براق
09/09/2006, 22:52
(مجلة ‘’فوربس’’ تفيد أنّ عدد ذوي الثراء الفاحش بلغوا 793 مليارديرا)! (الدول الغنيّة تحرق ملايين أطنان القمح وتكبّها في البحر لحفظ أسعاره، والملايين يتضوّرون جوعاً بأفريقيا). كامرأة ينهال عليها زوجها تحيّةً وتقبيلاً كلّما رآها، وبعد عقودٍ من العيش والانشغال والتلفاز والإنترنت وثراء الحال، صار بالكاد يلتفت إليها أو يُعطيها قبلة من طرف ‘’براطمه’’، غير ناقضة للوضوء لدى البعض! الزوجة نعمة كُبرى، لكنّها ليست حديثنا.
أحكي لأبنائي، أنّنا قبل ربع قرن، يستحيل أن نرمي ‘’عيشاً أو خبزا أو بقلاً’’، بل نقطّعه ونرميه للدجاج وللطيور، لأنّنا نشعر بالطبيعة وبجوع الحيوانات ونعرف حقّ النعمة، لكوننا نجوع ونفتقر، ومجتمعنا كان بسيطا ومليئاً بعادات كثيفة القيم.
وإذا دخلت حبّة مانجو بيتنا، فتُزفّ كعريس على كلّ الأيدي، ويُمصمص لبّها بلا تجفيف شمس، أمّا الفراولة والكيوي والأصناف الجديدة فلم نرها آنذاك، كلّ هذه صارت عادية ومملّة الآن لدى كثيرين، نفتح الثلاجة ونرمقها بعين ذلك الزوج البطِر لزوجته، ونلوي براطمنا بأنّا لا نشتهيها، بعد عزّها بالأمس البعيد.
(الخبز) في حكايات الجدّات، مَن يرميه أو يدوسه، كمن دنس القرآن، نصيح به ‘’استغفر ربك’’ ونتوعّده بالمسخ والخسف، وبأسطورة الأمّ التي طهّرت مؤخّرة صغيرها بقطعة خبز فمسخه الربّ قرداً، نُصدّقها، لأن لدينا احتراما للخبز ولله، نقبّله متى سقط، وقبل الأكل، كتقبيل الحجر الأسود لأنّه نعمة الله إلينا، كنّا نسمع أنّ الأنبياء (ع) يتناولون متساقط الخبز وينفضون عنه التراب ويأكلونه، واليوم محلُّه القمامة والطرقات، وأحسن مصيره تكديسه للبقَر، فإنساننا ‘’العصري’’ لا يأكل خبزاً مبيّتا من الأمس، مع أنّا لا نشتري كفافنا بل ما يفيض دائماً، أمّا تقبيل الخبز ‘’فالمتمدِّن’’ لا يفعله، ولو فعله في مطعم أو بمحضر ‘’شلّة’’ لسخروا منه كالأهبل!.
انعدمت أحاسيسنا بالنعمة وبالطبيعة وبشكر سلسلة الوجود المتناغم، أهلكتنا المادّة والتصنّع والشخصية والبطر والترف الفكري والمعيشي والتخمة الخطابية وتمجيد الذات وفقر الروح، كنّا بالأمس بحسب معتقدنا الديني إذ نقبّل الخبز، فإنا نقبّل محطّات تخليقه حتّى نزوله بموائدنا، من بذرة الإله التي حوتْ سرّه الأكبر، إلى يد الفلاّح الغرّاس، وسقيا مطر السماء، والقاطف، وحامل الحنطة للسوق، والذي نقّاه، وطحنه، والذي خبزه، ووالدنا الذي بفلوس كدّه اشتراه، وأمّنا التي أعدّته لنا بحنانها، كنّا نقبّل سلسلة تلك الأيدي الشريفة التي أنعمته، تقبيلا من القلب يُطهّر فطرتنا ويترجم إنسانيّتنا.
أمّا اليوم بفضل ثقافة السوق والاستهلاك، فلا نأبه لوصلتنا بأرض ولا بسماء، لا بشكر مخلوق ولا خالق، على خطى الغرب المادي الذي ضيّع هذه الوصلة منذ اخترع المكائن، فاصطاد فوق ما ينبغي، وزرع أكثر ممّا يكفيه، واستهلك الأرض والبحر، وأفسد البيئة، وقضى على ثرواتها وأحيائها، وأخلّ بالتوازن، ليتأنّق ويتملّى جشعاً، فبالأمس كان يجلس المؤمن منهم مع عائلته على المائدة داعياً ربّه (أعطنا خبزًا كفاف يومنا، واغفر لنا خطايانا)، واليوم الوجبات السريعة، وموسوعة ‘’جينيس’’ لأكبر طبق، ومسابقات رمي الفواكه، وإتلاف فائض القمح! كنا ندّخر فوائضنا لجوع الحيوانات، وبعض البيوت لازالت تحتفظ بأمّ أو جدّة من ورثة القيم الجميلة، تجمع فائض الغذاء وتعطيه لوجه الله، لعمّال هنود خارج البيت لا تعرفهم، أمضّهم الجهد والشمس.
قد تتغيّر عادات الأكل، ونوعيّته، لكنْ ما كان ينبغي أن تتغيّر قيمنا وسلوكياتنا الجميلة، مشاعرنا تجاه النعمة وتجاه مسديها ومُوصلها، وتجاه محروميها أيضاً، حين ضاع هذا، بالتدريج انسلّتْ خيوط أردية إنسانيّتنا التي غزلتها لنا تعاليمُ الأنبياء، حتّى صفيْنا على عريٍ إنسانيّ تامّ، هو للأسف حالنا الآن.
ما كان لنا أن نُفرط، نُسرف، نترف، نرمي الفاضل، ولا نشعر بالغير، نتسخّط، نذمّ النعمة، نتجشّأ من تخمة وقلّة أدب، ولا نأبه بحيوان ولا بإنسان ولا بملايين جوعاه تبثُّهم علينا قنوات الأخبار، كانت السمنة وملاحقها آخر أدواء يُمكن أن نتخيّلها تُصيب أحدنا.
كنّا نجلس للأكل جلسة العبد، نغسل أيدينا كمُقبلين على صلاة، نسمي بالله وفي الأخير نحمده، نأكل دون الشبع، وممّا يلينا، لا نتحمّق على نعمة الله بل نتلهّف عليها، ونأكل ما تساقط، تلتئم العائلة بالمائدة، نركّز مع الأكل، نوفّر طبَقاً للجيران، نلمّ الباقي للغد، نتشارك في إفراغ المائدة وتنظيفها، نشعر بالله وببعضنا ونحن نأكل، كانت جلسة الأكل دورة إنسانية تهذيبية تشفّ عمّا نكون، كنّا (أولاد حلال) واللقمة نأكلها حلالاً بكلّ معنى الكلمة.
كثيرٌ يُلقون باللائمة على الدول وعلى الساسة، ولهم الحقّ، لكن صلاح الدول بصلاح المجتمع، والأخير بصلاح عادات أفراده، إذ في كلّ انحطاط، ثمّة فراخ أيضاً لإبليس في بيوتنا وصدورنا، كلّنا في أموالنا حقّ للسائل والمحروم، واستهلاكنا ومادّيتنا طغت في كل شيء؛ أكل، لبس، معيشة، اهتمام، كلّنا آثمون بالمشاركة في برامج محق إنسانيتنا، ومتعاونون في العدوان على قيَم البساطة والسلام، ولن نجد حلولاً ما دام جميعنا متلهياً بالاستهلاك وبالالتهام، ما دام منظّرو مشاكلنا، والمشغولون بتحديثنا وبمعاضل ديننا، ومآزق أرزاقنا، والبطالة والوفرة والاقتصاد والإنتاج والمستقبل، جالسين يُفكّرون، ويتجشّأون من فرط البطنة، وقد انتفخت أفواهُهم باللحم والرفاه وبالكلام، انتفاخَ خدّ يمانيٍّ بتخزينة قات!.
منقول : أ.جلال القصاب - جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية
أحكي لأبنائي، أنّنا قبل ربع قرن، يستحيل أن نرمي ‘’عيشاً أو خبزا أو بقلاً’’، بل نقطّعه ونرميه للدجاج وللطيور، لأنّنا نشعر بالطبيعة وبجوع الحيوانات ونعرف حقّ النعمة، لكوننا نجوع ونفتقر، ومجتمعنا كان بسيطا ومليئاً بعادات كثيفة القيم.
وإذا دخلت حبّة مانجو بيتنا، فتُزفّ كعريس على كلّ الأيدي، ويُمصمص لبّها بلا تجفيف شمس، أمّا الفراولة والكيوي والأصناف الجديدة فلم نرها آنذاك، كلّ هذه صارت عادية ومملّة الآن لدى كثيرين، نفتح الثلاجة ونرمقها بعين ذلك الزوج البطِر لزوجته، ونلوي براطمنا بأنّا لا نشتهيها، بعد عزّها بالأمس البعيد.
(الخبز) في حكايات الجدّات، مَن يرميه أو يدوسه، كمن دنس القرآن، نصيح به ‘’استغفر ربك’’ ونتوعّده بالمسخ والخسف، وبأسطورة الأمّ التي طهّرت مؤخّرة صغيرها بقطعة خبز فمسخه الربّ قرداً، نُصدّقها، لأن لدينا احتراما للخبز ولله، نقبّله متى سقط، وقبل الأكل، كتقبيل الحجر الأسود لأنّه نعمة الله إلينا، كنّا نسمع أنّ الأنبياء (ع) يتناولون متساقط الخبز وينفضون عنه التراب ويأكلونه، واليوم محلُّه القمامة والطرقات، وأحسن مصيره تكديسه للبقَر، فإنساننا ‘’العصري’’ لا يأكل خبزاً مبيّتا من الأمس، مع أنّا لا نشتري كفافنا بل ما يفيض دائماً، أمّا تقبيل الخبز ‘’فالمتمدِّن’’ لا يفعله، ولو فعله في مطعم أو بمحضر ‘’شلّة’’ لسخروا منه كالأهبل!.
انعدمت أحاسيسنا بالنعمة وبالطبيعة وبشكر سلسلة الوجود المتناغم، أهلكتنا المادّة والتصنّع والشخصية والبطر والترف الفكري والمعيشي والتخمة الخطابية وتمجيد الذات وفقر الروح، كنّا بالأمس بحسب معتقدنا الديني إذ نقبّل الخبز، فإنا نقبّل محطّات تخليقه حتّى نزوله بموائدنا، من بذرة الإله التي حوتْ سرّه الأكبر، إلى يد الفلاّح الغرّاس، وسقيا مطر السماء، والقاطف، وحامل الحنطة للسوق، والذي نقّاه، وطحنه، والذي خبزه، ووالدنا الذي بفلوس كدّه اشتراه، وأمّنا التي أعدّته لنا بحنانها، كنّا نقبّل سلسلة تلك الأيدي الشريفة التي أنعمته، تقبيلا من القلب يُطهّر فطرتنا ويترجم إنسانيّتنا.
أمّا اليوم بفضل ثقافة السوق والاستهلاك، فلا نأبه لوصلتنا بأرض ولا بسماء، لا بشكر مخلوق ولا خالق، على خطى الغرب المادي الذي ضيّع هذه الوصلة منذ اخترع المكائن، فاصطاد فوق ما ينبغي، وزرع أكثر ممّا يكفيه، واستهلك الأرض والبحر، وأفسد البيئة، وقضى على ثرواتها وأحيائها، وأخلّ بالتوازن، ليتأنّق ويتملّى جشعاً، فبالأمس كان يجلس المؤمن منهم مع عائلته على المائدة داعياً ربّه (أعطنا خبزًا كفاف يومنا، واغفر لنا خطايانا)، واليوم الوجبات السريعة، وموسوعة ‘’جينيس’’ لأكبر طبق، ومسابقات رمي الفواكه، وإتلاف فائض القمح! كنا ندّخر فوائضنا لجوع الحيوانات، وبعض البيوت لازالت تحتفظ بأمّ أو جدّة من ورثة القيم الجميلة، تجمع فائض الغذاء وتعطيه لوجه الله، لعمّال هنود خارج البيت لا تعرفهم، أمضّهم الجهد والشمس.
قد تتغيّر عادات الأكل، ونوعيّته، لكنْ ما كان ينبغي أن تتغيّر قيمنا وسلوكياتنا الجميلة، مشاعرنا تجاه النعمة وتجاه مسديها ومُوصلها، وتجاه محروميها أيضاً، حين ضاع هذا، بالتدريج انسلّتْ خيوط أردية إنسانيّتنا التي غزلتها لنا تعاليمُ الأنبياء، حتّى صفيْنا على عريٍ إنسانيّ تامّ، هو للأسف حالنا الآن.
ما كان لنا أن نُفرط، نُسرف، نترف، نرمي الفاضل، ولا نشعر بالغير، نتسخّط، نذمّ النعمة، نتجشّأ من تخمة وقلّة أدب، ولا نأبه بحيوان ولا بإنسان ولا بملايين جوعاه تبثُّهم علينا قنوات الأخبار، كانت السمنة وملاحقها آخر أدواء يُمكن أن نتخيّلها تُصيب أحدنا.
كنّا نجلس للأكل جلسة العبد، نغسل أيدينا كمُقبلين على صلاة، نسمي بالله وفي الأخير نحمده، نأكل دون الشبع، وممّا يلينا، لا نتحمّق على نعمة الله بل نتلهّف عليها، ونأكل ما تساقط، تلتئم العائلة بالمائدة، نركّز مع الأكل، نوفّر طبَقاً للجيران، نلمّ الباقي للغد، نتشارك في إفراغ المائدة وتنظيفها، نشعر بالله وببعضنا ونحن نأكل، كانت جلسة الأكل دورة إنسانية تهذيبية تشفّ عمّا نكون، كنّا (أولاد حلال) واللقمة نأكلها حلالاً بكلّ معنى الكلمة.
كثيرٌ يُلقون باللائمة على الدول وعلى الساسة، ولهم الحقّ، لكن صلاح الدول بصلاح المجتمع، والأخير بصلاح عادات أفراده، إذ في كلّ انحطاط، ثمّة فراخ أيضاً لإبليس في بيوتنا وصدورنا، كلّنا في أموالنا حقّ للسائل والمحروم، واستهلاكنا ومادّيتنا طغت في كل شيء؛ أكل، لبس، معيشة، اهتمام، كلّنا آثمون بالمشاركة في برامج محق إنسانيتنا، ومتعاونون في العدوان على قيَم البساطة والسلام، ولن نجد حلولاً ما دام جميعنا متلهياً بالاستهلاك وبالالتهام، ما دام منظّرو مشاكلنا، والمشغولون بتحديثنا وبمعاضل ديننا، ومآزق أرزاقنا، والبطالة والوفرة والاقتصاد والإنتاج والمستقبل، جالسين يُفكّرون، ويتجشّأون من فرط البطنة، وقد انتفخت أفواهُهم باللحم والرفاه وبالكلام، انتفاخَ خدّ يمانيٍّ بتخزينة قات!.
منقول : أ.جلال القصاب - جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية