minime1967
07/04/2005, 19:34
صبحي حديدي
في أواخر الشهر الماضي، أيلول (سبتمبر)، عقد وزير المالية السوري محمد الحسين لقاء صحفياً واسع النطاق، غير مسبوق أو بالأحرى غير
معهود في تاريخ وزارة كهذه، مع مراسلي الصحف المحلية والعربية والعالمية. واكتسب اللقاء أهميته من اعتبارات ثلاثة: أنّ الوزير عضو في القيادة القطرية، ورئيس المكتب الإقتصادي القطري، ومن الجيل «الشاب» الذي واكب ترقية بشار الأسد في الميدان الحزبي، ومن مواليد محافظة دير الزور الشرقية النائية غير المعروفة بتعاطفها مع النظام؛ وأنّ اللقاء، ضمن الاعتبار الثاني، عُقد في مقرّ دار البعث بما يوحي توجيه رسالة مفادها أنّ الوزير ـ الرفيق يتمتّع بدعم قيادة الحزب أيضاً؛ وأخيراً، أنّ الهدف الرئيسي من اللقاء كان شرح مبادىء «التعاون» و«الشفافية» و«الصدق» التي تعتمدها الوزارة مع الوفد الأمريكي القادم للتفتيش على المصرف التجاري السوري، بحثاً عن تبييض أموال أو ودائع عراقية أو سواها من التفاصيل التي يستدعي «قانون محاسبة سورية» التدقيق فيها.
ولقد كان الوزير مفوّهاً ذرب اللسان متباهياً في كلّ ما طُرح عليه من أسئلة، ما عدا ذلك السؤال الوحيد الذي تجاهله تماماً وكأنّ أحداً لم يطرحه في الأساس: ما حكاية انقلاب شركتَي الهاتف الخليوي «سيرياتيل» و«سبيستيل»، لصاحبهما الأشهر من نار على علم رامي مخلوف، من شركتَي BOT (أي بناء ـ تشغيل ـ انتقال ملكية) إلى شركتين مساهمتين تطرحان الأسهم للبيع على الجمهور، قبل أو دونما سوق أسهم؟ المحتوى الآخر للسؤال ذاته كان يفيد التالي: هل تنازلت الدولة عن حقّها في امتلاك الشركتَين بعد انتهاء مدّة العقد؟ وكيف، نكتشف، ويكتشف الجمهور السوري، الآن فقط أنّ المدّة هذه ليست ثماني سنوات كما نعرف ويعرف الجميع، بل هي 51 سنة بالتمام والكمال... هذا إذا وافق رامي مخلوف على ردّ ما للدولة إلى الدولة!
بالطبع، «طنّش» الوزير ـ الرفيق عن هذا السؤال لأنّ أملاك ومشاريع وأنشطة رامي مخلوف كانت وتظلّ فوق القانون، ويحدث أحياناً أن تكون صانعة للقوانين أو معدّلة لها أو ضاربة بها عرض الحائط (كما حين أصدرت محكمة البداية المدنية في دمشق حكمها بتحويل ملكية 750 ألف سهم من مجموعة نجيب ساويريس إلي مجموعة رامي مخلوف، أو حين خضع وزير المواصلات، الإتصال والتقانة حالياً، بشير المنجد وطوى قراراً بمنع شركتَي الخليوي من تحويل أموالهما إلى الخارج دون إذن من الوزارة، أو حين بدا أنّ كلّ قوانين الأرض لا تحفظ حقّ آل سنقر في وكالة مرسيدس التي ضرب رامي مخلوف عينه عليها...). ولقد «طنّش» الوزير ـ الرفيق محمد الحسين لأنّ رامي مخلوف يمثّل التجسيد العملي الأعلى للبنية الريعية التي تضخّ أموال الفساد إلى حسابات الفاسدين، من أعلى الهرم وحتى أسفل سافله!
ولعلّ البعض يتذكّر الفقرة التي خصّت رامي مخلوف في حديث بشار الأسد إلى صحيفة «نيويورك تايمز" الأمريكية، قبل أقلّ من عام. الصحافي الأمريكي طرح سؤالاً مباشراً عن فساد الذين «من حول» الرئيس، فردّ الأسد بسؤال مضادّ: «لماذا من حولي؟ ماذا تقصد بعبارة من حولي»؟ ولم يتردد الأمريكي بالطبع، فأشار إلى إبن خال الرئيس صاحب عقد الهاتف الخليوي، وتابع بأنّ «اللائحة طويلة». آنذاك أجاب الأسد كما يلي، في وصف رامي مخلوف: «إنه سوري مثل أيّ سوري، وسواء أكان ابن خالي، أم أخي، أم صديقي، أم أيّ شخص آخر، هنالك قانون سوري»!
دون ريب، دون ريب! أهذا، من جديد، هو «القانون» الذي وضع رجلاً مثل رياض سيف خلف القضبان، لأنه كشف عجائب عقد الخليوي؟ أبسبب روحية ذلك القانون أن الأسد ألمح، في الحديث ذاته، إلى أنّ سيف موجود في السجن بسبب تهرّبه من دفع الضرائب؟ وهل أنّ يقين الأسد بأنّ سورية باتت أشبه بمزرعة في قبضة مافيات النهب والفساد، هو الذي دفعه إلى حذف هذه المفردة بالذات، "المزرعة"، من النصّ الذي نشرته وكالة الأنباء السورية «سانا»؟ في النصّ الإنكليزي يقول الأسد: «هذه ليست مزرعة. هذه دولة. ولا تستطيع تبسيط الأمر كثيراً». وأمّا في النصّ العربي الذي نشرته الصحف السورية، فإنه يقول: «نحن نتحدث عن دولة. لا يمكنك أن تجعل الأمور بهذه البساطة»!
لكنّ الوزير ـ الرفيق محمد الحسين أخذ الأمور بهذه البساطة، بالضبط، حين «طنّش» السؤال عن آخر فتوحات الإمبراطورية المالية والاستثمارية التي يقف على رأسها إبن خال الرئيس، وكان بذلك يقتدي بالرئيس، وبقيادة الحزب، وقيادة الدولة، من أعلى الهرم وحتى أسفل سافله كما أسلفنا القول. وهذا الرفيق ـ الوزير هو نموذج الوزراء الذين أبقى عليهم الأسد في التعديل الوزاري الأخير، والذي شمل ثماني وزارات بينها الداخلية والاقتصاد والإعلام. وهذا، لمَن لا يهوى السفسطة وتحميل الظواهر أكثر بكثير ممّا تحتمل، يكفي بذاته وفي حدّ ذاته لتقدير «آفاق التغيير» التي تنطوي عليها حكومة محمد ناجي العطري ـ 2.
وخذوا، في برهان ثانٍ سهل الهضم وساطع الحجّة في آن معاً، مثال وزير الصناعة الجديد غسان طيّارة: هذا رجل شغل موقع نقيب المهندسين طيلة 20 سنة، ليس لأنّ مهندسي سورية يهيمون به إعجاباً، وليس لأنه انتُخب (حتى بمعنى انتخابات حزب البعث الأقرب إلى المهازل)، بل لأنه عُيّن تعييناً بقرار من القيادة القطرية للحزب الحالكم، بعد حلّ نقيب ومجلس نقابة المهندسين في عام 1980، إثر التحرّك الشعبي والمهني الواسع ضدّ النظام. ألم تجد الرئاسة خيراً من هذا السجلّ، ومن هذا الرجل؟ أهؤلاء هم رجال التغيير ـ 4 (إذا احتسبنا وزارات محمد مصطفى ميرو ـ 1، وميرو ـ 2، ومحمد ناجي العطري ـ 1، والعطري ـ 2)؟
أو خذوا، في مثال ثالث وأخير، حال وزارة الإقتصاد: في دورة التغيير ميرو ـ 2، ذهب الوزير المزمن محمد العمادي، الذي تربّع على عرش الوزارة قرابة 51 سنة، وجاء بدلاً منه الدكتور غسان الرفاعي، المستشار السابق في البنك الدولي، «المستقلّ» إذا كانت لهذه الصفة من دلالة ملموسة بمعزل عن عدم عضويته في الحزب الحاكم، والنذير الأفصح حول توجهات السلطة نحو الإقتصاد الليبرالي. وفي دورة التغيير عطري ـ 1، جرى الاحتفاظ بالرجل ضمن صيغة إرسال المزيد من الإشارات حول الليبرالية القادمة، ولأنّ النظام كان بحاجة إلى هذا «الخبير» في خوض مفاوضات شاقّة حول الشراكة الأوروبية. واليوم، في دورة التغيير عطري ـ 2، تُفصل التجارة عن الاقتصاد، وتعود هذه الوزارة الأساسية إلى حيث بدأت وتواصلت طيلة عقود: إلى حزب البعث الحاكم، الذي عاد من جديد للإطباق على المالية والصناعة والاقتصاد!
ولعلّ التغيير الوحيد «الملموس»، أي ذاك الذي سيلمس السوريون آثاره لأنه لن يراوح في المكان أو يسير خطوة إلى أمام وثلاثاً إلى الخلف، هو تعيين اللواء غازي كنعان وزيراً للداخلية. ومن حيث المبدأ، لا نعرف حتى الآن ما إذا كان كنعان سيحتفظ بمنصبه كرئيس لجهاز الأمن السياسي (الذي انفصل رسمياً عن وزارة الداخلية منذ أن تولّى كنعان المنصب أواخر العام 2002)، أم سنشهد قراراً جديداً يعدّل القانون بحيث يواصل كنعان العمل في الجهاز والوزارة معاً. التباشير، مع ذلك، تشير إلى إحكام القبضة الأمنية في ملفّين أساسيين: كمّ الأفواه والعودة إلى سياسة اعتقال المعارضين (مثل عضو الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي سمير رحال، والكاتب والصحافي البعثي القديم حسن الصفدي، والناطق باسم «التجمع الليبرالي» الجديد نبيل فياض، والكاتب العضو في «التجمع» ذاته جهاد نصرة...)، وتشديد الرقابة والإجراءات الزجرية على الحدود السورية ـ العراقية حيث أخذت السياسات الأمنية تتبدّل جذرياً.
وحين نُقل كنعان من منصبه كرئيس لجهاز الإستخبارات السورية في لبنان، والذي كان قد شغله منذ عام 1982، كانت قناعتنا ترجّح أنّ يضعف نقل كنعان القبضة الأمنية السورية في لبنان، بالنظر إلى أنّ خليفته العقيد (آنذاك، العميد اليوم) رستم غزالي لا يملك خبرات رئيسه وكفاءته. غير أنّ تسليم كنعان جهاز الأمن السياسي بدا وكأنه يقوّي فريق بشار الأسد من جانب أوّل، ومن جانب ثانٍ يقيم توازناً أفضل بين الأجهزة الأمنية الرئيسة (الأمن العسكري، الأمن القومي، الأمن السياسي، مخابرات القوى الجوية، مخابرات الحرس الجمهوري...) عن طريق استقدام ضابط بارز مخضرم كان بين الأكثر اطلاعاً على أسرار العمل الأمني في عهد الأسد الأب.
لكنّ المفارقة ظلّت ماثلة. فهل جاء كنعان للاستيلاء على بعض أو معظم الصلاحيات الممنوحة إلى قدامى المحاربين في الأجهزة الأمنية، على نحو يوحّد العمل الأمني ويحصر القسط الأعظم من المرجعية في مركز ثنائي القطب (غازي كنعان نفسه، وعلي حمود وزير الداخلية السابق القويّ)؟ أم جاء للحدّ من، أو «ترشيد»، الصلاحيات المبعثرة الغامضة التي يلوح أحياناً وكأنها تتفرّق أيدي سبأ، بين عدد من الأجهزة الأمنية التي لا ينسّق واحدها مع الآخر، كما تذمّر بشار الأسد نفسه في الأشهر الأولى من استلامه الرئاسة؟ ولماذا تصحّ المراهنة على كنعان، ولا تصحّ على أمثال آصف شوكت وبهجت سليمان؟ ومَن يضمن أنّ احتدام الصراع بين زيد أو عمرو، هنا أو هناك في أطراف الجسد الأمني الديناصوري المتورّم هذا، لن يفضي إلى القتال بالسلاح الأبيض؟
قبل أسابيع قليلة، وفي ذروة التسخين الأمريكي اللفظي ضدّ النظام الحاكم في دمشق، تهامست أوساط المراقبين المهتمّين بالملفّ السوري معلومات صحفية أمريكية تقول إنّ الإدارة قد تكون حسمت أمرها في موضوع البديل الأصلح ـ والأقوى، الأكثر استقراراً، والأوضح ولاءً للولايات المتحدة ــ في سورية، وأنّ اختيارها وقع على اللواء آصف شوكت (54سنة) صهر الرئاسة والضابط الذي أخذ نفوذه يشتدّ في الجيش والأجهزة الأمنية، بشكل منهجي متصاعد منظّم. ليس في وسعنا الجزم حول معلومات كهذه بالطبع، غير أنّ ما توفّر من مؤشرات خلال الأسابيع المنصرمة كان يشير بوضوح إلى احتدام صراع خفيّ بين الجهازَين الأمنيين الرئيسيين: الاستخبارات العسكرية، والأمن السياسي.
والذين خبروا، أو يعرفون عن كثب، ارتباط هذا الصحافي السوري أو ذاك بهذا الجهاز الأمني السوري أو ذاك، كانوا قادرين بسهولة فائقة على غربلة عدد من التسريبات التي تنقل المياه إلى هذه أو تلك من طواحين النظام الأمنية. الذين هاجموا «حماقة» وزير الإعلام السوري السابق أحمد الحسن، في اعتبار القرار 9551 بمثابة «انتصار» لسورية ولبنان، كانوا يخدمون أجندة ذلك الجهاز الأمني الذي تعنيه مسألة تفضيح الحسن. والذين سرّبوا أخبار منح عقد هائل لاستثمار الغاز السوري إلى كونسورتيوم أمريكي ـ بريطاني ـ كندي، وليس إلى شركات فرنسية (حيث قيل إنّ بشار الأسد، شخصياً، وعد الرئيس الفرنسي جاك شيراك)، كانوا بدورهم يخدمون أجندة صراع محتدم، وهكذا...
وأياً كانت صدقية التقارير حول مفاعيل صراع الأجهزة في التعديل الوزاري الأخير، يبقى الجوهري في الأمر أنّ وزارة العطري ـ 2 لن تكون أفضل حالاً من وزارات العطري ـ 1 أو ميرو ـ 2 أو ميرو ـ 1. ذلك لأنّ بنية هذا النظام الحاكم ــ وكما برهنت أكثر من خمسة عقود وليس مجرّد السنوات الأربع الأخيرة ــ مستعصية على الإصلاح والتطوير والتحديث ما دامت لا تمسّ ركائز الاستبداد والفساد والنهب والتسلّط، وما دام الوزير ـ الرفيق محمد الحسين لا يجرؤ على الإجابة عن سؤال بريء مشروع حول رامي مخلوف، دَعْ جانباً رَمْي رامي بباقة زهور!
في أواخر الشهر الماضي، أيلول (سبتمبر)، عقد وزير المالية السوري محمد الحسين لقاء صحفياً واسع النطاق، غير مسبوق أو بالأحرى غير
معهود في تاريخ وزارة كهذه، مع مراسلي الصحف المحلية والعربية والعالمية. واكتسب اللقاء أهميته من اعتبارات ثلاثة: أنّ الوزير عضو في القيادة القطرية، ورئيس المكتب الإقتصادي القطري، ومن الجيل «الشاب» الذي واكب ترقية بشار الأسد في الميدان الحزبي، ومن مواليد محافظة دير الزور الشرقية النائية غير المعروفة بتعاطفها مع النظام؛ وأنّ اللقاء، ضمن الاعتبار الثاني، عُقد في مقرّ دار البعث بما يوحي توجيه رسالة مفادها أنّ الوزير ـ الرفيق يتمتّع بدعم قيادة الحزب أيضاً؛ وأخيراً، أنّ الهدف الرئيسي من اللقاء كان شرح مبادىء «التعاون» و«الشفافية» و«الصدق» التي تعتمدها الوزارة مع الوفد الأمريكي القادم للتفتيش على المصرف التجاري السوري، بحثاً عن تبييض أموال أو ودائع عراقية أو سواها من التفاصيل التي يستدعي «قانون محاسبة سورية» التدقيق فيها.
ولقد كان الوزير مفوّهاً ذرب اللسان متباهياً في كلّ ما طُرح عليه من أسئلة، ما عدا ذلك السؤال الوحيد الذي تجاهله تماماً وكأنّ أحداً لم يطرحه في الأساس: ما حكاية انقلاب شركتَي الهاتف الخليوي «سيرياتيل» و«سبيستيل»، لصاحبهما الأشهر من نار على علم رامي مخلوف، من شركتَي BOT (أي بناء ـ تشغيل ـ انتقال ملكية) إلى شركتين مساهمتين تطرحان الأسهم للبيع على الجمهور، قبل أو دونما سوق أسهم؟ المحتوى الآخر للسؤال ذاته كان يفيد التالي: هل تنازلت الدولة عن حقّها في امتلاك الشركتَين بعد انتهاء مدّة العقد؟ وكيف، نكتشف، ويكتشف الجمهور السوري، الآن فقط أنّ المدّة هذه ليست ثماني سنوات كما نعرف ويعرف الجميع، بل هي 51 سنة بالتمام والكمال... هذا إذا وافق رامي مخلوف على ردّ ما للدولة إلى الدولة!
بالطبع، «طنّش» الوزير ـ الرفيق عن هذا السؤال لأنّ أملاك ومشاريع وأنشطة رامي مخلوف كانت وتظلّ فوق القانون، ويحدث أحياناً أن تكون صانعة للقوانين أو معدّلة لها أو ضاربة بها عرض الحائط (كما حين أصدرت محكمة البداية المدنية في دمشق حكمها بتحويل ملكية 750 ألف سهم من مجموعة نجيب ساويريس إلي مجموعة رامي مخلوف، أو حين خضع وزير المواصلات، الإتصال والتقانة حالياً، بشير المنجد وطوى قراراً بمنع شركتَي الخليوي من تحويل أموالهما إلى الخارج دون إذن من الوزارة، أو حين بدا أنّ كلّ قوانين الأرض لا تحفظ حقّ آل سنقر في وكالة مرسيدس التي ضرب رامي مخلوف عينه عليها...). ولقد «طنّش» الوزير ـ الرفيق محمد الحسين لأنّ رامي مخلوف يمثّل التجسيد العملي الأعلى للبنية الريعية التي تضخّ أموال الفساد إلى حسابات الفاسدين، من أعلى الهرم وحتى أسفل سافله!
ولعلّ البعض يتذكّر الفقرة التي خصّت رامي مخلوف في حديث بشار الأسد إلى صحيفة «نيويورك تايمز" الأمريكية، قبل أقلّ من عام. الصحافي الأمريكي طرح سؤالاً مباشراً عن فساد الذين «من حول» الرئيس، فردّ الأسد بسؤال مضادّ: «لماذا من حولي؟ ماذا تقصد بعبارة من حولي»؟ ولم يتردد الأمريكي بالطبع، فأشار إلى إبن خال الرئيس صاحب عقد الهاتف الخليوي، وتابع بأنّ «اللائحة طويلة». آنذاك أجاب الأسد كما يلي، في وصف رامي مخلوف: «إنه سوري مثل أيّ سوري، وسواء أكان ابن خالي، أم أخي، أم صديقي، أم أيّ شخص آخر، هنالك قانون سوري»!
دون ريب، دون ريب! أهذا، من جديد، هو «القانون» الذي وضع رجلاً مثل رياض سيف خلف القضبان، لأنه كشف عجائب عقد الخليوي؟ أبسبب روحية ذلك القانون أن الأسد ألمح، في الحديث ذاته، إلى أنّ سيف موجود في السجن بسبب تهرّبه من دفع الضرائب؟ وهل أنّ يقين الأسد بأنّ سورية باتت أشبه بمزرعة في قبضة مافيات النهب والفساد، هو الذي دفعه إلى حذف هذه المفردة بالذات، "المزرعة"، من النصّ الذي نشرته وكالة الأنباء السورية «سانا»؟ في النصّ الإنكليزي يقول الأسد: «هذه ليست مزرعة. هذه دولة. ولا تستطيع تبسيط الأمر كثيراً». وأمّا في النصّ العربي الذي نشرته الصحف السورية، فإنه يقول: «نحن نتحدث عن دولة. لا يمكنك أن تجعل الأمور بهذه البساطة»!
لكنّ الوزير ـ الرفيق محمد الحسين أخذ الأمور بهذه البساطة، بالضبط، حين «طنّش» السؤال عن آخر فتوحات الإمبراطورية المالية والاستثمارية التي يقف على رأسها إبن خال الرئيس، وكان بذلك يقتدي بالرئيس، وبقيادة الحزب، وقيادة الدولة، من أعلى الهرم وحتى أسفل سافله كما أسلفنا القول. وهذا الرفيق ـ الوزير هو نموذج الوزراء الذين أبقى عليهم الأسد في التعديل الوزاري الأخير، والذي شمل ثماني وزارات بينها الداخلية والاقتصاد والإعلام. وهذا، لمَن لا يهوى السفسطة وتحميل الظواهر أكثر بكثير ممّا تحتمل، يكفي بذاته وفي حدّ ذاته لتقدير «آفاق التغيير» التي تنطوي عليها حكومة محمد ناجي العطري ـ 2.
وخذوا، في برهان ثانٍ سهل الهضم وساطع الحجّة في آن معاً، مثال وزير الصناعة الجديد غسان طيّارة: هذا رجل شغل موقع نقيب المهندسين طيلة 20 سنة، ليس لأنّ مهندسي سورية يهيمون به إعجاباً، وليس لأنه انتُخب (حتى بمعنى انتخابات حزب البعث الأقرب إلى المهازل)، بل لأنه عُيّن تعييناً بقرار من القيادة القطرية للحزب الحالكم، بعد حلّ نقيب ومجلس نقابة المهندسين في عام 1980، إثر التحرّك الشعبي والمهني الواسع ضدّ النظام. ألم تجد الرئاسة خيراً من هذا السجلّ، ومن هذا الرجل؟ أهؤلاء هم رجال التغيير ـ 4 (إذا احتسبنا وزارات محمد مصطفى ميرو ـ 1، وميرو ـ 2، ومحمد ناجي العطري ـ 1، والعطري ـ 2)؟
أو خذوا، في مثال ثالث وأخير، حال وزارة الإقتصاد: في دورة التغيير ميرو ـ 2، ذهب الوزير المزمن محمد العمادي، الذي تربّع على عرش الوزارة قرابة 51 سنة، وجاء بدلاً منه الدكتور غسان الرفاعي، المستشار السابق في البنك الدولي، «المستقلّ» إذا كانت لهذه الصفة من دلالة ملموسة بمعزل عن عدم عضويته في الحزب الحاكم، والنذير الأفصح حول توجهات السلطة نحو الإقتصاد الليبرالي. وفي دورة التغيير عطري ـ 1، جرى الاحتفاظ بالرجل ضمن صيغة إرسال المزيد من الإشارات حول الليبرالية القادمة، ولأنّ النظام كان بحاجة إلى هذا «الخبير» في خوض مفاوضات شاقّة حول الشراكة الأوروبية. واليوم، في دورة التغيير عطري ـ 2، تُفصل التجارة عن الاقتصاد، وتعود هذه الوزارة الأساسية إلى حيث بدأت وتواصلت طيلة عقود: إلى حزب البعث الحاكم، الذي عاد من جديد للإطباق على المالية والصناعة والاقتصاد!
ولعلّ التغيير الوحيد «الملموس»، أي ذاك الذي سيلمس السوريون آثاره لأنه لن يراوح في المكان أو يسير خطوة إلى أمام وثلاثاً إلى الخلف، هو تعيين اللواء غازي كنعان وزيراً للداخلية. ومن حيث المبدأ، لا نعرف حتى الآن ما إذا كان كنعان سيحتفظ بمنصبه كرئيس لجهاز الأمن السياسي (الذي انفصل رسمياً عن وزارة الداخلية منذ أن تولّى كنعان المنصب أواخر العام 2002)، أم سنشهد قراراً جديداً يعدّل القانون بحيث يواصل كنعان العمل في الجهاز والوزارة معاً. التباشير، مع ذلك، تشير إلى إحكام القبضة الأمنية في ملفّين أساسيين: كمّ الأفواه والعودة إلى سياسة اعتقال المعارضين (مثل عضو الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي سمير رحال، والكاتب والصحافي البعثي القديم حسن الصفدي، والناطق باسم «التجمع الليبرالي» الجديد نبيل فياض، والكاتب العضو في «التجمع» ذاته جهاد نصرة...)، وتشديد الرقابة والإجراءات الزجرية على الحدود السورية ـ العراقية حيث أخذت السياسات الأمنية تتبدّل جذرياً.
وحين نُقل كنعان من منصبه كرئيس لجهاز الإستخبارات السورية في لبنان، والذي كان قد شغله منذ عام 1982، كانت قناعتنا ترجّح أنّ يضعف نقل كنعان القبضة الأمنية السورية في لبنان، بالنظر إلى أنّ خليفته العقيد (آنذاك، العميد اليوم) رستم غزالي لا يملك خبرات رئيسه وكفاءته. غير أنّ تسليم كنعان جهاز الأمن السياسي بدا وكأنه يقوّي فريق بشار الأسد من جانب أوّل، ومن جانب ثانٍ يقيم توازناً أفضل بين الأجهزة الأمنية الرئيسة (الأمن العسكري، الأمن القومي، الأمن السياسي، مخابرات القوى الجوية، مخابرات الحرس الجمهوري...) عن طريق استقدام ضابط بارز مخضرم كان بين الأكثر اطلاعاً على أسرار العمل الأمني في عهد الأسد الأب.
لكنّ المفارقة ظلّت ماثلة. فهل جاء كنعان للاستيلاء على بعض أو معظم الصلاحيات الممنوحة إلى قدامى المحاربين في الأجهزة الأمنية، على نحو يوحّد العمل الأمني ويحصر القسط الأعظم من المرجعية في مركز ثنائي القطب (غازي كنعان نفسه، وعلي حمود وزير الداخلية السابق القويّ)؟ أم جاء للحدّ من، أو «ترشيد»، الصلاحيات المبعثرة الغامضة التي يلوح أحياناً وكأنها تتفرّق أيدي سبأ، بين عدد من الأجهزة الأمنية التي لا ينسّق واحدها مع الآخر، كما تذمّر بشار الأسد نفسه في الأشهر الأولى من استلامه الرئاسة؟ ولماذا تصحّ المراهنة على كنعان، ولا تصحّ على أمثال آصف شوكت وبهجت سليمان؟ ومَن يضمن أنّ احتدام الصراع بين زيد أو عمرو، هنا أو هناك في أطراف الجسد الأمني الديناصوري المتورّم هذا، لن يفضي إلى القتال بالسلاح الأبيض؟
قبل أسابيع قليلة، وفي ذروة التسخين الأمريكي اللفظي ضدّ النظام الحاكم في دمشق، تهامست أوساط المراقبين المهتمّين بالملفّ السوري معلومات صحفية أمريكية تقول إنّ الإدارة قد تكون حسمت أمرها في موضوع البديل الأصلح ـ والأقوى، الأكثر استقراراً، والأوضح ولاءً للولايات المتحدة ــ في سورية، وأنّ اختيارها وقع على اللواء آصف شوكت (54سنة) صهر الرئاسة والضابط الذي أخذ نفوذه يشتدّ في الجيش والأجهزة الأمنية، بشكل منهجي متصاعد منظّم. ليس في وسعنا الجزم حول معلومات كهذه بالطبع، غير أنّ ما توفّر من مؤشرات خلال الأسابيع المنصرمة كان يشير بوضوح إلى احتدام صراع خفيّ بين الجهازَين الأمنيين الرئيسيين: الاستخبارات العسكرية، والأمن السياسي.
والذين خبروا، أو يعرفون عن كثب، ارتباط هذا الصحافي السوري أو ذاك بهذا الجهاز الأمني السوري أو ذاك، كانوا قادرين بسهولة فائقة على غربلة عدد من التسريبات التي تنقل المياه إلى هذه أو تلك من طواحين النظام الأمنية. الذين هاجموا «حماقة» وزير الإعلام السوري السابق أحمد الحسن، في اعتبار القرار 9551 بمثابة «انتصار» لسورية ولبنان، كانوا يخدمون أجندة ذلك الجهاز الأمني الذي تعنيه مسألة تفضيح الحسن. والذين سرّبوا أخبار منح عقد هائل لاستثمار الغاز السوري إلى كونسورتيوم أمريكي ـ بريطاني ـ كندي، وليس إلى شركات فرنسية (حيث قيل إنّ بشار الأسد، شخصياً، وعد الرئيس الفرنسي جاك شيراك)، كانوا بدورهم يخدمون أجندة صراع محتدم، وهكذا...
وأياً كانت صدقية التقارير حول مفاعيل صراع الأجهزة في التعديل الوزاري الأخير، يبقى الجوهري في الأمر أنّ وزارة العطري ـ 2 لن تكون أفضل حالاً من وزارات العطري ـ 1 أو ميرو ـ 2 أو ميرو ـ 1. ذلك لأنّ بنية هذا النظام الحاكم ــ وكما برهنت أكثر من خمسة عقود وليس مجرّد السنوات الأربع الأخيرة ــ مستعصية على الإصلاح والتطوير والتحديث ما دامت لا تمسّ ركائز الاستبداد والفساد والنهب والتسلّط، وما دام الوزير ـ الرفيق محمد الحسين لا يجرؤ على الإجابة عن سؤال بريء مشروع حول رامي مخلوف، دَعْ جانباً رَمْي رامي بباقة زهور!