yass
25/03/2005, 20:38
إذا كانوا يعرفون بيتي في مكان إقامتي في المدينة ـ إدلب ـ والدائرة التي أعمل فيها ، والمكتب الذي أدوام فيه ، وأرقام هواتفي : في المنزل ، والمكتب ، والجوال الذي استخدمته مرغماً مؤخراً ، ونوع الميكروباص الحكومي الذي يقلني إلى الدائرة ، ولون عيني سائقه ، والمقعد الذي أجلس فيه ، ومحل بيع الخضار و الفاكهة الذي أقصده ، وصالون الحلاق ، ومحل الدكنجي ، وبائع الحليب ، وبائع المشروبات ، والمكتبة ، والخياط ، ومكتب التكسي ، ورصيف الشارع الذي أمشي عليه إذا نزلت إلى السوق ، فلماذا يعذبون أنفسهم ، ويسافرون إلى الضيعة ـ كفرسجنة ـ التي هجرتها منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً ، والتي تبعد مسافة خمسة وستين كيلو متراً عن مكان إقامتي ، يسلكون الدروب المحفّرة ، والأزقة المتعرجة ، والزواريب الضيقة ، يصرفون الوقود لسياراتهم على حساب الحكومة ، ويضيعون وقتهم الثمين ، ليسألوا عني أمي التي تقترب من حيطان السبعين؟
إذا كانـوا يسألون عني جيراني في البناية ، والحارة ، والدائرة , والنقابة ، والمخبرين المجانيين ، والمراجعين ، وعابري الدروب ، والذين لهم علاقة بي ، والذين ليس لهم ، فلماذا يذهبون إلى القرية ، التي نسيني أهلها ، ليسألوا عني المختار ، أو رئيس الجمعية الفلاحية ، أو أمين الفرقة الحزبية ، أو أي عابر سبيل في أزقة الضيعة ، وزواريبها ، حتى ولو أن الواحد منهم لم يعد يتذكر اسمي ، أو شكلي ، ثم ، وبعد كل شيء ، يتوجهون إلى دار أهلي ، ويصيحون عند طرف الحوش ، لأن الدار لا تزال دون باب ليطرقوا عليه ، كعدد كبير من بيوت الضيعة ، فتخرج أمي المريضة ، الوحيدة ، بعد أن انتشر أبناؤها في أصقاع الأرض ، يبحثون عن لقمتهم ، تتوكأ على عكازها ، أو تستند إلى الجدران ، ليسألوها عني ؟
إذا كانوا يعرفون ماذا أحب ، وماذا أكره ، ومتى أنام ، ومتى أستيقظ ، ومن أزور ، ومن يزورني ، وأين أسهر ، ومع من ، والجرائد التي أقرؤها ، والكتب ، ونوع السجائر الرخيصة المهربة التي أدخنها ، ونوع المشروب الذي أفضله ، والحزب الذي أنتمي إليه ، وبماذا أفكر ، وماذا أحكي ، والذي أراه في أحلامي ، أو كوابيسي ، والجهة التي أفرق إليها شعري ، فلماذا يذهبون إلى القرية ، ليسألوا عني أصنافاً من البشر لم يعد الواحد منهم يعرف عني شيئاً ، ليحصلوا في آخر الأمر على معلومات عجيبة ، غريبة ، مرة تضعني في الشرق ، وأخرى في الغرب .. وبعد ذلك يتوجهون إلى دار أهلي ، التي بلا باب دار ، ليسألوا أمي التي تعاني من أمراض الضغط ، والقلب ، والسكر ، والعصبي ، والاكتئاب ، والأرق ، أسئلة تجيب عن بعضها ، ولا تجيب عن بعضها الآخر ، بدعوى أنها لا تعرف ، أو أنها تعرف ، وتزعم أنها لا تعرف ،كيلا تلحق إجاباتها الأذى بي ، فيجتمع بعض فتيان العائلة من أبناء الأعمام ، ليجيبوا عنها ، وكانت أمي ـ الحجة رقية ـ ولا تزال ، تخجل عندما تعترف لهم بأن ابنها شيوعي ، لأن عملاً كهذا برأيها لا يغضب الحكومة وحدها ، بل يغضب الله أيضاً ، ولو أنها تساءلت بشكل علني في خريف عام 1980 حين ذهبت لزيارتهم في المرة الأولى ، يوم كانوا يأخذون الأخوان : إن ابني شيوعي وليس من الأخوان .. وحين أدركت أنهم يأخذون الشيوعيين أيضاً ، سحبت كرتونة الكتب من تحت سريري ، وحرقتها بالتنور ..
إذا كان عدد زياراتي إليهم خلال ربع قرن لا يعد ولا يحصى ، وإذا كانت الدراسات التي أجروها عني لا تعد ولا تحصى ، وإذا كانت أضابيرهم قد امتلأت ، وأرشيفهم قد امتلأ ، فما هي الجدوى من الدراسات الجديدة ، خصوصاً تلك التي تتم عن طريق أشخاص لا يعرفون سوى القليل عني ، أو عن طريق مخبرين لا يهمهم سوى إلحاق الأذى بالناس ، على الرغم من عدم ترشيحي ، لا في السابق ، ولا الآن ، لأي منصب سياسي رسمي ، وكل ما شغلته في هذا المجال في حياتي هو عضو لجنة نقابية لدورة واحدة ، وحين نويت أن أترشح لدورة ثانية بطلب من الحزب وليس برغبة مني ، وبدأت الدراسات التي كان يفيد معظمها بعدم جدارتي بمنصب كهذا ، لتوقيعي على إحدى العرائض بعد خطاب القسم ، وكأنني مرشح لمنصب وزير، فلم أتقدم بأوراق الترشيح ..
إذا كانوا يلتقونني في كل يوم في الشارع ، والحي ، والدائرة ، ولا يكفون عن زيارتي في المكتب ، بعد أن كفوا عن استدعائي لزيارتهم بعد تولي الرئيس بشار الأسد ، فلماذا يذهبون إلى الضيعة ؟
لن أدعي البطولة ، وأقول إني من الأهمية بحيث أستحق مثل كل هذه الدراسات ، فأنا مواطن مثلي مثل غيري من أهل هذا البلد ، أمشي الحيط الحيط وأقول يا رب السترة ، وزيادة في الحيطة والحذر ، فأنا منتسب لحزب من أحزاب الجبهة ، ولاتحاد الكتاب ، والعمال أيضاً ..
أرجوكم أيها السادة أن تتركوا أمي مشغولة بمرضها .. افعلوا بي ما شئتم ، لكن اتركوا أمي تذهب لأجلها في موعده ، فأنا إذا سامحتكم بكل شيء ، فكيف أسامحكم بدموعها التي تنساب في السواقي التي حفرتها العقود السبعة على خديها ، خوفاً عليّ ، بعد كل مرة تذهبون إلى الضيعة لتسألوا عني ؟
تاج الدين الموسى
إذا كانـوا يسألون عني جيراني في البناية ، والحارة ، والدائرة , والنقابة ، والمخبرين المجانيين ، والمراجعين ، وعابري الدروب ، والذين لهم علاقة بي ، والذين ليس لهم ، فلماذا يذهبون إلى القرية ، التي نسيني أهلها ، ليسألوا عني المختار ، أو رئيس الجمعية الفلاحية ، أو أمين الفرقة الحزبية ، أو أي عابر سبيل في أزقة الضيعة ، وزواريبها ، حتى ولو أن الواحد منهم لم يعد يتذكر اسمي ، أو شكلي ، ثم ، وبعد كل شيء ، يتوجهون إلى دار أهلي ، ويصيحون عند طرف الحوش ، لأن الدار لا تزال دون باب ليطرقوا عليه ، كعدد كبير من بيوت الضيعة ، فتخرج أمي المريضة ، الوحيدة ، بعد أن انتشر أبناؤها في أصقاع الأرض ، يبحثون عن لقمتهم ، تتوكأ على عكازها ، أو تستند إلى الجدران ، ليسألوها عني ؟
إذا كانوا يعرفون ماذا أحب ، وماذا أكره ، ومتى أنام ، ومتى أستيقظ ، ومن أزور ، ومن يزورني ، وأين أسهر ، ومع من ، والجرائد التي أقرؤها ، والكتب ، ونوع السجائر الرخيصة المهربة التي أدخنها ، ونوع المشروب الذي أفضله ، والحزب الذي أنتمي إليه ، وبماذا أفكر ، وماذا أحكي ، والذي أراه في أحلامي ، أو كوابيسي ، والجهة التي أفرق إليها شعري ، فلماذا يذهبون إلى القرية ، ليسألوا عني أصنافاً من البشر لم يعد الواحد منهم يعرف عني شيئاً ، ليحصلوا في آخر الأمر على معلومات عجيبة ، غريبة ، مرة تضعني في الشرق ، وأخرى في الغرب .. وبعد ذلك يتوجهون إلى دار أهلي ، التي بلا باب دار ، ليسألوا أمي التي تعاني من أمراض الضغط ، والقلب ، والسكر ، والعصبي ، والاكتئاب ، والأرق ، أسئلة تجيب عن بعضها ، ولا تجيب عن بعضها الآخر ، بدعوى أنها لا تعرف ، أو أنها تعرف ، وتزعم أنها لا تعرف ،كيلا تلحق إجاباتها الأذى بي ، فيجتمع بعض فتيان العائلة من أبناء الأعمام ، ليجيبوا عنها ، وكانت أمي ـ الحجة رقية ـ ولا تزال ، تخجل عندما تعترف لهم بأن ابنها شيوعي ، لأن عملاً كهذا برأيها لا يغضب الحكومة وحدها ، بل يغضب الله أيضاً ، ولو أنها تساءلت بشكل علني في خريف عام 1980 حين ذهبت لزيارتهم في المرة الأولى ، يوم كانوا يأخذون الأخوان : إن ابني شيوعي وليس من الأخوان .. وحين أدركت أنهم يأخذون الشيوعيين أيضاً ، سحبت كرتونة الكتب من تحت سريري ، وحرقتها بالتنور ..
إذا كان عدد زياراتي إليهم خلال ربع قرن لا يعد ولا يحصى ، وإذا كانت الدراسات التي أجروها عني لا تعد ولا تحصى ، وإذا كانت أضابيرهم قد امتلأت ، وأرشيفهم قد امتلأ ، فما هي الجدوى من الدراسات الجديدة ، خصوصاً تلك التي تتم عن طريق أشخاص لا يعرفون سوى القليل عني ، أو عن طريق مخبرين لا يهمهم سوى إلحاق الأذى بالناس ، على الرغم من عدم ترشيحي ، لا في السابق ، ولا الآن ، لأي منصب سياسي رسمي ، وكل ما شغلته في هذا المجال في حياتي هو عضو لجنة نقابية لدورة واحدة ، وحين نويت أن أترشح لدورة ثانية بطلب من الحزب وليس برغبة مني ، وبدأت الدراسات التي كان يفيد معظمها بعدم جدارتي بمنصب كهذا ، لتوقيعي على إحدى العرائض بعد خطاب القسم ، وكأنني مرشح لمنصب وزير، فلم أتقدم بأوراق الترشيح ..
إذا كانوا يلتقونني في كل يوم في الشارع ، والحي ، والدائرة ، ولا يكفون عن زيارتي في المكتب ، بعد أن كفوا عن استدعائي لزيارتهم بعد تولي الرئيس بشار الأسد ، فلماذا يذهبون إلى الضيعة ؟
لن أدعي البطولة ، وأقول إني من الأهمية بحيث أستحق مثل كل هذه الدراسات ، فأنا مواطن مثلي مثل غيري من أهل هذا البلد ، أمشي الحيط الحيط وأقول يا رب السترة ، وزيادة في الحيطة والحذر ، فأنا منتسب لحزب من أحزاب الجبهة ، ولاتحاد الكتاب ، والعمال أيضاً ..
أرجوكم أيها السادة أن تتركوا أمي مشغولة بمرضها .. افعلوا بي ما شئتم ، لكن اتركوا أمي تذهب لأجلها في موعده ، فأنا إذا سامحتكم بكل شيء ، فكيف أسامحكم بدموعها التي تنساب في السواقي التي حفرتها العقود السبعة على خديها ، خوفاً عليّ ، بعد كل مرة تذهبون إلى الضيعة لتسألوا عني ؟
تاج الدين الموسى