-
دخول

عرض كامل الموضوع : فيكتور هيغو ومعاصروه


فاوست
26/07/2007, 21:15
لم يحظ كاتب فرنسي، ولا غير فرنسي ربما، بالتمجيد والتعظيم في حياته وبعد مماته كما حظي فيكتور هيغو. فهو لم يكن شاعراً ملعوناً أو منبوذاً على طريقة بودلير، أو فيرلين، أو رامبو. وإنما عاش معززاً مكرماً حتى عندما كان منفياً لمدة عشرين سنة تقريباً. واستلم أعلى المناصب في مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، والأكاديمية الفرنسية. وكان الناس يحيونه عندما يمر في الشارع صارخين: يحيا فيكتور هيغو! وهذا ما لم يحظ به إلا الرؤساء والزعماء الكبار من أمثال نابليون أو شارل ديغول.. وعندما مات عن عمر يتجاوز الثالثة والثمانين عاماً توقفت الحركة في فرنسا كلها، وانهالت البرقيات من كل حدب وصوب، ونزل الناس الى الشوارع بالملايين...
بل وحتى في إيطاليا أوقف مجلس الشيوخ جلساته وحيّاه رئيسه بالبرقية التالية: إن موت فيكتور هيغو يشكل حداداً ليس فقط لفرنسا وإنما للعالم المتحضر كله.. ونظمت له مراسيم تشييع رسمية ومهيبة شارك فيها رئيس الجمهورية والوزراء وكبار شخصيات الدولة، وذلك قبل أن يدفن في مقبرة العظماء في البانتيون وسط العاصمة الفرنسية. وعندما فتحوا وصيته وجدوا فيها مكتوباً الكلمات البسيطة التالية:

1.أعطي خمسين ألف فرنكاً إلى الفقراء
2.أتمنى أن أنقل إلى المقبرة في تابوت الفقراء
3.أرفض تأبين كل الكنائس ورجال الدين، وأطلب صلاة من كل الناس
4.أومن بالله.
فيكتور هيغو


وقد سعدت جرائد اليسار لأن عائلة الفقيد تقيدت بوصيته. وكتبت جريدة الجمهورية الفرنسية الصغيرة تقول بهذه المناسبة: "إن الهيمنة على العقول أفلتت من يد الكهنوت المسيحي. فالمثقفون الكبار الذين لا يزالون متواصلين مع رجال الدين أصبحوا قليلين جداً. وأما أولئك الذين يعيشون بمنأى عنهم فقد زاد عددهم وأصبحوا لا يعدون ولا يحصون.." وأما جريدة "الفيغارو" التي تمثل اليمين الفرنسي فقد كتبت تقول: "لا يوجد مجد أدبي يوازي مجده. وحده فولتير يُشبَّه به. ولكن فولتير كان يسود على أصعدة أخرى. وقد قالوا عنه بأنه كان الثاني في كل المجالات والأنواع الأدبية. وأما فيكتور هيغو فكان الأول في كل نوع.. إنه بالنسبة لنا يمثل دانتي وبيترارك ولوتاس واريوست مجتمعين بالنسبة لإيطاليا.."

من المعلوم أن الذكرى المئوية الأولى لموت فولتير صادفت عام 1878. وبهذه المناسبة اندلعت الصراعات من جديد بين الجمهوريين والملكيين، وبين العلمانيين ورجال الدين. ولكن فيكتور هيغو وقف وألقى خطاباً مهماً صالح فيه بين فولتير والإنجيل. وكانت فرنسا كلها تحبس أنفاسها وتنتظر ماذا سيقوله. وإليكم فحواه: "إن الكلام الإنجيلي يكمله الكلام الفلسفي. ولا تعارض بين العلم والدين. فروح الحلم ابتدأت أولاً ثم جاءت بعدها روح التسامح. لنقل هذا الكلام بكل إجلال واحترام: يسوع بكى، وفولتير ابتسم. ومن هذه الدمعة الإلهية وتلك الابتسامة البشرية صُنِعت حلاوة الحضارة الحديثة... ولكن بالإضافة إلى فولتير هناك الفلاسفة الآخرون. وهؤلاء الكتّاب الكبار لم يموتوا لأنهم خلَّفوا لنا روحهم: أي الثورة الفرنسية".

هكذا عبر فيكتور هيغوعن إيمانه بالتقدم، تقدم البشرية نحو الأمام. وفي ذات الوقت انحنى أمام روحانية الدين وعظمة الدين إذا ما فهم بشكل صحيح. وهكذا صالح بين السماء والأرض، بين الدنيا والآخرة. ولكن مطران أورليان الذي هو أحد كبار رجالات الدين في فرنسا ويدعى "دوبانلوب" راح يحتج على رثاء فولتير بهذا الشكل التمجيدي الزائد عن الحد. وقد أرسل إلى فكتور هيغو رسالة يحتج فيها على ذلك. فرد عليه الشاعر قائلاً بأنه يرفض أن يتلقى دروساً من الكنيسة التي قدمت الصلوات للديكتاتور نابليون الثالث! ففي ظل هذا الرجل انهار القانون، والشرف، والوطن. وقد دام ذلك تسعة عشر عاماً. وفي أثناء ذلك كنت أنت في قصر الكنيسة. وكنتُ أنا في المنفى خارج الوطن. وبالتالي فإني أعرفكم يا رجال الدين جيدا..
وهكذا أصبح فيكتور هيغو في أواخر حياته الضمير الحيّ لفرنسا. أصبح بطل الحريات والمدافع عن الفقراء والمقموعين. ولكن الجيل الجديد من الكتَّاب أخذ يتمايز عنه ويرفض وصايته، معلناً بذلك نهاية الرومانطيقية كحركة أدبية، وكذلك نهاية الغنائية العاطفية إن لم نقل الميوعة العاطفية. صحيح أن فيكتور هيغو عظيم ولكنه "أكل وقته" كما يقال، وقد آن الأوان لتجاوزه.

في 25 فبراير من عام 1882 يقوم رئيس الوزراء جول فيري بزيارة إلى منزل فيكتور هيغو لكي يقدم له هدية باسم الحكومة. وقد صادف ذلك عيد ميلاده الثمانين. وطيلة ذلك النهار راح شعب باريس يمر تحت نافذته على هيأة خيط لا ينقطع لكي يحيّيه. وكانوا يرفعون شعارات تقول: إلى الشاعر، إلى الفيلسوف، إلى المدافع الكبير عن قضية الشعوب.. وظهر على النافذة لكي يرد على تحيتهم ويقول: أحيّي باريس، أحيّي المدينة العظيمة.. وعندما دخل إلى مجلس الشيوخ وقف النواب وقفة رجل واحد لكي يحيّوه وهم يصفقون لفترة طويلة. وكلما انتهى التصفيق عاد من جديد وازداد اشتعالاً.. وشعر فيكتور هيغو بالتأثر الشديد وقال لهم قبل أن يجلس: أبداً لن أنسى هذا.. في الواقع إنه لم يحظ بالتمجيد فقط بسبب عبقريته الأدبية، وإنما بسبب البُعد السياسي والإنساني الذي خلعه على أعماله ثم بسبب نضالاته المستمرة من أجل قضية الحرية. فمنذ أن كان قد اعتنق قضية الشعب والناس البسطاء عام 1848 لم ينفك يناضل من أجل تحقيق الحرية، والمساواة، والإخاء على الأرض. وحتى آخر لحظة من حياته ظل يجسد النضال ضد الاستبداد والطغيان. وكان سابقاً لأوانه في هذا المجال لأن الشعب كان مؤيداً لنابليون الثالث ولم يفهم معنى نضالات فيكتور هيغو إلا لاحقا. عندئذ راحت الأجيال الجديدة تعرف من هو وتقدره حق قدره وتحفظ أشعاره عن ظهر قلب.

لكن الكتاب الذي سيخلّد ذكره أكثر من غيره هو بالطبع رواية "البؤساء". فهذه الرواية لا تزال تُخْرج حتى الآن مسرحياً أو سينمائياً. ينبغي العلم بأن فيكتور هيغو أنهاها في المنفى. ففي عام 1861 راح يصرخ قائلاً وهو لا يكاد يصدق نفسه: لقد أنهيت البؤساء وتنفست الصعداء! ثم أردف قائلاً في رسالة إلى أحد أصدقائه: دانتي وصف الجحيم الأخروي وأنا وصفت الجحيم الأرضي!.. ولكن من سيقبل بنشرها مقابل ثلاثمائة ألف فرنك فرنسي في ذلك الزمان؟! ناشره التقليدي تراجع خوفاً من المبلغ. وفجأة ظهر ناشر كبير وقبل بالصفقة. ثم كتب المؤلف المقدمة التي جاء فيها بما معناه: "ما دامت هناك شرائح واسعة من الفقر المدقع في قلب الحضارة، ما دام الجوع يهدِّد الرجال والنساء والأطفال، فإن كتاباً مثل هذا الكتاب سيظل ضرورياً..."

وما إن ظهرت الرواية في السوق حتى تلقَّفها الناس من كل حدب وصوب. ولم يشهد كتاب آخر في القرن التاسع عشر نجاحاً في المكتبات مثلما شهدت رواية البؤساء. ولكن إذا كان الجمهور العام قد استقبلها بكل ترحاب فإن موقف النقاد والروائيين كان مختلفاً. فالناقد المشهور سانت بين علَّق على الحادث قائلاً: "لقد اكتسحت هذه الرواية السوق. لا ريب في أن ذوق الجمهور مريض. إن نجاح هذه الرواية لا يكاد يصدق. وهناك نجاحات وبائية تتم عن طريق العدوى بدون شك..". ثم أردف هذا الكاتب الذي يعتبر أهم ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر يقول: فيكتور هيغو رجل يمتلك مواهب استثنائية ضخمة. وقد أثبت أنه قادر على الحضور في وسط باريس حتى وهو في المنفى...
وأما الأخوان "غونكور" فقد دوَّنا في مذكراتهما: "يا لها من خيبة كبرى بالنسبة لنا هذه الرواية. نقول ذلك ونحن نضع جانباً النزعة الأخلاقية أو الوعظية التي تشتمل عليها. ففي رأينا أنه لا علاقة بين الفن والأخلاق. ووجهة النظر الإنسانية الموجودة في رواية فيكتور هيغو لا تهمنا..".وهذا يعني أنهما كانا من جماعة الفن للفن.

فاوست
26/07/2007, 21:17
وأما المؤرخ الشهير ميشليه فبعد أن اطلع على الرواية قال: أُصبت بمصيبتين كبيرتين هذا العام: وفاة ابني وظهور رواية فيكتور هيغو!..

والآن ما هو رأي شارل بودلير؟ لقد أشاد بها وكتب عنها مقالة كاملة في الصحافة. وكان مما جاء فيها: "إنها رواية مبنيّة على هيئة قصيدة، إنها ملحمة حقيقية. وكل شخصية من شخصياتها لا تشكل استثناء إلا ضمن مقياس أنها تعبر عن فكرة عامة". وهذا نقد موفق ودليل على أن بودلير قرأها فعلاً. ثم أردف يقول: إنها كتاب في الإحسان والشفقة على الناس الضعفاء. إنها نداء خارج من الأعماق من أجل ألا ينسى المجتمع عاطفة التضامن والإخاء..". ولكن الغريب العجيب هو أن بودلير راح يهجو الرواية في رسالة شخصية كتبها إلى أمه وقال فيها: "أعتقد أنكِ تلقيت الرواية. إنها تافهة بكل معنى الكلمة. ولكني مدحتها في الصحافة وأثبت بأني قادر على الكذب.. وقد كتب لي فيكتور هيغو رسالة سخيفة لكي يشكرني على مقالتي. وهذا دليل على أن الإنسان بإمكانه أن يكون غبياً أحياناً..". فهل بالغ بودلير في مدح الرواية أم بالغ في ذمها أمام أمه؟ هل كان يشعر بالحسد تجاه النجاح الضخم الذي حققه فيكتور هيغو في حين أنه هو لا يزال كاتباً مغموراً؟ كل شيء جائز..



أما لامارتين، الصديق المقرب، فقد خيَّب آمال فيكتور هيغو. فقد استقبل الرواية ببرود، بل وبعدائية لأنها تهاجم المجتمع وتؤلِّب عليه الفقراء! ورد عليه هيغو قائلاً بأن المجتمع الذي يقبل بوجود مثل هذا الفقر المدقع في أحضانه ينبغي أن يُهاجَم ويُنْتقَد. ثم هاجم رجال الدين وسادة المجتمع الذين يعتبرون شيئاً طبيعياً وجود كل هذا الفقر والبؤس. وقال بأني أحلم بمجتمع آخر يكون فيه كل فرد مالكاً لبيته وشبعاناً. وقد تقول لي: ولكن الهدف بعيد. وأجيبك نعم، ولكن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من السير نحوه.. وأنا أقول لك ما يلي: نعم إني أكره العبودية والفقر والجهل والمرض. وأريد تخليص المجتمع من كل ذلك. أريد إضاءة الليل، وأحقد على الحقد. ولهذا السبب كتبت "البؤساء". فهذه الرواية لا هدف لها إلا تأسيس التضامن والإخاء كقاعدة عامة وكذلك تأسيس التقدم البشري كذروة عليا نحلم بالوصول إليها يوماً ما...



أما الناقد المحافظ والأرستقراطي "باربي دورفيلي" فقد أدان الرواية وكل توجهات فيكتور هيغو لأنه يريد قلب المجتمع القديم وكل القيم التي انبني عليها. وكان مما قاله: "عندما سنتعب من النقد والتجريح والتشكيك بقيمنا وديننا وأصالتنا فإننا سنعود حتما إلى السلطة الحقيقية للملوك: أي السلطة الدينية الإلهية المعصومة. وسوف نتخلى عن المادية الحيوانية ونعود إلى المذهب الكاثوليكي..". ثم أردف هذا الناقد قائلاً: "إن فيكتور هيغو كتب أخطر كتاب في هذا العصر والأكثر ضرراً. فهو يضرب على وتر العواطف الجريحة لكي يهدم قواعد المجتمع ومؤسساته الواحدة بعد الأخرى.. وكل ذلك يتم عن طريق استغلال دموع الفقراء.. فالكاتب إذ أعطى الحق للمجرم ضد الشرطي، وإذ قدم صورة جميلة عن اللص أثبت أنه شخص غير مسؤول...". ثم هاجم تقنية الرواية قائلاً: لماذا يقطع المؤلف أحداث الرواية وينخرط في تعليقات شخصية ومواعظ أخلاقية لا نهاية لها؟ وبعدئذ عندما يعود إلى الحكاية لا نجده يربط اللاحق بالسابق. وهذه طريقة رديئة في الكتابة الروائية.انها رواية مفككة..".



هذا النقد جرح فيكتور هيغو على الرغم من أنه حاول التخفيف منه وتظاهر بالعكس عندما قال: "هل يضير الرجال العمالقة أن تهاجمهم الأقزام؟!". مهما يكن من أمر، وعلى الرغم من كل الانتقادات التي تعرضت لها رواية "البؤساء" في وقتها فإنها استطاعت أن تصمد وأن تنجح في اختبار الأبدية والخلود. فقد عبرت القرون دون أن يبليها الزمن. ومن يسمع باسم باربي دورفيلي هذا؟ فكم من الروايات سقطت ولم يعد يذكرها أحد. أما هي فقد فرضت نفسها كإحدى روائع الأدب العالمي وترجمت إلى مختلف لغات الأرض وطبعت مئات الطبعات بعد موت صاحبها وكل مهاجميه. ولا يعود ذلك فقط إلى الحس الإنساني العميق الذي تشتمل عليه، وإنما أيضاً إلى جمال الأسلوب وقوة تصوير الشخصيات، هذه الشخصيات التي أصبحت أشد واقعية من الناس الواقعيين. فمن لم يسمع باسم جان فالجان؟ ألا نكاد نتخيل أنه وجد حقاً؟! وأنه شخص من لحم ودم..



ترى الناقدة "مريم رومان" في كتابها الصادر مؤخراً في باريس عن "فيكتور هيغو والرواية الفلسفية" أن هيغو كان يخلط بين الفلسفة والأدب. وبالتالي فمعظم أعماله الشعرية أو النثرية تحتوي على مضمون فلسفي. وكان يتموضع بالقياس إلى فلاسفة القرن الثامن عشر الذين سبقوه مباشرة، أي فلاسفة التنوير. ولكن يبدو أن المحاور الأساسي له كان فولتير أكثر من روسو، أو مونتسكيو، أو ديدرو. في الواقع إن فيكتور هيغو كان في طفولته وشبابه الأول مَلَكياً وفولتيرياً في آن معا. ولكنه التحق فيما بعد بحزب الكاتب شاتوبريان، أي الحزب الملكي المسيحي الذي كان معادياً للثورة الفرنسية والتنوير. نقول ذلك على الرغم من أن القطيعة مع فولتير لم تحصل إلا بشكل تدريجي آنذاك. واستمرت هذه القطيعة حتى حصول المنفى عام 1852. عندئذ حصلت قطيعة جديدة ودائمة في حياة فيكتور هيغو فانتقل من حزب المحافظين المسيحيين إلى حزب الليبراليين التقدميين. وعندئذ عاد إلى مدح فولتير وعصر التنوير. يقول هذه الكلمات الهامة في رواية "البؤساء" ذاتها:

"إن منجزات القرن الثامن عشر صحيحة وجيدة. فالموسوعيون وعلى رأسهم ديدرو، والفيزيوقراطيون وعلى رأسهم تورغو، والفلاسفة وعلى رأسهم فولتير، والطوباويون وعلى رأسهم روسو، هؤلاء هم القمم الأربعة المقدسة. إن التقدم الكبير الذي حققته البشرية باتجاه النور مدين لهم". هكذا نلاحظ أن الرجل حسم موقفه لصالح التقدم والتنوير والحداثة.



في السيرة الضخمة التي كتبها عنه يقول المؤرخ والناقد هوبير جوان بما معناه: فيكتور هيغو معجزة بحد ذاته! إنه متعدد ووحيد في آن معاً. إنه يغزو كل شيء ويكتب في كل الأنواع. وقد أصبح شخصية عامة وعمره لا يتجاوز السادسة عشرة.. إنه يخترق القرن التاسع عشر من أوله إلى آخره تقريباً وهو الذي يخلع عليه معناه. وعندما مات عام 1885 فإن القرن التاسع عشر مات معه...



وأما الناقد المعروف هنري غيمان فيرى أن الأحقاد التي أثارها فيكتور هيغو في حياته، وحتى بعد مماته، كانت هائلة. ولا غرابة في ذلك. فشهرة الرجل طبقت الآفاق وما كان ممكناً إلا أن تثير الحسد الشديد والحساسيات والعداوات. فبعد موته مباشرة كتبت جريدة "الصليب" الناطقة باسم الحزب الكاثوليكي الأصولي الفرنسي تقول: لقد كان مجنوناً منذ ثلاثين سنة! واستغرب أعداؤه كل هذا التشييع الرسمي والشعبي لموته، وقالوا بأنه لا يستحقه!.. وهذا ما عبَّر عنه أحدهم عندما قال: أبداً لم يكن فيكتور هيغو شخصاً نبيلاً. وذلك لأنه طيلة حياته كان يبحث عن التصفيق وهتافات الإعجاب. وأقل نقد له أو لأدبه كان يخرجه عن طوره.. وأما أناتول فرانس فقد هجاه بعد موته قائلاً: لقد حرك الكلمات أكثر مما حرك الأفكار.. وأوهمنا بأن أحلامه التافهة هي قمة الفلسفة! يا لها من مهزلة حقيقية...

في الواقع إن الحزب المسيحي المحافظ لم يغفر له "خيانته". فمن المعلوم أنه كان ينتمي إليه طيلة النصف الأول من حياته، أي حتى بلغ السادسة والأربعين من العمر. ثم انقلب عليه بعدئذ وانضم إلى المعسكر المضاد: أي المعسكر الليبرالي التحديثي التنويري. لقد انتقل من صف السادة والأغنياء إلى صف الشعب والفقراء، ومن معسكر الملكيين إلى معسكر الجمهوريين. وأكبر تجسيد لهذه النقلة كانت روايته "البؤساء". مهما يكن من أمر فإن فيكتور هيغو يظل علامة بارزة في تاريخ فرنسا. واسمه مكتوب على عدد لا نهائي من الشوارع والساحات في مختلف المدن الفرنسية. ولا أحد يستطيع أن ينافسه في هذا المجال: لا ديكارت، ولا موليير، ولا حتى شارل ديغول. ولكن ربما كان أدبه قد راح ضحية نجاحه وشهرته التي غطَّت على كل شيء. فلم يعد احد يقرأه الآن..أو قل خفت موضته كثيرا.