانج ـ فو أهداه روحا وأحاسيس جديدة, دعا لينج العجوز باحترام ليرقد في الغرفة التي مات فيها والده.
منذ سنوات, كان وانج ـ فو يحلم بعمل صورة نصفية لأميرة من الزمن القديم تعزف على العود تحت شجرة صفصاف. ولم تكن هناك امرأة تعطي انطباعا لاواقعيا كافيا كي تصلح نموذجا له, لكن لينج تمكن من أن يكون ذلك النموذج, بما أنه لم يكن امرأة. ثم تحدث وانج ـ فو عن صورة لأمير شاب يشد القوس تحت شجرة أرز كبيرة. ولم يكن هناك أي شاب في ذلك الزمن يعطي انطباعا كافيا باللاواقعية تجعله يصلح نموذجا. لكن لينج عرض زوجته تحت شجرة البرقوق في الحديقة. فرسمها وانج ـ فو في زي عفريتي بين سحب الغروب, وبكت المرأة الشابة, كون ذلك كان يمثل بالنسبة لها نذير الموت. وما إن أثنى لينج على الصور النصفية التي رسمها لها وانج ـ فو حتى ذبل وجهها, كوردة تعرضت لريح ساخنة أو تعرضت لمطر الصيف. وذات صباح وجدت مشنوقة على أفرع شجرة البرقوق الحمراء, وكانت أطراف اللفاع الذي اختنقت به تتموج مختلطة بضفائرها, فبدت أكثر رهافة من المعتاد, نقية كالجميلات اللاتي خلدهن شعراء الزمن الماضي. ورسمها وانج ـ فو مرة أخيرة, فقد كان يحب هذه السحنة الخضراء التي تكسو وجوه الموتى. وسحق له تلميذه لينج الألوان, وتطلبت هذه المهمة قدرا من المثابرة, لأنه نسي أن يخلطها بالدموع.
وباع لينج عبيده, ثم باع طرفه وبعد ذلك باع أسماك النافورة لكي يزود الأستاذ بعلب الحبر القرمزي المستوردة من الغرب. وعندما لم يعد هناك شي بالمنزل ليباع, تركاه, وأغلق لينج من ورائه باب ماضيه. وكان وانج ـ فو قد أصابه التعب من تلك المدينة التي لم تعد الوجوه فيها تسر له بأي سر للقبح أو للجمال, وراح الأستاذ والتلميذ يتسكعان معا على طرق مملكة هان.
كانت شهرتهما تسبقهما إلى القرى, ومداخل القصور والقلاع ودهاليز المعابد التي يأوي إليها المسافرون عند الغسق. ويمكن القول إن وانج ـ فو كانت لديه القدرة على إسباغ الحياة على رسومات وجوههم بلمسة أخيرة ملونة يضفيها إلى الأعين. كان المزارعون يأتون إليه ضارعين أن يرسم لهم كلب حراسة, كما كان السادة يطلبون منه صورا لهم في زي الجنود. وأسبغ الرهبان عليه شرف الحكمة, وكان الناس من عامة الشعب يخشونه كما لو أنه كان ساحرا. وقد أسعدت وانج هذه الآراء المختلفة التي سمحت له بأن يدرس من حوله تعبيرات العرفان, والخوف, والاحترام.
وراح لينج يتسول الطعام, ويسهر على راحة الأستاذ أثناء نومه ويتحين لحظات نشوته لكي يدلك له قدميه. وعند بزوغ النهار, أثناء نوم العجوز, كان يذهب لكي يتصيد المناظر الطبيعية الخجول وراء باقات الزهور. وبالمساء, عندما كان الأستاذ المحبط يلقي بفرش ألوانه على الأرض, كان يجمعها وينظمها. وعندما كانت تصيب وانج نوبات الحزن ويتحدث عن تقدمه في السن, كان لينج يبتسم وهو يشير له إلى الجذع القوي لشجرة صندل عجوز, وعندما كانت تنتابه حالات السعادة ويبدأ المزاح, كان لينج يبدي أدبا شديدا وهو يستمع إليه.
ذات يوم, عند غروب الشمس, وصلا إلى ضاحية من ضواحي المدينة الإمبراطورية, وبحث لينج عن نزل يمضي فيه وانج ـ فو ليلته. وبينما راح العجوز يتغطى بمزقه, رقد لينج ملتصقا به لكي يدفئه, لأن الربيع كان قد حل بالكاد, ومازالت الأرض الطينية بعد متجمدة. عند الفجر سمعت أصوات أقدام ثقيلة تدب في ممشى النزل, وتعالت الهمسات الخائفة لصاحب الفندق, والصيحات الآمرة بلغة بربرية. وارتعد لينج, وهو يتذكر أنه سرق في المساء كعكة أرز من أجل وجبة الأستاذ. ولم يكن هناك شك في أنهم جاءوا لاعتقاله, وتساءل عمن سيقوم غدا بمساعدة وانج ـ فو على عبور مخاضة النهر المقبل.ودخل جنود الشرطة بالمصابيح. ونفذت أضواء الشعل من الورق المزركش ملقية انعكاسات حمراء أو زرقاء على خوذاتهم الجلدية. وراح حبل قوس يهتز فوق أكتافهم. وانبعثت من أشرس واحد فيهم فجأة أصوات زمجرة بلا سبب. ووضعوا أيديهم بعنف على رقبة وانج ـ فو, الذي لم يتمكن من منع نفسه من ملاحظة أكمامهم لم تكن متلائمة مع لون معاطفهم.
ومستندا إلى تلميذه, تبع وانج ـ فو الجند وهو يترنح على طول الطرق غير المستوية. وراح العابرون المحتشدون يتهكمون من هذين المجرمين المقتادين بغير شك لتقطع أعناقهما. وكان الجنود يجيبون عن كل سؤال لوانج بتقطيبة وحشية. ونظر لينج اليائس لأستاذه مبتسما, بينما كانت أيديهما المقيدة تعاني من شدة القيد, وكانت تلك بالنسبة له طريقة أكثر رقة من البكاء.
ثم وصلوا إلى عتبة القصر الإمبراطوري, الذي انتصبت أسواره البنفسجية في وضح النهار كهدب طويل من أهداب الغسق. وعبر الجنود بوانج ـ فو قاعات مربعة أو دائرية لاتحصى رمزت أشكالها للفصول, وللجهات الأصلية, وللذكر والأنثى, ولطول العمر, ولامتيازات السلطة. كانت الأبواب تدور حول نفسها مقلدة نوتة موسيقية, وكان تنسيقها محكما متشابها إذا ما ذرعت القصر من الشرق إلى الغرب. كان كل شيء في تناغمه يشي بجبروت ودقة فوق بشرية, ويعطي الشعور بأن الأوامر التي يتم النطق بها هنا نهائية ومرعبة كحكمة الأجداد. ثم تخلخل الهواء, أخيرا, وصار الصمت عميقا بحيث لايمكن حتى لشخص يجري تعذيبه أن يجرؤ على الصياح, ورفع أحد الخصيان ستارة, وارتعد الجنود كالنساء, ودخل الجمع الصغير القاعة التي يجلس فيها على العرش ابن السماء.
كانت قاعة تخلو من الجدران, تستند إلى دعائم من أعمدة سميكة من الحجر الأزرق, وكانت بها حديقة مزهرة على الناحية الأخرى من الأعمدة المرمرية, وكانت كل زهرة من الزهور في غياضها تنتمي لنوع نادر جيء به مما وراء الميحط. ولكن لم تكن تصدر عن أي منها رائحة, خوفا من أن تثير روائحها بلبلة للإمبراطور أثناء تأملاته. واحتراما للصمت الذي تسبح فيه أفكاره, لم يسمح لأي عصفور بالوجود داخل هذا النطاق, الذي تم اصطياد النحل منه لمنع أزيزه. وقام حائط ضخم بفصل الحديقة عن بقية العالم, حتى لايسمح للريح, التي تمر في الخارج بالكلاب النافقة وجثث ميادين المعارك, من أن تمس أكمام الإمبراطور.
كان الإمبراطور جالسا على عرش من حجر اليشب, وكانت يداه متغضنتين كيدي رجل عجوز, في حين أنه لم يكن قد بلغ العشرين من العمر بالكاد. كان ثوبه أزرق ليصور الشتاء, وأخضر ليذكر بالربيع, ووجهه جميلا, لكنه هادئ كمرآة وضعت في مكان شديد العلو حتى لاتنعكس عليها سوى صور الأفلاك والسماء الزرقاء. وقد وقف إلى يمينه وزيره المختص بشئون المتع الكاملة, وإلى يساره مستشاره لشئون الأعاصير المحكمة. أما محظياته, فقد اصطففن إلى جوار الأعمدة, يرهفن السمع لكي يستقبلن أية كلمة تخرج من شفتيه, فقد تعود دائما الحديث بصوت خفيض.
ـ أيها التنين السماوي المقدس, قال وانج ـ فو وهو يخر ساجدا, إنني عجوز, وفقير, وضعيف. أنت كالصيف, وأنا كالشتاء. وأنت لك ألف حياة, وليس لي إلا واحدة, في طريقها للزوال. ماذا فعلت لك? لقد أوثقوا يدي, اللتين لم تتسببا لك أبدا في أي ضرر.
ـ أتسألني ماذا فعلت لي, أيها العجوز وانج ـ فو? قال الإمبراطور.
كان صوته شجيا لدرجة إثارة الرغبة في البكاء. وقد رفع يده اليمنى, التي أظهرها انعكاس بلاط اليشب خضراء كطفيليات أعماق البحر, فانبهر وانج ـ فو من رهافة وطول أصابعه, وراح يبحث في ذاكرته إذ لم يكن قد رسم للإمبراطور, أو لأي من أولاده, صورة حقيرة يستحق الموت عقابا عليها. لكن ذلك كان احتمالا مستبعدا, لأن وانج ـ فو لم يكن إلى هذه اللحظة قد تردد على بلاط الإمبراطور إلا فيما ندر, فقد كان يفضل أكواخ المزارعين, وضواحي المحظيات بالمدن, وبارات الأرصفة التي يتشاجر فيها الحمالون.
ترجمة : محمد سيف :hart: :hart: :hart:
راح الرسام العجوز وانج فو وتلميذه لينج يذرعان شوارع مملكة هان.
كانا يتقدمان ببطء, لأن وانج فو يقضي الليل بطوله في تأمل النجوم, والنهار في النظر لليعسوبات. وكانا محملين, فوانج فو الذي يحب صور الأشياء, وليس الأشياء نفسها, لم يجد شيئا جديرا بالامتلاك في العالم, سوى فرش الرسم وعلب الصمغ والأحبار الصينية, ولفائف الحرير وورق الأرز. كما كانا فقيرين, لأن وانج ـ فو يقايض رسومه بحصص من الأذرة المغلية ويزدري النقود. كان تلميذه لينج منثنيا تحت ثقل حقيبة مليئة بتخطيطات الرسوم, حانيا ظهره باحترام كما لو أنه يحمل قبة سماوية, لأن هذه الحقيبة, في نظر لينج, كانت تحوي الجبال المغطاة بالجليد, والأنهار الربيعية, وطلعة قمر الصيف.
لم يولد لينج لكي يذرع الطرقات إلى جوار رجل عجوز يستولي عليه في الفجر ويظل أسيره في الغسق. فقد كان والده يعمل في مقايضة الذهب, وكانت أمه هي الطفلة الوحيدة لتاجر أحجار كريمة حرمها من ممتلكاته لاعنا إياها لأنها لم تكن ولدا. وكبر لينج في بيت حجب الثراء عنه صروف الدهر. وجعل منه هذا الوجود الملبد على نحو حساس خجولا, فكان يخاف الحشرات, والرعد ووجوه الموتى. وعندما بلغ الخامسة عشرة, انتقى له أبوه زوجة تخيرها جميلة جدا, لأن فكرة حسن الطالع التي بذل كل جهده ليضمنها لابنه ظلت تغريه لبقية عمره. وكانت زوجة لينج نحيلة كعود من البوص, صبوحة كاللبن الحليب, حلوة كالرضاب, مالحة كالدموع, وبعد الزواج قضى والداه نحبهما, وظل الابن وحيدا بالمنزل المطلي باللون القرمزي, في صحبة زوجته الشابة, التي كانت تبتسم بلا انقطاع, وشجرة خوخ كانت كل ربيع تزهر وردا أحمر. وأحب لينج هذه المرأة بقلب صاف كما يحب المرء مرآة دائمة اللمعان, وتميمة للحياة الدائمة. وكان يرتاد بيوت الشاي ليكون معاصرا للموضة ويشجع باعتدال لاعبي الأكروبات والراقصات.
ذات ليلة, في حانة, التقى بوانج ـ فو كرفيق على منضدته. وكان الرجل العجوز قد سكر لكي يعيش حالة تساعده على رسم شخص سكير, كان رأسه محنيا إلى جانب, كما لو أنه يجهد نفسه لقياس البعد الذي يفصل يده عن كأسه. وأفلتت خمر الأرز لسان هذا الفنان الصموت, فتحدث وانج, في ذلك المساء, كما لو كان الصمت حائطا, والكلمات ألوانا قدر لها أن تغطيه. وبفضله, عرف لينج جمال وجوه الندماء التي يسبح حولها دخان الشراب الساخن, والرونق الداكن لقطع اللحم المشوية على ألسنة النار, واللون الوردي الشهي لبقع النبيذ المنتشرة على المفارش كالتويجات الذابلة. واندفعت هبة ريح عبر النافذة, فتدفق المطر لداخل الحجرة. وراح وانج ـ فو يعبر للينج عن إعجابه بالخط الأشهب للبرق, فكف لينج, المبهور, عن خوفه من الرعد.دفع لينج حساب الرسام العجوز, ولأن وانج ـ فو لا مال لديه ولابيت, عرض عليه بأدب أن يؤويه. ومضيا على الطريق معا, كان لينج يمسك مصباحا, عكس وميضه على البرك أضواء مفاجئة. في ذلك المساء, دهش لينج بمعرفة أن حوائط بيته لم تكن حمراء, كما اعتقد في السابق, وإنما ذات لون برتقالي أكل الدهر عليه وشرب. وفي فناء المنزل, لاحظ وانج ـ فو التكوين الدقيق لجذع, لم يكن قد جذب انتباه أحد إلى ذلك الحين, وقارنه بامرأة شابة ترخي شعرها ليجف. وفي الممشى, راح يتتبع بجذل المسيرة المتأرجحة لنملة على طول شق بالسور, فتلاشى كره لينج لهذه الدواب الصغيرة. عندئذ, ولإدراكه بأن وانج ـ فو أهداه روحا وأحاسيس جديدة, دعا لينج العجوز باحترام ليرقد في الغرفة التي مات فيها والده.
منذ سنوات, كان وانج ـ فو يحلم بعمل صورة نصفية لأميرة من الزمن القديم تعزف على العود تحت شجرة صفصاف. ولم تكن هناك امرأة تعطي انطباعا لاواقعيا كافيا كي تصلح نموذجا له, لكن لينج تمكن من أن يكون ذلك النموذج, بما أنه لم يكن امرأة. ثم تحدث وانج ـ فو عن صورة لأمير شاب يشد القوس تحت شجرة أرز كبيرة. ولم يكن هناك أي شاب في ذلك الزمن يعطي انطباعا كافيا باللاواقعية تجعله يصلح نموذجا. لكن لينج عرض زوجته تحت شجرة البرقوق في الحديقة. فرسمها وانج ـ فو في زي عفريتي بين سحب الغروب, وبكت المرأة الشابة, كون ذلك كان يمثل بالنسبة لها نذير الموت. وما إن أثنى لينج على الصور النصفية التي رسمها لها وانج ـ فو حتى ذبل وجهها, كوردة تعرضت لريح ساخنة أو تعرضت لمطر الصيف. وذات صباح وجدت مشنوقة على أفرع شجرة البرقوق الحمراء, وكانت أطراف اللفاع الذي اختنقت به تتموج مختلطة بضفائرها, فبدت أكثر رهافة من المعتاد, نقية كالجميلات اللاتي خلدهن شعراء الزمن الماضي. ورسمها وانج ـ فو مرة أخيرة, فقد كان يحب هذه السحنة الخضراء التي تكسو وجوه الموتى. وسحق له تلميذه لينج الألوان, وتطلبت هذه المهمة قدرا من المثابرة, لأنه نسي أن يخلطها بالدموع.
وباع لينج عبيده, ثم باع طرفه وبعد ذلك باع أسماك النافورة لكي يزود الأستاذ بعلب الحبر القرمزي المستوردة من الغرب. وعندما لم يعد هناك شي بالمنزل ليباع, تركاه, وأغلق لينج من ورائه باب ماضيه. وكان وانج ـ فو قد أصابه التعب من تلك المدينة التي لم تعد الوجوه فيها تسر له بأي سر للقبح أو للجمال, وراح الأستاذ والتلميذ يتسكعان معا على طرق مملكة هان.
كانت شهرتهما تسبقهما إلى القرى, ومداخل القصور والقلاع ودهاليز المعابد التي يأوي إليها المسافرون عند الغسق. ويمكن القول إن وانج ـ فو كانت لديه القدرة على إسباغ الحياة على رسومات وجوههم بلمسة أخيرة ملونة يضفيها إلى الأعين. كان المزارعون يأتون إليه ضارعين أن يرسم لهم كلب حراسة, كما كان السادة يطلبون منه صورا لهم في زي الجنود. وأسبغ الرهبان عليه شرف الحكمة, وكان الناس من عامة الشعب يخشونه كما لو أنه كان ساحرا. وقد أسعدت وانج هذه الآراء المختلفة التي سمحت له بأن يدرس من حوله تعبيرات العرفان, والخوف, والاحترام.
وراح لينج يتسول الطعام, ويسهر على راحة الأستاذ أثناء نومه ويتحين لحظات نشوته لكي يدلك له قدميه. وعند بزوغ النهار, أثناء نوم العجوز, كان يذهب لكي يتصيد المناظر الطبيعية الخجول وراء باقات الزهور. وبالمساء, عندما كان الأستاذ المحبط يلقي بفرش ألوانه على الأرض, كان يجمعها وينظمها. وعندما كانت تصيب وانج نوبات الحزن ويتحدث عن تقدمه في السن, كان لينج يبتسم وهو يشير له إلى الجذع القوي لشجرة صندل عجوز, وعندما كانت تنتابه حالات السعادة ويبدأ المزاح, كان لينج يبدي أدبا شديدا وهو يستمع إليه.
ذات يوم, عند غروب الشمس, وصلا إلى ضاحية من ضواحي المدينة الإمبراطورية, وبحث لينج عن نزل يمضي فيه وانج ـ فو ليلته. وبينما راح العجوز يتغطى بمزقه, رقد لينج ملتصقا به لكي يدفئه, لأن الربيع كان قد حل بالكاد, ومازالت الأرض الطينية بعد متجمدة. عند الفجر سمعت أصوات أقدام ثقيلة تدب في ممشى النزل, وتعالت الهمسات الخائفة لصاحب الفندق, والصيحات الآمرة بلغة بربرية. وارتعد لينج, وهو يتذكر أنه سرق في المساء كعكة أرز من أجل وجبة الأستاذ. ولم يكن هناك شك في أنهم جاءوا لاعتقاله, وتساءل عمن سيقوم غدا بمساعدة وانج ـ فو على عبور مخاضة النهر المقبل.ودخل جنود الشرطة بالمصابيح. ونفذت أضواء الشعل من الورق المزركش ملقية انعكاسات حمراء أو زرقاء على خوذاتهم الجلدية. وراح حبل قوس يهتز فوق أكتافهم. وانبعثت من أشرس واحد فيهم فجأة أصوات زمجرة بلا سبب. ووضعوا أيديهم بعنف على رقبة وانج ـ فو, الذي لم يتمكن من منع نفسه من ملاحظة أكمامهم لم تكن متلائمة مع لون معاطفهم.
ومستندا إلى تلميذه, تبع وانج ـ فو الجند وهو يترنح على طول الطرق غير المستوية. وراح العابرون المحتشدون يتهكمون من هذين المجرمين المقتادين بغير شك لتقطع أعناقهما. وكان الجنود يجيبون عن كل سؤال لوانج بتقطيبة وحشية. ونظر لينج اليائس لأستاذه مبتسما, بينما كانت أيديهما المقيدة تعاني من شدة القيد, وكانت تلك بالنسبة له طريقة أكثر رقة من البكاء.
ثم وصلوا إلى عتبة القصر الإمبراطوري, الذي انتصبت أسواره البنفسجية في وضح النهار كهدب طويل من أهداب الغسق. وعبر الجنود بوانج ـ فو قاعات مربعة أو دائرية لاتحصى رمزت أشكالها للفصول, وللجهات الأصلية, وللذكر والأنثى, ولطول العمر, ولامتيازات السلطة. كانت الأبواب تدور حول نفسها مقلدة نوتة موسيقية, وكان تنسيقها محكما متشابها إذا ما ذرعت القصر من الشرق إلى الغرب. كان كل شيء في تناغمه يشي بجبروت ودقة فوق بشرية, ويعطي الشعور بأن الأوامر التي يتم النطق بها هنا نهائية ومرعبة كحكمة الأجداد. ثم تخلخل الهواء, أخيرا, وصار الصمت عميقا بحيث لايمكن حتى لشخص يجري تعذيبه أن يجرؤ على الصياح, ورفع أحد الخصيان ستارة, وارتعد الجنود كالنساء, ودخل الجمع الصغير القاعة التي يجلس فيها على العرش ابن السماء.
كانت قاعة تخلو من الجدران, تستند إلى دعائم من أعمدة سميكة من الحجر الأزرق, وكانت بها حديقة مزهرة على الناحية الأخرى من الأعمدة المرمرية, وكانت كل زهرة من الزهور في غياضها تنتمي لنوع نادر جيء به مما وراء الميحط. ولكن لم تكن تصدر عن أي منها رائحة, خوفا من أن تثير روائحها بلبلة للإمبراطور أثناء تأملاته. واحتراما للصمت الذي تسبح فيه أفكاره, لم يسمح لأي عصفور بالوجود داخل هذا النطاق, الذي تم اصطياد النحل منه لمنع أزيزه. وقام حائط ضخم بفصل الحديقة عن بقية العالم, حتى لايسمح للريح, التي تمر في الخارج بالكلاب النافقة وجثث ميادين المعارك, من أن تمس أكمام الإمبراطور.
كان الإمبراطور جالسا على عرش من حجر اليشب, وكانت يداه متغضنتين كيدي رجل عجوز, في حين أنه لم يكن قد بلغ العشرين من العمر بالكاد. كان ثوبه أزرق ليصور الشتاء, وأخضر ليذكر بالربيع, ووجهه جميلا, لكنه هادئ كمرآة وضعت في مكان شديد العلو حتى لاتنعكس عليها سوى صور الأفلاك والسماء الزرقاء. وقد وقف إلى يمينه وزيره المختص بشئون المتع الكاملة, وإلى يساره مستشاره لشئون الأعاصير المحكمة. أما محظياته, فقد اصطففن إلى جوار الأعمدة, يرهفن السمع لكي يستقبلن أية كلمة تخرج من شفتيه, فقد تعود دائما الحديث بصوت خفيض.
ـ أيها التنين السماوي المقدس, قال وانج ـ فو وهو يخر ساجدا, إنني عجوز, وفقير, وضعيف. أنت كالصيف, وأنا كالشتاء. وأنت لك ألف حياة, وليس لي إلا واحدة, في طريقها للزوال. ماذا فعلت لك? لقد أوثقوا يدي, اللتين لم تتسببا لك أبدا في أي ضرر.
ـ أتسألني ماذا فعلت لي, أيها العجوز وانج ـ فو? قال الإمبراطور.
كان صوته شجيا لدرجة إثارة الرغبة في البكاء. وقد رفع يده اليمنى, التي أظهرها انعكاس بلاط اليشب خضراء كطفيليات أعماق البحر, فانبهر وانج ـ فو من رهافة وطول أصابعه, وراح يبحث في ذاكرته إذ لم يكن قد رسم للإمبراطور, أو لأي من أولاده, صورة حقيرة يستحق الموت عقابا عليها. لكن ذلك كان احتمالا مستبعدا, لأن وانج ـ فو لم يكن إلى هذه اللحظة قد تردد على بلاط الإمبراطور إلا فيما ندر, فقد كان يفضل أكواخ المزارعين, وضواحي المحظيات بالمدن, وبارات الأرصفة التي يتشاجر فيها الحمالون.