Maestro
04/08/2006, 15:54
كيف نفسّر للأطفال بشاعة الحرب ؟
هل شعر أحدكم بالعجز ولم يستطع أن يحرز جواباً حينما يتوجه له أحد الأطفال بالسؤال عن: ماذا تعني الحرب ولماذا يموت فيها الأطفال..؟؟
وحينما تقع الحرب كيف نستطيع أن نوفر للطفل الشعور المطمئن بالأمان، وهل علينا أن نهتم بذلك، أم يجب على الطفل هو الآخر أن يعيش الخوف لحظةً بلحظة، لأنه واقع مثل غيره من الكبار تحت وابل الدمار والموت..
شخصياً لا أستطيع أن أفسر لابنيّ الصغيرين، محمد وفرح، بشاعة الحرب وقبحها، فضلاً عن أني لا أستطيع في المقابل أن أقول لهما أن هناك ثمة جدوى من الحروب، لأنها في النهاية لا تنتج سوى ذاكرةٍ مشوهة ومشبعة بالعنف عن الفعل الإنساني حينما ينزع بإرادته إلى تبني ثقافة الموت والدمار والخراب..
وفي الوقت الذي ينصرف فيه الطرفان المتحاربان، إسرائيل بعنجهيتها التدميرية الهائلة وحزب الله بأيديولوجيته الدينية المشبعة بأدبيات التمجيد المطلق لخيار الموت كخيار أوحد في سبل المقاومة، لجرد حساباتهما السياسية والإعلامية عن النصر والهزيمة في هذه الحرب المجنونة، يُسقطان من حساباتهما تلك الإنسان، والإنسان الطفل بالأخص..
وفي ظل الموت الذي يحيق بالإنسان من كل جانب في ظروف هذه الحرب وفي أية حرب هوجاء، كيف نستطيع أن نقول للطفل أن رسالة الإنسانية على مر الأزمان هي الحفاظ على قداسة الذات البشرية وهو يرى أن الحروب تستهدف الإنسان أولاً وتلقي به في هاوية الموت والفناء..
وقد لا يدرك الطفل أن الحرب هي في النهاية من صنع الإنسان وليس من صنع الأشباح، ولكنه يستطيع بفطرته وإدراكاته الحسيّة أن يستنتج أن الإنسان هو مَن يصنع الحرب وهو مَن يدفع بها نحو التصعيد، فكيف نستطيع في مقابل ذلك أن نقول له بأن الإنسان يجب أن يكف عن صناعة الموت والدمار، وهو يعلم بطريقة وبأخرى أن الإنسان مصدر كل الشرور..
وكيف يجب علينا أن نقول للأطفال حينما يختبئون في أحد الملاجئ هرباً من الموت المحقق أن بإمكانهم أن يتحدوا الصواريخ والقذائف وينتصروا عليها، فهل في الحروب علينا أن نخبر الطفل عن امكانيته الأكيدة بالدخول في تحدٍ متكافئ مع آلة الدمار القاتلة، وإذا لم يقتنع بذلك فعليه في المقابل أن يقبل بالموت..!!
وكيف علينا أن نطلب من الأطفال أن عليهم أن يتخلوا عن ألعابهم ولغتهم وطريقتهم في الحياة لصالح الموت القادم فجأة من حماقات الإنسان ونزعته التدميرية وحسابات مصالحه السياسية..
وكيف علينا أن نطلب من الأطفال الآن ولاحقاً أن يكفوا عن أحلامهم البريئة وعن مناماتهم الحالمة وعن غدهم الجميل، وعليهم أن يستبدلوا كل ذلك بالنوم على صراخات الأنين وبالحلم على إيقاع الموت الهلع والخوف..
وكيف نستطيع أن نقول للأطفال أن الإنسان يقف عاجزاً عن وقف هذه الحرب الهالكة وهو مَن أشعلها، فهل سيقبلون منا أن نتكلم نيابةً عنهم وندافع بعد ذلك عن حقهم الإنساني في حياة هانئة سعيدة..
وهل هناك واقع أكثر مأساوية من أن يتقصد الطفل متابعة أخبار الحرب على الفضائيات بدلاً من انصرافه للعب واللهو واللحظات التي تجلب له المتعة والسعادة، فأمام هذه المأساة هل يبقى الطفل طفلاً، أم يصبح كائناً مختلفاً لا يمت للطفولة بصلة، كيف لا، وهو يكتم في داخله هلع الخوف حينما يخلد للنوم، ويركض مذعوراً للإختباء من جحيم الموت، ويسأل أبويه متى تنتهي الحرب ومتى باستطاعته أن يعود إلى أحلامه وألعابه ومدرسته ومتى تتوقف الطائرات عن التحليق فوق رأسه..؟؟
وكيف نطلب من الأطفال أن لا يموتوا في هذه الحرب، وأن يبقوا أحياءً صامدين ونحن نعرف أنهم يصرخون خوفاً وهلعاً وهم تحت نيرانها المشتعلة، وأكثرنا يعلم أن الأطفال وحدهم ولا أحد غيرهم يمنحون الحياة بهجة التواصل ويمنحون الحياة أصل البقاء وفتنة السعادة، ويصنعون بضحكاتهم وابتساماتهم أنشودة الحياة الأجمل، فكيف تكون الحياة جميلة ونحن نرى أن الحرب ترسل الأطفال إلى الموت..
وكنتُ أقرأ فصولاً من معاناة الأبوين في لبنان عن هذه الحرب اللعينة في جريدة الحياة اللندنية وهما يسردان قصصاً واقعية موجعة حدثت لأطفالهما تحت نيران الحرب، حيث يقول الأب (رمزي المقداد) في مقاله:
(اما ايناس ويارا، فلم تكونا تعرفان ما يدور حولهما اذ إنهما اصغر سناً من شقيقهما إلى أن اصطحبتهما في نزهة سيراً على الأقدام في بلدة مقنة البقاعية والتي تبعد نحو تسعة كيلومترات من مدينة بعلبك، قطعنا الطريق العام وبعد أمتار عدة أغارت الطائرات على أول القرية وآخرها، وبدأ بعدها النساء والأطفال بالصراخ، وكذلك فعلت ابنتاي، حاولتُ أن اهدئ روعهما فضممتهما إلى صدري لترتاحا قليلاً لكن أصوات الطائرات كانت أقوى ولم تهدأ إلا بعد مرور ساعتين من الوقت كانتا خلالهما تعيشان خوفاً كبيراً، عدت بهما إلى المنزل حيث كانت زوجتي منهارة وأسامة لم تكن حاله أفضل من حال أمه، وحتى طفلتي الصغيرة ابنة الثلاث سنوات بدت مختلفة وكذلك صراخها كان مختلفاً، تماسكتُ غصباً عني وغنيت لهم أغاني المطرب صدّاح الوضاح، تفاعلوا معي ونسوا ما كانوا فيه لكن صوتي خانني بعد نصف ساعة، طلبوا المزيد ولكنني لم أستطع، لعبنا قليلاً ثم ناموا فارتحت)..
أما الأم (فاطمة رضا) تتحدث عن تجربتها الأليمة في هذه الحرب فتقول:
(يزداد الخوف من أن يتأزّم الوضع، يضيق تنفّسي، وتشتدّ آلامي بسبب كسور أعانيها إثر حادث تعرضت له من مدة قريبة، ألجأ إلى الشرفة ولكنني لا أقوى على التنفّس، حتى الأناشيد الحماسية التي تبثها مكبرات الصوت وخطب أمين عام «حزب الله»، لا تبعث في نفسي سوى الضيق والخوف، ينقطع التيار الكهربائي، أسارع إلى الراديو، أكره صوت فيروز ومارسيل خليفة وجوليا بطرس الذين بات بث أغانيهم عبر الراديو والتلفزيون مرتبطاً بأجواء الحرب، فاسترجعوا الساحة بعدما كانت هيفا ونانسي ومروى احتللنها، تبكيني عبارة «نعترف امام الله أن كنّا منك نغار»، من قصيدة الراحل نزار قباني «ست الدنيا يا بيروت»، وأكره صوت ماجدة الرومي أيضاً، لكنني لا ألبث أن أندم عندما تقاطع تلك الأصوات نغمة الخبر العاجل إعلاناً عن مجزرة هنا أو قطع أوصال منطقة هناك)..
كيف نستطيع أن نعيد للطفولة بريقها الأخاذ وننقذها من أهوال هذه الحرب الشرسة، ربما ليس أمامنا سوى أن نردد مع الشاعرة اللبنانية (جمانة حداد) وهي تخاطب أطفال لبنان في نصها الأخير (لكي تعود الطفولة إلى الطفولة) حيث تخاطبهم بحرقة:
(أنتم يا نباتات أرحامنا الخضراء، احملوا الحجارة واضربوا بها زجاج الضمائر النائمة، واكسروه، لتتناثر شظاياه في الأدمغة والرؤوس المنشغلة بروائح الحسابات والمصالح، واقرعوا بأيديكم جدران القلوب الصماء، إلى أن تتوقف ساعة هذا الزمن عن التقدم في اتجاه الوادي الدموي السحيق)..
محمود كرم، كاتب كويتي
هل شعر أحدكم بالعجز ولم يستطع أن يحرز جواباً حينما يتوجه له أحد الأطفال بالسؤال عن: ماذا تعني الحرب ولماذا يموت فيها الأطفال..؟؟
وحينما تقع الحرب كيف نستطيع أن نوفر للطفل الشعور المطمئن بالأمان، وهل علينا أن نهتم بذلك، أم يجب على الطفل هو الآخر أن يعيش الخوف لحظةً بلحظة، لأنه واقع مثل غيره من الكبار تحت وابل الدمار والموت..
شخصياً لا أستطيع أن أفسر لابنيّ الصغيرين، محمد وفرح، بشاعة الحرب وقبحها، فضلاً عن أني لا أستطيع في المقابل أن أقول لهما أن هناك ثمة جدوى من الحروب، لأنها في النهاية لا تنتج سوى ذاكرةٍ مشوهة ومشبعة بالعنف عن الفعل الإنساني حينما ينزع بإرادته إلى تبني ثقافة الموت والدمار والخراب..
وفي الوقت الذي ينصرف فيه الطرفان المتحاربان، إسرائيل بعنجهيتها التدميرية الهائلة وحزب الله بأيديولوجيته الدينية المشبعة بأدبيات التمجيد المطلق لخيار الموت كخيار أوحد في سبل المقاومة، لجرد حساباتهما السياسية والإعلامية عن النصر والهزيمة في هذه الحرب المجنونة، يُسقطان من حساباتهما تلك الإنسان، والإنسان الطفل بالأخص..
وفي ظل الموت الذي يحيق بالإنسان من كل جانب في ظروف هذه الحرب وفي أية حرب هوجاء، كيف نستطيع أن نقول للطفل أن رسالة الإنسانية على مر الأزمان هي الحفاظ على قداسة الذات البشرية وهو يرى أن الحروب تستهدف الإنسان أولاً وتلقي به في هاوية الموت والفناء..
وقد لا يدرك الطفل أن الحرب هي في النهاية من صنع الإنسان وليس من صنع الأشباح، ولكنه يستطيع بفطرته وإدراكاته الحسيّة أن يستنتج أن الإنسان هو مَن يصنع الحرب وهو مَن يدفع بها نحو التصعيد، فكيف نستطيع في مقابل ذلك أن نقول له بأن الإنسان يجب أن يكف عن صناعة الموت والدمار، وهو يعلم بطريقة وبأخرى أن الإنسان مصدر كل الشرور..
وكيف يجب علينا أن نقول للأطفال حينما يختبئون في أحد الملاجئ هرباً من الموت المحقق أن بإمكانهم أن يتحدوا الصواريخ والقذائف وينتصروا عليها، فهل في الحروب علينا أن نخبر الطفل عن امكانيته الأكيدة بالدخول في تحدٍ متكافئ مع آلة الدمار القاتلة، وإذا لم يقتنع بذلك فعليه في المقابل أن يقبل بالموت..!!
وكيف علينا أن نطلب من الأطفال أن عليهم أن يتخلوا عن ألعابهم ولغتهم وطريقتهم في الحياة لصالح الموت القادم فجأة من حماقات الإنسان ونزعته التدميرية وحسابات مصالحه السياسية..
وكيف علينا أن نطلب من الأطفال الآن ولاحقاً أن يكفوا عن أحلامهم البريئة وعن مناماتهم الحالمة وعن غدهم الجميل، وعليهم أن يستبدلوا كل ذلك بالنوم على صراخات الأنين وبالحلم على إيقاع الموت الهلع والخوف..
وكيف نستطيع أن نقول للأطفال أن الإنسان يقف عاجزاً عن وقف هذه الحرب الهالكة وهو مَن أشعلها، فهل سيقبلون منا أن نتكلم نيابةً عنهم وندافع بعد ذلك عن حقهم الإنساني في حياة هانئة سعيدة..
وهل هناك واقع أكثر مأساوية من أن يتقصد الطفل متابعة أخبار الحرب على الفضائيات بدلاً من انصرافه للعب واللهو واللحظات التي تجلب له المتعة والسعادة، فأمام هذه المأساة هل يبقى الطفل طفلاً، أم يصبح كائناً مختلفاً لا يمت للطفولة بصلة، كيف لا، وهو يكتم في داخله هلع الخوف حينما يخلد للنوم، ويركض مذعوراً للإختباء من جحيم الموت، ويسأل أبويه متى تنتهي الحرب ومتى باستطاعته أن يعود إلى أحلامه وألعابه ومدرسته ومتى تتوقف الطائرات عن التحليق فوق رأسه..؟؟
وكيف نطلب من الأطفال أن لا يموتوا في هذه الحرب، وأن يبقوا أحياءً صامدين ونحن نعرف أنهم يصرخون خوفاً وهلعاً وهم تحت نيرانها المشتعلة، وأكثرنا يعلم أن الأطفال وحدهم ولا أحد غيرهم يمنحون الحياة بهجة التواصل ويمنحون الحياة أصل البقاء وفتنة السعادة، ويصنعون بضحكاتهم وابتساماتهم أنشودة الحياة الأجمل، فكيف تكون الحياة جميلة ونحن نرى أن الحرب ترسل الأطفال إلى الموت..
وكنتُ أقرأ فصولاً من معاناة الأبوين في لبنان عن هذه الحرب اللعينة في جريدة الحياة اللندنية وهما يسردان قصصاً واقعية موجعة حدثت لأطفالهما تحت نيران الحرب، حيث يقول الأب (رمزي المقداد) في مقاله:
(اما ايناس ويارا، فلم تكونا تعرفان ما يدور حولهما اذ إنهما اصغر سناً من شقيقهما إلى أن اصطحبتهما في نزهة سيراً على الأقدام في بلدة مقنة البقاعية والتي تبعد نحو تسعة كيلومترات من مدينة بعلبك، قطعنا الطريق العام وبعد أمتار عدة أغارت الطائرات على أول القرية وآخرها، وبدأ بعدها النساء والأطفال بالصراخ، وكذلك فعلت ابنتاي، حاولتُ أن اهدئ روعهما فضممتهما إلى صدري لترتاحا قليلاً لكن أصوات الطائرات كانت أقوى ولم تهدأ إلا بعد مرور ساعتين من الوقت كانتا خلالهما تعيشان خوفاً كبيراً، عدت بهما إلى المنزل حيث كانت زوجتي منهارة وأسامة لم تكن حاله أفضل من حال أمه، وحتى طفلتي الصغيرة ابنة الثلاث سنوات بدت مختلفة وكذلك صراخها كان مختلفاً، تماسكتُ غصباً عني وغنيت لهم أغاني المطرب صدّاح الوضاح، تفاعلوا معي ونسوا ما كانوا فيه لكن صوتي خانني بعد نصف ساعة، طلبوا المزيد ولكنني لم أستطع، لعبنا قليلاً ثم ناموا فارتحت)..
أما الأم (فاطمة رضا) تتحدث عن تجربتها الأليمة في هذه الحرب فتقول:
(يزداد الخوف من أن يتأزّم الوضع، يضيق تنفّسي، وتشتدّ آلامي بسبب كسور أعانيها إثر حادث تعرضت له من مدة قريبة، ألجأ إلى الشرفة ولكنني لا أقوى على التنفّس، حتى الأناشيد الحماسية التي تبثها مكبرات الصوت وخطب أمين عام «حزب الله»، لا تبعث في نفسي سوى الضيق والخوف، ينقطع التيار الكهربائي، أسارع إلى الراديو، أكره صوت فيروز ومارسيل خليفة وجوليا بطرس الذين بات بث أغانيهم عبر الراديو والتلفزيون مرتبطاً بأجواء الحرب، فاسترجعوا الساحة بعدما كانت هيفا ونانسي ومروى احتللنها، تبكيني عبارة «نعترف امام الله أن كنّا منك نغار»، من قصيدة الراحل نزار قباني «ست الدنيا يا بيروت»، وأكره صوت ماجدة الرومي أيضاً، لكنني لا ألبث أن أندم عندما تقاطع تلك الأصوات نغمة الخبر العاجل إعلاناً عن مجزرة هنا أو قطع أوصال منطقة هناك)..
كيف نستطيع أن نعيد للطفولة بريقها الأخاذ وننقذها من أهوال هذه الحرب الشرسة، ربما ليس أمامنا سوى أن نردد مع الشاعرة اللبنانية (جمانة حداد) وهي تخاطب أطفال لبنان في نصها الأخير (لكي تعود الطفولة إلى الطفولة) حيث تخاطبهم بحرقة:
(أنتم يا نباتات أرحامنا الخضراء، احملوا الحجارة واضربوا بها زجاج الضمائر النائمة، واكسروه، لتتناثر شظاياه في الأدمغة والرؤوس المنشغلة بروائح الحسابات والمصالح، واقرعوا بأيديكم جدران القلوب الصماء، إلى أن تتوقف ساعة هذا الزمن عن التقدم في اتجاه الوادي الدموي السحيق)..
محمود كرم، كاتب كويتي