عاشق من فلسطين
28/03/2005, 15:59
يوم العاشر من آذار 2005 بقـعة سوداء على جبين المحامين والقضاة في سوريا *
عبد الحي سيد
دمشق...
كان مشهد المحامين في يوم العاشر من شهر آذار 2004 بائساً ومثيراً للإحباط حقاً.
وقفت مجموعة من المحامين على أدراج المدخل الأمامي لقصر العدل، هاتفةً في تخوين فئة قليلة منهم اعتصمت سلمياً لتطالب بإلغاء حال الطوارئ.
جاء الاعتصام في الذكرى السنوية الثانية والأربعين لإعلان حال الطوارئ في سوريا التي بررت على مدى السنين أشكالاً مقيتة من التعسف في استعمال السلطة. كانت قاعة المحامين في قصر العدل، ذات النوافذ المطلة على مدخله الأمامي، تغص بالمحامين، الذين كانوا منشغلين بأحاديثهم الجانبية اللامبالية، في حين كان زملاؤهم المعتصمون على أبواب قصر العدل يتعرضون للضرب على أيدي طلاب متظاهرين تم جلبهم من كلية الحقوق! وعلى وقع أصداء هتافات التخوين، توقفت المحاكم عن العمل، بما في ذلك محكمة الجنايات التي تطل نوافذها على المدخل الأمامي لقصر العدل. ومع ذلك بقي المحامون المترافعون ملتصقين بكراسيهم، في انتظار عودة القضاة، بينما كان المتهمون في قفصهم يتبادلون الحديث مع عائلاتهم.
أصطف بعض القضاة على أدراج قصر العدل وشاهدوا بأعينهم جرائم ارتكبت كالاعتداء بالضرب والتحقير الفظ الذي تعرض له المعتصمون المسالمون، من دون أن يحركوا ساكنا أو يقوموا بتوقيف المعتدين. أما خارج أسوار قصر العدل، فقد كان واضحاً التنسيق الميداني بين ضباط الأمن الكبار والقياديين الحزبيين من طلاب كلية الحقوق والمحامين والقضاة، الذين أعدوا لتظاهرة التخوين وأشرفوا على تحويلها على ساحة المرجة لملاحقة المعتصمين. كان المتظاهرون أمام مبنى قصر العدل بالمئات. لم يكونوا كلهم من المرتبطين بالسلطة، أو من المشاركين في تنفيذ الاستراتيجيات القمعية لمواجهة المعتصمين. كان بين المتظاهرين الكثير من المارة ممن شاهدوا تجمعاً فانخرطوا فيه بعفوية. وبالرغم من ثقل همومهم الحياتية بكل ما فيها من معاناة سببها سوء إدارة السلطات للشؤون العامة، فقد ساهموا مع ذلك في إعلاء هتافات التقديس للسلطة!
تثير هذه المشاهدات تساؤلات على المستويين الاجتماعي - القانوني والسياسي، نوردها بسرعة على أمل تناولها بشكل معمق لاحقاً.
إن أول ما يطرحه مشهد العابرين ممن انخرطوا في التظاهرة هو التساؤل عن مدى وعي واحدهم بواقع التظاهرة التخوينية التي شارك فيها وكذلك رأيه فيها: كيف أمكن هذا الإنسان العادي الذي قد يكون في كل لحظة معرضاً لتعسف السلطة في حال الطوارئ، أن يتظاهر مدافعاً عنها، أو أن لا يكون متعاطفاً مع المطالبات التي تدعو إلى إلغائها؟
في هذا الإطار، كان للمحامين والقضاة، الذي يفترض فيهم الوعي بالأوضاع غير المنصفة التي تكرسها حال الطوارئ، دور خطير جداً. لقد وقف محامو دمشق وقضاتها على أدراج قصر العدل ليغطوا بعباءة مهنتهم، الطابع الاستثنائي الشاذ لحال الطوارئ، الأمر الذي جعلها تبدو كأنها ظاهرة طبيعية في الحياة القانونية. في وقت تمايزت مواقف نقابات المحامين في الكثير من البلدان العربية عن سياسات السلطات الحاكمة، كما حدث في تونس أخيراً، بقي محامو دمشق منضوين تحت ركب التبرير الأعمى للسلطة السياسية، بدون أي محاولة للتمايز أو خلق فرص الحوار عبر طرح الأسئلة عن خيارات السلطة وما أوصلت إليه. كان يمكن المحامين أن يرفضوا بقوة الاستخدام الأميركي الطارئ لحال الطوارئ المعلنة في سوريا، بعدما بقوا ساكتين عليها عشرات السنين. وكان يمكنهم أن يرفضوا بالقوة نفسها استراتيجيات السلطة التي تصور كل المطالب بإنهاء حال الطوارئ على أنها منخرطة في المشروع الأميركي. لم يمتلك محامو دمشق الجرأة الذهنية ليقولوا إن إلغاء حال الطوارئ مطلب محق وحاضر في كل وقت، بغض النظر عن أي توظيف سياسي له. تشكل وقفة المحامين الاعتذارية للممارسات التهييجية والتخوينية أمام مطالب محقة بإلغاء حال الطوارئ، بقعة سوداء على جبين المحامين والقضاة في سوريا، لا يضيئها إلا من شارك منهم بشجاعة في الاعتصام السلمي.
أما على المستوى السياسي، فمن الممكن القول إن سياسات الحكومة الأميركية كانت حاضرة على طرفي أسوار قصر العدل بدمشق. وقد أعطت مزايدات الحكومة الأميركية التافهة على ديموقراطية مزعومة تريد إحلالها في العراق وسوريا ولبنان، ذريعة للتهييج ضد المعتصمين المنادين بمجتمع أكثر انفتاحاً وإنصافاً. لقد تميز أقطاب المعارضة السورية المشاركون في الاعتصام، برفضهم المنهجي الانخراط في أي أجندات خارجية، وخصوصاً أميركية. وما فتئوا يذكّرون بذلك في شكل بدا مبالغاً فيه أحياناً. كانت دعواتهم تصالحية، سلمية، تكررت فيها المطالبة بعقد اجتماعي جديد، على أساس ديموقراطي وطني. وعلى رغم الهنات التي يعانيها أطياف المعارضة، فقد بثوا بحراكهم فضاءات من الحيوية في مجتمع مدني بقي خاملاً ومسكوناً بالخوف على مدى سنين طويلة. ومع ذلك، لم تنفتح السلطة السياسية على أطروحاتهم، واستمرت في تضييق التواصل معهم، بشكل تركهم غير معروفين لدى شرائح واسعة في المجتمع، ومعرضين لأبشع أنواع التهكم التخويني الشعبوي. لقد استمرت السلطة في التعاطي الشمولي مع المجتمع، عندما وضعت يدها على المجتمع المدني أثناء تظاهرات دمشق الأخيرة، لتقول إنه وحيد الطيف، ومنضوٍ بكامله تحت ركب السياسات الحكيمة!
ما الذي كان يمكن أن تخسره السلطة السياسية في ترك المعتصمين أمام قصر العدل يدلون بمطالبهم بشكل سلمي؟ إلى متى يستمر النظر إلى المطالبات المختلفة أو النقدية في الداخل على أنها عامل إضعاف أمام الخارج، بدل أن يكون الاختلاف والتعدد عامل غنى وقوة؟
إن أكبر التحديات، في ظل الاستراتيجيات الاسرائيلية - الأميركية التي تطاول سوريا، هو الالتفات أولاً وقبل كل شيء إلى الداخل والانفتاح على تعدد المجتمع، وتمكين الإنسان من المشاركة في إدارة شؤونه العامة وتقرير مصيره. لم يعد من المجدي التفكير في الصراع مع المشاريع الإسرائيلية - الأميركية بلغة المواجهة العسكرية أو الجهادية أو حتى مشاريع سلام. إن أقصى ما يمكن عمله على المستوى الأخلاقي، في ظل ظروف إقليمية مجحفة، هو إقامة مجتمع منفتح يمكّن الإنسان من العيش بحرية وكرامة. يشكل الانخراط في هذا المشروع أكبر نقد حضاري وتعرية ومقاومة لصلف السياسات الصهيونية في احتلالها أراضي عربية و ازدرائها الإنسان الفلسطيني.
في يوم العاشر من آذار 2005، ضيّعت السلطة السياسية في سوريا فرصة أخرى في التوجه مع مجتمعها نحو علاقات أكثر انفتاحاً. وفي ظل تعاطيها الشمولي، يكبر التحدي أمام أي حراك وطني ديموقراطي، في اكتشاف طرق نقد ومقاومة خلاقة وسلمية لممارسات السلطة، مع الإصرار أكثر من أي وقت وبالقوة نفسها على تطوير الوعي بالمصالح الضيقة للقوى الخارجية. إذ كما يبقى المطلب الديموقراطي حاضراً في كل وقت وخصوصاً في ظل الضغوط الخارجية، فإن الابتعاد عن محاكاة الداخل من منظور الأجندات الخارجية يبقى واجباً على السلطة أولاً وكذلك المعارضة، إذا كان يراد لأي حالة سياسية وطنية أن يكون لها فرصة في الوجود .
========
*- ملحق النهار الثقافي 23/3/2005
عبد الحي سيد
دمشق...
كان مشهد المحامين في يوم العاشر من شهر آذار 2004 بائساً ومثيراً للإحباط حقاً.
وقفت مجموعة من المحامين على أدراج المدخل الأمامي لقصر العدل، هاتفةً في تخوين فئة قليلة منهم اعتصمت سلمياً لتطالب بإلغاء حال الطوارئ.
جاء الاعتصام في الذكرى السنوية الثانية والأربعين لإعلان حال الطوارئ في سوريا التي بررت على مدى السنين أشكالاً مقيتة من التعسف في استعمال السلطة. كانت قاعة المحامين في قصر العدل، ذات النوافذ المطلة على مدخله الأمامي، تغص بالمحامين، الذين كانوا منشغلين بأحاديثهم الجانبية اللامبالية، في حين كان زملاؤهم المعتصمون على أبواب قصر العدل يتعرضون للضرب على أيدي طلاب متظاهرين تم جلبهم من كلية الحقوق! وعلى وقع أصداء هتافات التخوين، توقفت المحاكم عن العمل، بما في ذلك محكمة الجنايات التي تطل نوافذها على المدخل الأمامي لقصر العدل. ومع ذلك بقي المحامون المترافعون ملتصقين بكراسيهم، في انتظار عودة القضاة، بينما كان المتهمون في قفصهم يتبادلون الحديث مع عائلاتهم.
أصطف بعض القضاة على أدراج قصر العدل وشاهدوا بأعينهم جرائم ارتكبت كالاعتداء بالضرب والتحقير الفظ الذي تعرض له المعتصمون المسالمون، من دون أن يحركوا ساكنا أو يقوموا بتوقيف المعتدين. أما خارج أسوار قصر العدل، فقد كان واضحاً التنسيق الميداني بين ضباط الأمن الكبار والقياديين الحزبيين من طلاب كلية الحقوق والمحامين والقضاة، الذين أعدوا لتظاهرة التخوين وأشرفوا على تحويلها على ساحة المرجة لملاحقة المعتصمين. كان المتظاهرون أمام مبنى قصر العدل بالمئات. لم يكونوا كلهم من المرتبطين بالسلطة، أو من المشاركين في تنفيذ الاستراتيجيات القمعية لمواجهة المعتصمين. كان بين المتظاهرين الكثير من المارة ممن شاهدوا تجمعاً فانخرطوا فيه بعفوية. وبالرغم من ثقل همومهم الحياتية بكل ما فيها من معاناة سببها سوء إدارة السلطات للشؤون العامة، فقد ساهموا مع ذلك في إعلاء هتافات التقديس للسلطة!
تثير هذه المشاهدات تساؤلات على المستويين الاجتماعي - القانوني والسياسي، نوردها بسرعة على أمل تناولها بشكل معمق لاحقاً.
إن أول ما يطرحه مشهد العابرين ممن انخرطوا في التظاهرة هو التساؤل عن مدى وعي واحدهم بواقع التظاهرة التخوينية التي شارك فيها وكذلك رأيه فيها: كيف أمكن هذا الإنسان العادي الذي قد يكون في كل لحظة معرضاً لتعسف السلطة في حال الطوارئ، أن يتظاهر مدافعاً عنها، أو أن لا يكون متعاطفاً مع المطالبات التي تدعو إلى إلغائها؟
في هذا الإطار، كان للمحامين والقضاة، الذي يفترض فيهم الوعي بالأوضاع غير المنصفة التي تكرسها حال الطوارئ، دور خطير جداً. لقد وقف محامو دمشق وقضاتها على أدراج قصر العدل ليغطوا بعباءة مهنتهم، الطابع الاستثنائي الشاذ لحال الطوارئ، الأمر الذي جعلها تبدو كأنها ظاهرة طبيعية في الحياة القانونية. في وقت تمايزت مواقف نقابات المحامين في الكثير من البلدان العربية عن سياسات السلطات الحاكمة، كما حدث في تونس أخيراً، بقي محامو دمشق منضوين تحت ركب التبرير الأعمى للسلطة السياسية، بدون أي محاولة للتمايز أو خلق فرص الحوار عبر طرح الأسئلة عن خيارات السلطة وما أوصلت إليه. كان يمكن المحامين أن يرفضوا بقوة الاستخدام الأميركي الطارئ لحال الطوارئ المعلنة في سوريا، بعدما بقوا ساكتين عليها عشرات السنين. وكان يمكنهم أن يرفضوا بالقوة نفسها استراتيجيات السلطة التي تصور كل المطالب بإنهاء حال الطوارئ على أنها منخرطة في المشروع الأميركي. لم يمتلك محامو دمشق الجرأة الذهنية ليقولوا إن إلغاء حال الطوارئ مطلب محق وحاضر في كل وقت، بغض النظر عن أي توظيف سياسي له. تشكل وقفة المحامين الاعتذارية للممارسات التهييجية والتخوينية أمام مطالب محقة بإلغاء حال الطوارئ، بقعة سوداء على جبين المحامين والقضاة في سوريا، لا يضيئها إلا من شارك منهم بشجاعة في الاعتصام السلمي.
أما على المستوى السياسي، فمن الممكن القول إن سياسات الحكومة الأميركية كانت حاضرة على طرفي أسوار قصر العدل بدمشق. وقد أعطت مزايدات الحكومة الأميركية التافهة على ديموقراطية مزعومة تريد إحلالها في العراق وسوريا ولبنان، ذريعة للتهييج ضد المعتصمين المنادين بمجتمع أكثر انفتاحاً وإنصافاً. لقد تميز أقطاب المعارضة السورية المشاركون في الاعتصام، برفضهم المنهجي الانخراط في أي أجندات خارجية، وخصوصاً أميركية. وما فتئوا يذكّرون بذلك في شكل بدا مبالغاً فيه أحياناً. كانت دعواتهم تصالحية، سلمية، تكررت فيها المطالبة بعقد اجتماعي جديد، على أساس ديموقراطي وطني. وعلى رغم الهنات التي يعانيها أطياف المعارضة، فقد بثوا بحراكهم فضاءات من الحيوية في مجتمع مدني بقي خاملاً ومسكوناً بالخوف على مدى سنين طويلة. ومع ذلك، لم تنفتح السلطة السياسية على أطروحاتهم، واستمرت في تضييق التواصل معهم، بشكل تركهم غير معروفين لدى شرائح واسعة في المجتمع، ومعرضين لأبشع أنواع التهكم التخويني الشعبوي. لقد استمرت السلطة في التعاطي الشمولي مع المجتمع، عندما وضعت يدها على المجتمع المدني أثناء تظاهرات دمشق الأخيرة، لتقول إنه وحيد الطيف، ومنضوٍ بكامله تحت ركب السياسات الحكيمة!
ما الذي كان يمكن أن تخسره السلطة السياسية في ترك المعتصمين أمام قصر العدل يدلون بمطالبهم بشكل سلمي؟ إلى متى يستمر النظر إلى المطالبات المختلفة أو النقدية في الداخل على أنها عامل إضعاف أمام الخارج، بدل أن يكون الاختلاف والتعدد عامل غنى وقوة؟
إن أكبر التحديات، في ظل الاستراتيجيات الاسرائيلية - الأميركية التي تطاول سوريا، هو الالتفات أولاً وقبل كل شيء إلى الداخل والانفتاح على تعدد المجتمع، وتمكين الإنسان من المشاركة في إدارة شؤونه العامة وتقرير مصيره. لم يعد من المجدي التفكير في الصراع مع المشاريع الإسرائيلية - الأميركية بلغة المواجهة العسكرية أو الجهادية أو حتى مشاريع سلام. إن أقصى ما يمكن عمله على المستوى الأخلاقي، في ظل ظروف إقليمية مجحفة، هو إقامة مجتمع منفتح يمكّن الإنسان من العيش بحرية وكرامة. يشكل الانخراط في هذا المشروع أكبر نقد حضاري وتعرية ومقاومة لصلف السياسات الصهيونية في احتلالها أراضي عربية و ازدرائها الإنسان الفلسطيني.
في يوم العاشر من آذار 2005، ضيّعت السلطة السياسية في سوريا فرصة أخرى في التوجه مع مجتمعها نحو علاقات أكثر انفتاحاً. وفي ظل تعاطيها الشمولي، يكبر التحدي أمام أي حراك وطني ديموقراطي، في اكتشاف طرق نقد ومقاومة خلاقة وسلمية لممارسات السلطة، مع الإصرار أكثر من أي وقت وبالقوة نفسها على تطوير الوعي بالمصالح الضيقة للقوى الخارجية. إذ كما يبقى المطلب الديموقراطي حاضراً في كل وقت وخصوصاً في ظل الضغوط الخارجية، فإن الابتعاد عن محاكاة الداخل من منظور الأجندات الخارجية يبقى واجباً على السلطة أولاً وكذلك المعارضة، إذا كان يراد لأي حالة سياسية وطنية أن يكون لها فرصة في الوجود .
========
*- ملحق النهار الثقافي 23/3/2005