dot
19/09/2006, 13:36
بقلم:حسام عيتاني
تحتاج الحريرية إلى علاج فوري. لقد دخلت منذ رحيل مؤسسها غرفة العناية الفائقة وتقترب من الوقوع في غيبوبة قد لا تفيق منها. هذا اذا اعتبرها اصحابها جديرة بالبقاء او انها تضيف شيئا الى الحياة العامة في لبنان.
المقصود بالحريرية تلك المجموعة من الآراء في السياسة والاقتصاد التي تبناها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري وعمل في هديها. الجانب السياسي من الحريرية قام على التوازن بين الدورين السوري والسعودي في لبنان في وقت كانت الولايات المتحدة تجهد من اجل تحقيق تسوية للصراع العربي الاسرائيلي يصل في افقه الى قرارات الامم المتحدة، اي انها لم تكن في موقع التناقض مع اي من راعيي اتفاق الطائف الآخرين، السعودية وسوريا. التوافق العام هذا، منح رفيق الحريري القدرة على العمل السياسي الذي اتسع وفق ضرورات المصالح التي كان يعتبر نفسه معنيا بالدفاع عنها.
اما الجانب الاقتصادي فكان اقتباسا من مدرسة الاعمال الكبرى في السعودية أضيفت عليه نكهات نيوليبرالية تقصد تقليص دور الدولة في المجتمع واعتماد مفرط على آليات السوق على افتراض ان تحرير الاقتصاد وتعزيز التوجهات الخدمية الريعية الغالبة عليه، ومن دون ابداء عناية بالقطاعات الانتاجية فيه، سيعود بالنفع على شرائح واسعة من اللبنانيين.
رحيل الرئيس حافظ الاسد ومجيء ادارة جورج بوش وأحداث 11 ايلول، عناصر ألحقت أضراراً شديدة بالحريرية السياسية. وضيق السوق اللبناني والمنافسة الشديدة التي يواجهها من دول قريبة وبعيدة في المجالات التي يقول اللبنانيون انهم يمتازون عن غيرهم فيها، اضافة الى تجذر الفساد في لبنان وارتباطه ببنيته السياسية بما يجعل اي عملية اقتصادية مبررا للمشاحنات بين زعماء الطوائف، تسبب في إفلاس الحريرية الاقتصادية، بعد عملية اعادة اعمار باهظة الكلفة المالية والسياسية.
ووقع اغتيال الرئيس الحريري في اللحظة التي كان يبدو فيها انه قد بات قاب قوسين او أدنى من تغيير محوري في خياراته السياسية وفي تحالفاته الاقليمية والدولية. وقد يكون من المستحيل معرفة درجة التوفيق التي كان سيصيبها رفيق الحريري في خياراته الجديدة لو قيّض له البقاء على قيد الحياة، وما اذا كان النهج الذي يتبعه ابنه ووريثه السياسي، النائب سعد الحريري يتطابق تماما مع ما كانت قد رست عليه قناعات الراحل.
لكن المعروف تماما ان النهج هذا دخل في الطريق المسدود ويقترب من الاصطدام بجداره. فالتوازن السوري السعودي قد انتهى ومال تيار المستقبل إلى الضفة السعودية مع ما عناه ذلك من تبعات اثرت على جمهور التيار وعلى المتحالفين معه والذين رأوا فيه ذات مرة مزيجا مقبولا من عروبة نضالية تمثلها الخطابة السورية و<فاعلية> مالية سعودية. هذا ناهيك عن التغير الكبير في المناخ الدولي والاقليمي بعد 11 ايلول وغزو العراق.
كيف يترجم ذلك على الساحة اللبنانية بعد اغتيال رفيق الحريري؟
لقد سعى تيار المستقبل الى تأسيس نزعته السيادية المستجدة على عاملين يشكلان بديلا عن التوازنات العربية والدولية التي وفرت له الغطاء السابق وهما: التمسك بالتمثيل السني والعداء لسوريا. اما الرؤية الاقتصادية السابقة، على هزالها وانتقائيتها، فغابت تحت ركام الشعارات المكررة عن مناطق حرة تنعش مناطق نائية...
وغني عن البيان ان متابعة الجهود الرامية الى حصر تمثيل الطائفة السنية وخصوصا في بيروت، بتيار المستقبل، تسفر عن نتيجتين متناقضتين في الاتجاه، هما مفاقمة التوتر مع الطائفة الشيعية الباحثة عبر قوتها الأبرز، حزب الله، عن تحالفات في الطوائف الاخرى وعن حصة اكبر في القرار السياسي. والنتيجة الثانية هي ردة الفعل السلبية على اخفاقات <المستقبل> المتوالية في ادارة شؤون الطائفة السنية (وهي إخفاقات تبدأ من نوعية المرشحين الى المقاعد النيابية الذين فرضهم التيار على جمهوره والأداء المستغرب لوسائل اعلامه في العديد من المناسبات وآخرها الحرب على لبنان، وصولا الى قلة اكتراث التيار بالتدهور المعيشي في صفوف الكتلة الصلبة من مؤيديه في المناطق الفقيرة) بحيث تبدو القوى الاخرى اكثر قربا من معاناة الناس واستماعا الى مشكلاتهم وأقل ادعاء لتمثيلهم وحصر كل اهتماماتهم بمطلب <الحقيقة> الذي، وعلى اهميته، لا يختصر تطلعات جمهور عريض.
وربما لم تعد المطالبة بعقد مقارنة بين النائب سعد الحريري ووالده الراحل ظالمة الى الحد الذي كانت عليه في الاشهر الاولى التي اعقبت الاغتيال. ومع الاخذ في الاعتبار التغيرات المشار اليها في الظروف الاقليمية والدولية والصعوبة الشديدة للمرحلة الراهنة، الا ان قيادة تيار المستقبل بدت غائبة تماما عن اهتمامات اللبنانيين عموما في لحظات خطر محدق بالوطن، وبدت اكثر انشغالا بصغائر المناكفات السياسية منها بالهم العام منذ انتهاء الحرب حتى اليوم. وهذا ما يسمح بتوقع تضاؤل قدرة الحريرية، في صيغتها الحالية، على الاجابة عن اسئلة اللبنانيين الكثيرة، ولجوئها كتعويض عن ذلك الى مجازفات لا تبدو نالت حصتها من الدرس الوافي.
المصدر : السفير
تحتاج الحريرية إلى علاج فوري. لقد دخلت منذ رحيل مؤسسها غرفة العناية الفائقة وتقترب من الوقوع في غيبوبة قد لا تفيق منها. هذا اذا اعتبرها اصحابها جديرة بالبقاء او انها تضيف شيئا الى الحياة العامة في لبنان.
المقصود بالحريرية تلك المجموعة من الآراء في السياسة والاقتصاد التي تبناها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري وعمل في هديها. الجانب السياسي من الحريرية قام على التوازن بين الدورين السوري والسعودي في لبنان في وقت كانت الولايات المتحدة تجهد من اجل تحقيق تسوية للصراع العربي الاسرائيلي يصل في افقه الى قرارات الامم المتحدة، اي انها لم تكن في موقع التناقض مع اي من راعيي اتفاق الطائف الآخرين، السعودية وسوريا. التوافق العام هذا، منح رفيق الحريري القدرة على العمل السياسي الذي اتسع وفق ضرورات المصالح التي كان يعتبر نفسه معنيا بالدفاع عنها.
اما الجانب الاقتصادي فكان اقتباسا من مدرسة الاعمال الكبرى في السعودية أضيفت عليه نكهات نيوليبرالية تقصد تقليص دور الدولة في المجتمع واعتماد مفرط على آليات السوق على افتراض ان تحرير الاقتصاد وتعزيز التوجهات الخدمية الريعية الغالبة عليه، ومن دون ابداء عناية بالقطاعات الانتاجية فيه، سيعود بالنفع على شرائح واسعة من اللبنانيين.
رحيل الرئيس حافظ الاسد ومجيء ادارة جورج بوش وأحداث 11 ايلول، عناصر ألحقت أضراراً شديدة بالحريرية السياسية. وضيق السوق اللبناني والمنافسة الشديدة التي يواجهها من دول قريبة وبعيدة في المجالات التي يقول اللبنانيون انهم يمتازون عن غيرهم فيها، اضافة الى تجذر الفساد في لبنان وارتباطه ببنيته السياسية بما يجعل اي عملية اقتصادية مبررا للمشاحنات بين زعماء الطوائف، تسبب في إفلاس الحريرية الاقتصادية، بعد عملية اعادة اعمار باهظة الكلفة المالية والسياسية.
ووقع اغتيال الرئيس الحريري في اللحظة التي كان يبدو فيها انه قد بات قاب قوسين او أدنى من تغيير محوري في خياراته السياسية وفي تحالفاته الاقليمية والدولية. وقد يكون من المستحيل معرفة درجة التوفيق التي كان سيصيبها رفيق الحريري في خياراته الجديدة لو قيّض له البقاء على قيد الحياة، وما اذا كان النهج الذي يتبعه ابنه ووريثه السياسي، النائب سعد الحريري يتطابق تماما مع ما كانت قد رست عليه قناعات الراحل.
لكن المعروف تماما ان النهج هذا دخل في الطريق المسدود ويقترب من الاصطدام بجداره. فالتوازن السوري السعودي قد انتهى ومال تيار المستقبل إلى الضفة السعودية مع ما عناه ذلك من تبعات اثرت على جمهور التيار وعلى المتحالفين معه والذين رأوا فيه ذات مرة مزيجا مقبولا من عروبة نضالية تمثلها الخطابة السورية و<فاعلية> مالية سعودية. هذا ناهيك عن التغير الكبير في المناخ الدولي والاقليمي بعد 11 ايلول وغزو العراق.
كيف يترجم ذلك على الساحة اللبنانية بعد اغتيال رفيق الحريري؟
لقد سعى تيار المستقبل الى تأسيس نزعته السيادية المستجدة على عاملين يشكلان بديلا عن التوازنات العربية والدولية التي وفرت له الغطاء السابق وهما: التمسك بالتمثيل السني والعداء لسوريا. اما الرؤية الاقتصادية السابقة، على هزالها وانتقائيتها، فغابت تحت ركام الشعارات المكررة عن مناطق حرة تنعش مناطق نائية...
وغني عن البيان ان متابعة الجهود الرامية الى حصر تمثيل الطائفة السنية وخصوصا في بيروت، بتيار المستقبل، تسفر عن نتيجتين متناقضتين في الاتجاه، هما مفاقمة التوتر مع الطائفة الشيعية الباحثة عبر قوتها الأبرز، حزب الله، عن تحالفات في الطوائف الاخرى وعن حصة اكبر في القرار السياسي. والنتيجة الثانية هي ردة الفعل السلبية على اخفاقات <المستقبل> المتوالية في ادارة شؤون الطائفة السنية (وهي إخفاقات تبدأ من نوعية المرشحين الى المقاعد النيابية الذين فرضهم التيار على جمهوره والأداء المستغرب لوسائل اعلامه في العديد من المناسبات وآخرها الحرب على لبنان، وصولا الى قلة اكتراث التيار بالتدهور المعيشي في صفوف الكتلة الصلبة من مؤيديه في المناطق الفقيرة) بحيث تبدو القوى الاخرى اكثر قربا من معاناة الناس واستماعا الى مشكلاتهم وأقل ادعاء لتمثيلهم وحصر كل اهتماماتهم بمطلب <الحقيقة> الذي، وعلى اهميته، لا يختصر تطلعات جمهور عريض.
وربما لم تعد المطالبة بعقد مقارنة بين النائب سعد الحريري ووالده الراحل ظالمة الى الحد الذي كانت عليه في الاشهر الاولى التي اعقبت الاغتيال. ومع الاخذ في الاعتبار التغيرات المشار اليها في الظروف الاقليمية والدولية والصعوبة الشديدة للمرحلة الراهنة، الا ان قيادة تيار المستقبل بدت غائبة تماما عن اهتمامات اللبنانيين عموما في لحظات خطر محدق بالوطن، وبدت اكثر انشغالا بصغائر المناكفات السياسية منها بالهم العام منذ انتهاء الحرب حتى اليوم. وهذا ما يسمح بتوقع تضاؤل قدرة الحريرية، في صيغتها الحالية، على الاجابة عن اسئلة اللبنانيين الكثيرة، ولجوئها كتعويض عن ذلك الى مجازفات لا تبدو نالت حصتها من الدرس الوافي.
المصدر : السفير