dot
20/08/2007, 18:09
بقلم:عمر مهيبل
العلاقة بين الكينونة والزمان علاقة أبدية، فكلاهما يحيل على الآخر باستمرار، وآية ذلك يتجلى في أن
أهم شيء أملكه في هذا الوجود هو وجودي ذاته، ولكنه وجود معرض لأن أفقده في كل لحظة على
اعتبار أن أسمى إمكانية حقيقية للكائن هي إمكانية الموت، لأن الكائن كائن من أجل الموت، إلا أن
الموت لم يتحقق بعد، فأين هو إذن يتساءل هيدجر ؟ إنه مسجل في ذاكرة الزمان القادم؟ إنه المستقبل.
من هنا يصير الكائن كائنا من أجل المستقبل همه الوحيد العمل على تحقيق وجوده "المشروع"
والدازاين بهذا المعنى موجود زماني لا باعتبار أنه يوجد – في – الزمان كشيء منفصل عنه ولكنه
هو نفسه وجود زماني، أو أنه مكون للزمان، وهنا أسمح لنفسي بالاستنجاد بسبينوزا الذي يرى أن
ليس هناك تطابق بين الفكر والواقع – أو الفكرة والشيء – لأنهما وجهان لفكرة واحدة بكل بساطة:
من جهة هي الفكر، ومن جهة أخرى هي الواقع.
وهكذا هي الكينونة عند هيدجر فهي الكائن والكينونة في آن واحد والزمان (**) هو حركة دائبة نحو
المستقبل، فما هو المستقبل ؟ إنه الموت، وما هو الموت؟ إنه التجلي المطلق للعدم، فما هو العدم إذن ؟
أين نبحث عنه وكيف نعثر عنه ؟.
يقول هيدجر "يدفعنا توضيح السؤال عن العدم بالضرورة إلى الموقف الذي يجعلنا نعرف هل من
الممكن أن نتلقى إجابة عنه، أم أن الإجابة عنه مستحيلة.. ويترتب على ذلك أن كل "إجابة" عن هذا
السؤال مستحيلة منذ البداية، ذلك أنها تتمثل – وفقا لقوى الأشياء – على النحو التالي: العدم هو هذا أو
ذاك. "فالسؤال والإجابة – فيما يتعلق بالعدم – ينطويان على الخلف نفسه".. وأيا كان الأمر، فنحن
نعرف العدم، حتى لو لم يكن ذلك إلا بوصفه تلك الكلمة التي نلوكها بالسنتنا كل يوم، وهذا العدم
المبتذل، العدم الشاحب المصاب بفقر الدم، العدم الذي يحوم حول أقاويلنا دون أن يجعلنا نلاحظه، هذا
العدم نستطيع أن نخلع عليه بلا تردد ما يشبه التعريف، فنقول: العدم هو السلب اللاأساسي بجملة الوجود"
والعدم يكشف عن نفسه في "القلق" أو أن القلق يميط اللثام عن العدم، لكن المشكلة هي أنه، أي
العدم، لا ينكشف لنا بوصفه موجودا ولا يعطى لنا بوصفه موضوعا أيضا، كما أن القلق ليس فعل
العدم، إلا أن هذا لا يمنعنا من القول أن العدم يكشف بوساطة القلق فيه، ويكشف دفعة واحدة غير
مجزأة لأن وجود الكائن نفسه غير مجزأ، وليس فعل العدم حدثا جزافيا أو عارضا كما يؤكد هيدجر،
لكن وبما أنه يشكل مصدر تأثير على الكائن المنزلق بأسره فإنه يكشف عن هذا الكائن في "غربته"
الكاملة التي لم تكن واضحة حتي ذلك الحين، وهو الذي يكشف عنه أيضا بوصفه " الآخر المحض "
في مواجهة العدم، ودون الكشف الأصيل للعدم لن يتيسر بلورة وجود ذاتي أو حرية أصلية وبالتالي لن
يتمكن الكائن من تحديد مهامه المنوطة به تحديدا واضحا، وعليه إذا كان الدازاين لا يستطيع أن يقيم
علاقة "مع" الوجود إلا بالبقاء داخل العدم، وإذا كان العدم لا ينكشف أصلا إلا في القلق، وفي القلق
الأصيل فقط مع أنه نادر الحدوث، ألا يفرض علينا هذا المطلب أن نخلق باستمرار في عالم القلق حتى
نستطيع أن نوجد على الإطلاق، ثم ألم نعترف نحن أنفسنا بأن القلق الأصيل نادر الحدوث. إذن ألا
يكون هذا القلق مجرد اختراع تعسفي، ويكون العدم الذي نسبناه إليه مجرد مبالغة أيضا ؟
من جهة أخرى، يمكن أن نعبر عن العدم بأنه السلب، لكن ما هو السلب؟ يجيب هيدجر "ليس السلب
سوى حالة من حالات السلوك الذي يعدم أية حالة مؤسسة منذ البداية على فعل الإعدام" ، والنتيجة
التي نصل إليها هنا مؤداها أن العدم هو في السلب لا العكس"، وعلى أية حال حينما يجد الدازاين نفسه
داخل العدم – أو لنقل داخل السلب – بتأثير من القلق المزعزع، فإنه يصير حارسا للعدم. آية ذلك أن
ما نتصف به من تناه يجعلنا عاجزين عن الولوج إلى عالم العدم باختيارنا وتصميمنا، هذا دون أن
ننسى النتيجة الأهم، وهي أن بحث مسألة العدم ينبغي أن يؤدي مباشرة إلى صلب مبحث الميتافزيقا،
هذه الميتافزيقا، التي يسمح عنوانها الغريب – ما بعد الطبيعة حسب الاشتقاق اليوناني – بالخوض في
هذه المسألة دونما إحراج يذكر ما دامت تتساءل عما يتجاوز الدازاين.
إن الزمان عند هيدجر ليس مجرد امتداد أفقي، بل هو حركة دؤوبة نحو المستقبل، من حيث أن كل
وجود هو إمكانية تنتظر التحقق، وسواء أفضت هذه الحركة إلى الإمكانية الأخيرة، وهي إمكانية
الموت، أم إلى أية إمكانية أخرى من العالم اليومي فإن المستقبل المشروع يتولد منها، وحينما يقول
هيدجر إن كينونتنا هي مشروع كينونة فقط، فهذا يعني أن الإنسان هو الكائن الذي عليه دائما أن
يوجد، كما يعني أيضا أنه دائما في موقع العمل على تحقيق إمكانيته، وفي توتر مستمر نحو المستقبل
هذا إن لم نقل إن زماننا نفسه إنما يبدأ من المستقبل، إلا أن انبثاقات الزمان كما بلورها في "الكينونة
والزمان" ثلاثة: إذ بالإضافة إلى المستقبل هناك الماضي والحاضر، فكيف تتجلى هذه الانبثاقات في
مستوى حياة الدازاين ؟
بداية نجد أن هيدجر ينظر إلى هذه الانبثاقات نظرة تكاملية أو ترابطية، فالمستقبل عنده لا يعني الآن
الذي لم يحدث بعد، أي أنه ما زال ضمن الممكنات التي لم تتحقق بعد، وأن الماضي لا يعني ذلك الآن
الذي انقضى، بمعنى ما تحقق من ممكنات، كما وأن الحاضر لا يعني ذلك الآن الذي انقضى في
اللحظة الراهنة، أي ما يجري تحقيقه من ممكنات في الوقت الراهن، هذه الانبثاقات الزمانية تعبر عن
ارتباط الذات الإنسانية بوجودها، وانشغالها بصميم كينونتها وتعاليها المستمر على ذاتها وعلى همها
الجاثم على صدرها، فإذا كان المستقبل هو ذلك الطموح المتأجج، المتشوق إلى استكشاف عوالم
جديدة، وفتح آفاق أرحب لهذا الكائن، فإن البعد الآخر في هرمية البنية الزمانية عند هيدجر، وهو
الماضي، لا يعني بالنسبة إليه إلا هذا اليقين من أنه موجود متناه وأنه يحمل هذا المتناهي منذ البداية،
أي أنه كائن مائت لأن مستقبله يتضمن موته ليس إلا، وعليه بقدر ما يشارك الموجود في مستقبله، أي
في إدراكه لموته بقدر ما ينبعث مجددا، أي يجدد ميلاده، فبين الانبعاث وإدراك الموت يبرز الحاضر
الذي هو اللحظة القصوى في توتر الدازاين وذروة كينونته.
إن الحاضر هو إدراكي للوضع الراهن، وعندما أدرك حقيقة هذا الوضع أعرف إنني كائن متناه وفي
الوقت ذاته أتأمل في إمكانياتي وهي تتحقق، وأشهد مهماتي وكل الأشياء المحيطة بي في العالم، وأرى
نفسي كما أنا، وكما هي الأشياء أيضا أي كما هي موجودة بالفعل، فكأن الحاضر هو اللحظة التي أستطيع فيها أن أرى وجودي من البدء حتى الموت، إنه يجعل الأشياء كلها حاضرة أمامي، ويكشف
لي جميع إمكانياتي الكامنة والتي أستطيع أن أحققها إلا أن هذا الحضور انبعاث لماض لم يعد موجودا،
وعلى الرغم من أهمية الانبثاقات الزمانية الثلاثة عند هيدجر، إلا أن بعد المستقبل هو دائما بحث
يتمحور حول ما لم يوجد بعد في حركة دائبة ودائمة إلى الأمام، ولكن إلى الخلف أيضا في بعض
الأحيان، ذلك أن الكائن في حاجة إلى أن يكبح اندفاعه إلى الأمام، والعودة قليلا إلى الوراء ليقف وقفة
تأمل لماضينا نستنطقه ونقرأ مضامينه وما تحقق فيه، فالعود المستمر إلى الماضي لا يكاد ينفصل عن
حركتنا الدائبة نحو "المستقبل" وآية ذلك أن الإنسان هو مجرد مشروع وجود مرهون بتحققه المستقبلي.
بيد أنه وقبل أن يصل إلى هذا التحديد المستقبلي عليه أن يقوم بعملية سبر لأغوار ماضيه السحيقة عله
يقف فيها على "تحديداتها" أو "مكونانها" الأصلية التي تكون سنده في رحلته الوجودية الطويلة
القاسية، فحد المستقبل يحيله إلى الموت وما أقسى الموت، وحد الماضي يحيله إلى إمكانات لم يخترها
وعليه أن يتقبلها شاء أم أبى وكذلك يحيلنا إلى ما سقط، أي ما لم يتحقق من هذه الإمكانات وعلى
العموم فهو لم يختر مصيره في كلتا الحالتين، فما تحقق ليس ملكه، وما لم يتحقق بعد ليس ملكه، وتبعا
لما ألمعنا فإننا، وعلى الرغم من جميع الصعوبات، وما نشعر به من بأس وقلق، فإننا لا نمضي من
مستقبلنا إلى ماضينا في شكل "ارتدادي" أو "تذكري" بل إننا نعمل على أن نسترد أنفسنا ونستجمع
قوتنا في "الحاضر"، حيث يمثل هذا الحاضر أو "الآن" الخيط الرفيع الرابط بين المستقبل والماضي،
ولكن هذا الحاضر لا يجيء عند هيدجر إلا بعد "المستقبل" و"الماضي" وذلك بوصفه نقطة تلاقي
مركزية لحركتين متجاذبتين للذات هما: حركتها نحو الأمام، وحركتها نحو الخلف، فالماضي ينبعث
عن المستقبل لكي يولد الحاضر، ومن هنا يأخذ بعد المستقبل كل أهميته عند هيدجر.
أ - من الزمان إلى زمانية الكائن
عند هيدجر صفة الدازاين ( Temporalite هناك من يترجمها ب ) Temporellite ان الزمانية
المتزمن أو المندمج في زمانه، بمعنى آخر إنها شعورنا ونحن نحيا هذا الزمان بشكل أصيل وواع،
العلاقة بين الكينونة والزمان علاقة أبدية، فكلاهما يحيل على الآخر باستمرار، وآية ذلك يتجلى في أن
أهم شيء أملكه في هذا الوجود هو وجودي ذاته، ولكنه وجود معرض لأن أفقده في كل لحظة على
اعتبار أن أسمى إمكانية حقيقية للكائن هي إمكانية الموت، لأن الكائن كائن من أجل الموت، إلا أن
الموت لم يتحقق بعد، فأين هو إذن يتساءل هيدجر ؟ إنه مسجل في ذاكرة الزمان القادم؟ إنه المستقبل.
من هنا يصير الكائن كائنا من أجل المستقبل همه الوحيد العمل على تحقيق وجوده "المشروع"
والدازاين بهذا المعنى موجود زماني لا باعتبار أنه يوجد – في – الزمان كشيء منفصل عنه ولكنه
هو نفسه وجود زماني، أو أنه مكون للزمان، وهنا أسمح لنفسي بالاستنجاد بسبينوزا الذي يرى أن
ليس هناك تطابق بين الفكر والواقع – أو الفكرة والشيء – لأنهما وجهان لفكرة واحدة بكل بساطة:
من جهة هي الفكر، ومن جهة أخرى هي الواقع.
وهكذا هي الكينونة عند هيدجر فهي الكائن والكينونة في آن واحد والزمان (**) هو حركة دائبة نحو
المستقبل، فما هو المستقبل ؟ إنه الموت، وما هو الموت؟ إنه التجلي المطلق للعدم، فما هو العدم إذن ؟
أين نبحث عنه وكيف نعثر عنه ؟.
يقول هيدجر "يدفعنا توضيح السؤال عن العدم بالضرورة إلى الموقف الذي يجعلنا نعرف هل من
الممكن أن نتلقى إجابة عنه، أم أن الإجابة عنه مستحيلة.. ويترتب على ذلك أن كل "إجابة" عن هذا
السؤال مستحيلة منذ البداية، ذلك أنها تتمثل – وفقا لقوى الأشياء – على النحو التالي: العدم هو هذا أو
ذاك. "فالسؤال والإجابة – فيما يتعلق بالعدم – ينطويان على الخلف نفسه".. وأيا كان الأمر، فنحن
نعرف العدم، حتى لو لم يكن ذلك إلا بوصفه تلك الكلمة التي نلوكها بالسنتنا كل يوم، وهذا العدم
المبتذل، العدم الشاحب المصاب بفقر الدم، العدم الذي يحوم حول أقاويلنا دون أن يجعلنا نلاحظه، هذا
العدم نستطيع أن نخلع عليه بلا تردد ما يشبه التعريف، فنقول: العدم هو السلب اللاأساسي بجملة الوجود"
والعدم يكشف عن نفسه في "القلق" أو أن القلق يميط اللثام عن العدم، لكن المشكلة هي أنه، أي
العدم، لا ينكشف لنا بوصفه موجودا ولا يعطى لنا بوصفه موضوعا أيضا، كما أن القلق ليس فعل
العدم، إلا أن هذا لا يمنعنا من القول أن العدم يكشف بوساطة القلق فيه، ويكشف دفعة واحدة غير
مجزأة لأن وجود الكائن نفسه غير مجزأ، وليس فعل العدم حدثا جزافيا أو عارضا كما يؤكد هيدجر،
لكن وبما أنه يشكل مصدر تأثير على الكائن المنزلق بأسره فإنه يكشف عن هذا الكائن في "غربته"
الكاملة التي لم تكن واضحة حتي ذلك الحين، وهو الذي يكشف عنه أيضا بوصفه " الآخر المحض "
في مواجهة العدم، ودون الكشف الأصيل للعدم لن يتيسر بلورة وجود ذاتي أو حرية أصلية وبالتالي لن
يتمكن الكائن من تحديد مهامه المنوطة به تحديدا واضحا، وعليه إذا كان الدازاين لا يستطيع أن يقيم
علاقة "مع" الوجود إلا بالبقاء داخل العدم، وإذا كان العدم لا ينكشف أصلا إلا في القلق، وفي القلق
الأصيل فقط مع أنه نادر الحدوث، ألا يفرض علينا هذا المطلب أن نخلق باستمرار في عالم القلق حتى
نستطيع أن نوجد على الإطلاق، ثم ألم نعترف نحن أنفسنا بأن القلق الأصيل نادر الحدوث. إذن ألا
يكون هذا القلق مجرد اختراع تعسفي، ويكون العدم الذي نسبناه إليه مجرد مبالغة أيضا ؟
من جهة أخرى، يمكن أن نعبر عن العدم بأنه السلب، لكن ما هو السلب؟ يجيب هيدجر "ليس السلب
سوى حالة من حالات السلوك الذي يعدم أية حالة مؤسسة منذ البداية على فعل الإعدام" ، والنتيجة
التي نصل إليها هنا مؤداها أن العدم هو في السلب لا العكس"، وعلى أية حال حينما يجد الدازاين نفسه
داخل العدم – أو لنقل داخل السلب – بتأثير من القلق المزعزع، فإنه يصير حارسا للعدم. آية ذلك أن
ما نتصف به من تناه يجعلنا عاجزين عن الولوج إلى عالم العدم باختيارنا وتصميمنا، هذا دون أن
ننسى النتيجة الأهم، وهي أن بحث مسألة العدم ينبغي أن يؤدي مباشرة إلى صلب مبحث الميتافزيقا،
هذه الميتافزيقا، التي يسمح عنوانها الغريب – ما بعد الطبيعة حسب الاشتقاق اليوناني – بالخوض في
هذه المسألة دونما إحراج يذكر ما دامت تتساءل عما يتجاوز الدازاين.
إن الزمان عند هيدجر ليس مجرد امتداد أفقي، بل هو حركة دؤوبة نحو المستقبل، من حيث أن كل
وجود هو إمكانية تنتظر التحقق، وسواء أفضت هذه الحركة إلى الإمكانية الأخيرة، وهي إمكانية
الموت، أم إلى أية إمكانية أخرى من العالم اليومي فإن المستقبل المشروع يتولد منها، وحينما يقول
هيدجر إن كينونتنا هي مشروع كينونة فقط، فهذا يعني أن الإنسان هو الكائن الذي عليه دائما أن
يوجد، كما يعني أيضا أنه دائما في موقع العمل على تحقيق إمكانيته، وفي توتر مستمر نحو المستقبل
هذا إن لم نقل إن زماننا نفسه إنما يبدأ من المستقبل، إلا أن انبثاقات الزمان كما بلورها في "الكينونة
والزمان" ثلاثة: إذ بالإضافة إلى المستقبل هناك الماضي والحاضر، فكيف تتجلى هذه الانبثاقات في
مستوى حياة الدازاين ؟
بداية نجد أن هيدجر ينظر إلى هذه الانبثاقات نظرة تكاملية أو ترابطية، فالمستقبل عنده لا يعني الآن
الذي لم يحدث بعد، أي أنه ما زال ضمن الممكنات التي لم تتحقق بعد، وأن الماضي لا يعني ذلك الآن
الذي انقضى، بمعنى ما تحقق من ممكنات، كما وأن الحاضر لا يعني ذلك الآن الذي انقضى في
اللحظة الراهنة، أي ما يجري تحقيقه من ممكنات في الوقت الراهن، هذه الانبثاقات الزمانية تعبر عن
ارتباط الذات الإنسانية بوجودها، وانشغالها بصميم كينونتها وتعاليها المستمر على ذاتها وعلى همها
الجاثم على صدرها، فإذا كان المستقبل هو ذلك الطموح المتأجج، المتشوق إلى استكشاف عوالم
جديدة، وفتح آفاق أرحب لهذا الكائن، فإن البعد الآخر في هرمية البنية الزمانية عند هيدجر، وهو
الماضي، لا يعني بالنسبة إليه إلا هذا اليقين من أنه موجود متناه وأنه يحمل هذا المتناهي منذ البداية،
أي أنه كائن مائت لأن مستقبله يتضمن موته ليس إلا، وعليه بقدر ما يشارك الموجود في مستقبله، أي
في إدراكه لموته بقدر ما ينبعث مجددا، أي يجدد ميلاده، فبين الانبعاث وإدراك الموت يبرز الحاضر
الذي هو اللحظة القصوى في توتر الدازاين وذروة كينونته.
إن الحاضر هو إدراكي للوضع الراهن، وعندما أدرك حقيقة هذا الوضع أعرف إنني كائن متناه وفي
الوقت ذاته أتأمل في إمكانياتي وهي تتحقق، وأشهد مهماتي وكل الأشياء المحيطة بي في العالم، وأرى
نفسي كما أنا، وكما هي الأشياء أيضا أي كما هي موجودة بالفعل، فكأن الحاضر هو اللحظة التي أستطيع فيها أن أرى وجودي من البدء حتى الموت، إنه يجعل الأشياء كلها حاضرة أمامي، ويكشف
لي جميع إمكانياتي الكامنة والتي أستطيع أن أحققها إلا أن هذا الحضور انبعاث لماض لم يعد موجودا،
وعلى الرغم من أهمية الانبثاقات الزمانية الثلاثة عند هيدجر، إلا أن بعد المستقبل هو دائما بحث
يتمحور حول ما لم يوجد بعد في حركة دائبة ودائمة إلى الأمام، ولكن إلى الخلف أيضا في بعض
الأحيان، ذلك أن الكائن في حاجة إلى أن يكبح اندفاعه إلى الأمام، والعودة قليلا إلى الوراء ليقف وقفة
تأمل لماضينا نستنطقه ونقرأ مضامينه وما تحقق فيه، فالعود المستمر إلى الماضي لا يكاد ينفصل عن
حركتنا الدائبة نحو "المستقبل" وآية ذلك أن الإنسان هو مجرد مشروع وجود مرهون بتحققه المستقبلي.
بيد أنه وقبل أن يصل إلى هذا التحديد المستقبلي عليه أن يقوم بعملية سبر لأغوار ماضيه السحيقة عله
يقف فيها على "تحديداتها" أو "مكونانها" الأصلية التي تكون سنده في رحلته الوجودية الطويلة
القاسية، فحد المستقبل يحيله إلى الموت وما أقسى الموت، وحد الماضي يحيله إلى إمكانات لم يخترها
وعليه أن يتقبلها شاء أم أبى وكذلك يحيلنا إلى ما سقط، أي ما لم يتحقق من هذه الإمكانات وعلى
العموم فهو لم يختر مصيره في كلتا الحالتين، فما تحقق ليس ملكه، وما لم يتحقق بعد ليس ملكه، وتبعا
لما ألمعنا فإننا، وعلى الرغم من جميع الصعوبات، وما نشعر به من بأس وقلق، فإننا لا نمضي من
مستقبلنا إلى ماضينا في شكل "ارتدادي" أو "تذكري" بل إننا نعمل على أن نسترد أنفسنا ونستجمع
قوتنا في "الحاضر"، حيث يمثل هذا الحاضر أو "الآن" الخيط الرفيع الرابط بين المستقبل والماضي،
ولكن هذا الحاضر لا يجيء عند هيدجر إلا بعد "المستقبل" و"الماضي" وذلك بوصفه نقطة تلاقي
مركزية لحركتين متجاذبتين للذات هما: حركتها نحو الأمام، وحركتها نحو الخلف، فالماضي ينبعث
عن المستقبل لكي يولد الحاضر، ومن هنا يأخذ بعد المستقبل كل أهميته عند هيدجر.
أ - من الزمان إلى زمانية الكائن
عند هيدجر صفة الدازاين ( Temporalite هناك من يترجمها ب ) Temporellite ان الزمانية
المتزمن أو المندمج في زمانه، بمعنى آخر إنها شعورنا ونحن نحيا هذا الزمان بشكل أصيل وواع،