dot
08/09/2006, 14:41
بقلم: عزمي بشارة
ربما خطر مبنى التوأمين ببال أعداء الولايات المتحدة في السابق، ولكن أن يخطر الشيء بالبال أمر وان ينفذ أمر آخر تماما. أن يفكر المرء باختطاف طائرة أمر وأن ينفذه أمر آخر، وأمر مختلف عن كليهما أن يخطط سنوات وأن يتعلم الطيران ليقود طائرة بركابها إلى داخل مبنى التوأمين... ثم كل هذا أمر وأن تفعل ذلك أربع مجموعات بشكل متزامن وبدقة وبمنهجية كهذه أمر آخر. وكل هذا ضد الدولة الوحيدة في التاريخ حتى يومنا التي تجرأت على استخدام السلاح النووي ضد مدن مأهولة، ضد الامبراطورية ذاتها. إنه حدث تاريخي ذو أبعاد كونية. ولو فكر أي إنسان عاقل بنتائجه الكارثية لما أقدم عليه. ومن هنا عدميته. أذكر أنني كتبت في ذلك الأسبوع حلقتين تحت عنوان: «كاميكازا كحالة من فقدان المعنى».
غير هذا الحدث التاريخ. وليس فقط لأن هنالك من اكتشف في الصدام بين جسده وإرادته وبين المنتجات الحديثة مثل الطائرة ووزنها وسرعتها وخزانات وقودها والمجتمعات الجماهيرية المكتظة وناطحات السحاب هذه القدرة التدميرية، بل أيضا لأنه منح الولايات المتحدة فرصة لكي تقسم العالم كما تريد، ولكي تحول نظريات امبريالية سائدة إلى نبوءات تحقق ذاتها حول صراع بين خير وشر يلتقي سرا في حالة الليبراليين، وعلنا في حالة المحافظين، مع الصراع بين ثقافات.
بعد هذه الجريمة تغيرت أميركا بشكل جذري، تغير «نمط الحياة الأميركي»، ولكن التغير الكارثي الذي أحدثته أميركا في العالم العربي أكبر بكثير. لقد صدّرت كل هذا الخراب في خمس سنوات.
ولا نعتقد أن الذين اختاروا 11 أيلول (سبتمبر) وأخذوا جيلا عربيا كاملا رهينة جنون العداء المجرد المطلق، رهينة تقسيم العالم بين خير وشر، قد عرفوا أن هذا سيمنح رئيس الولايات المتحدة فرصة خطابية سنوية لطرح كل مشاريعه بعد مقدمة عن هذا الحدث عير الافتتاح السنوي لدورة الأمم المتحدة في أيلول. وإذا كان تفكيرك يقودك الى الاعتقاد أن من قاموا بتنفيذ العملية الكارثة في منهاتن، ليس بعيدا عن مقر الأمم المتحدة، هم نتاج العولمة وأحد وجوهها المتعددة فسوف تدرك كم هو عالم مثقل بالرمزية والرموز.
إذا كنت عربيا وديموقراطيا في الوقت ذاته تعتز بثقافتك العربية الإسلامية أو على الأقل لا ترى سببا لتخجل بها، خاصة في فهمك أنت غير الصنمي لها، وإذا كنت تعتبر نفسك أكثر تقدمية وديموقراطية وتنورا من المحافظين الجدد، فسوف تحتاج إلى جهد غير إنساني تقريبا لكي ترى معنى في أي عمل سياسي واجتماعي في المنطقة العربية بعدما توزعت فيها الخيارات بين أميركا وعملائها المتلبسين بالديموقراطية حين يحلو لهم فقط من جهة، وبين أصوليين وسياسات هوية من مختلف الأنماط من جهة أخرى. إن أخطر ما يجري منذ 11 ايلول هو استقطاب بين هيمنة أميركية وأصوليات تهمش النضال والعمل والتفكير والسعي من أجل حياة أفضل للفرد كجزء من مجتمع وكمنتم للإنسانية، ومن أجل سعادة البشر كمجتمعات وطنية وكأفراد في سياقات ثقافية مختلقة لا تراتبية تحكمها من ناحية القيمة.
وقعت أحداث الحادي عشر من ايلول على إدارة أميركية تستند إلى مصادر فكرية سياسية ثلاثة. وطبعا نحن لا نقصد هنا القواعد الاقتصادية الاجتماعية للنظام في أميركا، فهذه أكثر تنوعا بكثير من أن تحصر في ثلاثة. نقول ثلاثة مصادر فكرية سياسية:
أولاً، المحافظون الجمهوريون الواقعيون الذين يميز وجودهم أي إدارة جمهورية منذ نيكسون وريغان، ويمثلون موقفا نافيا لليبرالية داخليا، وعسكرتاريا تدخليا عدوانيا خارجيا، طبعا ضد الشيوعية وحلفائها في حينه. ولكن العدو الخارجي انحل وضاع في فترة جورج بوش الأب ثم في فترة كلينتون، وجاءت أحداث 11 أيلول في خضم البحث عن صورة العدو العالمي الجديد ليستبدل بها مملكة الشر الريغانية. ليس هؤلاء من نمط المحافظين التقليديين الذين يعارضون التدخل في الخارج، ويؤكدون على انكفاء أميركا في قارتها وراء الأطلسي، ويعارضون تقوية المركز الفيدرالي عموما على حساب الولايات. فأولئك محافظون من نوع آخر قديم لم يعد ممثلا بقوة في السياسة الأميركية، فإضافة إلى تقادمه في مقابل تطور الامبراطورية وسياساتها الخارجية، ينفر بحكم تعريفه من العمل السياسي المؤثر في العاصمة.
وثانياً، المحافظون الجدد، وهم نتاج الامبراطورية وعالميتها، ونتاج مرحلة ما بعد الحرب الباردة. إنهم راديكاليون، أي ليسوا محافظين في الواقع، بل ينظِّرون لسياسات محافظة بأدوات ولأهداف يعتبرونها ثورية، إنهم يدافعون عن تصدير الديموقراطية والقيم التي يعتبرونها كونية ولكنهم يسخرونها كأداة للسيطرة على العالم. وهم يدعون الى التحرر من فترة «الوضع القائم» في ظل التوازن الدولي والذي دافع عن أنظمة غير ديموقراطية فقط لأنها في صالح المعسكر الرأسمالي ضد المنظومة السوفياتية، أو خوفا من الردع السوفياتي. مع انتهاء هذه المرحلة لم يبق في نظرهم ما يبرر هذه السياسة. إنهم يدعون أميركا أن تتصرف كامبراطورية فعلا، وألا تتخلى عن واجباتها الأممية كشرطي لهذا العالم، يدعونها الى التصالح مع قوتها واستخدامها بحرية وبشعور بالرضا وعدم الخوف من قوتها، والتحرر من عقدة فيتنام، عقدة أهلهم. وهم يعارضون النسبية الثقافية التي يتبناها محافظون واقعيون وديموقراطيون في الوقت ذاته ولأسباب مختلفة. ولكنهم يلتقون معهم في الموقف السياسي مما يجري في العالم العربي والإسلامي.
وثالثا، الكنائس الانجيلية الخاصة المحافظة الراديكالية والتي تلعب دورا سياسيا ضد الليبرالية داخل أميركا ومن أجل التمرد على ثقافة الشاطئين، الغربي والشرقي، المنحلة في نظرهم، ولتأكيد هوية أميركا كهوية مسيحية بروتستانتية، ومنها أيضا الأمزجة والتيارات المسيحية الصهيونية التي تؤسس ثيولوجيا سياسية تطابق بين وظيفة أميركا والشعب التوراتي، كمصادرة أميركية لدور أمة المؤمنين وشعب الله المختار، وثيولوجيا استيطانية مستندة على العهد القديم وتفسيرات مختلفة لأرض الميعاد والقدس وصهيون تتواصل مع التاريخ الأميركي إلى درجة غيبيات من نوع التحالف مع إسرائيل للتعجيل في قدوم المسيح ونهاية التاريخ.
ربما خطر مبنى التوأمين ببال أعداء الولايات المتحدة في السابق، ولكن أن يخطر الشيء بالبال أمر وان ينفذ أمر آخر تماما. أن يفكر المرء باختطاف طائرة أمر وأن ينفذه أمر آخر، وأمر مختلف عن كليهما أن يخطط سنوات وأن يتعلم الطيران ليقود طائرة بركابها إلى داخل مبنى التوأمين... ثم كل هذا أمر وأن تفعل ذلك أربع مجموعات بشكل متزامن وبدقة وبمنهجية كهذه أمر آخر. وكل هذا ضد الدولة الوحيدة في التاريخ حتى يومنا التي تجرأت على استخدام السلاح النووي ضد مدن مأهولة، ضد الامبراطورية ذاتها. إنه حدث تاريخي ذو أبعاد كونية. ولو فكر أي إنسان عاقل بنتائجه الكارثية لما أقدم عليه. ومن هنا عدميته. أذكر أنني كتبت في ذلك الأسبوع حلقتين تحت عنوان: «كاميكازا كحالة من فقدان المعنى».
غير هذا الحدث التاريخ. وليس فقط لأن هنالك من اكتشف في الصدام بين جسده وإرادته وبين المنتجات الحديثة مثل الطائرة ووزنها وسرعتها وخزانات وقودها والمجتمعات الجماهيرية المكتظة وناطحات السحاب هذه القدرة التدميرية، بل أيضا لأنه منح الولايات المتحدة فرصة لكي تقسم العالم كما تريد، ولكي تحول نظريات امبريالية سائدة إلى نبوءات تحقق ذاتها حول صراع بين خير وشر يلتقي سرا في حالة الليبراليين، وعلنا في حالة المحافظين، مع الصراع بين ثقافات.
بعد هذه الجريمة تغيرت أميركا بشكل جذري، تغير «نمط الحياة الأميركي»، ولكن التغير الكارثي الذي أحدثته أميركا في العالم العربي أكبر بكثير. لقد صدّرت كل هذا الخراب في خمس سنوات.
ولا نعتقد أن الذين اختاروا 11 أيلول (سبتمبر) وأخذوا جيلا عربيا كاملا رهينة جنون العداء المجرد المطلق، رهينة تقسيم العالم بين خير وشر، قد عرفوا أن هذا سيمنح رئيس الولايات المتحدة فرصة خطابية سنوية لطرح كل مشاريعه بعد مقدمة عن هذا الحدث عير الافتتاح السنوي لدورة الأمم المتحدة في أيلول. وإذا كان تفكيرك يقودك الى الاعتقاد أن من قاموا بتنفيذ العملية الكارثة في منهاتن، ليس بعيدا عن مقر الأمم المتحدة، هم نتاج العولمة وأحد وجوهها المتعددة فسوف تدرك كم هو عالم مثقل بالرمزية والرموز.
إذا كنت عربيا وديموقراطيا في الوقت ذاته تعتز بثقافتك العربية الإسلامية أو على الأقل لا ترى سببا لتخجل بها، خاصة في فهمك أنت غير الصنمي لها، وإذا كنت تعتبر نفسك أكثر تقدمية وديموقراطية وتنورا من المحافظين الجدد، فسوف تحتاج إلى جهد غير إنساني تقريبا لكي ترى معنى في أي عمل سياسي واجتماعي في المنطقة العربية بعدما توزعت فيها الخيارات بين أميركا وعملائها المتلبسين بالديموقراطية حين يحلو لهم فقط من جهة، وبين أصوليين وسياسات هوية من مختلف الأنماط من جهة أخرى. إن أخطر ما يجري منذ 11 ايلول هو استقطاب بين هيمنة أميركية وأصوليات تهمش النضال والعمل والتفكير والسعي من أجل حياة أفضل للفرد كجزء من مجتمع وكمنتم للإنسانية، ومن أجل سعادة البشر كمجتمعات وطنية وكأفراد في سياقات ثقافية مختلقة لا تراتبية تحكمها من ناحية القيمة.
وقعت أحداث الحادي عشر من ايلول على إدارة أميركية تستند إلى مصادر فكرية سياسية ثلاثة. وطبعا نحن لا نقصد هنا القواعد الاقتصادية الاجتماعية للنظام في أميركا، فهذه أكثر تنوعا بكثير من أن تحصر في ثلاثة. نقول ثلاثة مصادر فكرية سياسية:
أولاً، المحافظون الجمهوريون الواقعيون الذين يميز وجودهم أي إدارة جمهورية منذ نيكسون وريغان، ويمثلون موقفا نافيا لليبرالية داخليا، وعسكرتاريا تدخليا عدوانيا خارجيا، طبعا ضد الشيوعية وحلفائها في حينه. ولكن العدو الخارجي انحل وضاع في فترة جورج بوش الأب ثم في فترة كلينتون، وجاءت أحداث 11 أيلول في خضم البحث عن صورة العدو العالمي الجديد ليستبدل بها مملكة الشر الريغانية. ليس هؤلاء من نمط المحافظين التقليديين الذين يعارضون التدخل في الخارج، ويؤكدون على انكفاء أميركا في قارتها وراء الأطلسي، ويعارضون تقوية المركز الفيدرالي عموما على حساب الولايات. فأولئك محافظون من نوع آخر قديم لم يعد ممثلا بقوة في السياسة الأميركية، فإضافة إلى تقادمه في مقابل تطور الامبراطورية وسياساتها الخارجية، ينفر بحكم تعريفه من العمل السياسي المؤثر في العاصمة.
وثانياً، المحافظون الجدد، وهم نتاج الامبراطورية وعالميتها، ونتاج مرحلة ما بعد الحرب الباردة. إنهم راديكاليون، أي ليسوا محافظين في الواقع، بل ينظِّرون لسياسات محافظة بأدوات ولأهداف يعتبرونها ثورية، إنهم يدافعون عن تصدير الديموقراطية والقيم التي يعتبرونها كونية ولكنهم يسخرونها كأداة للسيطرة على العالم. وهم يدعون الى التحرر من فترة «الوضع القائم» في ظل التوازن الدولي والذي دافع عن أنظمة غير ديموقراطية فقط لأنها في صالح المعسكر الرأسمالي ضد المنظومة السوفياتية، أو خوفا من الردع السوفياتي. مع انتهاء هذه المرحلة لم يبق في نظرهم ما يبرر هذه السياسة. إنهم يدعون أميركا أن تتصرف كامبراطورية فعلا، وألا تتخلى عن واجباتها الأممية كشرطي لهذا العالم، يدعونها الى التصالح مع قوتها واستخدامها بحرية وبشعور بالرضا وعدم الخوف من قوتها، والتحرر من عقدة فيتنام، عقدة أهلهم. وهم يعارضون النسبية الثقافية التي يتبناها محافظون واقعيون وديموقراطيون في الوقت ذاته ولأسباب مختلفة. ولكنهم يلتقون معهم في الموقف السياسي مما يجري في العالم العربي والإسلامي.
وثالثا، الكنائس الانجيلية الخاصة المحافظة الراديكالية والتي تلعب دورا سياسيا ضد الليبرالية داخل أميركا ومن أجل التمرد على ثقافة الشاطئين، الغربي والشرقي، المنحلة في نظرهم، ولتأكيد هوية أميركا كهوية مسيحية بروتستانتية، ومنها أيضا الأمزجة والتيارات المسيحية الصهيونية التي تؤسس ثيولوجيا سياسية تطابق بين وظيفة أميركا والشعب التوراتي، كمصادرة أميركية لدور أمة المؤمنين وشعب الله المختار، وثيولوجيا استيطانية مستندة على العهد القديم وتفسيرات مختلفة لأرض الميعاد والقدس وصهيون تتواصل مع التاريخ الأميركي إلى درجة غيبيات من نوع التحالف مع إسرائيل للتعجيل في قدوم المسيح ونهاية التاريخ.