-
دخول

عرض كامل الموضوع : سيل من الهشاشة في أودية الفراغ


DODIm
21/05/2007, 03:59
استوقفتني بعض التوصيات لمؤتمر الموسيقى العربية الأخير، تلك التي أتت بحالة إسعافية تدق ناقوس الخطر، وتعلن حالة التردي المشين في الطرح الغنائي العربي، وسيل الإنتاج (الشابّي)، كانت صفة (سيل) هذه أدق وصف للحدث.. ولم تتكلم الدراسة الناتجة عن المؤتمر بشكل عبثي بل أكدت مفهوم (السيل) بالأرقام، ففي كل عام ينتج العالم العربي أكثرمن 52 ألبوم غنائي.. وبحساب بسيط نجريه فإن كل ألبوم يحتوي على عشر أغانٍ... والحصيلة، وسطياً، 520 أغنية تقدم سنوياً للمستمع العربي.. وببساطة تكون العبارة المرافقة لهذا الرقم الهائل في الدراسة (ما لا يمكن اعتباره دلالة صحية على سلامة الأغنية العربية ).
أكثر من مئة باحث موسيقي عربي وأوروبي شارك في هذه الدراسة عن واقع الفن السمعي العربي، واستخلصوا أزمة يستعصي حلها كونها واقعاً أكثر حضوراً من المؤتمر نفسه، فالمشكلة تفاقمت وأصبحت خارج نطاق السيطرة، عدا عن أنها ليست آنية، أو وليدة حدث طارئ.. فقد تمخضت عن تراكم عشرات السنين من التدهور والرغبات المكبوتة داخل مجتمع منغلق تحكمه عاداته وتقاليده التي كانت لها إسقاطاتها على الساحة الفنية..
تعلق الدراسة على الحالة الجسدية الطاغية، والإغراء الحسي بحيث: "أصبحت مقاييس الفن مختلفة، ولم تعد الشهرة مرتبطة بجمال الصوت أكثر من ارتباطها بجمال الجسد والإغراء والدعاية".
في مجتمع شرقي محكوم بقوانين وقواعد صارمة تسيطر على علاقاته المختلطة بين الجنسين، وتكوّن إسقاطاً مباشراً لها على العلاقات العاطفية والجسدية داخله بشكليها المستبعد والمحرم كلياً، ستصبح طبيعة هذه العلاقات مادة مرغوبة جداً، وخاصة وسط جيل الشباب الذي يشكل الفئة العمرية الأكثر في المجتمع والمستهلك الأكبر فيه.. فلا شيء سيلفت انتباهه أو اهتمامه أكثر من جسد شبه عارٍ، يتحرك على الشاشة.. وأقل إيماء جسدي فيه قابل للتفسير الجنسي المفقود لديه، سيصبح ماده دسمة تستحق المتابعة..
لسنا هنا بصدد دراسة تمخضات العولمة ونتائجها بحالة الـ (مع) أو (الضد).. بل لطرح أزمة جيل يعاني من تخبطات فكرية وسط ازدحام فوضوي للمعلومات المكتسبة عن ايدولوجيا مجتمع معاش وواقع راهن يُطرح من قبل إعلام منفتح منافٍ للفكر الشرقي أو حتى إعلام تجاري بحت.
حالة التربية والتنشئة الفكرية للشاب العربي تنهل من قيم المجتمع، فتلزمه بحاجز نفسي على رغباته العاطفية السايكولوجية والجسدية الفزيزلوجية، وتولد نزعة دائمة لديه بالمقاومة، كونها متطلبات طبيعية جسدية.. وهذه المقاومة موجودة دون أدنى محرض.
إن المجتمع الغربي محصن من ناحية العلاقات، عاطفية كانت أم جسدية.. فهي أمور شبه مستباحة، وللفرد داخله الحرية المطلقة في اختيار توجهه من ناحية الارتباطات الجنسية.. فالجسد شبه العاري داخل الفن الغنائي على الشاشة لن يؤثر على نمط تفكير الرائي.. بل على العكس، فالمشاهد سوف يعتبر المسألة البصرية المطروحة بالجسد صورة فنية، ليس أكثر، حتى أنه قد يرتقي لتحويل التكوين الجسدي الأنثوي إلى فكر تجريدي سريالي أحياناً.. فالجسد الذي يراه ليس إشباعاً لرغبات مكبوتة داخله فهي غير موجودة بالأساس.. رغم كل معارضاتنا الدائمة للتركيبة الاجتماعية الغير أخلاقية في المجتمعات الغربية، ورفضنا القاطع لها، إلا أنه لا يمكننا إنكار هذه الفكرة المطروحة البسيطة والمعاشة داخله.. ونأتي نحن بكل بساطة وسذاجة لننقل هذا الفكر إلى المتلقي العربي دون أية دراسة لواقع المجتمع الشرقي، أو أي إدراك لمفهوم تحول الفكرة الغربية إلى محرض مثير وجارح أحياناً، وفوضى بصرية تودي بفكر جيل كامل، وحالة تلامس احترام المشاهد..
ومع كل ذالك يمكن التغاضي عن هذا النقل الفكري الهدام من منطلق النية الحسنة غير المدروسة، وعدم القدرة على التصدي أو الدفاع.. أما الأمر المرفوض قطعاً، غير القابل للنقاش، هو الحالة التجارية لهذه المادة المثيرة، فهي مادة مرغوبة بكثافة وسط جيل مستهلك يعاني من نقصها لديه، وتسييرها لتصبح حقنه تسويقية..
لم تعد المشكلة مشكلة موسيقا غنائية شابيّة مطروحة بكثافة، ولا مشكلة تدهور ذوق فني عام مسيطر.. إنما مشكلة شركات تجارية تنهش جسد مجتمع ضعيف ومتهالك من هذه الناحية.. شركات همها ليس الشهرة، أو نوعية الإنتاج، أو كثافته.. بل الالتفاف حول أكبر رقم ممكن من المال، بغض النظر عن النتائج، فتصبح التجارة أساس كل عمل فني، وخلف كل نجم على الشاشات العربية شركة إنتاج ممولة تلك هي أهدافها بكل بساطة، والعلاج لن يأتي بسهولة، ولن يكون بفرض الضغوط على الجيل المستهلك بالتخويف والترهيب، أو بزيادة الحواجز على علاقاته المختلطة خوفاً من تدهور الأزمة والانفلات غير القابل على السيطرة.. ولن يكون بالحجر على المجتمع الأنثوي واعتباره مجتمع فوضوي طائش وغير مسؤول.
تحتاج الأزمة لانفتاح تدريجي يواجه حالة التداخل الثقافي المتناقض المفروض قسراً بإعادة صياغة العملية التأسيسية الإيروتيكية لجيل ناشئ مقبل على ثقافة مفتوحة، وممارسة حالة التثقيف الواعي لتقبل وفهم أبسط أنواع العلاقات المختلطة الفردية، وأعقدها والتمييز بينها.. وأخيراً القبول التام بالتكوين الجسدي فزيولوجياً وتفهمه، ومعرفة إيصال الصورة الصحيحة عنه وطريقة التعامل الآمن معه.

خالد معماري
جريدة تشرين