Tarek007
17/06/2005, 02:07
نصف الكأس
ميشيل كيلو : دار الخليج 16/6/2005
بعد حقبة مديدة قيل خلالها: إن كل ما أنجزه الحزب وفعلته السلطة في سوريا كان على درجة نادرة من الروعة، وإن من لا يرى هذه الحقيقة الساطعة يعد عميلا للخارج أو موتوراً، تواضع القائمون على الشأن السوري وأخذوا يعترفون بوجود سلبيات شابت ما أسموها “مسيرة الإنجازات الهائلة التي تحققت على أيديهم”. لكن “التواضع” لم يحل بين هؤلاء وبين اتهام منتقدي السلبيات بالعمالة أو بالحقد، إلى أن بلغنا في السنوات الأخيرة حالا تراجعت معها الإنجازات في اللغة الرسمية، التي اهتدت إلى نظرية جديدة أخذتها من عالم الأواني المستطرقة، ترد عليك متى انتقدت أي أمر أو طالبت بإصلاحه: لماذا لا ترى غير نصف الكأس الفارغ؟
حلت نظرية نصف الكأس محل نظرية العصمة، التي اعتبرت خلال عقود من الزمن سمة أي فعل أو نشاط تقوم به القيادة، التي لا يأتيها الخطأ من بين يديها أو من خلفها، لأنها تفهم الظاهر وتقرأ الخفي، وتستبق الأحداث والوقائع، فليس من المعقول أصلا أن يترتب على إرادتها أو مقاصدها ما قد يفتقر إلى الكمال. واليوم، حين تتحدث عن الوضع في سوريا، مؤيدا الإصلاح وداعيا إلى التحسين والتغيير تهجم عليك نظرية الأواني المستطرقة ويقال لك بلغة زاجرة: انظر إلى نصف الكأس المليء وكن إيجابيا!
سأبدأ بالاعتراف بوجود جانب إيجابي في الوضع الجديد، هو اعتراف الحاكمين بأن أفعالهم من طبيعة بشرية، وبأنها لا تصدر عن جهة مقدسة. هذا تقدم عظيم في بلد لطالما نظامه طالب شعبه بعبادة وتقديس رئيسه وحزبه، وتبنى فكرة ترى في المتربع على السلطة كائناً من نوع خاص، وتحدد قيمة الناس بحسب مكانتهم من السلطة، فهي تبلغ أدنى درجاتها وتصل إلى مرتبة ما دون إنسانية لدى الإنسان العادي، ومرتبة شيطانية لدى المعارض، الذي يناهض الأمر القائم ويجسد الشر.
في هذا التحول، تندرج نظرية نصف الكأس ضمن سياق جديد، يقول المدافعون عنه إنه يجعل بلادنا كغيرها من بلدان العالم، فيها الحسن والقبيح، الإيجابي والسلبي، نصف الكأس الفارغ ونصف الكأس المليء، بينما يتسم المطالبون بالإصلاح بعدم الواقعية، بسبب سعيهم إلى الكمال والمثالية، وتطلعهم إلى المستحيل، إلى كأس تخلو من نصف فارغ، ورفضهم قبول الواقع كما هو، وعزوفهم عن نظرية نصف الكأس، التي ترى الأمور بمنظار عملي، ويعتمدها العالم بأسره.
هل نظرية نصف الكأس صحيحة وعملية، كما يقول هؤلاء؟ لنأخذ مثالا واحدا من واقع سوريا الراهن هو البطالة، ولنطبقها عليه. لا أحد في بلادنا يعرف عدد العاطلين عن العمل، لكن كل واحد منا يعرف أننا لا نواجه البطالة وحدها بل نواجه معها الهامشية، لأن أجيالا ثلاثة متعاقبة لم تدخل عالم العمل من أي باب من أبوابه، ولأنه سيستحيل من الآن فصاعدا إيجاد فرص عمل لها، بالنظر إلى تدفق ربع مليون يد عاملة كل سنة إلى سوق العمالة، حتى ليمكن القول إن أجيالا بكاملها ستفارق الحياة دون أن تعمل أو تنتج أو يكون لها دخل ووظيفة وحياة عادية ومنتجة. ونعرف جميعا، في النهاية، أن من يعملون يشتغلون 32 دقيقة في اليوم، طبقا لإحصائية رسمية نشرتها جريدة “البعث”، صحيفة الحزب الحاكم، وأن هناك بطالة مقنّعة تبلغ حوالي 40 % من عدد العاملين في الدولة، وأن التنمية تكاد تكون متوقفة، فليس في خططها تشغيل غير عدد محدود كل عام، يبلغ حوالي خمسين ألفا من ربع مليون وليد جديد، بينما يزداد عدد العاطلين مليون شخص كل خمس سنوات، معظمهم من المتعلمين.
كيف يمكن أن نطبق نظرية نصف الكأس المليء على حالة كهذه، تتعلق بحياة ووجود ملايين المواطنين، الذين يفتقرون إلى القدرة على الحياة؟ هل نعزيهم بالحديث عن كؤوس مليئة وفارغة، وبالقول: إن غيرهم يعمل؟ أعتقد أن من المحال معالجة المرضى بالحديث عن الأصحاء، وليس ممكناً حل مشكلة من ليس لديه سكن بالحديث عن بيوت من عندهم منازل. ولا بد من حل المشكلات، لأن الأصل في العمل العام والمسؤولية الرسمية إيجاد حلول للمشكلات وليس إيجاد مسوغات لاستمرارها. وقديما قيل إنه تكون هناك مشكلة جوع حين يوجد جائع واحد، وتكون هناك مشكلة حرية عندما يفتقر مواطن واحد إلى الحرية.
أية وظيفة تمارس نظرية نصف الكأس؟ أعتقد أن لها وظيفة وحيدة هي إقناع الشعب بشرعية العجز عن حل مشكلاته، وإيهامه أن الأمور لا يمكن أن تكون أحسن، وأن من الأفضل له أن يتعايش مع أزماته، لأن هذه هي طبيعة الأمور، ولأنه ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن.
بعد سنوات وعقود من الوعود المفرطة في التفاؤل، ومن الحديث عن نظام اشتراكي كامل وعادل، وعن مساواة تامة بين المواطنين، تأتي نظرية نصف الكأس لتقول لنا اليوم إننا نستطيع قبول الواقع القائم كما هو، إذا ما رأيناه من الجانب الذي ينصحنا الرسميون برؤيته: جانب نصف الكأس المليء، الذي سيريحنا بحجب نصفه الفارغ عن أبصارنا. هكذا يكون على الفقير (نصف الكأس الفارغ) قبول فقره لأنه يوجد أغنياء (نصف الكأس المليء)، وعلى الجائع قبول جوعه لأنه يوجد متخمون! أية نهاية رائعة لوعد الاشتراكية والعدالة والمساواة؟
يتحدث النجاح عن نفسه، وحين يبحث الفشل عن مبررات، فإن عذره يكون أقبح من ذنبه، كما يقول لساننا الشعبي، ومن حسن حظ سوريا أن الأعذار لم تعد تجد من يصدقها.
ميشيل كيلو : دار الخليج 16/6/2005
بعد حقبة مديدة قيل خلالها: إن كل ما أنجزه الحزب وفعلته السلطة في سوريا كان على درجة نادرة من الروعة، وإن من لا يرى هذه الحقيقة الساطعة يعد عميلا للخارج أو موتوراً، تواضع القائمون على الشأن السوري وأخذوا يعترفون بوجود سلبيات شابت ما أسموها “مسيرة الإنجازات الهائلة التي تحققت على أيديهم”. لكن “التواضع” لم يحل بين هؤلاء وبين اتهام منتقدي السلبيات بالعمالة أو بالحقد، إلى أن بلغنا في السنوات الأخيرة حالا تراجعت معها الإنجازات في اللغة الرسمية، التي اهتدت إلى نظرية جديدة أخذتها من عالم الأواني المستطرقة، ترد عليك متى انتقدت أي أمر أو طالبت بإصلاحه: لماذا لا ترى غير نصف الكأس الفارغ؟
حلت نظرية نصف الكأس محل نظرية العصمة، التي اعتبرت خلال عقود من الزمن سمة أي فعل أو نشاط تقوم به القيادة، التي لا يأتيها الخطأ من بين يديها أو من خلفها، لأنها تفهم الظاهر وتقرأ الخفي، وتستبق الأحداث والوقائع، فليس من المعقول أصلا أن يترتب على إرادتها أو مقاصدها ما قد يفتقر إلى الكمال. واليوم، حين تتحدث عن الوضع في سوريا، مؤيدا الإصلاح وداعيا إلى التحسين والتغيير تهجم عليك نظرية الأواني المستطرقة ويقال لك بلغة زاجرة: انظر إلى نصف الكأس المليء وكن إيجابيا!
سأبدأ بالاعتراف بوجود جانب إيجابي في الوضع الجديد، هو اعتراف الحاكمين بأن أفعالهم من طبيعة بشرية، وبأنها لا تصدر عن جهة مقدسة. هذا تقدم عظيم في بلد لطالما نظامه طالب شعبه بعبادة وتقديس رئيسه وحزبه، وتبنى فكرة ترى في المتربع على السلطة كائناً من نوع خاص، وتحدد قيمة الناس بحسب مكانتهم من السلطة، فهي تبلغ أدنى درجاتها وتصل إلى مرتبة ما دون إنسانية لدى الإنسان العادي، ومرتبة شيطانية لدى المعارض، الذي يناهض الأمر القائم ويجسد الشر.
في هذا التحول، تندرج نظرية نصف الكأس ضمن سياق جديد، يقول المدافعون عنه إنه يجعل بلادنا كغيرها من بلدان العالم، فيها الحسن والقبيح، الإيجابي والسلبي، نصف الكأس الفارغ ونصف الكأس المليء، بينما يتسم المطالبون بالإصلاح بعدم الواقعية، بسبب سعيهم إلى الكمال والمثالية، وتطلعهم إلى المستحيل، إلى كأس تخلو من نصف فارغ، ورفضهم قبول الواقع كما هو، وعزوفهم عن نظرية نصف الكأس، التي ترى الأمور بمنظار عملي، ويعتمدها العالم بأسره.
هل نظرية نصف الكأس صحيحة وعملية، كما يقول هؤلاء؟ لنأخذ مثالا واحدا من واقع سوريا الراهن هو البطالة، ولنطبقها عليه. لا أحد في بلادنا يعرف عدد العاطلين عن العمل، لكن كل واحد منا يعرف أننا لا نواجه البطالة وحدها بل نواجه معها الهامشية، لأن أجيالا ثلاثة متعاقبة لم تدخل عالم العمل من أي باب من أبوابه، ولأنه سيستحيل من الآن فصاعدا إيجاد فرص عمل لها، بالنظر إلى تدفق ربع مليون يد عاملة كل سنة إلى سوق العمالة، حتى ليمكن القول إن أجيالا بكاملها ستفارق الحياة دون أن تعمل أو تنتج أو يكون لها دخل ووظيفة وحياة عادية ومنتجة. ونعرف جميعا، في النهاية، أن من يعملون يشتغلون 32 دقيقة في اليوم، طبقا لإحصائية رسمية نشرتها جريدة “البعث”، صحيفة الحزب الحاكم، وأن هناك بطالة مقنّعة تبلغ حوالي 40 % من عدد العاملين في الدولة، وأن التنمية تكاد تكون متوقفة، فليس في خططها تشغيل غير عدد محدود كل عام، يبلغ حوالي خمسين ألفا من ربع مليون وليد جديد، بينما يزداد عدد العاطلين مليون شخص كل خمس سنوات، معظمهم من المتعلمين.
كيف يمكن أن نطبق نظرية نصف الكأس المليء على حالة كهذه، تتعلق بحياة ووجود ملايين المواطنين، الذين يفتقرون إلى القدرة على الحياة؟ هل نعزيهم بالحديث عن كؤوس مليئة وفارغة، وبالقول: إن غيرهم يعمل؟ أعتقد أن من المحال معالجة المرضى بالحديث عن الأصحاء، وليس ممكناً حل مشكلة من ليس لديه سكن بالحديث عن بيوت من عندهم منازل. ولا بد من حل المشكلات، لأن الأصل في العمل العام والمسؤولية الرسمية إيجاد حلول للمشكلات وليس إيجاد مسوغات لاستمرارها. وقديما قيل إنه تكون هناك مشكلة جوع حين يوجد جائع واحد، وتكون هناك مشكلة حرية عندما يفتقر مواطن واحد إلى الحرية.
أية وظيفة تمارس نظرية نصف الكأس؟ أعتقد أن لها وظيفة وحيدة هي إقناع الشعب بشرعية العجز عن حل مشكلاته، وإيهامه أن الأمور لا يمكن أن تكون أحسن، وأن من الأفضل له أن يتعايش مع أزماته، لأن هذه هي طبيعة الأمور، ولأنه ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن.
بعد سنوات وعقود من الوعود المفرطة في التفاؤل، ومن الحديث عن نظام اشتراكي كامل وعادل، وعن مساواة تامة بين المواطنين، تأتي نظرية نصف الكأس لتقول لنا اليوم إننا نستطيع قبول الواقع القائم كما هو، إذا ما رأيناه من الجانب الذي ينصحنا الرسميون برؤيته: جانب نصف الكأس المليء، الذي سيريحنا بحجب نصفه الفارغ عن أبصارنا. هكذا يكون على الفقير (نصف الكأس الفارغ) قبول فقره لأنه يوجد أغنياء (نصف الكأس المليء)، وعلى الجائع قبول جوعه لأنه يوجد متخمون! أية نهاية رائعة لوعد الاشتراكية والعدالة والمساواة؟
يتحدث النجاح عن نفسه، وحين يبحث الفشل عن مبررات، فإن عذره يكون أقبح من ذنبه، كما يقول لساننا الشعبي، ومن حسن حظ سوريا أن الأعذار لم تعد تجد من يصدقها.