-
دخول

عرض كامل الموضوع : الحليب الدامي


Rena
29/07/2007, 01:48
- انا خائفة يا صالح , لم يبق لدينا سوى وجبة من الحليب واحدة للصغيرين , وأنت تعلم ... من الصّعب عليّ إرضاعهما معاً , والصغار الباقون , إنّ طعامهم لا يردّ جوعاً , وصحتهم تزداد سوءاً . يا الله ما الذي يجري ... ماذا سنفعل ؟
- هذا ما قالته صفيّة بلهجة قلقة متوجسة لزوجها صالح في العتمة بعد أن نام أولادهما .
- وووصالح الذي حشر رأسه بين ركبتيه وقد لفّ ذراعيه حولهما , كان عاجزاً عن الإجابة حائراً مؤرقاً , لا يملك الإجابة لأنه لا يملك النقود , لا يملك قرشاً واحداً . وقد قضى أياماً طويلة مع غيره من العمال في ساحتهم في انتظار العمل ليُسكت كلّ منهم تلك الأفواه المفتوحة للهواء والتي في أغلب الأحيان لا تظفر بشيء .
- زفر زفرةً طويلة حارّة خرجت من صدره , أفرغ فيها كلّ حزنه وغضبه وقلقه كيلا يظهر على كلماته :
- نامي يا عزيزتي , لا بدّ أنّ الله سيفتحها في وجهنا .غداً صباحاً سأذهب إلى ساحة العمال كعادتي , عليّ أن أجد عملاً – قالها بتشنج وقد تذكر أن زمناً طويلاً مضى دون أن يظفر بأيّ عمل – أنت تعلمين يا عزيزتي العمل قليل والعمّال كثر , لكن لا تحزني لا بدّ أن أحصل على عمل غداً من أجلك ومن أجلهم أجل ... أجل ...
- بهذه الكلمات طيّب نفسها فغطّت صغيريها وطوّقتهما بيدها وأغمضت عينيها .
- في الصباح ارتدى ثياب عمله التي سئمها : قميص رقيق "مزيّن" بخطوط بيضاء تركها العرق كالخطوط التي يخلّفها اللبن على الأكواب لدى البائع , وسروال عسكريّ ترك الاسمنت عليه آثاراً واضحةً لا تزول .
- طلب من زوجته أن تحاول تقنين ما تبقّى من الحليب , وألقى نظرة على صغاره ثم خرج بسرعة ليخفي دموعه التي طفرت من عينيه عنوةً.
- في الطريق تقاذفته الافكار , وارهقه حمله اليومي من الهموم والتصورات السوداوية البشعة : (( اذا لم اجد عملاً سنجوع , بل سنموت جوعاً , لا استطيع أن استدين اكثر , هذا ان قبل السمان بذلك , فانا لم ادفع حسابي عنده , ما أقسى نظراته المطالبة وكلماته المتذمّرة ! لا يمكن ان اطلب منه ديناً بعد الآن حتى اجد عملاً , عندئذ يمكن ان ارفع راسي امامه)).
- تخيّل صالح اولاده وخصوصاً طفيله الرّضيعين حيوانات شرهة تاكل كل ما يوضع في افواهها . أحسّ بالذنب برهةً : ((لعن الله الفقير ليس لديه عمل سوى الانجاب وهذا العمل بدون أجرٍ , والانكى من ذلك أنّنا ننتظر مولوداً واحداً فرزقنا الله باثنين )) .
- قطع تفكيره وصوله الى الساحة , وجد هناك عدداً كبيراً من العمال الواقفين ذوي النظرات الحزينة الساهمة أبداً والايدي المتشابكة , أو المقرفصين الذين يبدون بثياب عملهم المتّسخة ذات الالوان المختلفة الحائلة كأكياس قمامة مصفوفة تنتظر عمّال النظافة لكنسهم بعيداً .
- اختار مكاناً بين الواقفين , لأنّه شعر أنّه بوقوفه يقوم بعملٍ ما , أو أنّه يحتجُّ على الاستسلام للراحة . ودارت هنا وهناك في هذه البقعة العمّلية المتمدّدة أحاديث خافتة .
- وقف الى جانب رجل ذو شعر اشيب خشن واسنان صفراء مسودّة :
- - (( شكلك بيقول انك مهموم !)) قال الرجل : انتبه صالح فجاةً , نظر الى الرجل لحظةً وعاد بنظره الى حذائه المربوط بسلك معدني لامع .
- -بالله عليك ما بك ؟!
- قابل صالح كلام الرجل بالصمت ثانيةً , فأخرج هذا من جيبه علبة تبغ و اوراقاً ناعمة , ولفّ لفافتين قدّم واحدةً منهما الى صالح قائلاً :
- - (( خود دخّن لك سيجارة وروّق )) , واحك ما عندك , كلّنا اخوة يا رجل .
- تناول صالح اللفافة , وبدأ يدخّن ويتكلّم , فبدت كلماته كأنّها تحترق في صدره , وتخرج فتملأ رائحتها المكان :
- عندي اربعة اولاد وطفلين رضيعين , نسكن في غرفة واحدة , عملت لدى طيّلن منذ مدة ولكنّه توفي بسبب مرضه وفقدت عملي , ومنذ ذلك الحين وانا ابحث عم عمل دون جدوى .
- (( ايه زمن ما بيرحم )). علّق الرجل .
- حتى الطعام استدينه (( وحقّ الذي بيعرف كم شعرة براسك )) , وهو وحده الذي يعلم اذا كنت سأُوفّق الى اعادة الدّين واطعام الصغار .
- ((طوّل بالك يا رجل )) , الصبر مفتاح الفرج بإذن الله .
- تصوّر حليب الصغار سينفذ اليوم , أشعر بالخوف عندما أذكر ذلك .
- لماذا لا ترضعهما زوجتك ؟! قال عامل .
- انهما اثنين وصحتها ليست على ما يرام
- ماذا تنوي ان تفعل ؟ قال ثالث .
- لا ادري والله , لقد بحثت طويلاً عن عمل ولم أظفر بشيء , وها أنذا أقف كغيري أنتظر العمل عسى أن يظفر بي .
- (( يا سيدي كل واحد همومه على قدّه )).
- بعد قليل جاء رجلٌ , وقف وأجال النظر في الجمع , فدبّت الحركة بين العمال , ونهض الجالسون وتقدم الجميع نحو الرجل الذي اشار الى ثلاثة عمّال فصلهم عم الجمع وسار الاربعة فعاد الباقون الى اماكنهم خائبين .
- قال أحد العمال : - انا واثق من أنّ اكثرنا لن يحصل على عمل , إن البناء شبه متوقف , ومعظم أعمالنا اساسها البناء.
- قال صالح : كل منا ياتي الى هنا آملاً الحصول على عمل يعيل اسرته به , ولكن ما تقول هو الحقيقة .
- مضت ساعات والحال كم هي : كتلٌ بشرية شبه جامدة , وجوه مجعدة حزينة , نظرات تعيسة , ودخان متصاعد بكسل من بين الاجساد . بدا العمال ينصرفون واحداً تلو الآخر , لم يبق في النهاية إلا صالح الذي احسّ برعدة تسري في دمه , مشى متمهّلاً يجرّ أذيال خيبته متسكِّعاً , وذهنه لا يفتأ يرسم ويمحو مشهد المقابلة – مقابلة زوجته ووجوه اطفاله . واستمرّ ذلك حتى وجد نفسه يلج بيته (مأواه ).
- وبوجه بارد الملامح قابلته زوجته وكانّها تعلم النتيجة :
- كالعادة لم تحصل على عمل أليس كذلك ؟
- هزّ راسه موافقاً .
- هل أطعمت الصغار ؟
- أكلوا ما تبقى من طعام البارحة , وهم لا شك ينطوون الآن جائعين , أمّا الطفلين فقد التهما ما بقي من الحليب صباحاً وأرضعتهما اربع مرات . قالت هذا وجلست الى جانبه , نظر الى الصغار المتكوِّمين على الحصير بين نوم واستيقاظ , فذكّره منظرهم بالجموع العماليّة .
- دقائق مضت واعلن الطفلان فجأةً عم وجودهما مرة اخرى .
- حملت الام احدهما وارضعته , بينما حمل الاب الطفل الاخر محاولاً تهدئته .
- صرخت الام صرخة الملسوع مذعورةً :
- صالح انظر !
- وقف صالح أمامها محملقاً ذاهلاً : كان ثدي الام مضرّحا بالم منتفخة الحلمة , بينما افترّ ثغر الطفل عن ابتسامة واسعة فظهرت لثّته وشفتاه الرقيقتان مخضّبتان بالدّم القاني .
- وضع الاب الطفل على الارض وخرج هائماً على وجهه .


شكيب لايقة ....

Remember Me
29/07/2007, 01:54
"Thnx" Rena

Rena
31/07/2007, 01:29
"Thnx" Rena
اهلين ....:oops: