magic76
29/03/2005, 00:18
عبد الباري عطوان
يواجه النظام السوري هذه الايام ضغوطاً متصاعدة، ليس فقط للانسحاب من لبنان، عسكراً ومخابرات ونفوذاً، وانما للانسحاب من دمشق نفسها، وتتزايد كل يوم احتمالات استخدام القوة في هذا الخصوص، فالمؤشرات تؤكد في معظمها علي صدور قرار امريكي بتغيير النظام، وان المسألة باتت مسألة وقت وتوقيت، وتوفير الاسباب والذرائع، تماماً مثلما حدث في العراق.
وربما يكون وضع النظام السوري اكثر سوءاً من وضع نظيره العراقي السابق، فقد توحدت ضده الولايات المتحدة واوروبا، وباتت فرنسا هي التي تطالب باصدار قرار عن مجلس الامن الدولي بتشكيل لجنة تحقيق دولية في جريمة اغتيال الحريري، وتلقي بثقلها بالكامل خلف المعارضة اللبنانية المعادية لسورية ونظامها، الامر الذي لم يحدث في حال العراق قبل الغزو، مما يجعل مهمة الولايات المتحدة اكثر سهولة نظرياً.
الادارة الامريكية تتحرك وفق خطة معدة سلفاً. ولا نبالغ اذا قلنا ان قرار تغيير النظام السوري جري اتخاذه في اللحظة نفسها التي جري فيها اتخاذ قرار اطاحة النظام العراقي. فلم يكن من قبيل الصدفة ان تكون هذه الادارة الاكثر معارضة للعرض السوري غير المشروط باستئناف مفاوضات السلام مع اسرائيل، اي التخلي عن وديعة رابين ، وعدم الاصرار علي استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها. فالسماح بالمفاوضات يعني استمرار بقاء النظام، والاعتراف بشرعيته، وهذا ربما ما لا تريده واشنطن والمحافظون الجدد.
السيناريو الامريكي واضح، تبدأ حلقته الاولي بالذهاب الي مجلس الامن لاستصدار قرار بتشكيل لجنة تحقيق دولية في اغتيال الرئيس الحريري، تكون اولي مهامها استدعاء قادة الاجهزة الامنية السورية واللبنانية للتحقيق في دولة محايدة، تماما مثلما جري في قضية لوكربي.
رفض التعاون مع لجنة التحقيق هذه يعني عدم تنفيذ قرار مجلس الامن، وجميع قرارات مجلس الامن الصادرة في حق العرب تستند الي المادة التي تنص علي استخدام القوة في حالة عدم الاذعان والتجاوب معها. فهل يقبل اللواء آصف شوكت، رئيس الاستحبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان رئيس الامن السياسي، وغازي كنعان وزير الداخلية، ورستم غزالة منسق المخابرات السورية في لبنان، ومحمد السيد قائد الامن العام اللبناني المثول امام لجنة تحقيق في الخارج، والي متي سيتمنعون ويرفضون هذا الطلب؟ الافضل لهم ان يبدأوا من الان بالاطلاع علي ملف قضية لوكربي، والتحلي بأقصي درجات الصبر، لان حجم هذا الملف يزيد عن خمسين الف وثيقة، معظمها باللغة الانكليزية.
العارفون ببواطن الامور في دهاليز الادارة الامريكية يهمسون بان الرئيس بوش يملك تصورا مفاده ان النظام السوري ضعيف ومتهالك، ويواجه معارضة داخلية متنامية بسبب الفساد والقهر وغياب الحريات، ولذلك لا تريد هذه الادارة تكثيف ضغوطها بشكل متسارع حتي لا تفاجأ بانهيار النظام ودون وجود البدائل الداخلية او الخارجية.
هذا التصور قد ينطوي علي قدر كبير من التفاؤل الامريكي غير المسنود بادلة ثابتة، ولكن ما هو ثابت ان الادارة الامريكية بدأت تعمل لايجاد البدائل، وهناك من يقول انها اجرت اتصالات مع بعض رموز النظام الجاهزة للتعاون معها حتي لا تكرر خطأ حل الجيش ومؤسسات الدولة السياسية والامنية في العراق. اما علي الصعيد الخارجي، فالسيد فريد الغادري، الذي لا يتمتع بالحد الادني من الشعبية داخل سورية او خارجها، بات بمثابة احمد جلبي سورية يلتقي رجالات الكونغرس ويقدم نفسه علي انه البديل وبات ضيفا مزمنا علي الفضائيات والقنوات الامريكية. وربما يفيد التذكير بأن جلبي العراق لم يكن معروفاً، ولم يتمتع بأي شعبية قبل غزو العراق، ولم يتغير الحال بعد الغزو والاحتلال، واضطر الي تغيير جلده، من علماني متطرف الي شيعي طائفي اكثر تطرفاً من السيستاني نفسه.
برود النظام السوري وتكلسه، ولا مبالاته، ازاء ما يحدث هو في نظرنا اخطر من المؤامرات التي تحاك ضده. فقد رضخ هذا النظام للضغوط الفرنسية والامريكية بتنفيذ الانسحاب من لبنان، ولكنه يتردد في الاقدام علي اي خطوات اصلاحية داخلية.
وربما يكون مرد هذه اللامبالاة سببان اساسيان، الاول هو عدم فهم طبيعة المتغيرات الحادثة حاليا داخل سورية، والثاني عدم قدرة هذا النظام علي الاصلاح والتغيير، لاسباب بنيوية اساسية، تعود الي تركيبته الداخلية المعقدة.
السوريون تحرروا من عقدة الخوف التي كانت سائدة في اوساطهم في زمن حكم الرئيس حافظ الاسد. فالنظام في زمن الرئيس السوري الراحل كان مستقراً موحداً، ولاعباً رئيسياً في الساحتين الاقليمية والدولية، الامور تغيرت الان، فالاسد الشبل ليس مثل الاسد الاب، والنظام الان يعيش صراعات مراكز القوي، وتنافس الاجهزة الامنية المتعددة، وحالة الاستقطاب المتفاقمة بين الحرسين القديم والجديد. في الماضي كان هناك رجل واحد يحكم، في الوقت الراهن هناك عدة رجال، ومن يقول غير ذلك يغالط نفسه.
النظام السوري يجب ان يدرك جيداً ان الدبلوماسية السورية لن تفيد في اخراجه من ورطته الحالية، ليس لانها دبلوماسية ثبت عجزها، وبالتالي فشلها، لاتباعها ادوات واساليب بالية، وانما ايضاً لان هذه الازمة باتت تستعصي علي اي معجزة دبلوماسية لشدة تعقيداتها، ووقوف سورية وحدها في مواجهة العالم، دون نصير حقيقي، حتي من اقرب المقربين اليها، اي مصر والمملكة العربية السعودية حلفائها علي مدي الثلاثين عاماً الماضية. فهؤلاء تخلوا عن النظام السوري، لانهم أخذوا ما يريدون منه عندما حيدوه، وكسروا رصيده الثوري القومي، والاهم من ذلك انهم باتوا يبحثون عن النجاة بأنفسهم وتجنب العصا الاصلاحية الامريكية الغليظة.
الرئيس بشار الاسد وعد بالاصلاح الشامل في بداية عهده، وعليه الان ان يفي وبسرعة بهذا الوعد، وان يجد المساعدة من كل الذين حوله، لان غرقه يعني غرق الجميع معه فاذا كانوا لا يريدون وضع مصلحة الوطن في المقدمة، فإن عليهم ان يراعوا مصلحتهم كمجموعة علي الاقل.
نسأل الرئيس بشار الاسد، هل سحب القوات من لبنان اكثر سهولة من الافراج عن عشرين شخصاً من رموز المجتمع المدني، مثل عارف دليلة ومأمون الحمصي، ورياض سيف وغيرهم. هل اخلاء السجون من معتقلي الرأي اصعب من اخلاء لبنان من المخابرات السورية؟
قرار سحب القوات السورية من لبنان قرار شجاع بلا شك، حتي ولو جاء بضغوط امريكية فرنسية، ولكن القرار الاشجع في رأينا هو الانسحاب من كل الممارسات القمعية السابقة وافراغ السجون والمعتقلات واطلاق الحريات، واصدار العفو العام الشامل، فهذا القرار ربما يشكل المخرج الوحيد للنظام من الحفرة التي اوقعته فيها امريكا، وان لم يخرج فانه يكون استند الي شعبه، واحتكم اليه، واستجاب لمطالبه، وهذا سيكون اعظم انجاز له.
الرئيس بشار الاسد اعترف بشجاعة في خطابه امام مجلس الشعب بان هناك من بين السوريين من اخطأ في حق لبنان واللبنانيين، ليته يقف مرة اخري امام المجلس نفسه، أو علي رأس مظاهرة، ويقول ان هناك من اخطأ في حق سورية والسوريين ايضاً، وستتم محاسبتهم. وسنبدأ صفحة جديدة. ليته يفعل هذا.
" القدس العربي "
يواجه النظام السوري هذه الايام ضغوطاً متصاعدة، ليس فقط للانسحاب من لبنان، عسكراً ومخابرات ونفوذاً، وانما للانسحاب من دمشق نفسها، وتتزايد كل يوم احتمالات استخدام القوة في هذا الخصوص، فالمؤشرات تؤكد في معظمها علي صدور قرار امريكي بتغيير النظام، وان المسألة باتت مسألة وقت وتوقيت، وتوفير الاسباب والذرائع، تماماً مثلما حدث في العراق.
وربما يكون وضع النظام السوري اكثر سوءاً من وضع نظيره العراقي السابق، فقد توحدت ضده الولايات المتحدة واوروبا، وباتت فرنسا هي التي تطالب باصدار قرار عن مجلس الامن الدولي بتشكيل لجنة تحقيق دولية في جريمة اغتيال الحريري، وتلقي بثقلها بالكامل خلف المعارضة اللبنانية المعادية لسورية ونظامها، الامر الذي لم يحدث في حال العراق قبل الغزو، مما يجعل مهمة الولايات المتحدة اكثر سهولة نظرياً.
الادارة الامريكية تتحرك وفق خطة معدة سلفاً. ولا نبالغ اذا قلنا ان قرار تغيير النظام السوري جري اتخاذه في اللحظة نفسها التي جري فيها اتخاذ قرار اطاحة النظام العراقي. فلم يكن من قبيل الصدفة ان تكون هذه الادارة الاكثر معارضة للعرض السوري غير المشروط باستئناف مفاوضات السلام مع اسرائيل، اي التخلي عن وديعة رابين ، وعدم الاصرار علي استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها. فالسماح بالمفاوضات يعني استمرار بقاء النظام، والاعتراف بشرعيته، وهذا ربما ما لا تريده واشنطن والمحافظون الجدد.
السيناريو الامريكي واضح، تبدأ حلقته الاولي بالذهاب الي مجلس الامن لاستصدار قرار بتشكيل لجنة تحقيق دولية في اغتيال الرئيس الحريري، تكون اولي مهامها استدعاء قادة الاجهزة الامنية السورية واللبنانية للتحقيق في دولة محايدة، تماما مثلما جري في قضية لوكربي.
رفض التعاون مع لجنة التحقيق هذه يعني عدم تنفيذ قرار مجلس الامن، وجميع قرارات مجلس الامن الصادرة في حق العرب تستند الي المادة التي تنص علي استخدام القوة في حالة عدم الاذعان والتجاوب معها. فهل يقبل اللواء آصف شوكت، رئيس الاستحبارات العسكرية، واللواء بهجت سليمان رئيس الامن السياسي، وغازي كنعان وزير الداخلية، ورستم غزالة منسق المخابرات السورية في لبنان، ومحمد السيد قائد الامن العام اللبناني المثول امام لجنة تحقيق في الخارج، والي متي سيتمنعون ويرفضون هذا الطلب؟ الافضل لهم ان يبدأوا من الان بالاطلاع علي ملف قضية لوكربي، والتحلي بأقصي درجات الصبر، لان حجم هذا الملف يزيد عن خمسين الف وثيقة، معظمها باللغة الانكليزية.
العارفون ببواطن الامور في دهاليز الادارة الامريكية يهمسون بان الرئيس بوش يملك تصورا مفاده ان النظام السوري ضعيف ومتهالك، ويواجه معارضة داخلية متنامية بسبب الفساد والقهر وغياب الحريات، ولذلك لا تريد هذه الادارة تكثيف ضغوطها بشكل متسارع حتي لا تفاجأ بانهيار النظام ودون وجود البدائل الداخلية او الخارجية.
هذا التصور قد ينطوي علي قدر كبير من التفاؤل الامريكي غير المسنود بادلة ثابتة، ولكن ما هو ثابت ان الادارة الامريكية بدأت تعمل لايجاد البدائل، وهناك من يقول انها اجرت اتصالات مع بعض رموز النظام الجاهزة للتعاون معها حتي لا تكرر خطأ حل الجيش ومؤسسات الدولة السياسية والامنية في العراق. اما علي الصعيد الخارجي، فالسيد فريد الغادري، الذي لا يتمتع بالحد الادني من الشعبية داخل سورية او خارجها، بات بمثابة احمد جلبي سورية يلتقي رجالات الكونغرس ويقدم نفسه علي انه البديل وبات ضيفا مزمنا علي الفضائيات والقنوات الامريكية. وربما يفيد التذكير بأن جلبي العراق لم يكن معروفاً، ولم يتمتع بأي شعبية قبل غزو العراق، ولم يتغير الحال بعد الغزو والاحتلال، واضطر الي تغيير جلده، من علماني متطرف الي شيعي طائفي اكثر تطرفاً من السيستاني نفسه.
برود النظام السوري وتكلسه، ولا مبالاته، ازاء ما يحدث هو في نظرنا اخطر من المؤامرات التي تحاك ضده. فقد رضخ هذا النظام للضغوط الفرنسية والامريكية بتنفيذ الانسحاب من لبنان، ولكنه يتردد في الاقدام علي اي خطوات اصلاحية داخلية.
وربما يكون مرد هذه اللامبالاة سببان اساسيان، الاول هو عدم فهم طبيعة المتغيرات الحادثة حاليا داخل سورية، والثاني عدم قدرة هذا النظام علي الاصلاح والتغيير، لاسباب بنيوية اساسية، تعود الي تركيبته الداخلية المعقدة.
السوريون تحرروا من عقدة الخوف التي كانت سائدة في اوساطهم في زمن حكم الرئيس حافظ الاسد. فالنظام في زمن الرئيس السوري الراحل كان مستقراً موحداً، ولاعباً رئيسياً في الساحتين الاقليمية والدولية، الامور تغيرت الان، فالاسد الشبل ليس مثل الاسد الاب، والنظام الان يعيش صراعات مراكز القوي، وتنافس الاجهزة الامنية المتعددة، وحالة الاستقطاب المتفاقمة بين الحرسين القديم والجديد. في الماضي كان هناك رجل واحد يحكم، في الوقت الراهن هناك عدة رجال، ومن يقول غير ذلك يغالط نفسه.
النظام السوري يجب ان يدرك جيداً ان الدبلوماسية السورية لن تفيد في اخراجه من ورطته الحالية، ليس لانها دبلوماسية ثبت عجزها، وبالتالي فشلها، لاتباعها ادوات واساليب بالية، وانما ايضاً لان هذه الازمة باتت تستعصي علي اي معجزة دبلوماسية لشدة تعقيداتها، ووقوف سورية وحدها في مواجهة العالم، دون نصير حقيقي، حتي من اقرب المقربين اليها، اي مصر والمملكة العربية السعودية حلفائها علي مدي الثلاثين عاماً الماضية. فهؤلاء تخلوا عن النظام السوري، لانهم أخذوا ما يريدون منه عندما حيدوه، وكسروا رصيده الثوري القومي، والاهم من ذلك انهم باتوا يبحثون عن النجاة بأنفسهم وتجنب العصا الاصلاحية الامريكية الغليظة.
الرئيس بشار الاسد وعد بالاصلاح الشامل في بداية عهده، وعليه الان ان يفي وبسرعة بهذا الوعد، وان يجد المساعدة من كل الذين حوله، لان غرقه يعني غرق الجميع معه فاذا كانوا لا يريدون وضع مصلحة الوطن في المقدمة، فإن عليهم ان يراعوا مصلحتهم كمجموعة علي الاقل.
نسأل الرئيس بشار الاسد، هل سحب القوات من لبنان اكثر سهولة من الافراج عن عشرين شخصاً من رموز المجتمع المدني، مثل عارف دليلة ومأمون الحمصي، ورياض سيف وغيرهم. هل اخلاء السجون من معتقلي الرأي اصعب من اخلاء لبنان من المخابرات السورية؟
قرار سحب القوات السورية من لبنان قرار شجاع بلا شك، حتي ولو جاء بضغوط امريكية فرنسية، ولكن القرار الاشجع في رأينا هو الانسحاب من كل الممارسات القمعية السابقة وافراغ السجون والمعتقلات واطلاق الحريات، واصدار العفو العام الشامل، فهذا القرار ربما يشكل المخرج الوحيد للنظام من الحفرة التي اوقعته فيها امريكا، وان لم يخرج فانه يكون استند الي شعبه، واحتكم اليه، واستجاب لمطالبه، وهذا سيكون اعظم انجاز له.
الرئيس بشار الاسد اعترف بشجاعة في خطابه امام مجلس الشعب بان هناك من بين السوريين من اخطأ في حق لبنان واللبنانيين، ليته يقف مرة اخري امام المجلس نفسه، أو علي رأس مظاهرة، ويقول ان هناك من اخطأ في حق سورية والسوريين ايضاً، وستتم محاسبتهم. وسنبدأ صفحة جديدة. ليته يفعل هذا.
" القدس العربي "