Marcel
03/07/2006, 02:47
يندهش المرء أحياناً حيال ميل شائع الى تمجيد المقاومة، مطلق مقاومة، بغضّ النظر عن احتساب أكلافها، وعن المقارنة الموضوعيّة بين الواقع في ظلّها والواقع عينه من دونها.
ولما كان المقاومون هم دائماً من يؤسّس هذا التمجيد، ويزيّت آلته الايديولوجيّة بزيت «الكرامة»، بات من السهل استنتاج أن ما من أحد يبخّس صنيعه. لكن الأمر، في آخر المطاف، أبعد من ذلك وأعقد.
ولنقل في البداية إن كون هذه المقاومة أو تلك على حق، أو على غير حق، مسألة تقع خارج تناول الأسطر هذه، والشيء نفسه يصحّ في المسألة المتعلّقة بما إذا كان قيامها في وجه الاحتلال أمراً حتميّاً أم مصنوعاً أم في منزلة بين المنزلتين. مع هذا يُلاحَظ أن العبارة الدارجة والتلقائيّة التي تقول إن كل احتلال يطلق مقاومته ويستدعيها، غالباً ما تحيل الى العتم ذاك الوجه المصنوع من المقاومات رادّةً الفعل المقاوم الى ما يشبه الفعل الطبيعيّ. فوق هذا، فإن العبارة - المعادلة المذكورة حين تقال وصفياً، تمتلك درجة معقولة من الصحّة بوصفها تقريراً لواقع ما. أما حين تأتي كوصفة واقتراح دائمين وملزمين، فتبدو لاتاريخيّة تماماً، مثلها مثل شعارات كالإسلام هو الحل، لا تعبأ بتحوّلات المجتمع وقدراته وانقساماته. وبين الأسئلة العديدة التي تُغيّب في حال كهذه، مدى قدرة مجتمع ما على المقاومة، ومدى انعكاس درجة بحبوحته، أو فقره، على طاقته للمضيّ فيها إلخ...
لكن الملاحظة الأهمّ في ما خصّها، أن المقاومة إذ تسيّس الناس تسييساً مسلّحاً، لا مؤسسياً يمتصّ النزاعات (لأن ظروف الحرب والغزو لا تتيح ذلك بالطبع)، تكون تطلق مكنونات النفس الجماعيّة وتعارُضاتها. فعندما يحلّ التسييس الأقصى بديلاً من السياسة الغائبة أو الممنوعة، تظهر الى العلن الخصائص المعطاة الأولى، الاستبداديّة والغريزيّة غير الملجومة التي يتّصل بعضها بالنفس البشريّة ذاتها، وبعضها الآخر بالصدور عن مجتمع منقسم ونزاعيّ سابق على الاحتلال والمقاومة. يفاقم المنحى هذا أن السلاح، الذي به يتم إخضاع الآخر إبّان محاربة العدو أو بعده، يصير حمله ممكناً بل ممجّداً بسبب الاحتلال. أي أن الروادع الحائلة دون انفلات الغرائز وتصفية الحسابات ونصرة جماعة أهليّة، أو عقائديّة، على جماعة أخرى، تزداد ضعفاً وتصدّعاً.
أما التباين بين الحريّة كطلب طبيعيّ وأوّليّ يحضّ على الصراع مع غريب ممسك بأدوات القوّة والاخضاع، وبين بناء سياسيّ وطنيّ يهدف اليه العمل العنفيّ نظريّاً، فغير قابل للحسم بتاتاً. ذاك أن اصطباغ المقاومات بالانشقاقات المجتمعيّة، الأهليّ منها وغير الأهليّ، يجعل من حريّة جماعة ما قهراً لجماعة أخرى. ثم أن المقاومة تطلب، بعد الانتصار، حدّاً أقصى من التعويض غالباً ما يكون مضادّاً للطبيعة، لا تقوى قدرات البلد وتراكيب المجتمع المعنيّ على توفيره لها. هكذا ينشأ الاستبداد إذا قُيّض لها أن تحكم، فيما تنشأ الحرب الأهليّة إذا لم تحكم. فالمقاوم ليس جنديّاً مجهولاً يكتفي بالحصول على تكريم رمزيّ، بل بيروقراطيّة جنود معروفين جدّاً، تقف فوقهم قيادة تحكمهم بها تراتبيّة ويربطهم بها نظام من المصالح والمنافع. وهي جميعاً علاقات سوف تكافح للبقاء على قيد الحياة، بغضّ النظر عما إذا كان العدوّ فعليّاً أو وهميّاً. يضاعف الاحتمال هذا ان المقاومين أكثر تعطّشاً الى السلطة بسبب صدورهم عن بيئات مَقصيّة تاريخيّاً عن السلطة، السياسيّة منها والاقتصادية، وأكثر ميلاً الى المماهاة بين طلبهم السلطة والامتيازات وبين مصلحة المقاومة.
فعلى عكس الصورة الرومنطيقيّة التي تضفيها المقاومات على نفسها من أنها تعبير عن وحدة شعب في وجه عدوّ، تقول التجارب كلها ان المقاومات حروب أهليّة مُموّهة أو مقنّعة، وأنه كلّما كان التكسّر المجتمعيّ أكبر كانت أشرس وأشدّ راديكاليّة. أما المقاومة التي تطابق صورتها عن نفسها، أي التي تمثّل وحدة المجتمع وحريّته وتسعى الى انتزاعهما المعزّز بإرادة شعبيّة، فأمر غير موجود إلا في المثالات النظريّة والسيناريوات الطوبويّة.
ففرنسا لم تنفصل مقاومتها عن «حرب أهليّة باردة» اندلعت مع تشكيل حكومة ليون بلوم و «الجبهة الشعبيّة» عام 1936 وكانت ذروة الاضطراب الذي أحاق بالجمهورية الثالثة خلال فترة ما بين الحربين وصولاً الى فناء الجمهوريّة المذكورة مع الهزيمة في 1940. وضدّاً على الأساطير اللاحقة، لم تكن أكثريّة الفرنسيّين مؤيّدة للمقاومة، ولم ينضمّ الشيوعيّون اليها الا بعد سقوط معاهدة مولوتوف - ريبنتروب وابتداء الهجوم النازيّ على الاتحاد السوفياتيّ، كما لم يكن لهذه المقاومة فعاليّة عسكريّة تُذكر إلا في السنة الأخيرة من الحرب العالميّة الثانيّة. أما المقاومة اليوغوسلافيّة، وكانت أفعل عسكريّاً بلا قياس، فمثلها مثل المقاومة اليونانيّة، توازت مع نزاع أهليّ تحت راية مقاومةٍ مشطورة. وفي تصفية مؤيّدي مصالي الحاج في الجزائر وفرنسا والصراعات العنيفة التالية بين قادة الثورة، كما في إخضاع الفيتناميين الجنوبيين بمن فيهم أؤلئك الذين انضمّوا الى العمل المقاوم لإقامة نظام مستقل وديموقراطي في جنوب فيتنام، تكرّرت الحقيقة إياها هي نفسها. وقبل ذلك، لم تنفصل مقاومة الشيوعيين والكومنتانغ الصينيين لليابان عن الحرب بين الحزبين. وبعد ذلك، كانت وحدة «المجاهدين» الأفغان في مواجهة الروس هزالاً محضاً بالقياس الى تشقّق المجتمع الأفغانيّ الذي ما لبث أن كشف عن وجهه الدمويّ المتكاره. وبدورها فإن المقاومة الايرلنديّة المديدة للبريطانيين هي بالضبط نفس النزاع الأهليّ بين الايرلنديين الكاثوليك والايرلنديين البروتستانت. أما الأكاذيب عن وحدة اللبنانيين من حول مقاومة «حزب الله»، أو وحدة العراقيين من حول المقاومة السنيّة، فتعفي من التوقّف عندها.
ولأن الوطنيّة الحديثة المنسوبة الى المقاومات مبالَغة فاقعة، لا سيّما في البلدان التي لم تصر أوطاناً بعد، فمبالغةٌ أكبر منها محاولات بعض مثقفي المقاومات إضفاء أفكار حديثة على المقاومات تلك. فلا تقلّبات ماو تسي تونغ «النظريّة»، ولا محاولات تيتو الاتصال بالنازيين الألمان لقطع الطريق على خصومه اليوغوسلاف (على ما أخبرنا ميلوفان دجيلاس)، ببرهان على احترام قيم تتعدّى الإمساك بالسلطة وقهر خصوم الجماعة المناوئة من أهل البلد إيّاه. ذاك أن العنف بذاته، ومهما قيل في ربطه بالأفكار، طاردٌ للأفكار. وهو طاردٌ خصوصاً لتلك الحديثة منها المتّصلة بدول قائمة ومجتمعات مستقرّة تحجّم القوى الساعية الى قضم السلطات جميعاً بذريعة المقاومةً.
حتى إحدى أكثر الايديولوجيّات الحديثة انبناءً على فكرة الصراع، أي الماركسيّة، تستعرض بوفرة وغنى هذا الفارق بين العنف والقابليّة السياسيّة. فقد أخذت، مثلاً، هنه أرنت على «اليسار الجديد» وقبله على ماو تسي تونغ، نقل موضع التركيز في الماركسيّة من «عمليّة الانتاج» الى العنف حيث، على ما قال ماو، «تنبثق السلطة من فوهة البندقيّة». فإذا صحّ أن ماركسيّة ماركس، وخصوصاً إنغلز، أعطت حيّزاً مرموقاً للعنف، بقي أن هذا الأخير، عندهما، هو الطلق الذي يرافق الولادة وليس سببها.
وفي «ثورة في الثورة»، كان ريجيس دوبريه، وهو يشرح نظريّات كاسترو في الثورة و «البؤرة»، ويجلد مواقف شيوعيي أميركا اللاتينيّة، بليغاً في وضعه العنف الذي ينحاز إليه في مواجهة السياسة التي يمجّها، حتى لو كانت الأخيرة يساريّة.
بيد أن انبثاق المقاومة من تفتّت مجتمعي يجعلها هي نفسها انعكاساً للعجز عن بناء وحدة وطنيّة في البلد المقصود. وهو ما يتجلّى، في البداية، ثقافيّاً، من طريق إشاعة قيمة القوّة الذكريّة التي تتطلّبها المقاومة تعريفاً، مؤدّيةً تدريجاً الى إقصاء المرأة والمثقّفين، خصوصاً مع اقتراب المقاومات من إقامة أنظمتها. وإنما بفعل العجز هذا، يتضاعف تعظيم المقاومة التي تغدو، والحال على ما هي عليه، بديلاً من شرعيّة سياسيّة غائبة. فمشكلة الشرعيّة مع المقاومة أن الأولى مفهوم مدنيّ يتصل بالإرادة الشعبيّة كما تعبّر عن نفسها في زمن سلميّ، فضلاً عن اتّصالها الوثيق بسلطة معيّنة في دولة ما. وهذا كله ينعدم وجوده في حالات الغزو والاحتلال والحرب. فمع العنف تتعطّل الشرعيّة كمعيار ويحلّ محلها الخيار الايديولوجيّ الذي يموّه الانقسام الواقعيّ فيما يستقي «شرعيّته» من تقديره لما هو صواب وما هو خطأ. وقد يكون التقدير هذا صائباً أو لا يكون، إلا أنه يندرج في خانة تغاير الخانة التي تندرج فيها الشرعيّة ومسائلها تماماً. وإنّما يبلغ تعظيم المقاومة ذُراه في الثقافات التي تعاني الافتقار الى نظريّات في الشرعيّة السياسيّة وفي تقاليدها (هل هي صدفة أن يتعاظم اليوم الكلام على «الجهاد» - الإسهام العربيّ - الإسلاميّ الأكبر، إن لم يكن الأوحد، في السياسة، بحيث يكاد يلغي سائر المصطلحات والمفاهيم السياسيّة؟).
فكلما كان التفتّت الاجتماعي في البلد المعنيّ أكبر، والتقليد السياسيّ أضعف، كان التعويل أكبر على المقاومة كمصدر للشرعيّة.
وهذا جميعاً لا يلغي أن تكون المقاومة، هنا أو هناك، مُحقّة، وأن تكون، في هذا البلد أو ذاك، أسهمت بقسط ما في وقف همجيّة وظلم ما. غير أن أمراً كهذا، أي اللجوء الى المقاومة وعنفها، إمّا أن يُقدّم كاضطرار يؤسف له، وكلحظة عارضة ينبغي تدبّر الخروج منها بأسرع ما يمكن الى حالة دستوريّة، أو أن يُقدّم عملاً غنائيّاً مجيداً يعبّر عن الحيويّة التي يختزنها شعب «عظيم». ولأسباب معروفة وكثيرة لن تُعتمد الصيغة الأولى، لا سيّما في زمن التعبئة و «التحبيب بالموت». إلا أن الذهاب بعيداً في تبنّي الصيغة الثانية، على ما هو دأب المقاومات، فيشي بأن ثمة شيئاً ما خطير جدّ. فكلّما اشتدّ المنطق هذا كانت المشكلة التي يتكتّم عليها أكبر، وكان النظام الذي يهجس بإقامته أشدّ استبداديّة، واحتمالُ النزاع الأهليّ أكثر وروداً. فلا القمع الصينيّ والفيتناميّ للنظامين الشيوعيين، ولا الحرب الأهليّة في الجزائر وأفغانستان، ولا النظام العسكريّ الذي عرفته اليونان بين أواخر الستينات وأواسط السبعينات، عديمة الصلة برواية حاكمة وكاذبة عن تاريخ البلدان المذكورة حلّت المقاومات في صدارة كذبتها. حتى فرنسا التي حماها تاريخها الدستوريّ من أن تقع فريسة مقاومتها، ومن أن تنشئ نظاماً توتاليتاريّاً، كان تمجيد مقاومتها تعبيراً عن الانقسام الفعليّ فيها حول المقاومة، والذي استؤنف، بعد الحرب، شللاً أحاق بالجمهوريّة الرابعة تمّ تلافيه بالبونابرتيّة الديغوليّة. ولم تحظ الحقيقة بالاحترام الا حين غدا تاريخ المقاومة قابلاً للمراجعة والتشكيك، فإذا بموريس بابون وبول توفييه ورينيه بوسكيه وجون ليغويي يُساقون الى المحاكم، ومن ورائهم يُحاكَم شعب وثقافة صُوّرا مقاومين بلا هوادة. حازم صاغيّة
ولما كان المقاومون هم دائماً من يؤسّس هذا التمجيد، ويزيّت آلته الايديولوجيّة بزيت «الكرامة»، بات من السهل استنتاج أن ما من أحد يبخّس صنيعه. لكن الأمر، في آخر المطاف، أبعد من ذلك وأعقد.
ولنقل في البداية إن كون هذه المقاومة أو تلك على حق، أو على غير حق، مسألة تقع خارج تناول الأسطر هذه، والشيء نفسه يصحّ في المسألة المتعلّقة بما إذا كان قيامها في وجه الاحتلال أمراً حتميّاً أم مصنوعاً أم في منزلة بين المنزلتين. مع هذا يُلاحَظ أن العبارة الدارجة والتلقائيّة التي تقول إن كل احتلال يطلق مقاومته ويستدعيها، غالباً ما تحيل الى العتم ذاك الوجه المصنوع من المقاومات رادّةً الفعل المقاوم الى ما يشبه الفعل الطبيعيّ. فوق هذا، فإن العبارة - المعادلة المذكورة حين تقال وصفياً، تمتلك درجة معقولة من الصحّة بوصفها تقريراً لواقع ما. أما حين تأتي كوصفة واقتراح دائمين وملزمين، فتبدو لاتاريخيّة تماماً، مثلها مثل شعارات كالإسلام هو الحل، لا تعبأ بتحوّلات المجتمع وقدراته وانقساماته. وبين الأسئلة العديدة التي تُغيّب في حال كهذه، مدى قدرة مجتمع ما على المقاومة، ومدى انعكاس درجة بحبوحته، أو فقره، على طاقته للمضيّ فيها إلخ...
لكن الملاحظة الأهمّ في ما خصّها، أن المقاومة إذ تسيّس الناس تسييساً مسلّحاً، لا مؤسسياً يمتصّ النزاعات (لأن ظروف الحرب والغزو لا تتيح ذلك بالطبع)، تكون تطلق مكنونات النفس الجماعيّة وتعارُضاتها. فعندما يحلّ التسييس الأقصى بديلاً من السياسة الغائبة أو الممنوعة، تظهر الى العلن الخصائص المعطاة الأولى، الاستبداديّة والغريزيّة غير الملجومة التي يتّصل بعضها بالنفس البشريّة ذاتها، وبعضها الآخر بالصدور عن مجتمع منقسم ونزاعيّ سابق على الاحتلال والمقاومة. يفاقم المنحى هذا أن السلاح، الذي به يتم إخضاع الآخر إبّان محاربة العدو أو بعده، يصير حمله ممكناً بل ممجّداً بسبب الاحتلال. أي أن الروادع الحائلة دون انفلات الغرائز وتصفية الحسابات ونصرة جماعة أهليّة، أو عقائديّة، على جماعة أخرى، تزداد ضعفاً وتصدّعاً.
أما التباين بين الحريّة كطلب طبيعيّ وأوّليّ يحضّ على الصراع مع غريب ممسك بأدوات القوّة والاخضاع، وبين بناء سياسيّ وطنيّ يهدف اليه العمل العنفيّ نظريّاً، فغير قابل للحسم بتاتاً. ذاك أن اصطباغ المقاومات بالانشقاقات المجتمعيّة، الأهليّ منها وغير الأهليّ، يجعل من حريّة جماعة ما قهراً لجماعة أخرى. ثم أن المقاومة تطلب، بعد الانتصار، حدّاً أقصى من التعويض غالباً ما يكون مضادّاً للطبيعة، لا تقوى قدرات البلد وتراكيب المجتمع المعنيّ على توفيره لها. هكذا ينشأ الاستبداد إذا قُيّض لها أن تحكم، فيما تنشأ الحرب الأهليّة إذا لم تحكم. فالمقاوم ليس جنديّاً مجهولاً يكتفي بالحصول على تكريم رمزيّ، بل بيروقراطيّة جنود معروفين جدّاً، تقف فوقهم قيادة تحكمهم بها تراتبيّة ويربطهم بها نظام من المصالح والمنافع. وهي جميعاً علاقات سوف تكافح للبقاء على قيد الحياة، بغضّ النظر عما إذا كان العدوّ فعليّاً أو وهميّاً. يضاعف الاحتمال هذا ان المقاومين أكثر تعطّشاً الى السلطة بسبب صدورهم عن بيئات مَقصيّة تاريخيّاً عن السلطة، السياسيّة منها والاقتصادية، وأكثر ميلاً الى المماهاة بين طلبهم السلطة والامتيازات وبين مصلحة المقاومة.
فعلى عكس الصورة الرومنطيقيّة التي تضفيها المقاومات على نفسها من أنها تعبير عن وحدة شعب في وجه عدوّ، تقول التجارب كلها ان المقاومات حروب أهليّة مُموّهة أو مقنّعة، وأنه كلّما كان التكسّر المجتمعيّ أكبر كانت أشرس وأشدّ راديكاليّة. أما المقاومة التي تطابق صورتها عن نفسها، أي التي تمثّل وحدة المجتمع وحريّته وتسعى الى انتزاعهما المعزّز بإرادة شعبيّة، فأمر غير موجود إلا في المثالات النظريّة والسيناريوات الطوبويّة.
ففرنسا لم تنفصل مقاومتها عن «حرب أهليّة باردة» اندلعت مع تشكيل حكومة ليون بلوم و «الجبهة الشعبيّة» عام 1936 وكانت ذروة الاضطراب الذي أحاق بالجمهورية الثالثة خلال فترة ما بين الحربين وصولاً الى فناء الجمهوريّة المذكورة مع الهزيمة في 1940. وضدّاً على الأساطير اللاحقة، لم تكن أكثريّة الفرنسيّين مؤيّدة للمقاومة، ولم ينضمّ الشيوعيّون اليها الا بعد سقوط معاهدة مولوتوف - ريبنتروب وابتداء الهجوم النازيّ على الاتحاد السوفياتيّ، كما لم يكن لهذه المقاومة فعاليّة عسكريّة تُذكر إلا في السنة الأخيرة من الحرب العالميّة الثانيّة. أما المقاومة اليوغوسلافيّة، وكانت أفعل عسكريّاً بلا قياس، فمثلها مثل المقاومة اليونانيّة، توازت مع نزاع أهليّ تحت راية مقاومةٍ مشطورة. وفي تصفية مؤيّدي مصالي الحاج في الجزائر وفرنسا والصراعات العنيفة التالية بين قادة الثورة، كما في إخضاع الفيتناميين الجنوبيين بمن فيهم أؤلئك الذين انضمّوا الى العمل المقاوم لإقامة نظام مستقل وديموقراطي في جنوب فيتنام، تكرّرت الحقيقة إياها هي نفسها. وقبل ذلك، لم تنفصل مقاومة الشيوعيين والكومنتانغ الصينيين لليابان عن الحرب بين الحزبين. وبعد ذلك، كانت وحدة «المجاهدين» الأفغان في مواجهة الروس هزالاً محضاً بالقياس الى تشقّق المجتمع الأفغانيّ الذي ما لبث أن كشف عن وجهه الدمويّ المتكاره. وبدورها فإن المقاومة الايرلنديّة المديدة للبريطانيين هي بالضبط نفس النزاع الأهليّ بين الايرلنديين الكاثوليك والايرلنديين البروتستانت. أما الأكاذيب عن وحدة اللبنانيين من حول مقاومة «حزب الله»، أو وحدة العراقيين من حول المقاومة السنيّة، فتعفي من التوقّف عندها.
ولأن الوطنيّة الحديثة المنسوبة الى المقاومات مبالَغة فاقعة، لا سيّما في البلدان التي لم تصر أوطاناً بعد، فمبالغةٌ أكبر منها محاولات بعض مثقفي المقاومات إضفاء أفكار حديثة على المقاومات تلك. فلا تقلّبات ماو تسي تونغ «النظريّة»، ولا محاولات تيتو الاتصال بالنازيين الألمان لقطع الطريق على خصومه اليوغوسلاف (على ما أخبرنا ميلوفان دجيلاس)، ببرهان على احترام قيم تتعدّى الإمساك بالسلطة وقهر خصوم الجماعة المناوئة من أهل البلد إيّاه. ذاك أن العنف بذاته، ومهما قيل في ربطه بالأفكار، طاردٌ للأفكار. وهو طاردٌ خصوصاً لتلك الحديثة منها المتّصلة بدول قائمة ومجتمعات مستقرّة تحجّم القوى الساعية الى قضم السلطات جميعاً بذريعة المقاومةً.
حتى إحدى أكثر الايديولوجيّات الحديثة انبناءً على فكرة الصراع، أي الماركسيّة، تستعرض بوفرة وغنى هذا الفارق بين العنف والقابليّة السياسيّة. فقد أخذت، مثلاً، هنه أرنت على «اليسار الجديد» وقبله على ماو تسي تونغ، نقل موضع التركيز في الماركسيّة من «عمليّة الانتاج» الى العنف حيث، على ما قال ماو، «تنبثق السلطة من فوهة البندقيّة». فإذا صحّ أن ماركسيّة ماركس، وخصوصاً إنغلز، أعطت حيّزاً مرموقاً للعنف، بقي أن هذا الأخير، عندهما، هو الطلق الذي يرافق الولادة وليس سببها.
وفي «ثورة في الثورة»، كان ريجيس دوبريه، وهو يشرح نظريّات كاسترو في الثورة و «البؤرة»، ويجلد مواقف شيوعيي أميركا اللاتينيّة، بليغاً في وضعه العنف الذي ينحاز إليه في مواجهة السياسة التي يمجّها، حتى لو كانت الأخيرة يساريّة.
بيد أن انبثاق المقاومة من تفتّت مجتمعي يجعلها هي نفسها انعكاساً للعجز عن بناء وحدة وطنيّة في البلد المقصود. وهو ما يتجلّى، في البداية، ثقافيّاً، من طريق إشاعة قيمة القوّة الذكريّة التي تتطلّبها المقاومة تعريفاً، مؤدّيةً تدريجاً الى إقصاء المرأة والمثقّفين، خصوصاً مع اقتراب المقاومات من إقامة أنظمتها. وإنما بفعل العجز هذا، يتضاعف تعظيم المقاومة التي تغدو، والحال على ما هي عليه، بديلاً من شرعيّة سياسيّة غائبة. فمشكلة الشرعيّة مع المقاومة أن الأولى مفهوم مدنيّ يتصل بالإرادة الشعبيّة كما تعبّر عن نفسها في زمن سلميّ، فضلاً عن اتّصالها الوثيق بسلطة معيّنة في دولة ما. وهذا كله ينعدم وجوده في حالات الغزو والاحتلال والحرب. فمع العنف تتعطّل الشرعيّة كمعيار ويحلّ محلها الخيار الايديولوجيّ الذي يموّه الانقسام الواقعيّ فيما يستقي «شرعيّته» من تقديره لما هو صواب وما هو خطأ. وقد يكون التقدير هذا صائباً أو لا يكون، إلا أنه يندرج في خانة تغاير الخانة التي تندرج فيها الشرعيّة ومسائلها تماماً. وإنّما يبلغ تعظيم المقاومة ذُراه في الثقافات التي تعاني الافتقار الى نظريّات في الشرعيّة السياسيّة وفي تقاليدها (هل هي صدفة أن يتعاظم اليوم الكلام على «الجهاد» - الإسهام العربيّ - الإسلاميّ الأكبر، إن لم يكن الأوحد، في السياسة، بحيث يكاد يلغي سائر المصطلحات والمفاهيم السياسيّة؟).
فكلما كان التفتّت الاجتماعي في البلد المعنيّ أكبر، والتقليد السياسيّ أضعف، كان التعويل أكبر على المقاومة كمصدر للشرعيّة.
وهذا جميعاً لا يلغي أن تكون المقاومة، هنا أو هناك، مُحقّة، وأن تكون، في هذا البلد أو ذاك، أسهمت بقسط ما في وقف همجيّة وظلم ما. غير أن أمراً كهذا، أي اللجوء الى المقاومة وعنفها، إمّا أن يُقدّم كاضطرار يؤسف له، وكلحظة عارضة ينبغي تدبّر الخروج منها بأسرع ما يمكن الى حالة دستوريّة، أو أن يُقدّم عملاً غنائيّاً مجيداً يعبّر عن الحيويّة التي يختزنها شعب «عظيم». ولأسباب معروفة وكثيرة لن تُعتمد الصيغة الأولى، لا سيّما في زمن التعبئة و «التحبيب بالموت». إلا أن الذهاب بعيداً في تبنّي الصيغة الثانية، على ما هو دأب المقاومات، فيشي بأن ثمة شيئاً ما خطير جدّ. فكلّما اشتدّ المنطق هذا كانت المشكلة التي يتكتّم عليها أكبر، وكان النظام الذي يهجس بإقامته أشدّ استبداديّة، واحتمالُ النزاع الأهليّ أكثر وروداً. فلا القمع الصينيّ والفيتناميّ للنظامين الشيوعيين، ولا الحرب الأهليّة في الجزائر وأفغانستان، ولا النظام العسكريّ الذي عرفته اليونان بين أواخر الستينات وأواسط السبعينات، عديمة الصلة برواية حاكمة وكاذبة عن تاريخ البلدان المذكورة حلّت المقاومات في صدارة كذبتها. حتى فرنسا التي حماها تاريخها الدستوريّ من أن تقع فريسة مقاومتها، ومن أن تنشئ نظاماً توتاليتاريّاً، كان تمجيد مقاومتها تعبيراً عن الانقسام الفعليّ فيها حول المقاومة، والذي استؤنف، بعد الحرب، شللاً أحاق بالجمهوريّة الرابعة تمّ تلافيه بالبونابرتيّة الديغوليّة. ولم تحظ الحقيقة بالاحترام الا حين غدا تاريخ المقاومة قابلاً للمراجعة والتشكيك، فإذا بموريس بابون وبول توفييه ورينيه بوسكيه وجون ليغويي يُساقون الى المحاكم، ومن ورائهم يُحاكَم شعب وثقافة صُوّرا مقاومين بلا هوادة. حازم صاغيّة