Hus
09/06/2004, 07:00
وصلني هذا المقال من صديق وحبيت تطلعو لوجه الاطلاع يعني
لقاء خاص لموقع "مرحبا لبنان"- استراليا
مع الأستاذ نزار نيوف الناشط السوري في مجال حقوق الإنسان وأحد أبرز المعتقلين السياسيين في سوريا
أجرى الحديث الأستاذ نخلة بيطار
- يسرنا أن نستضيفك في برنامج "مرحبا لبنان" من أستراليا، ومنها إلى العالم قاطبة ونقول لك أهلاً وسهلاً، وعليك سلام.
أستاذ نيوف، لم يعرف عنك يوماً أنك تعاملت مع العدو، فما هي جريمتك حتى سُجنت، وكم كانت المدّة؟
- أهلاً وسهلاً بكم وشكراً جزيلاً لاستضافتكم على هذا الموقع وهذه المحطة التي يتابعها الكثير من العرب واللبنانيين في جميع أرجاء العالم.
لا أعتقد أن قضية فرد يمكن أن تتحوّل إلى قضية عامة إلاّ بمقدار ما تكون هذه القضية مرتبطة بالشأن العام بشكل كبير وملتصقة معه إلى حد بعيد، اعتقلت مع العشرات من زملائي في البداية، وقد أطلق سراح معظمهم في ما بعد، وكان ذلك في نهاية عام 1991، بأربع تهم سلطوية أولها تأسيس وتزعّم منظمة غير مشروعة والمقصود منظمة "لجان الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان في سوريا"، التهمة الثانية هي نشر معلومات كاذبة عن حقوق الإنسان في سوريا، والمقصود بذلك نشر التقارير المتعلقة بالانتهاكات داخل السجون والمعتقلات بشكل خاص، وفي سوريا بشكل عام، سواء ضد المعتقلين السياسيين السوريين، أو المعتقلين العرب الموجودين داخل السجون السورية كاللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين وآخرين من جنسيات عربية أخرى، التهمة الثالثة هي التحريض على مظاهرة إلى القصر الجمهوري، وكان ذلك في 21 آذار 1990، بمناسبة عيد الأم في سوريا، حيث حاولت تنظيم مظاهرة إلى القصر من أمهات وشقيقات وبنات المعتقلين السياسيين، لمطالبة الرئيس السابق حافظ الأسد بإطلاق سراحهم، طبعاً فشلت المظاهرة، أما التهمة الرابعة فهي نشر مجلة بدون ترخيص، وهي مجلة "صوت الديمقراطية"، الناطقة باسم المنظمة.
هذه هي التهم التي اعتقلت بسببها حوالي عشر سنوات، حوكمت من قبل محكمة أمن الدولة العليا للشؤون العسكرية، وزملائي تراوحت أحكامهم بين ثلاث إلى تسع سنوات، أطلق سراحهم جميعاً باستثنائي، وقضيت فترة الاعتقال باستثناء أشهر قليلة، في زنزانة انفرادية، وهي رافقتني من فروع التحقيق، فرع المخابرات العسكرية، فرع التحقيق العسكري- فرع فلسطين، ثم سجن صيدنايا، ثم سجن تدمر لأعود بعدها إلى قيادة شعبة المخابرات العسكرية في دمشق، ثم إلى سجن المزة ثم إلى صيدنايا مرة أخرى بعد إغلاق المزة، وأطلق سراحي من هناك في 6 أيار عام 2001، خلال زيارة قداسة البابا إلى سوريا الذي كان يحمل رسائل من منظمات دولية لإطلاق سراحي خصوصاً بعد تدهور وضعي الصحي، وإصابتي بالسرطان وتدهور وضع عمودي الفقري وساقيّ، إذ كنت شبه مشلول.
- صحتك اليوم تتحسّن؟
- الحمد لله نعم، قضيت حوالي سنتين منذ وصولي إلى فرنسا في العلاج في مستشفيات فرنسا وألمانيا، وضعي الآن أفضل، ولكن بقيت لدي مشكلة داخل العمود الفقري لم يستطيعوا علاجها لان أي خطأ قد يؤدي إلى ضرر كبير، فرفضوا المجازفة.
هل وضعك الصحي ناتج عن ظروف السجن؟
- ليس عن ظروف السجن بل عن التعذيب تحديداً، أصبت بالشلل من الربع الساعة الأولى لاعتقالي، في 2 كانون الثاني 92، بسبب الكرسي الألماني المعروفة بهذا الاسم على نطاق دولي German chair، واسمها مشتق من الغستابو النازي الذي ابتدعها على يد هملر رئيس الاستخبارات النازية، ثم استوردتها الأنظمة الإرهابية والديكتاتورية في العالم العربي وفي شرق أوروبا وألحقوا بها تطويرات خاصة فمثلاً كرسي التعذيب الموجودة في فرع فلسطين في دمشق المعروف باسم الفرع 235، هي كهربائية وليست يدوية، ومعيّرة بحيث أن الجلاد أو ضابط المخابرات يستطيع أن يلحق بك الأذى الذي يريده، أو يتحكم بشدة التعذيب المراد تطبيقها لانتزاع اعترافات معينة.
أما بالنسبة للسرطان فلا علاقة له بظروف الاعتقال بل بالقضاء والقدر، يمكن للظروف أن تكون قد ساهمت في تحريض الخلايا على الإصابة، لكن أنا دائماً أعمل من خلال القانون ولا أستطيع أن ألصق تهمة غير موثقة بجهات، أياً تكن، فنحن قد اتُهِمنا بتهم غير موثّقة وادعاءات كاذبة، ولا يمكن أن نلعب نفس اللعبة.
- يفهم من كلامك بأنك التقيت مساجين لبنانيين، بينما هناك ادعاءات بأنه لا يوجد أي سجين لبناني في سوريا؟
- نعم، هذه قضية شائكة ومعقدة، وأنا تكلّمت حولها عشرات المرات بمناسبة وبدون مناسبة، لكن أحب أن ألفت انتباه المعارضة اللبنانية وبشكل خاص المنظمات الأهلية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان كسوليدا وغيرها، وبالأمس كانوا في دمشق وعادوا خائبين، بخفي حنين، ولم يستطيعوا مقابلة أحد. أنا أقول للبنانيين المتابعين هذا الموضوع، وللمنظمات الدولية، وقد سبق وذكرت ذلك لل Amnesty في لندن، بأنه طالما لم يُفتح ملف "خان أبو الشامات"، مكان الاعتقال السري الواقع حوالي أربعين كيلومتر شمال شرق دمشق على طريق بغداد، شرقي قاعدة الضنير العسكرية، فطالما لم يفتح ملف هذا المكان، وطالما لم تطالب الجهات الدولية بالكشف عن هذا المكان وإجراء تحيق ميداني هناك، فلن تستطيعوا، ولن يستطيع أحد معرفة سر اللبنانيين، وكثيرين آخرين، سوريين وغيرهم، وهم بالآلاف، هذا المكان وأنا أول من تكلّم عنه، وللأسف لم يتجرأ حتى الآن أحد بالحديث عنه، وذلك لأنهم يخشون أن يتهموا بالخيانة الوطنية، هذا المكان جرت وتجري فيه اختبارات الأسلحة، في هذا المكان جرت اختبارات الأسلحة الكيميائية والبيولوجية على المعتقلين السياسيين لصالح المخابرات الجوية، أنا أخشى، وأنا آسف جداً أن أقول ذلك، وأقوله للمرة الرابعة أو الخامسة، أخشى أن يكون كثير من اللبنانيين المفقودين في هذا المكان، بعد أن شوّهوا باختبارات الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وبالتالي لم يكن باستطاعة النظام طبعاً أن يطلق سراحهم، لأنهم يشكّلون فضيحة، وهم عينة على جريمة رهيبة. وأنا أعتقد أن واجب المنظمات الأساسي هو التركيز على هذه النقطة، تشكيل لجنة دولية لتفتيش هذا المكان لأنه في منتهى الأهمية، هذا بالإضافة إلى المقابر الجماعية في وادي عميرة، قرب سجن تدمر العسكري الصحراوي، حيث دُفن الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين جرت تصفيتهم في سجن تدمر، من الإخوان المسلمين والبعث العراقي ومصريين ولبنانيين، وهم بالآلاف، وهناك مقبرة جماعية أخرى خاصة بالمعتقلين السياسيين، وهي قسم جانبي من مقبرة الشيخ حسن في دمشق، ومقبرة الدحداح، وهناك كانت أجهزة المخابرات تقوم بنقل رفات الشهداء الذين سقطوا تحت التعذيب وتدفنهم ليلاً في تلك المقابر، وعلى سبيل المثال مضر الجندي وهو أحد أشهر المعتقلين السياسيين في سوريا، قتل تحت التعذيب وتم دفنه في هذه المنطقة، هناك مقبرة أخرى في منطقة "جديدة عرطوز"، وهي بلدة صغيرة قرب دمشق فيها حقل رماية تابع للشرطة العسكرية للتدريب، وكانت تتم عمليات الإعدام هناك، وبالقرب منها مقبرة جماعية... أستغرب كيف يتم الكشف عن المقابر الجماعية للنظام الإرهابي الفاشي في العراق وتصبح حديث العالم كله، بينما يلزم الجميع الصمت، بمن فيهم المعارضة السورية واللبنانية، عن قضية المقابر الجماعية في سوريا.
أنا التقيت معتقلين لبنانيين، المرة الأولى في سجن صيدنايا مطلع عام 92، التقيت بالعشرات منهم، وأفخر أنني استطعت أن أكذّب رفيق الحريري وعدنان عضوم والرئيس إميل لحود عندما ادّعوا في نهاية عام 2000 بأن هناك 35 سجين سياسي لبناني فقط معتقلين، هذا تصريح رفيق الحريري وكان في دمشق، وأنا هرّبت قائمة بأسماء 56 معتقلاً كانوا معي في تلك اللحظة، واستطعت إرسالها إلى اللجنة العربية لحقوق الإنسان والى الأستاذ جبران التويني وقد نشرها في النهار، مما اضطر عدنان عضوم ورفيق الحريري والرئيس اللبناني إلى التراجع عن تصريحاتهم الكاذبة، واعترفوا بأن هناك 56 معتقلاً فعلاً، وتمّ نقلهم بعد أيام قليلة إلى لبنان في كانون الأول.
قضية أخرى تثبت كذب النظام السوري بشأن المعتقلين اللبنانيين، فقد التقيت بسجين لبناني يدعى جورج شلاويط، ولا زلت أذكره تماماً، شاب طويل ممتلئ البنية يميل إلى السمرة قليلاً، التقيته للمرة الأولى عندما أغلقوا سجن المزة العسكري، وتم نقل المعتقلين بمن فيهم جورج، إلى سجن صيدنايا وسجن تدمر، حدث ذلك يوم الأربعاء (6 أو 7 أيلول) من العام 2001، الدفعة التي كانوا ينقلونها إلى صيدنايا كان جورج شلاويط من بينها، وأنا كنت معه في نفس السيارة، هم أخطأوا لأسباب إدارية ووضعوني مع المعتقلين لأنه لا يجوز أن اختلط معهم باعتبار أن سجني انفرادي، حصل الخطأ وأصعدوني إلى السيارة وكان فيها جورج شلاويط وضابطان سوريان معتقلان منذ 1980، ومحكومان بالإعدام مع وقف التنفيذ، العميد حلاوة وزميل له لم أعد اذكر اسمه، كانا مع جورج وهما شهود على ذلك، وبعد أسبوع، في 13 أيلول، عندما نُقلت إلى سجن صيدنايا مرة أخرى بشكل منفرد، أول ما بادرت به هو السؤال عن جورج شلاويط وإذا كان قد وصل بشكل منفرد، فتش السجناء السجن بكامله، طبعاً بشكل سري وبحكم علاقتهم مع بعض السجّانين، فلم يكن له أي أثر في سجن صيدنايا، لا في المهاجع ولا في الزنازين الأرضية، فأين هو جورج شلاويط؟ هذا سؤال مهم كثيراً، أنا عندما وصلت إلى باريس وعقدت مؤتمراً صحفياً في مقر منظمة صحفيين بلا حدود، قلت بأن جورج شلاويط وسجين آخر اسمه طوني (لا اذكر الآن كنيته) وهو من منطقة جبل لبنان، كانا آخر شخصين لبنانيين رأيتهما في السجون السورية.
ردّ علي وزير الخارجية فاروق الشرع في اليوم التالي واتهمني بالكذب وقال بأنه لا أثر لجورج شلاويط ولا لطوني، فأين هما؟ ثم تفاجأ الجميع في نهاية العام الماضي بأن الحكومة السورية أرسلت اعترافاً رسمياً للمفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة في جنيف، تقول فيه إن جورج شلاويط ما زال في السجون السورية وهو على قيد الحياة، إذاً فاروق الشرع ادّعى كذباً بأن لا وجود لجورج ولا لطوني ولا لغيرهم.
عن طوني قالوا إنه سجين سوري، بينما هو لبناني من أصل سوري، وعائلته تحمل الجنسية اللبنانية منذ زمن بعيد. النظام السوري يعترف بقضية جورج شلاويط بمذكّرة رسمية للمفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهذا يعني بأن كل ادعاءاته الأخرى بشأن المعتقلين اللبنانيين، وبأنه لم يعد هناك من معتقلين لبنانيين في سوريا هي ادعاءات كاذبة، وأكبر برهان قضية جورج شلاويط.
- لماذا كان حظك أفضل من غيرك وأفرج عنك، وهل صحيح أنك قدمت تنازلات معينة؟
- معروف عني بأني لا أقدّم تنازلات، وقد وصل الأمر بالنظام إلى حد اتهامي بالجنون، سابقة في تاريخ سوريا أن يصدر وزير الإعلام (عدنان عمران) بياناً ضدي شخصياً، ممكن أن يصدر وزير أو سلطة بياناً ضد منظمة أو ضد حزب ولكن ضد شخص! فهذه سابقة لاوجود لها في تاريخ سوريا، اتهمني بيانه بالجنون وأقمت عليه دعوى، ووكلائي في دمشق 7 محامين بينهم أنور البني وخليل معتوق، وادّعوا على عدنان عمران، ولكنه حتى الآن يرفض استلام الدعوى طبعاً، هو يحتقر القانون "ويتبوّل" على كل القضاء والقانون في سوريا.
أنا لا أقدم تنازلات، ولو كنت ممن يقدّمون تنازلات لكنت خرجت مع زملائي باكراً، ولما كانوا ميّزوني عنهم جميعاً بسجن انفرادي لمدة عشر سنوات، وبمعزل عن المعتقلين الآخرين. كانوا يقولون عني "راسو متل التيس". في قضايا حقوق الإنسان لا يمكن المساومة لأنها ليست قضية سياسية، في السياسة يمكن أن تساوم وأن تصل إلى حلول وسط، ولكن ليس في حقوق الإنسان، فهي حقوق ولا يمكن لأحد أن يساوم في الحقوق سواء كانت فردية أو جماعية.
- هل صحيح ما يقال أن أهلك يتعرّضون اليوم للتنكيل في بلدك سوريا؟
- نعم للأسف، ففي سوريا كرّس الرئيس الراحل حافظ الأسد مدرسة العقاب الجماعي، فعندما لا يستطيعون أن ينالوا من معتقل سياسي، أو من مناضل أو معارض موجود خارج البلاد، يبدأون بالانتقام من ذويه الأقربين، على سبيل المثال في سجن تدمر هناك مهجع يدعى "مهجع الأحداث"، هذا هو اسمه الرسمي وهو واضح الدلالة على ما يحتوي، هذا المهجع ضم في بعض المراحل 147 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 9 سنوات و 13 سنة، هؤلاء جميعهم كانوا رهائن بدلاً عن ذويهم الفارين خارج القطر... نظام يأخذ الأطفال رهائن، وينتقم من العائلات.
عندما فشلوا في اعتقالي أول مرة أخذوا طفلتي سارة رهينة إلى فرع المخابرات العسكرية في اللاذقية، وكان عمرها أحد عشر شهراً فقط، أخذوها مع والدتها ووضعوها ثلاثة أسابيع في زنزانة تحت الأرض وكان الطقس فظيعاً في ذلك الشتاء، ثم أطلقوا سراح الوالدة ووضعوها تحت الإقامة الجبرية في منزل أهلي، وأبقوا على الطفلة رهينةً لإجباري على تسليم نفسي، وطبعاً لم أفعل، فاضطروا لاحقاً إلى إعادة سارة إلى عائلتي.
الآن لا يستطيعون أن يفعلوا معي شيئاً، فبدأوا بالانتقام من أهلي، أصدر بشار الأسد وحكومته ثلاثة مراسيم بطرد إخوتي صلاح وأمجد وممدوح من عملهم كمدرّسين لأنهم رفضوا إصدار بيان يندّد بتصريحاتي ويتبرأ مني ويعتبرني عميلاً وجاسوساً للإمبريالية والصهيونية وغيرها من القائمة الرخيصة التي اعتدنا على سماعها، في سوريا وفي بقية العالم العربي، ومع ذلك لم يستفيدوا شيئاً. أسلوب العقاب الجماعي لا فائدة منه على الإطلاق.
- ما هو دور الأنظمة العربية في إفلاس الفكر العربي ودفع الأمة نحو هذا الانحطاط الرهيب الذي تجلّى اكثر ما تجلّى في انقطاع الوصل بين الأنظمة والشعوب؟
- عندي مفهوم خاص لما يحصل اسميه الاستعمار الداخلي (colonialism)، معظم الدول العربية كانت تحت الاستعمار الخارجي، سواء البريطاني أو الفرنسي، وعندما غادر هذا الاستعمار تبوأت السلطة مجموعة من الأنظمة تحت شعارات وطنية وتحررية، سواء كانت ليبرالية أو أيديولوجية شمولية توتاليتارية، مثل مشروع البعث الفاشي في سوريا والعراق، أو المشروع الدكتاتوري الناصري لعبد الناصر، واكتشفنا بعد ذلك أن هذه الأنظمة لم تكن في الحقيقة إلا استمراراً للاستعمار الخارجي، على الأقل بممارساتها، فقمعت الجميع باسم التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وادّعوا أن التنمية هي أولوية على حساب الحريات، وبعد عدة عقود لم نربح التنمية وخسرنا الديمقراطية، واكتشفنا أننا أمام استعمار داخلي، نظام استعماري حقيقي، لا يقل شراسة عن الخارجي، بل ربما وفي لحظات كثيرة فاقه شراسة، وليس أدلّ على ذلك من نظام صدام حسين الفاشي والنظام السوري.
مثل على ذلك مقارنة سبق وأجريتها في إحدى مقالاتي بين الاستعمار الفرنسي الذي استعمر سوريا 26 عاماً، والاستعمار البعثي الذي استعمرها منذ عام 1963 حتى الآن، فالخسائر التي خسرناها، سواء بالمعنى المادي أو البشري، أثناء التحرّر من الاستعمار الفرنسي لا يمكن على الإطلاق مقارنتها بما خسرناه في ظل نظام البعث، وبشكل خاص في ظل حكم حافظ الأسد، أسوق مثالاً واحداً فقط وهو محاكمة "ابراهيم أنانو"، وهو من أحد قادة الثورة الكبرى، وقد اتهم من قبل الاستعمار الفرنسي بتهم كل واحدة منها تستحق الإعدام بموجب القوانين الفرنسية، وجرت له محاكمة في بيروت في مقر القضاء الفرنسي في ذلك الوقت، وبُرئت ساحته وكان قد اتهم بقتل مواطنين فرنسيين وطالب المدعي العام بإعدامه، ورغم ذلك برّئ بعد شهر من سير المحكمة. هذا هو الاستعمار الخارجي، فماذا عن الاستعمار الداخلي، ماذا فعل حافظ الأسد وابنه بشار؟؟ يكفي أن نشير إلى "عارف دليلة" على سبيل المثال وهو بروفسور في الاقتصاد وكان أستاذي، فقد ألقى محاضرة صيف 2001 وتحدث فيها عن الفساد وضرورة الإصلاح في سوريا وعن الديمقراطية والانفراج والشفافية... اعتقل وحكم من قبل محكمة أمن الدولة العسكرية بعشر سنوات.. هذا لا يعقل، وهذا هو الاستعمار الداخلي، وأنا أعتقد الآن، واعتقادي هذا يعتبره البعض في العالم العربي تطرفاً ورؤية غير وطنية وغير قومية إلى آخره، وأنا أتحمّل مسؤولية ذلك، أطرح الآن دحر الاستعمار الداخلي قبل التفكير بدحر الاستعمار الخارجي، وقلت ذلك قبيل اجتياح أميركا للعراق، وربما كنت من الأصوات القليلة التي وقفت في العالم العربي مع الاجتياح الأميركي للعراق، ليس حباً بالأميركيين ولا باجتياحهم، ولكن الشعب العراقي كان قد وصل إلى درجة يستحيل معها التخلص من هذا الطاغية الإرهابي إلا بهكذا عملية، وأنا أسف أن لا يتم التغيير من الداخل، ولكن ما العمل إذا خسر الشعب العراقي عشرات الألوف من القتلى والضحايا وملايين المشردين خارج البلاد، ومع ذلك هناك مجموعة من الثرثارين في العالم العربي، خاصة في الوسط الثقافي، يقولون نحن ضد صدام وضد الاحتلال، كيف؟ أنا لا أفهم. منذ عدة عقود وصدام يذبح الشعب العراقي وما من أمل، ولم تستطيعوا أن تخلّصوا الشعب العراقي، الآن تخلّص الشعب من الاستعمار الداخلي، فإذا قرر أن يواجه الاستعمار الخارجي فأنا معه، ولكن كفى شعارات.
لاحظوا هذه المفارقة؛ في أول أيار تظاهر الشيوعيون وحملوا المنجل والمطرقة وصور لينين وستالين في شوارع بغداد، وبحماية الأميركان، بينما في الماضي لم يستطيعوا أن ينشروا جريدة تافهة لهم في عهد صدام حسين!! أنا مع دحر الاستعمار الداخلي، وهذا يجب أن يكون الأولوية وشعار المرحلة، فلا يمكن دحر الاستعمار الخارجي ما لم ندحر الداخلي أولاً.
- هل تعتقد أن الحرب الأميركية على العراق ستحدث صدمة وتغييراً في الفكر السياسي العربي، وكيف ذلك؟
- نعم، أعتقد ذلك، وهي في الواقع بدأت، ولكن للأسف بدل أن ينعكس ما حصل في العراق بشكل إيجابي على الفكر العربي، بمعنى أن يعيدوا النظر بمجموعة الأفكار والأيديولوجيات السائدة منذ الخمسينات حتى الآن، نسمع ونرى الوتيرة الأيديولوجية والشعارات الغوغائية الشعبوية ازدادت شراسة، سواء في الشارع القومي أو القومجي بالأحرى، أو في الشارع الإسلامي الأصولي المتطرف، هم لم يستفيدوا للأسف، ويطالبون بدحر الاحتلال الأمريكي وضرب المصالح الأميركية والى آخره، فأين كان هؤلاء جميعاً عندما كان النظام العراقي يذبح الشعب العراقي، كانوا شياطين خرساء على ما حدث، هناك تيار في العالم العربي بدأ يصحو الآن وينضوي تحت لوائه اليساري والليبرالي وحتى القومي، ويؤيد النظر، لحسن الحظ، بمجموعة أفكار، ويقول بأن ما أوصلنا إلى هذه الكارثة سواء في العراق أو غيرها، هي الأنظمة الشمولية وفقدان الديمقراطية وعدم قدرة الشعب على ممارسة الرقابة على مصيره، والتحكم بمصيره الحياتي والسياسي والاقتصادي.
أعتقد أن ما حصل في العراق، بغض النظر عن مأساة اجتياح بلد شقيق، ولكن حتى الاجتياح له جوانب إيجابية سواء في تخليصنا من نظام صدام الإرهابي، أو في تشكيل صدمة للعقل العربي بان قضية الديمقراطية هي قضية ذات أولوية، فعندما يكون المجتمع مسيطراً على مقاليد أموره ومستقبله، ويعرف كيف يتصرف، فلن يكون هناك أي مبرّر لوجود نظام ديكتاتوري متسلّط، وبالتالي لن يكون هناك إمكانية لتدخّل خارجي على الإطلاق، وكما يقول المثل عسى أن تكرهوا شيئاً لعله خير لكم.
- هل تجد تشابهاً بين الوضع في المنطقة العربية اليوم ووضع أوروبا الشرقية غداة انهيار الاتحاد السوفياتي؟
- سبق ورفضت المقارنة بين الأنظمة في أوروبا الشرقية والأنظمة في العالم العربي، أعتقد هناك تشابهاً فقط فيما يتعلق بالاستبداد والقمع، ولكن في الحقيقة فإن الأنظمة في أوروبا الشرقية، رغم قمعها واستبدادها، ولكنها صنعت شيئاً من التنمية، فمثلاً كان في أوروبا الشرقية قاعدة صناعية ضخمة. ولكنها للأسف كانت أنظمة شمولية، أعتقد أن كل شيء الآن يتوقف على الاستراتيجية الأميركية، فإذا كانت صادقة في إقامة أنظمة حداثة في المنطقة فأعتقد أن الأنظمة الحالية "رح تضب غراضها وتمشي"، ولكن حتى هذه اللحظة لست واثقاً بأن للأميركيين مشروعاً متبلوراً في قضية الديمقراطية، هذه الأنظمة الآن هي على وشك السقوط في صريح العبارة، فإذا رفع عنها الغطاء ولو قليلاً، من قبل الغرب فهي لا تستطيع الصمود أكثر من شهر، ولكن للأسف هناك المصالح الاستراتيجية، وغالباً ما تكون هي الحاكمة أولا وأخيراً.
- في حال استجاب النظام السوري للضغوط الأميركية عليه فهل تعتقد أنه سيبقى في سوريا؟
- في الحقيقة هو استجاب، المفارقة العجيبة أن نظام صدام حسين صمد 12 سنة أمام الضغوط الأميركية، بينما نظام بشار الأسد لم يصمد أكثر من 12 ساعة، وهي المسافة بين نيويورك ودمشق، بين تصريحات باول في واشنطن ووصوله إلى دمشق، فقبل أن يصل كان بشار الأسد قد سلّم بكل المطالب من إغلاق المكاتب الفلسطينية إلى تسليم العراقيين إلى تهدئة حزب الله إلى...
- ولكن بالأمس سمعنا بيرنز يقول إن السوريين لم يستجيبوا بعد؟
- هم لم يستجيبوا لكل المطالب والشروط الأخرى، فقد أغلقوا المكاتب الفلسطينية وسلّموا العراقيين، ومارسوا ضغوطاً على حزب الله لوقف تصريحاته الحربجية، وكثير من هذه الأمور، ولكن هناك أمور أخرى لم يستجيبوا لها بعد مثل قضية نزع سلاح حزب الله، وذلك لأنه ورقة بيد النظام السوري. بشار الأسد، وحافظ قبله، قاتلوا ولا يزالون من خلف ظهر السيد حسن نصرالله، جبهتهم ساكنة منذ عام 74 حتى اليوم ولم تطلق طلقة عليها، بينما لبنان يجب أن يحرّر الجولان! أنا لا أفهم هذه المعادلة، فإذا كنتم تريدون أن تقاتلوا وتحرّروا أرضكم فما علاقة لبنان بذلك؟ لماذا الشعب اللبناني جبهته ساخنة، وعليه أن يدفع الثمن، وهو الصغير والمستضعف في هذه المنطقة؟ لماذا عليه أن يدفع الثمن؟
أعتقد أن النظام السوري لن يستجيب لكل المطالب، لأنه إذا استجاب لكل شيء فهذا يعني أنه لم يبق لديه شيء، كل الشعارات التي رفعها ستنتهي، وسيفقد بالتالي مبرّر وجوده بالكامل، لا يستطيع أن يبيع الشارع السوري أي شعار وأي ادعاء، هو الآن يدّعي القومية وتحرير الأرض وفلسطين.. حتى المطلب الفلسطيني قال بأنه سيقبل بما يقبل به الفلسطينيون، بما في ذلك خارطة الطريق، وزاد عليه فاروق الشرع بمطالبته بخارطة طريق لسوريا. أعتقد أن هذا النظام لم يعد له مبرر وجود على الإطلاق سوى إدارة الهدوء في المنطقة، وعدم حدوث فراغ سياسي، فللأسف إذا سقط النظام السوري الآن فلا يوجد له بديل لا في المعارضة ولا في غيرها، وأمامنا العراق شاهد على ذلك.
- إذا سقط النظام السوري فهل تعتقد أن صراعاً طائفياً سيبرز في سوريا؟
- نحن في سوريا لم نعرف شيئاً اسمه طائفية على الإطلاق، وهذه مفارقة عجيبة، إلا في ظل ما يسمى بالنظام العلماني للبعث، النظام "العلماني" البعثي هو الذي حرّض المشاعر الطائفية وأنعشها في سوريا، إن أول رئيس وزراء سوري بعد الانتداب الفرنسي كان مسيحياً، ومن أصل لبناني، هو فارس الخوري، وقد عيّن لدورتين، وكان صوت سوريا القوي في الداخل وفي الخارج، وفي ظل نظام البعث "العلماني" لم يصل أي مسيحي إلى منصب، هذه فضيحة حقيقية وجريمة حقيقية، أنا لا أخشى على الإطلاق من المسألة الطائفية في سوريا، وربما هناك التيار الديني الإسلامي الأصولي، ربما يحاول إنعاش وتوليد قضايا ثأرية انتقامية من الطائفة العلوية في سوريا، وللأسف لا زلنا نرى عند التيار الأصولي في سوريا عدم وضوح في هذه النقطة، لا زالوا يقولون الطائفة العلوية الحاكمة.. الطائفة العلوية في سوريا ليست حاكمة، بدليل أن الأغلبية الساحقة من المعتقلين السياسيين السوريين العلمانيين هم من الطائفة العلوية، أنا على سبيل المثال نموذج، ونموذج آخر هو الدكتور عبد العزيز الخيّر، وهو محكوم 22 عاماً، وهو علوي من القرداحة ومن أقرباء الأسد، ومن أكبر عائلة علوية على الإطلاق، 22 عاماً هو أطول حكم يصدر بحق معتقل سياسي في سوريا منذ الاستقلال.
النظام مارس ممارسات طائفية في سوريا، واعتمد على بعض رموز الطائفة وبعض الضباط فيها، ولكن في حقيقة الأمر ليست الطائفة هي الحاكمة، واذهب إلى قريتنا سترى بأم عينك الجوع والفقر .
- هل تعتقد أن مؤسسات المجتمع المدني في سوريا لا تزال موجودة في ظل البعث، وهل تستطيع أن تعبئ فراغ السلطة في حال انهيارها؟
- لا توجد مؤسسات مجتمع مدني، وهذه مشكلة خطيرة جداً، هذه الأنظمة الشمولية أول ما تفعله لدى وصولها إلى السلطة هو القضاء على كل تعبيرات المجتمع المدني ومنظماته، في سوريا كما في العراق، كل النقابات والجمعيات والطلبة كلها مؤسسات ملحقة بجهاز السلطة الحالي، فإذا سقط النظام ستسقط هذه المؤسسات كما حصل في العراق.
- يعني الفراغ والفوضى؟
- بالضبط، لذلك إذا كان للنظام السوري ذرّة من العقل، وتلقّن درس العراق، فعليه أن يبادر فوراً إلى توسيع الهامش الديمقراطي قدر الإمكان، للسماح لمؤسسات المجتمع المدني بالانتعاش من جديد، لأنها الضمان الأساسي للبلد. فبعد مجيء بشار وإعطائه ضوءاً أخضر صغيراً للناس، انتعشت على الفور المنظمات الأهلية، ولكن بعد ستة أشهر أصدروا أمراً بإلغاء كافة المنتديات واعتقل رموز الحركة المدنية.
- كيف ترى احتلال سوريا للبنان، وكيف تتصور العلاقة المثلى بين البلدين الشقيقين؟
- هذه قضية مهمّة، وأنا دائماً أعيب على المعارضة السورية عدم تطرّقها لهذه المسألة، باستثناء رياض الترك وكان له موقف مشرّف في هذا الموضوع عام 76 ووقف ضد التدخل السوري في لبنان، ومؤخراً بعد إطلاق سراحه عاد وتكلّم عن هذه المسألة، بالإضافة إلى بعض الأصوات القليلة جداً، ولكن في العموم أعيب على المعارضة السورية وعلى الحركة الديمقراطية السورية داخل البلد وخارجها، أن لا تعير هذا الموضوع الاهتمام الكافي. من وجهة النظر القانونية النظرية سوريا ليست محتلة للبنان، لأن هناك غطاء شرعياً لها من نظام الدمى الحاكم في لبنان، لكن على أرض الواقع وفي الحقيقة فإن ممارسات سوريا في لبنان هي ممارسات احتلالية بالمطلق، جميع ممارساتها هي ممارسات قوة احتلال، وإن يكن نظرياً هي ليست قوة احتلال، باعتبار أن نظام الدمى الحاكم في لبنان يؤمّن لها غطاء شرعياً إذا جاز التعبير.
أنا أريد أن أقف عند نقطة مهمة جداً لم يتطرق إليها أي صحافي، قال بشار الأسد في حديثه لصحيفة الأنباء الكويتية منذ أسبوعين، أن الأمن في لبنان مستتب والسلطة اللبنانية قوية ولم يعد هناك من مبرّر لوجود القوات السورية على الأراضي اللبنانية!! حسناً هذا كلام جديد، ولكنه يكمل بأن وجود سوريا في لبنان هو بسبب قضية الصراع مع إسرائيل، وهنا أريد أن أسأل بشار الأسد، وكل من يعيد إنتاج هذا الخطاب: ماذا فعلت القوات السورية في مواجهة إسرائيل منذ وجودها في لبنان منذ 76 وحتى الآن؟؟ استباحت إسرائيل أراضي اللبنانيين مراراً وتكراراً براً وبحراً وجواً، ومع ذلك لم تلق أي مقاومة من القوات السورية، فلماذا أنتم موجودون هناك طالما لم تطلقوا طلقة واحدة؟ اعترف بشار أن المبرر الداخلي انتهى والمبرر الأمني انتهى والمبرر الذي يدّعيه في قضية إسرائيل أيضاً واضح أنه منتهٍ فماذا يبقيه بعد في لبنان؟؟
أعتقد أن هناك زمرة داخل النظام، وهي زمرة مافيا حقيقية من المخابرات والجنرالات لهم مصلحة في تحويل لبنان إلى مزرعة لأنه باب رزق لهم، ولا يريدون أن يغلقوا هذا الباب، هي مصيبة، تخيل أن معظم الجنرالات أصبحوا من أصحاب الملايين بسبب وجودهم في لبنان، وأزلامهم كذلك، بالنسبة لي يجب خروج سوريا من لبنان اليوم قبل الغد، ليس فقط حفاظاً على الجيش السوري لأنه تحوّل إلى أربعين ألف مهرّب ودُمِّر سياسياً وأخلاقياً وعقائدياً، ولم يعد له أي قيمة عسكرية على الإطلاق بسبب الفلتان والفساد، ولكن الأهم من ذلك أن هناك جرحاً كبيراً بيننا وبين الأشقاء اللبنانيين، أنا الآن أخجل عندما أرى مواطناً لبنانياً، أخجل عندما أعرف أن قوات بلدي تمارس هذه الممارسات الاحتلالية على الأراضي اللبنانية، بودّي أن أعتذر من كل مواطن لبناني رغم أني لست مسؤولاً عن هذه الممارسات، لا أنا ولا الشعب السوري.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن خروج القوات السورية وحده من لبنان لا يكفي، هناك قضية أخرى لإيجاد مصالحة إذا جاز التعبير، مصالحة حقيقية بين لبنان وسوريا، بين الشعبين السوري واللبناني رغم أنه لا يوجد مشكلة بين الشعبين، وهي قضية المفقودين اللبنانيين في سوريا، يجب الكشف عن هذه المسألة، وفي نظري هذه القضية قد تكون أهم من مسألة الانسحاب السوري، إذ يستحيل أن تحصل المصالحة الحقيقية بين البلدين طالما أن هناك لبناني يشعر بأن قريبه مفقود في سوريا، وستبقى وصمة عار في جبيننا إلى الأبد.
يجب الكشف عن مصير هؤلاء، ويجب على النظام السوري إذا كانوا قد قتلوا لا سمح الله، أن يعترف بمصيرهم ويحاكم من كان مسؤولاً عن فقدانهم واختطافهم وقتلهم، هاتان القضيتان لا غنى عنهما بالنسبة لي من أجل مصالحة حقيقية بين لبنان وسوريا.
- العلاقة بين الشعبين اللبناني والسوري استراتيجية ولا يمكن أن يتخليّا عن بعضهما
- طبعاً، في الماضي، في الخمسينات، كان أي معارض سوري أو كاتب أو صحفي يريد الهروب من سوريا، كان يلجأ إلى لبنان، لبنان كان ملجأ الحرية.
- حتى بيان المثقفين السوريين بالأمس صدر من لبنان وليس من سوريا
- نعم، ولاحظ هذه المفارقة العجيبة.
- هل تعتقد أن المعارضة السورية التي تظهر حالياً ستتمكن من القيام بأي تغيير ؟
- أعتقد أن التغيير لا يمكن أن يتم دفعة واحدة إلا إذا كان بقوة خارجية كما حصل في العراق، هو عملية تراكم، وعلى المعارضة أن تُراكِم، العريضة اليوم وقّعها 287 شخصاً، العريضة القادمة يجب أن تكون عريضة المليون مواطن، هي عملية استفتاء غير مباشر على شرعية السلطة، ويجب متابعة النضال السلمي، فأنا ضد العنف، يجب أن تُراكِم بمنهج تغيير داخلي، لنصل إلى نتيجة.
- بعضهم من يشبهك بالمناضل "فيسلاف هافيل" الذي وصل إلى الحكم بعد سجنه، فهل تجده تشبيهاً معقولاً؟
- كلا، لسبب بسيط جداً، أنه لو كان والدي على رأس السلطة لوقفت في صف المعارضة، فأنا معارض.
- حتى ولو كانت السلطة جيدة؟
- حتى ولو كانت السلطة ديمقراطية، فيجب أن يكون هناك معارضة من أجل الحفاظ على الديمقراطية، لدي صديق فرنسي يقول الديمقراطية في فرنسا لا تحميها إلا المعارضة، الديمقراطية هي قتال يومي ليست حالة تدوم من أجل الحفاظ عليها وتطويرها، فالمعارضة ضرورية.
لقاء خاص لموقع "مرحبا لبنان"- استراليا
مع الأستاذ نزار نيوف الناشط السوري في مجال حقوق الإنسان وأحد أبرز المعتقلين السياسيين في سوريا
أجرى الحديث الأستاذ نخلة بيطار
- يسرنا أن نستضيفك في برنامج "مرحبا لبنان" من أستراليا، ومنها إلى العالم قاطبة ونقول لك أهلاً وسهلاً، وعليك سلام.
أستاذ نيوف، لم يعرف عنك يوماً أنك تعاملت مع العدو، فما هي جريمتك حتى سُجنت، وكم كانت المدّة؟
- أهلاً وسهلاً بكم وشكراً جزيلاً لاستضافتكم على هذا الموقع وهذه المحطة التي يتابعها الكثير من العرب واللبنانيين في جميع أرجاء العالم.
لا أعتقد أن قضية فرد يمكن أن تتحوّل إلى قضية عامة إلاّ بمقدار ما تكون هذه القضية مرتبطة بالشأن العام بشكل كبير وملتصقة معه إلى حد بعيد، اعتقلت مع العشرات من زملائي في البداية، وقد أطلق سراح معظمهم في ما بعد، وكان ذلك في نهاية عام 1991، بأربع تهم سلطوية أولها تأسيس وتزعّم منظمة غير مشروعة والمقصود منظمة "لجان الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان في سوريا"، التهمة الثانية هي نشر معلومات كاذبة عن حقوق الإنسان في سوريا، والمقصود بذلك نشر التقارير المتعلقة بالانتهاكات داخل السجون والمعتقلات بشكل خاص، وفي سوريا بشكل عام، سواء ضد المعتقلين السياسيين السوريين، أو المعتقلين العرب الموجودين داخل السجون السورية كاللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين وآخرين من جنسيات عربية أخرى، التهمة الثالثة هي التحريض على مظاهرة إلى القصر الجمهوري، وكان ذلك في 21 آذار 1990، بمناسبة عيد الأم في سوريا، حيث حاولت تنظيم مظاهرة إلى القصر من أمهات وشقيقات وبنات المعتقلين السياسيين، لمطالبة الرئيس السابق حافظ الأسد بإطلاق سراحهم، طبعاً فشلت المظاهرة، أما التهمة الرابعة فهي نشر مجلة بدون ترخيص، وهي مجلة "صوت الديمقراطية"، الناطقة باسم المنظمة.
هذه هي التهم التي اعتقلت بسببها حوالي عشر سنوات، حوكمت من قبل محكمة أمن الدولة العليا للشؤون العسكرية، وزملائي تراوحت أحكامهم بين ثلاث إلى تسع سنوات، أطلق سراحهم جميعاً باستثنائي، وقضيت فترة الاعتقال باستثناء أشهر قليلة، في زنزانة انفرادية، وهي رافقتني من فروع التحقيق، فرع المخابرات العسكرية، فرع التحقيق العسكري- فرع فلسطين، ثم سجن صيدنايا، ثم سجن تدمر لأعود بعدها إلى قيادة شعبة المخابرات العسكرية في دمشق، ثم إلى سجن المزة ثم إلى صيدنايا مرة أخرى بعد إغلاق المزة، وأطلق سراحي من هناك في 6 أيار عام 2001، خلال زيارة قداسة البابا إلى سوريا الذي كان يحمل رسائل من منظمات دولية لإطلاق سراحي خصوصاً بعد تدهور وضعي الصحي، وإصابتي بالسرطان وتدهور وضع عمودي الفقري وساقيّ، إذ كنت شبه مشلول.
- صحتك اليوم تتحسّن؟
- الحمد لله نعم، قضيت حوالي سنتين منذ وصولي إلى فرنسا في العلاج في مستشفيات فرنسا وألمانيا، وضعي الآن أفضل، ولكن بقيت لدي مشكلة داخل العمود الفقري لم يستطيعوا علاجها لان أي خطأ قد يؤدي إلى ضرر كبير، فرفضوا المجازفة.
هل وضعك الصحي ناتج عن ظروف السجن؟
- ليس عن ظروف السجن بل عن التعذيب تحديداً، أصبت بالشلل من الربع الساعة الأولى لاعتقالي، في 2 كانون الثاني 92، بسبب الكرسي الألماني المعروفة بهذا الاسم على نطاق دولي German chair، واسمها مشتق من الغستابو النازي الذي ابتدعها على يد هملر رئيس الاستخبارات النازية، ثم استوردتها الأنظمة الإرهابية والديكتاتورية في العالم العربي وفي شرق أوروبا وألحقوا بها تطويرات خاصة فمثلاً كرسي التعذيب الموجودة في فرع فلسطين في دمشق المعروف باسم الفرع 235، هي كهربائية وليست يدوية، ومعيّرة بحيث أن الجلاد أو ضابط المخابرات يستطيع أن يلحق بك الأذى الذي يريده، أو يتحكم بشدة التعذيب المراد تطبيقها لانتزاع اعترافات معينة.
أما بالنسبة للسرطان فلا علاقة له بظروف الاعتقال بل بالقضاء والقدر، يمكن للظروف أن تكون قد ساهمت في تحريض الخلايا على الإصابة، لكن أنا دائماً أعمل من خلال القانون ولا أستطيع أن ألصق تهمة غير موثقة بجهات، أياً تكن، فنحن قد اتُهِمنا بتهم غير موثّقة وادعاءات كاذبة، ولا يمكن أن نلعب نفس اللعبة.
- يفهم من كلامك بأنك التقيت مساجين لبنانيين، بينما هناك ادعاءات بأنه لا يوجد أي سجين لبناني في سوريا؟
- نعم، هذه قضية شائكة ومعقدة، وأنا تكلّمت حولها عشرات المرات بمناسبة وبدون مناسبة، لكن أحب أن ألفت انتباه المعارضة اللبنانية وبشكل خاص المنظمات الأهلية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان كسوليدا وغيرها، وبالأمس كانوا في دمشق وعادوا خائبين، بخفي حنين، ولم يستطيعوا مقابلة أحد. أنا أقول للبنانيين المتابعين هذا الموضوع، وللمنظمات الدولية، وقد سبق وذكرت ذلك لل Amnesty في لندن، بأنه طالما لم يُفتح ملف "خان أبو الشامات"، مكان الاعتقال السري الواقع حوالي أربعين كيلومتر شمال شرق دمشق على طريق بغداد، شرقي قاعدة الضنير العسكرية، فطالما لم يفتح ملف هذا المكان، وطالما لم تطالب الجهات الدولية بالكشف عن هذا المكان وإجراء تحيق ميداني هناك، فلن تستطيعوا، ولن يستطيع أحد معرفة سر اللبنانيين، وكثيرين آخرين، سوريين وغيرهم، وهم بالآلاف، هذا المكان وأنا أول من تكلّم عنه، وللأسف لم يتجرأ حتى الآن أحد بالحديث عنه، وذلك لأنهم يخشون أن يتهموا بالخيانة الوطنية، هذا المكان جرت وتجري فيه اختبارات الأسلحة، في هذا المكان جرت اختبارات الأسلحة الكيميائية والبيولوجية على المعتقلين السياسيين لصالح المخابرات الجوية، أنا أخشى، وأنا آسف جداً أن أقول ذلك، وأقوله للمرة الرابعة أو الخامسة، أخشى أن يكون كثير من اللبنانيين المفقودين في هذا المكان، بعد أن شوّهوا باختبارات الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وبالتالي لم يكن باستطاعة النظام طبعاً أن يطلق سراحهم، لأنهم يشكّلون فضيحة، وهم عينة على جريمة رهيبة. وأنا أعتقد أن واجب المنظمات الأساسي هو التركيز على هذه النقطة، تشكيل لجنة دولية لتفتيش هذا المكان لأنه في منتهى الأهمية، هذا بالإضافة إلى المقابر الجماعية في وادي عميرة، قرب سجن تدمر العسكري الصحراوي، حيث دُفن الآلاف من المعتقلين السياسيين الذين جرت تصفيتهم في سجن تدمر، من الإخوان المسلمين والبعث العراقي ومصريين ولبنانيين، وهم بالآلاف، وهناك مقبرة جماعية أخرى خاصة بالمعتقلين السياسيين، وهي قسم جانبي من مقبرة الشيخ حسن في دمشق، ومقبرة الدحداح، وهناك كانت أجهزة المخابرات تقوم بنقل رفات الشهداء الذين سقطوا تحت التعذيب وتدفنهم ليلاً في تلك المقابر، وعلى سبيل المثال مضر الجندي وهو أحد أشهر المعتقلين السياسيين في سوريا، قتل تحت التعذيب وتم دفنه في هذه المنطقة، هناك مقبرة أخرى في منطقة "جديدة عرطوز"، وهي بلدة صغيرة قرب دمشق فيها حقل رماية تابع للشرطة العسكرية للتدريب، وكانت تتم عمليات الإعدام هناك، وبالقرب منها مقبرة جماعية... أستغرب كيف يتم الكشف عن المقابر الجماعية للنظام الإرهابي الفاشي في العراق وتصبح حديث العالم كله، بينما يلزم الجميع الصمت، بمن فيهم المعارضة السورية واللبنانية، عن قضية المقابر الجماعية في سوريا.
أنا التقيت معتقلين لبنانيين، المرة الأولى في سجن صيدنايا مطلع عام 92، التقيت بالعشرات منهم، وأفخر أنني استطعت أن أكذّب رفيق الحريري وعدنان عضوم والرئيس إميل لحود عندما ادّعوا في نهاية عام 2000 بأن هناك 35 سجين سياسي لبناني فقط معتقلين، هذا تصريح رفيق الحريري وكان في دمشق، وأنا هرّبت قائمة بأسماء 56 معتقلاً كانوا معي في تلك اللحظة، واستطعت إرسالها إلى اللجنة العربية لحقوق الإنسان والى الأستاذ جبران التويني وقد نشرها في النهار، مما اضطر عدنان عضوم ورفيق الحريري والرئيس اللبناني إلى التراجع عن تصريحاتهم الكاذبة، واعترفوا بأن هناك 56 معتقلاً فعلاً، وتمّ نقلهم بعد أيام قليلة إلى لبنان في كانون الأول.
قضية أخرى تثبت كذب النظام السوري بشأن المعتقلين اللبنانيين، فقد التقيت بسجين لبناني يدعى جورج شلاويط، ولا زلت أذكره تماماً، شاب طويل ممتلئ البنية يميل إلى السمرة قليلاً، التقيته للمرة الأولى عندما أغلقوا سجن المزة العسكري، وتم نقل المعتقلين بمن فيهم جورج، إلى سجن صيدنايا وسجن تدمر، حدث ذلك يوم الأربعاء (6 أو 7 أيلول) من العام 2001، الدفعة التي كانوا ينقلونها إلى صيدنايا كان جورج شلاويط من بينها، وأنا كنت معه في نفس السيارة، هم أخطأوا لأسباب إدارية ووضعوني مع المعتقلين لأنه لا يجوز أن اختلط معهم باعتبار أن سجني انفرادي، حصل الخطأ وأصعدوني إلى السيارة وكان فيها جورج شلاويط وضابطان سوريان معتقلان منذ 1980، ومحكومان بالإعدام مع وقف التنفيذ، العميد حلاوة وزميل له لم أعد اذكر اسمه، كانا مع جورج وهما شهود على ذلك، وبعد أسبوع، في 13 أيلول، عندما نُقلت إلى سجن صيدنايا مرة أخرى بشكل منفرد، أول ما بادرت به هو السؤال عن جورج شلاويط وإذا كان قد وصل بشكل منفرد، فتش السجناء السجن بكامله، طبعاً بشكل سري وبحكم علاقتهم مع بعض السجّانين، فلم يكن له أي أثر في سجن صيدنايا، لا في المهاجع ولا في الزنازين الأرضية، فأين هو جورج شلاويط؟ هذا سؤال مهم كثيراً، أنا عندما وصلت إلى باريس وعقدت مؤتمراً صحفياً في مقر منظمة صحفيين بلا حدود، قلت بأن جورج شلاويط وسجين آخر اسمه طوني (لا اذكر الآن كنيته) وهو من منطقة جبل لبنان، كانا آخر شخصين لبنانيين رأيتهما في السجون السورية.
ردّ علي وزير الخارجية فاروق الشرع في اليوم التالي واتهمني بالكذب وقال بأنه لا أثر لجورج شلاويط ولا لطوني، فأين هما؟ ثم تفاجأ الجميع في نهاية العام الماضي بأن الحكومة السورية أرسلت اعترافاً رسمياً للمفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة في جنيف، تقول فيه إن جورج شلاويط ما زال في السجون السورية وهو على قيد الحياة، إذاً فاروق الشرع ادّعى كذباً بأن لا وجود لجورج ولا لطوني ولا لغيرهم.
عن طوني قالوا إنه سجين سوري، بينما هو لبناني من أصل سوري، وعائلته تحمل الجنسية اللبنانية منذ زمن بعيد. النظام السوري يعترف بقضية جورج شلاويط بمذكّرة رسمية للمفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وهذا يعني بأن كل ادعاءاته الأخرى بشأن المعتقلين اللبنانيين، وبأنه لم يعد هناك من معتقلين لبنانيين في سوريا هي ادعاءات كاذبة، وأكبر برهان قضية جورج شلاويط.
- لماذا كان حظك أفضل من غيرك وأفرج عنك، وهل صحيح أنك قدمت تنازلات معينة؟
- معروف عني بأني لا أقدّم تنازلات، وقد وصل الأمر بالنظام إلى حد اتهامي بالجنون، سابقة في تاريخ سوريا أن يصدر وزير الإعلام (عدنان عمران) بياناً ضدي شخصياً، ممكن أن يصدر وزير أو سلطة بياناً ضد منظمة أو ضد حزب ولكن ضد شخص! فهذه سابقة لاوجود لها في تاريخ سوريا، اتهمني بيانه بالجنون وأقمت عليه دعوى، ووكلائي في دمشق 7 محامين بينهم أنور البني وخليل معتوق، وادّعوا على عدنان عمران، ولكنه حتى الآن يرفض استلام الدعوى طبعاً، هو يحتقر القانون "ويتبوّل" على كل القضاء والقانون في سوريا.
أنا لا أقدم تنازلات، ولو كنت ممن يقدّمون تنازلات لكنت خرجت مع زملائي باكراً، ولما كانوا ميّزوني عنهم جميعاً بسجن انفرادي لمدة عشر سنوات، وبمعزل عن المعتقلين الآخرين. كانوا يقولون عني "راسو متل التيس". في قضايا حقوق الإنسان لا يمكن المساومة لأنها ليست قضية سياسية، في السياسة يمكن أن تساوم وأن تصل إلى حلول وسط، ولكن ليس في حقوق الإنسان، فهي حقوق ولا يمكن لأحد أن يساوم في الحقوق سواء كانت فردية أو جماعية.
- هل صحيح ما يقال أن أهلك يتعرّضون اليوم للتنكيل في بلدك سوريا؟
- نعم للأسف، ففي سوريا كرّس الرئيس الراحل حافظ الأسد مدرسة العقاب الجماعي، فعندما لا يستطيعون أن ينالوا من معتقل سياسي، أو من مناضل أو معارض موجود خارج البلاد، يبدأون بالانتقام من ذويه الأقربين، على سبيل المثال في سجن تدمر هناك مهجع يدعى "مهجع الأحداث"، هذا هو اسمه الرسمي وهو واضح الدلالة على ما يحتوي، هذا المهجع ضم في بعض المراحل 147 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 9 سنوات و 13 سنة، هؤلاء جميعهم كانوا رهائن بدلاً عن ذويهم الفارين خارج القطر... نظام يأخذ الأطفال رهائن، وينتقم من العائلات.
عندما فشلوا في اعتقالي أول مرة أخذوا طفلتي سارة رهينة إلى فرع المخابرات العسكرية في اللاذقية، وكان عمرها أحد عشر شهراً فقط، أخذوها مع والدتها ووضعوها ثلاثة أسابيع في زنزانة تحت الأرض وكان الطقس فظيعاً في ذلك الشتاء، ثم أطلقوا سراح الوالدة ووضعوها تحت الإقامة الجبرية في منزل أهلي، وأبقوا على الطفلة رهينةً لإجباري على تسليم نفسي، وطبعاً لم أفعل، فاضطروا لاحقاً إلى إعادة سارة إلى عائلتي.
الآن لا يستطيعون أن يفعلوا معي شيئاً، فبدأوا بالانتقام من أهلي، أصدر بشار الأسد وحكومته ثلاثة مراسيم بطرد إخوتي صلاح وأمجد وممدوح من عملهم كمدرّسين لأنهم رفضوا إصدار بيان يندّد بتصريحاتي ويتبرأ مني ويعتبرني عميلاً وجاسوساً للإمبريالية والصهيونية وغيرها من القائمة الرخيصة التي اعتدنا على سماعها، في سوريا وفي بقية العالم العربي، ومع ذلك لم يستفيدوا شيئاً. أسلوب العقاب الجماعي لا فائدة منه على الإطلاق.
- ما هو دور الأنظمة العربية في إفلاس الفكر العربي ودفع الأمة نحو هذا الانحطاط الرهيب الذي تجلّى اكثر ما تجلّى في انقطاع الوصل بين الأنظمة والشعوب؟
- عندي مفهوم خاص لما يحصل اسميه الاستعمار الداخلي (colonialism)، معظم الدول العربية كانت تحت الاستعمار الخارجي، سواء البريطاني أو الفرنسي، وعندما غادر هذا الاستعمار تبوأت السلطة مجموعة من الأنظمة تحت شعارات وطنية وتحررية، سواء كانت ليبرالية أو أيديولوجية شمولية توتاليتارية، مثل مشروع البعث الفاشي في سوريا والعراق، أو المشروع الدكتاتوري الناصري لعبد الناصر، واكتشفنا بعد ذلك أن هذه الأنظمة لم تكن في الحقيقة إلا استمراراً للاستعمار الخارجي، على الأقل بممارساتها، فقمعت الجميع باسم التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وادّعوا أن التنمية هي أولوية على حساب الحريات، وبعد عدة عقود لم نربح التنمية وخسرنا الديمقراطية، واكتشفنا أننا أمام استعمار داخلي، نظام استعماري حقيقي، لا يقل شراسة عن الخارجي، بل ربما وفي لحظات كثيرة فاقه شراسة، وليس أدلّ على ذلك من نظام صدام حسين الفاشي والنظام السوري.
مثل على ذلك مقارنة سبق وأجريتها في إحدى مقالاتي بين الاستعمار الفرنسي الذي استعمر سوريا 26 عاماً، والاستعمار البعثي الذي استعمرها منذ عام 1963 حتى الآن، فالخسائر التي خسرناها، سواء بالمعنى المادي أو البشري، أثناء التحرّر من الاستعمار الفرنسي لا يمكن على الإطلاق مقارنتها بما خسرناه في ظل نظام البعث، وبشكل خاص في ظل حكم حافظ الأسد، أسوق مثالاً واحداً فقط وهو محاكمة "ابراهيم أنانو"، وهو من أحد قادة الثورة الكبرى، وقد اتهم من قبل الاستعمار الفرنسي بتهم كل واحدة منها تستحق الإعدام بموجب القوانين الفرنسية، وجرت له محاكمة في بيروت في مقر القضاء الفرنسي في ذلك الوقت، وبُرئت ساحته وكان قد اتهم بقتل مواطنين فرنسيين وطالب المدعي العام بإعدامه، ورغم ذلك برّئ بعد شهر من سير المحكمة. هذا هو الاستعمار الخارجي، فماذا عن الاستعمار الداخلي، ماذا فعل حافظ الأسد وابنه بشار؟؟ يكفي أن نشير إلى "عارف دليلة" على سبيل المثال وهو بروفسور في الاقتصاد وكان أستاذي، فقد ألقى محاضرة صيف 2001 وتحدث فيها عن الفساد وضرورة الإصلاح في سوريا وعن الديمقراطية والانفراج والشفافية... اعتقل وحكم من قبل محكمة أمن الدولة العسكرية بعشر سنوات.. هذا لا يعقل، وهذا هو الاستعمار الداخلي، وأنا أعتقد الآن، واعتقادي هذا يعتبره البعض في العالم العربي تطرفاً ورؤية غير وطنية وغير قومية إلى آخره، وأنا أتحمّل مسؤولية ذلك، أطرح الآن دحر الاستعمار الداخلي قبل التفكير بدحر الاستعمار الخارجي، وقلت ذلك قبيل اجتياح أميركا للعراق، وربما كنت من الأصوات القليلة التي وقفت في العالم العربي مع الاجتياح الأميركي للعراق، ليس حباً بالأميركيين ولا باجتياحهم، ولكن الشعب العراقي كان قد وصل إلى درجة يستحيل معها التخلص من هذا الطاغية الإرهابي إلا بهكذا عملية، وأنا أسف أن لا يتم التغيير من الداخل، ولكن ما العمل إذا خسر الشعب العراقي عشرات الألوف من القتلى والضحايا وملايين المشردين خارج البلاد، ومع ذلك هناك مجموعة من الثرثارين في العالم العربي، خاصة في الوسط الثقافي، يقولون نحن ضد صدام وضد الاحتلال، كيف؟ أنا لا أفهم. منذ عدة عقود وصدام يذبح الشعب العراقي وما من أمل، ولم تستطيعوا أن تخلّصوا الشعب العراقي، الآن تخلّص الشعب من الاستعمار الداخلي، فإذا قرر أن يواجه الاستعمار الخارجي فأنا معه، ولكن كفى شعارات.
لاحظوا هذه المفارقة؛ في أول أيار تظاهر الشيوعيون وحملوا المنجل والمطرقة وصور لينين وستالين في شوارع بغداد، وبحماية الأميركان، بينما في الماضي لم يستطيعوا أن ينشروا جريدة تافهة لهم في عهد صدام حسين!! أنا مع دحر الاستعمار الداخلي، وهذا يجب أن يكون الأولوية وشعار المرحلة، فلا يمكن دحر الاستعمار الخارجي ما لم ندحر الداخلي أولاً.
- هل تعتقد أن الحرب الأميركية على العراق ستحدث صدمة وتغييراً في الفكر السياسي العربي، وكيف ذلك؟
- نعم، أعتقد ذلك، وهي في الواقع بدأت، ولكن للأسف بدل أن ينعكس ما حصل في العراق بشكل إيجابي على الفكر العربي، بمعنى أن يعيدوا النظر بمجموعة الأفكار والأيديولوجيات السائدة منذ الخمسينات حتى الآن، نسمع ونرى الوتيرة الأيديولوجية والشعارات الغوغائية الشعبوية ازدادت شراسة، سواء في الشارع القومي أو القومجي بالأحرى، أو في الشارع الإسلامي الأصولي المتطرف، هم لم يستفيدوا للأسف، ويطالبون بدحر الاحتلال الأمريكي وضرب المصالح الأميركية والى آخره، فأين كان هؤلاء جميعاً عندما كان النظام العراقي يذبح الشعب العراقي، كانوا شياطين خرساء على ما حدث، هناك تيار في العالم العربي بدأ يصحو الآن وينضوي تحت لوائه اليساري والليبرالي وحتى القومي، ويؤيد النظر، لحسن الحظ، بمجموعة أفكار، ويقول بأن ما أوصلنا إلى هذه الكارثة سواء في العراق أو غيرها، هي الأنظمة الشمولية وفقدان الديمقراطية وعدم قدرة الشعب على ممارسة الرقابة على مصيره، والتحكم بمصيره الحياتي والسياسي والاقتصادي.
أعتقد أن ما حصل في العراق، بغض النظر عن مأساة اجتياح بلد شقيق، ولكن حتى الاجتياح له جوانب إيجابية سواء في تخليصنا من نظام صدام الإرهابي، أو في تشكيل صدمة للعقل العربي بان قضية الديمقراطية هي قضية ذات أولوية، فعندما يكون المجتمع مسيطراً على مقاليد أموره ومستقبله، ويعرف كيف يتصرف، فلن يكون هناك أي مبرّر لوجود نظام ديكتاتوري متسلّط، وبالتالي لن يكون هناك إمكانية لتدخّل خارجي على الإطلاق، وكما يقول المثل عسى أن تكرهوا شيئاً لعله خير لكم.
- هل تجد تشابهاً بين الوضع في المنطقة العربية اليوم ووضع أوروبا الشرقية غداة انهيار الاتحاد السوفياتي؟
- سبق ورفضت المقارنة بين الأنظمة في أوروبا الشرقية والأنظمة في العالم العربي، أعتقد هناك تشابهاً فقط فيما يتعلق بالاستبداد والقمع، ولكن في الحقيقة فإن الأنظمة في أوروبا الشرقية، رغم قمعها واستبدادها، ولكنها صنعت شيئاً من التنمية، فمثلاً كان في أوروبا الشرقية قاعدة صناعية ضخمة. ولكنها للأسف كانت أنظمة شمولية، أعتقد أن كل شيء الآن يتوقف على الاستراتيجية الأميركية، فإذا كانت صادقة في إقامة أنظمة حداثة في المنطقة فأعتقد أن الأنظمة الحالية "رح تضب غراضها وتمشي"، ولكن حتى هذه اللحظة لست واثقاً بأن للأميركيين مشروعاً متبلوراً في قضية الديمقراطية، هذه الأنظمة الآن هي على وشك السقوط في صريح العبارة، فإذا رفع عنها الغطاء ولو قليلاً، من قبل الغرب فهي لا تستطيع الصمود أكثر من شهر، ولكن للأسف هناك المصالح الاستراتيجية، وغالباً ما تكون هي الحاكمة أولا وأخيراً.
- في حال استجاب النظام السوري للضغوط الأميركية عليه فهل تعتقد أنه سيبقى في سوريا؟
- في الحقيقة هو استجاب، المفارقة العجيبة أن نظام صدام حسين صمد 12 سنة أمام الضغوط الأميركية، بينما نظام بشار الأسد لم يصمد أكثر من 12 ساعة، وهي المسافة بين نيويورك ودمشق، بين تصريحات باول في واشنطن ووصوله إلى دمشق، فقبل أن يصل كان بشار الأسد قد سلّم بكل المطالب من إغلاق المكاتب الفلسطينية إلى تسليم العراقيين إلى تهدئة حزب الله إلى...
- ولكن بالأمس سمعنا بيرنز يقول إن السوريين لم يستجيبوا بعد؟
- هم لم يستجيبوا لكل المطالب والشروط الأخرى، فقد أغلقوا المكاتب الفلسطينية وسلّموا العراقيين، ومارسوا ضغوطاً على حزب الله لوقف تصريحاته الحربجية، وكثير من هذه الأمور، ولكن هناك أمور أخرى لم يستجيبوا لها بعد مثل قضية نزع سلاح حزب الله، وذلك لأنه ورقة بيد النظام السوري. بشار الأسد، وحافظ قبله، قاتلوا ولا يزالون من خلف ظهر السيد حسن نصرالله، جبهتهم ساكنة منذ عام 74 حتى اليوم ولم تطلق طلقة عليها، بينما لبنان يجب أن يحرّر الجولان! أنا لا أفهم هذه المعادلة، فإذا كنتم تريدون أن تقاتلوا وتحرّروا أرضكم فما علاقة لبنان بذلك؟ لماذا الشعب اللبناني جبهته ساخنة، وعليه أن يدفع الثمن، وهو الصغير والمستضعف في هذه المنطقة؟ لماذا عليه أن يدفع الثمن؟
أعتقد أن النظام السوري لن يستجيب لكل المطالب، لأنه إذا استجاب لكل شيء فهذا يعني أنه لم يبق لديه شيء، كل الشعارات التي رفعها ستنتهي، وسيفقد بالتالي مبرّر وجوده بالكامل، لا يستطيع أن يبيع الشارع السوري أي شعار وأي ادعاء، هو الآن يدّعي القومية وتحرير الأرض وفلسطين.. حتى المطلب الفلسطيني قال بأنه سيقبل بما يقبل به الفلسطينيون، بما في ذلك خارطة الطريق، وزاد عليه فاروق الشرع بمطالبته بخارطة طريق لسوريا. أعتقد أن هذا النظام لم يعد له مبرر وجود على الإطلاق سوى إدارة الهدوء في المنطقة، وعدم حدوث فراغ سياسي، فللأسف إذا سقط النظام السوري الآن فلا يوجد له بديل لا في المعارضة ولا في غيرها، وأمامنا العراق شاهد على ذلك.
- إذا سقط النظام السوري فهل تعتقد أن صراعاً طائفياً سيبرز في سوريا؟
- نحن في سوريا لم نعرف شيئاً اسمه طائفية على الإطلاق، وهذه مفارقة عجيبة، إلا في ظل ما يسمى بالنظام العلماني للبعث، النظام "العلماني" البعثي هو الذي حرّض المشاعر الطائفية وأنعشها في سوريا، إن أول رئيس وزراء سوري بعد الانتداب الفرنسي كان مسيحياً، ومن أصل لبناني، هو فارس الخوري، وقد عيّن لدورتين، وكان صوت سوريا القوي في الداخل وفي الخارج، وفي ظل نظام البعث "العلماني" لم يصل أي مسيحي إلى منصب، هذه فضيحة حقيقية وجريمة حقيقية، أنا لا أخشى على الإطلاق من المسألة الطائفية في سوريا، وربما هناك التيار الديني الإسلامي الأصولي، ربما يحاول إنعاش وتوليد قضايا ثأرية انتقامية من الطائفة العلوية في سوريا، وللأسف لا زلنا نرى عند التيار الأصولي في سوريا عدم وضوح في هذه النقطة، لا زالوا يقولون الطائفة العلوية الحاكمة.. الطائفة العلوية في سوريا ليست حاكمة، بدليل أن الأغلبية الساحقة من المعتقلين السياسيين السوريين العلمانيين هم من الطائفة العلوية، أنا على سبيل المثال نموذج، ونموذج آخر هو الدكتور عبد العزيز الخيّر، وهو محكوم 22 عاماً، وهو علوي من القرداحة ومن أقرباء الأسد، ومن أكبر عائلة علوية على الإطلاق، 22 عاماً هو أطول حكم يصدر بحق معتقل سياسي في سوريا منذ الاستقلال.
النظام مارس ممارسات طائفية في سوريا، واعتمد على بعض رموز الطائفة وبعض الضباط فيها، ولكن في حقيقة الأمر ليست الطائفة هي الحاكمة، واذهب إلى قريتنا سترى بأم عينك الجوع والفقر .
- هل تعتقد أن مؤسسات المجتمع المدني في سوريا لا تزال موجودة في ظل البعث، وهل تستطيع أن تعبئ فراغ السلطة في حال انهيارها؟
- لا توجد مؤسسات مجتمع مدني، وهذه مشكلة خطيرة جداً، هذه الأنظمة الشمولية أول ما تفعله لدى وصولها إلى السلطة هو القضاء على كل تعبيرات المجتمع المدني ومنظماته، في سوريا كما في العراق، كل النقابات والجمعيات والطلبة كلها مؤسسات ملحقة بجهاز السلطة الحالي، فإذا سقط النظام ستسقط هذه المؤسسات كما حصل في العراق.
- يعني الفراغ والفوضى؟
- بالضبط، لذلك إذا كان للنظام السوري ذرّة من العقل، وتلقّن درس العراق، فعليه أن يبادر فوراً إلى توسيع الهامش الديمقراطي قدر الإمكان، للسماح لمؤسسات المجتمع المدني بالانتعاش من جديد، لأنها الضمان الأساسي للبلد. فبعد مجيء بشار وإعطائه ضوءاً أخضر صغيراً للناس، انتعشت على الفور المنظمات الأهلية، ولكن بعد ستة أشهر أصدروا أمراً بإلغاء كافة المنتديات واعتقل رموز الحركة المدنية.
- كيف ترى احتلال سوريا للبنان، وكيف تتصور العلاقة المثلى بين البلدين الشقيقين؟
- هذه قضية مهمّة، وأنا دائماً أعيب على المعارضة السورية عدم تطرّقها لهذه المسألة، باستثناء رياض الترك وكان له موقف مشرّف في هذا الموضوع عام 76 ووقف ضد التدخل السوري في لبنان، ومؤخراً بعد إطلاق سراحه عاد وتكلّم عن هذه المسألة، بالإضافة إلى بعض الأصوات القليلة جداً، ولكن في العموم أعيب على المعارضة السورية وعلى الحركة الديمقراطية السورية داخل البلد وخارجها، أن لا تعير هذا الموضوع الاهتمام الكافي. من وجهة النظر القانونية النظرية سوريا ليست محتلة للبنان، لأن هناك غطاء شرعياً لها من نظام الدمى الحاكم في لبنان، لكن على أرض الواقع وفي الحقيقة فإن ممارسات سوريا في لبنان هي ممارسات احتلالية بالمطلق، جميع ممارساتها هي ممارسات قوة احتلال، وإن يكن نظرياً هي ليست قوة احتلال، باعتبار أن نظام الدمى الحاكم في لبنان يؤمّن لها غطاء شرعياً إذا جاز التعبير.
أنا أريد أن أقف عند نقطة مهمة جداً لم يتطرق إليها أي صحافي، قال بشار الأسد في حديثه لصحيفة الأنباء الكويتية منذ أسبوعين، أن الأمن في لبنان مستتب والسلطة اللبنانية قوية ولم يعد هناك من مبرّر لوجود القوات السورية على الأراضي اللبنانية!! حسناً هذا كلام جديد، ولكنه يكمل بأن وجود سوريا في لبنان هو بسبب قضية الصراع مع إسرائيل، وهنا أريد أن أسأل بشار الأسد، وكل من يعيد إنتاج هذا الخطاب: ماذا فعلت القوات السورية في مواجهة إسرائيل منذ وجودها في لبنان منذ 76 وحتى الآن؟؟ استباحت إسرائيل أراضي اللبنانيين مراراً وتكراراً براً وبحراً وجواً، ومع ذلك لم تلق أي مقاومة من القوات السورية، فلماذا أنتم موجودون هناك طالما لم تطلقوا طلقة واحدة؟ اعترف بشار أن المبرر الداخلي انتهى والمبرر الأمني انتهى والمبرر الذي يدّعيه في قضية إسرائيل أيضاً واضح أنه منتهٍ فماذا يبقيه بعد في لبنان؟؟
أعتقد أن هناك زمرة داخل النظام، وهي زمرة مافيا حقيقية من المخابرات والجنرالات لهم مصلحة في تحويل لبنان إلى مزرعة لأنه باب رزق لهم، ولا يريدون أن يغلقوا هذا الباب، هي مصيبة، تخيل أن معظم الجنرالات أصبحوا من أصحاب الملايين بسبب وجودهم في لبنان، وأزلامهم كذلك، بالنسبة لي يجب خروج سوريا من لبنان اليوم قبل الغد، ليس فقط حفاظاً على الجيش السوري لأنه تحوّل إلى أربعين ألف مهرّب ودُمِّر سياسياً وأخلاقياً وعقائدياً، ولم يعد له أي قيمة عسكرية على الإطلاق بسبب الفلتان والفساد، ولكن الأهم من ذلك أن هناك جرحاً كبيراً بيننا وبين الأشقاء اللبنانيين، أنا الآن أخجل عندما أرى مواطناً لبنانياً، أخجل عندما أعرف أن قوات بلدي تمارس هذه الممارسات الاحتلالية على الأراضي اللبنانية، بودّي أن أعتذر من كل مواطن لبناني رغم أني لست مسؤولاً عن هذه الممارسات، لا أنا ولا الشعب السوري.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن خروج القوات السورية وحده من لبنان لا يكفي، هناك قضية أخرى لإيجاد مصالحة إذا جاز التعبير، مصالحة حقيقية بين لبنان وسوريا، بين الشعبين السوري واللبناني رغم أنه لا يوجد مشكلة بين الشعبين، وهي قضية المفقودين اللبنانيين في سوريا، يجب الكشف عن هذه المسألة، وفي نظري هذه القضية قد تكون أهم من مسألة الانسحاب السوري، إذ يستحيل أن تحصل المصالحة الحقيقية بين البلدين طالما أن هناك لبناني يشعر بأن قريبه مفقود في سوريا، وستبقى وصمة عار في جبيننا إلى الأبد.
يجب الكشف عن مصير هؤلاء، ويجب على النظام السوري إذا كانوا قد قتلوا لا سمح الله، أن يعترف بمصيرهم ويحاكم من كان مسؤولاً عن فقدانهم واختطافهم وقتلهم، هاتان القضيتان لا غنى عنهما بالنسبة لي من أجل مصالحة حقيقية بين لبنان وسوريا.
- العلاقة بين الشعبين اللبناني والسوري استراتيجية ولا يمكن أن يتخليّا عن بعضهما
- طبعاً، في الماضي، في الخمسينات، كان أي معارض سوري أو كاتب أو صحفي يريد الهروب من سوريا، كان يلجأ إلى لبنان، لبنان كان ملجأ الحرية.
- حتى بيان المثقفين السوريين بالأمس صدر من لبنان وليس من سوريا
- نعم، ولاحظ هذه المفارقة العجيبة.
- هل تعتقد أن المعارضة السورية التي تظهر حالياً ستتمكن من القيام بأي تغيير ؟
- أعتقد أن التغيير لا يمكن أن يتم دفعة واحدة إلا إذا كان بقوة خارجية كما حصل في العراق، هو عملية تراكم، وعلى المعارضة أن تُراكِم، العريضة اليوم وقّعها 287 شخصاً، العريضة القادمة يجب أن تكون عريضة المليون مواطن، هي عملية استفتاء غير مباشر على شرعية السلطة، ويجب متابعة النضال السلمي، فأنا ضد العنف، يجب أن تُراكِم بمنهج تغيير داخلي، لنصل إلى نتيجة.
- بعضهم من يشبهك بالمناضل "فيسلاف هافيل" الذي وصل إلى الحكم بعد سجنه، فهل تجده تشبيهاً معقولاً؟
- كلا، لسبب بسيط جداً، أنه لو كان والدي على رأس السلطة لوقفت في صف المعارضة، فأنا معارض.
- حتى ولو كانت السلطة جيدة؟
- حتى ولو كانت السلطة ديمقراطية، فيجب أن يكون هناك معارضة من أجل الحفاظ على الديمقراطية، لدي صديق فرنسي يقول الديمقراطية في فرنسا لا تحميها إلا المعارضة، الديمقراطية هي قتال يومي ليست حالة تدوم من أجل الحفاظ عليها وتطويرها، فالمعارضة ضرورية.