Syria Man
17/06/2005, 16:34
[/u][/b]
بين الواقع والأسطورة:
اعتقد بنو إسرائيل أن دخولهم أرض كنعان لن يحتاج حرباً لأنها موعودةٌ لهم من الرب ، لذلك رفضوا دخولها ، لأن ذلك يعني توريطهم في حربٍ مع سكانها الأصليين رغم أن موسى قام بتحريضهم على القتال ، فلم يستجب لموسى إلا أخوه هارون. قال تعالى: "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى" (الحشر:الآية 14). فقد تمكنت منهم المذلّة ، إذ قالوا لموسى: "ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا متنا في هذا القفر ولماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف. تصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة أليس خيراً لنا أن نرجع إلى مصر. فقال بعضهم لبعض نقيم رئيساً ونرجع إلى مصر "(سفر العدد: 1 ـ 4). أي أنهم أعلنوا العصيان ضد شخص موسى نفسه.
والحقيقة فإن التراث الديني لبني إسرائيل مشبع بالأدلّة التي لا تقبل الشك على أن الذين رافقوا موسى إلى سيناء لم يكونوا أكفّاء لحمل عبء التوحيد وفلسفته التجريدية الرفيعة ، ولم يجدوا فيما تقدمه الديانة الجديدة ما يشبع احتياجاتهم إلى الاعتبارات المادية.
وعن شدّة أهل كنعان قال تعالى: "ياقوم ادخلوا الأرضَ المقدسةَ التي كتبَ اللهُ لكم ولا ترتدُّوا على أدبارِكُم فتنقلبوا خاسرينَ* قالوا يا موسى إنَّ فيها قوماً جبَّارينَ وإنَّا لن نَّدخُلهَا حتى يخرُجُوا منها فإِن يخرُجُوا مِنها فإِنَّا داخِلون* قالَ رَجُلانِ من الَّذين يَخَافُونَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهمَا ادخُلُوا عَلَيِهم البَابَ فإِذَا دَخَلتُمُوهُ فإِنَّكُم غَالِبونَ وعَلَى اللهِ فَتَوكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ* قَالُوا يا مُوسى إِنَّا لَن نَّدخُلَهَا أَبَداً مَّا دامُوا فِيهَا فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهُنَا قَاعِدونَ* قَالَ رَبِ إِنّي لا أَملِكُ إلا نفسي وأَخِي فافرُق بَينَنَا وبينَ القومِ الفَاسِقِين* قَالَ فإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم أَربَعينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرضِ ، فَلا تَأسَ عَلَى القومِ الفاسِقينَ" * (المائدة: الآيات 21 ـ 26) . أي أن الجبن صفة جوهرية للشخصية الإسرائيلية حتى مع وجود نبي بين ظهرانيهم ، فهو شعب ليس في كيانه إلا عواطف ذليلة خانعة.
والواضح أن استعداد سكان أرض كنعان الأصليين للمقاومة من جهةٍ وخوف الإسرائيليين من جهةٍ أخرى حمل موسى وأتباعه على الاتجاه شرقاً ، بعد أن أمضى بنو إسرائيل أربعين عاماً من التيه في سيناء ، فدخل فلسطين من الجنوب، ثم اتجه من هناك إلى شرق الأردن ، حيث قاومهم سكان المنطقة من الأدوميين والعموريين ، فاضطر موسى إلى سلوك طريق طويلة إلى خليج العقبة ثم إلى جهات معان ثم إلى مأدبا ، وقيل أن موسى توفى في الجهة الأخيرة ، دون أن يتمكن من دخول أرض كنعان ، واضطر بنو إسرائيل إلى التمركز في جبال سعير جنوبي البحر الميت .
تولى يشوع بن نون القيادة بعد موسى ، غير أن ما قيل عن قيادة يشوع بن نون لبني إسرائيل بعد وفاة موسى تحتاج لبحثٍ خاص وهو ما سيكون موضوع هذه الدراسة لما قيل عن شخصيته الأسطورية ، أو حتى عدم وجوده أساساً على مسرح التاريخ. وينبغي الإشارة إلى أننا سوف نتناول هذا الموضوع بذكر رواية التوراة الخاصة بيشوع بن نون ثم نرّد عليه بما ذكره الباحثون من التقليل بأهمية هذه الشخصية.
ومنذ أن آل أمر بني إسرائيل بعد موت موسى عليه السلام إلى يشوع بن نون خادمه وفتاه ، بدأ كتبة التوراة بوضعه في مركزٍ متقدم لا يقل عن مركز موسى نفسه ، فكما كلّم الرب موسى من قبل ، فقد كلّم يوشع من بعد ، وكما آثر الرب موسى بمعجزة انفلاق البحر في مصر، آثر يوشع بمعجزة شق نهر الأردن وإيقافه عن الجريان في بلاد كنعان ، كما وضع مسير الأفلاك تحت تصرفه ، فالشمس تتوقف عن مغيبها عند "جبعون" والقمر لا يبزغ في حينه على "وادي أيلون".
ودار لغطٌ كبير حول حقيقة ما ورد في سفر يشوع عن كيفية عبور بني إسرائيل مع قائدهم يشوع لنهر الأردن وكيفية استيلائه على جزء من أرض كنعان. لذلك سوف نبدأ بسرد الأحداث التاريخية الخاصة بهذا العبور ومن ثم الاستيلاء على مدينة أريحا كما وردت في سفر يشوع. وإيرادنا لرواية التوراة لا يعني بحالٍ من الأحوال موافقتنا على ما جاء فيها ، ولكننا سوف نذكرها لنقوم فيما بعد بالرد على ما ورد فيها بناءً على ما أثبتته أعمال الحفر التي قام بها الباحثون المنصفون.
تذكر رواية التوراة أن يشوع أرسل بعض العيون ليتجسس على طبيعة الوضع في أريحا قبل مهاجمتها ، وكانت الإسرائيلية "راحاب" وليست الكنعانية أول من قامت بهذا العمل حيث دخلت أريحا للحصول على المعلومات المكلفة بها عن طريق الدعارة وبث الشائعات على أنها من بنات المدينة. وعرف أهل المدينة ـ التي نوى الإسرائيليون غزوها ـ بيت راحاب الفاتنة الجميلة ، ونسوا طبيعة الحذر والتشكك بينما هي تحصل منهم على المعلومات.
ولمّا كانت أريحا أول مدينة يدخلها الإسرائيليون ، فقد لاقت الأهوال على أيديهم ، إذ حاصروها ثم قاموا بإحراقها وقتل سكانها ، كما استولوا فيما بعد على معظم جنوب فلسطين.
وتزعم التوراة أن استيلاء بني إسرائيل على أرض كنعان زمن يشوع كان بناءً على الوعد الذي منحه الرب لهم زمن أجدادهم من إبراهيم حتى موسى.
وإذا كانت الروايات السابقة قد ذكرت أن مهمة غزو بلاد كنعان قد بدأت على يد يشوع بن نون إلاّ أن بعض الباحثين الغربيين في الآونة الأخيرة أعملوا الفكر في محاولة فهم لإعادة تقييم كل المصادر القديمة ، فالعلم الحديث أصبح يعطينا معلومات دقيقة عن أحداث العالم القديم من مختلف المصادر سواء المصرية والبابلية والسورية والكنعانية واليونانية. فأول ما لاحظه الباحثون هو الطبيعة الأسطورية التي اتسم بها وصف المعارك حيث تقف الشمس استجابة لنداء يشوع ، وتنهار الحصون لصراخ بني إسرائيل ، وتنهزم العجلات الحربية أمام جماعات ليس لديها أسلحة تحارب بها.
وبمقارنة ما جاء في سفر يشوع بما ورد في سفر القضاة الذي يتلوه مباشرة ، يظهر لنا أن بني إسرائيل لم يشرعوا في دخول أرض كنعان إلاّ بعد موت يشوع. وهذا السفر الأخير يبين لنا أن الإسرائيليين بعدما خرجوا من سيناء بقوا مدة طويلة يقيمون في منطقة سعير جنوبي البحر الميت ، وأن دخولهم لأرض كنعان لم يكن ضمن حرب شاملة ضد أهالي البلاد ، بل في محاولات فردية قامت بها بعض القبائل الإسرائيلية للتسلل إلى المناطق غير المأهولة بالسكان أولاً.
وتذكر المصادر المصرية أن كنعان كانت طوال القرن الثالث عشر قبل الميلاد خاضعة للنفوذ المصري ، كما توصّل علماء الدراسات التوراتية إلى أن سفر يشوع لا يمثل أية حقيقة تاريخية ، وإنما صاغه كتبة بني إسرائيل أثناء مرحلة السبي البابلي خلال القرن السادس قبل الميلاد ، مستخدمين بعض الروايات القديمة التي تسبق عصر بني إسرائيل والمتضمنة الأخبار المتعلقة بحروب ممالك كنعان فيما بينها. ومما يؤكد ذلك طبيعة أسلوب الكتابة المستعملة نفسه ، ومع ذلك فغالبية العلماء لم تنكر وجود يشوع خليفة موسى كشخصية تاريخية.
وتمكن علماء الحفريات في القرن المنصرم ليس فقط من إثبات كذب أسطورة غزو الإسرائيليين لأرض كنعان بل ونفضوا الغبار أيضاً عن القصة الحقيقية لتسلل قبائل بني إسرائيل إلى المناطق المهجورة في كنعان.
فقد كان الفخار من أهم الوسائل التي اعتمد عليها الأثريون في تحديد التواريخ القديمة وعلاقات الأمم ببعضها البعض ، كما كانت التجارة بين بلاد اليونان وأرض كنعان منتعشة آنذاك بفضل الأساطيل الفينيقية. وكان الفخار اليوناني قد انقطع ولم يُوجد في كنعان في فترة ما بعد القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، مما دعا عالم الآثار الإسرائيلي (إيغال يادين) إلي الزعم بأن مدينة حاصور قد دمرت في ذلك الوقت لعدم وجود هذا النوع من الفخار. ولكن العالم السويدي (أرين فورمارك) المتخصص في الفخارِ اليوناني ، فسّر هذه الظاهرة بأن مدينة "أرجوليس" اليونانية التي كانت تُنتج هذا النوع من الفخار قد تعرّضت خلال تلك الفترة للدمار ، فلم يصل أيّ من إنتاجها من الفخار إلى بلاد الشام آنذاك. ولذلك فإن هذا النوع من الفخار ـ الذي لم يعثر عليه يادين في حاصور ـ لم يتم العثور عليه في أي موضع آخر من بلاد الهلال الخصيب ، لأنه لم يصل إلى هذه المنطقة أصلاً ، وهذا ما ينفي قوله أن حاصور قد دمرت في تلك الفترة.
أما الدليل الذي قدمه يادين للزعم بأن حاصور قد دمرت بالنيران هو موقع المعبد ، ورغم أنه اعترف بأن بقايا السقف الساقط كانت بيضاء إلاّ أنه ذكر أنه وجد رماداً في منطقة المعبد بالقرب من مذبح البخور ، ولم يستطع أن يقدم أي دليل آخر.
وفي دراسةٍ لباحثٍ إسرائيلي هو (إسرائيل فنكلشتاين) بيّن فيها أن الدراسات الأثرية الحديثة أثبتت أن أريحا لم تكن مُحاطة بسورٍ بالمرة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، فترة العصر البرونزي المتأخر. ولم يتم إيجاد أي أثرٍ لأي موقعٍ سكاني في مواقعٍ كثيرة أخرى ورد ذكرها في التوراة ، أي أن دمار المدن الكنعانية لم يكن نتيجة لحملةٍ إحتلالية واحدة بقيادة عسكريٍ واحد (يشوع بن نون) ، بل عملية متواصلة لفترة مائة عام على الأقل تدمّرت خلالها مدن وتجمعات سكنية في المنطقة.
وتؤكد بعض المصادر أن غزو بني إسرائيل لأرضِ كنعان لم يكن كما زعم سفر يشوع بالقتالِ المباشر مع سُكانها الأصليين بل عن طريق "التسلل السلمي" Infiltrate Peacefully أي داخل المناطق غير المأهولة بالسكان أو المناطق التي كان سُكانها متناثرين ، وذلك في الوقت الذي لم تُمارس فيه مصر أي سيطرةٍ حازمة على البلاد. وكان هذا الغزو السلمي أو ما يُسمى بأخذ ملكية الأرض كان متبوعاً بفترة التعزيز عندما استقروا ، ثم دخلت هذه القبائل في صراعٍ مع الكنعانيين.
وكان استقرار الإسرائيليين في أرض كنعان قد أخذَ بالفعل مدةٍ طويلة تميّزت بالإزاحات المتنوعة للبشر. وبناءً على ذلك فإن قصة غزو بلاد كنعان كما وردت في سفر يشوع غير صحيحة ، بل إن يشوع نفسه لم يلعبَ أي دورٍ تاريخي بالنسبة لبني إسرائيل.
وبعد الحرب العالمية الثانية كانت قد ظهرت مدرسة جديدة من علماء الآثار التزمت بقراءة الأدلّة بشكلٍ موضوعي ، ظهر منها "كاثلين كينيون" البريطانية و"أميحاي مازار" الإسرائيلي ، حيث توصلا إلى أن الموجة الثانية من الدمارِ الذي تعرضت له مدن الساحل الكنعاني لم تتم إلاّ عند بداية العصر الحديدي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، وقطعاً لم يكن يشوع هو الفاعل ولا حتى قبائل بني إسرائيل ، وإنما على أيدي أعدائهم الفلسطينيين (أقوام البحر).
وقد اتضح أن الإسرائيليين بعدما خرجوا من سيناء في بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، ظلّوا حوالي القرن من الزمان يقيمون في منطقة سعير الجبلية جنوبي البحر الميت وأن دخولهم فيما بعد لأرض كنعان كان على فترات ومراحل متباعدة. وكانت المناطق التي سكنوها في شرق فلسطين هي المناطق المهجورة والجبلية البعيدة عن ممالك المدن ، حيث ابتنوا لأنفسهم الأكواخ والقرى على سفوح جبال شرق فلسطين بعيداً عن الكنعانيين. وذلك في الوقتِ الذي كان الفلسطينيون فيه قد امتزجوا بأهل كنعان وأخذوا في بناء المدن المحصنة على طول الساحل الغربي.
وفيما يخص هذه القضية بقي أن نُشير إلى السبب الذي مهّد للإسرائيليين لغزو بلاد كنعان والمتمثل في الشقاق والحروب فيما بين الممالك الكنعانية بسبب حكّامها الإقطاعيين المستبدين والذين كان همهم الوحيد هو الحفاظ على سيطرتهم. وكذلك ضعف مصر التي لم تكن قادرة على السيطرةِ التامة على ممتلكاتها في كنعان ، فتركوها على حالِها ، وكان جلّ اهتمامهم فقط هو جمع الجزية على أيدي مأمورين متفسّخين.
بين الواقع والأسطورة:
اعتقد بنو إسرائيل أن دخولهم أرض كنعان لن يحتاج حرباً لأنها موعودةٌ لهم من الرب ، لذلك رفضوا دخولها ، لأن ذلك يعني توريطهم في حربٍ مع سكانها الأصليين رغم أن موسى قام بتحريضهم على القتال ، فلم يستجب لموسى إلا أخوه هارون. قال تعالى: "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى" (الحشر:الآية 14). فقد تمكنت منهم المذلّة ، إذ قالوا لموسى: "ليتنا متنا في أرض مصر أو ليتنا متنا في هذا القفر ولماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف. تصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة أليس خيراً لنا أن نرجع إلى مصر. فقال بعضهم لبعض نقيم رئيساً ونرجع إلى مصر "(سفر العدد: 1 ـ 4). أي أنهم أعلنوا العصيان ضد شخص موسى نفسه.
والحقيقة فإن التراث الديني لبني إسرائيل مشبع بالأدلّة التي لا تقبل الشك على أن الذين رافقوا موسى إلى سيناء لم يكونوا أكفّاء لحمل عبء التوحيد وفلسفته التجريدية الرفيعة ، ولم يجدوا فيما تقدمه الديانة الجديدة ما يشبع احتياجاتهم إلى الاعتبارات المادية.
وعن شدّة أهل كنعان قال تعالى: "ياقوم ادخلوا الأرضَ المقدسةَ التي كتبَ اللهُ لكم ولا ترتدُّوا على أدبارِكُم فتنقلبوا خاسرينَ* قالوا يا موسى إنَّ فيها قوماً جبَّارينَ وإنَّا لن نَّدخُلهَا حتى يخرُجُوا منها فإِن يخرُجُوا مِنها فإِنَّا داخِلون* قالَ رَجُلانِ من الَّذين يَخَافُونَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهمَا ادخُلُوا عَلَيِهم البَابَ فإِذَا دَخَلتُمُوهُ فإِنَّكُم غَالِبونَ وعَلَى اللهِ فَتَوكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤمِنِينَ* قَالُوا يا مُوسى إِنَّا لَن نَّدخُلَهَا أَبَداً مَّا دامُوا فِيهَا فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهُنَا قَاعِدونَ* قَالَ رَبِ إِنّي لا أَملِكُ إلا نفسي وأَخِي فافرُق بَينَنَا وبينَ القومِ الفَاسِقِين* قَالَ فإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم أَربَعينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرضِ ، فَلا تَأسَ عَلَى القومِ الفاسِقينَ" * (المائدة: الآيات 21 ـ 26) . أي أن الجبن صفة جوهرية للشخصية الإسرائيلية حتى مع وجود نبي بين ظهرانيهم ، فهو شعب ليس في كيانه إلا عواطف ذليلة خانعة.
والواضح أن استعداد سكان أرض كنعان الأصليين للمقاومة من جهةٍ وخوف الإسرائيليين من جهةٍ أخرى حمل موسى وأتباعه على الاتجاه شرقاً ، بعد أن أمضى بنو إسرائيل أربعين عاماً من التيه في سيناء ، فدخل فلسطين من الجنوب، ثم اتجه من هناك إلى شرق الأردن ، حيث قاومهم سكان المنطقة من الأدوميين والعموريين ، فاضطر موسى إلى سلوك طريق طويلة إلى خليج العقبة ثم إلى جهات معان ثم إلى مأدبا ، وقيل أن موسى توفى في الجهة الأخيرة ، دون أن يتمكن من دخول أرض كنعان ، واضطر بنو إسرائيل إلى التمركز في جبال سعير جنوبي البحر الميت .
تولى يشوع بن نون القيادة بعد موسى ، غير أن ما قيل عن قيادة يشوع بن نون لبني إسرائيل بعد وفاة موسى تحتاج لبحثٍ خاص وهو ما سيكون موضوع هذه الدراسة لما قيل عن شخصيته الأسطورية ، أو حتى عدم وجوده أساساً على مسرح التاريخ. وينبغي الإشارة إلى أننا سوف نتناول هذا الموضوع بذكر رواية التوراة الخاصة بيشوع بن نون ثم نرّد عليه بما ذكره الباحثون من التقليل بأهمية هذه الشخصية.
ومنذ أن آل أمر بني إسرائيل بعد موت موسى عليه السلام إلى يشوع بن نون خادمه وفتاه ، بدأ كتبة التوراة بوضعه في مركزٍ متقدم لا يقل عن مركز موسى نفسه ، فكما كلّم الرب موسى من قبل ، فقد كلّم يوشع من بعد ، وكما آثر الرب موسى بمعجزة انفلاق البحر في مصر، آثر يوشع بمعجزة شق نهر الأردن وإيقافه عن الجريان في بلاد كنعان ، كما وضع مسير الأفلاك تحت تصرفه ، فالشمس تتوقف عن مغيبها عند "جبعون" والقمر لا يبزغ في حينه على "وادي أيلون".
ودار لغطٌ كبير حول حقيقة ما ورد في سفر يشوع عن كيفية عبور بني إسرائيل مع قائدهم يشوع لنهر الأردن وكيفية استيلائه على جزء من أرض كنعان. لذلك سوف نبدأ بسرد الأحداث التاريخية الخاصة بهذا العبور ومن ثم الاستيلاء على مدينة أريحا كما وردت في سفر يشوع. وإيرادنا لرواية التوراة لا يعني بحالٍ من الأحوال موافقتنا على ما جاء فيها ، ولكننا سوف نذكرها لنقوم فيما بعد بالرد على ما ورد فيها بناءً على ما أثبتته أعمال الحفر التي قام بها الباحثون المنصفون.
تذكر رواية التوراة أن يشوع أرسل بعض العيون ليتجسس على طبيعة الوضع في أريحا قبل مهاجمتها ، وكانت الإسرائيلية "راحاب" وليست الكنعانية أول من قامت بهذا العمل حيث دخلت أريحا للحصول على المعلومات المكلفة بها عن طريق الدعارة وبث الشائعات على أنها من بنات المدينة. وعرف أهل المدينة ـ التي نوى الإسرائيليون غزوها ـ بيت راحاب الفاتنة الجميلة ، ونسوا طبيعة الحذر والتشكك بينما هي تحصل منهم على المعلومات.
ولمّا كانت أريحا أول مدينة يدخلها الإسرائيليون ، فقد لاقت الأهوال على أيديهم ، إذ حاصروها ثم قاموا بإحراقها وقتل سكانها ، كما استولوا فيما بعد على معظم جنوب فلسطين.
وتزعم التوراة أن استيلاء بني إسرائيل على أرض كنعان زمن يشوع كان بناءً على الوعد الذي منحه الرب لهم زمن أجدادهم من إبراهيم حتى موسى.
وإذا كانت الروايات السابقة قد ذكرت أن مهمة غزو بلاد كنعان قد بدأت على يد يشوع بن نون إلاّ أن بعض الباحثين الغربيين في الآونة الأخيرة أعملوا الفكر في محاولة فهم لإعادة تقييم كل المصادر القديمة ، فالعلم الحديث أصبح يعطينا معلومات دقيقة عن أحداث العالم القديم من مختلف المصادر سواء المصرية والبابلية والسورية والكنعانية واليونانية. فأول ما لاحظه الباحثون هو الطبيعة الأسطورية التي اتسم بها وصف المعارك حيث تقف الشمس استجابة لنداء يشوع ، وتنهار الحصون لصراخ بني إسرائيل ، وتنهزم العجلات الحربية أمام جماعات ليس لديها أسلحة تحارب بها.
وبمقارنة ما جاء في سفر يشوع بما ورد في سفر القضاة الذي يتلوه مباشرة ، يظهر لنا أن بني إسرائيل لم يشرعوا في دخول أرض كنعان إلاّ بعد موت يشوع. وهذا السفر الأخير يبين لنا أن الإسرائيليين بعدما خرجوا من سيناء بقوا مدة طويلة يقيمون في منطقة سعير جنوبي البحر الميت ، وأن دخولهم لأرض كنعان لم يكن ضمن حرب شاملة ضد أهالي البلاد ، بل في محاولات فردية قامت بها بعض القبائل الإسرائيلية للتسلل إلى المناطق غير المأهولة بالسكان أولاً.
وتذكر المصادر المصرية أن كنعان كانت طوال القرن الثالث عشر قبل الميلاد خاضعة للنفوذ المصري ، كما توصّل علماء الدراسات التوراتية إلى أن سفر يشوع لا يمثل أية حقيقة تاريخية ، وإنما صاغه كتبة بني إسرائيل أثناء مرحلة السبي البابلي خلال القرن السادس قبل الميلاد ، مستخدمين بعض الروايات القديمة التي تسبق عصر بني إسرائيل والمتضمنة الأخبار المتعلقة بحروب ممالك كنعان فيما بينها. ومما يؤكد ذلك طبيعة أسلوب الكتابة المستعملة نفسه ، ومع ذلك فغالبية العلماء لم تنكر وجود يشوع خليفة موسى كشخصية تاريخية.
وتمكن علماء الحفريات في القرن المنصرم ليس فقط من إثبات كذب أسطورة غزو الإسرائيليين لأرض كنعان بل ونفضوا الغبار أيضاً عن القصة الحقيقية لتسلل قبائل بني إسرائيل إلى المناطق المهجورة في كنعان.
فقد كان الفخار من أهم الوسائل التي اعتمد عليها الأثريون في تحديد التواريخ القديمة وعلاقات الأمم ببعضها البعض ، كما كانت التجارة بين بلاد اليونان وأرض كنعان منتعشة آنذاك بفضل الأساطيل الفينيقية. وكان الفخار اليوناني قد انقطع ولم يُوجد في كنعان في فترة ما بعد القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، مما دعا عالم الآثار الإسرائيلي (إيغال يادين) إلي الزعم بأن مدينة حاصور قد دمرت في ذلك الوقت لعدم وجود هذا النوع من الفخار. ولكن العالم السويدي (أرين فورمارك) المتخصص في الفخارِ اليوناني ، فسّر هذه الظاهرة بأن مدينة "أرجوليس" اليونانية التي كانت تُنتج هذا النوع من الفخار قد تعرّضت خلال تلك الفترة للدمار ، فلم يصل أيّ من إنتاجها من الفخار إلى بلاد الشام آنذاك. ولذلك فإن هذا النوع من الفخار ـ الذي لم يعثر عليه يادين في حاصور ـ لم يتم العثور عليه في أي موضع آخر من بلاد الهلال الخصيب ، لأنه لم يصل إلى هذه المنطقة أصلاً ، وهذا ما ينفي قوله أن حاصور قد دمرت في تلك الفترة.
أما الدليل الذي قدمه يادين للزعم بأن حاصور قد دمرت بالنيران هو موقع المعبد ، ورغم أنه اعترف بأن بقايا السقف الساقط كانت بيضاء إلاّ أنه ذكر أنه وجد رماداً في منطقة المعبد بالقرب من مذبح البخور ، ولم يستطع أن يقدم أي دليل آخر.
وفي دراسةٍ لباحثٍ إسرائيلي هو (إسرائيل فنكلشتاين) بيّن فيها أن الدراسات الأثرية الحديثة أثبتت أن أريحا لم تكن مُحاطة بسورٍ بالمرة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، فترة العصر البرونزي المتأخر. ولم يتم إيجاد أي أثرٍ لأي موقعٍ سكاني في مواقعٍ كثيرة أخرى ورد ذكرها في التوراة ، أي أن دمار المدن الكنعانية لم يكن نتيجة لحملةٍ إحتلالية واحدة بقيادة عسكريٍ واحد (يشوع بن نون) ، بل عملية متواصلة لفترة مائة عام على الأقل تدمّرت خلالها مدن وتجمعات سكنية في المنطقة.
وتؤكد بعض المصادر أن غزو بني إسرائيل لأرضِ كنعان لم يكن كما زعم سفر يشوع بالقتالِ المباشر مع سُكانها الأصليين بل عن طريق "التسلل السلمي" Infiltrate Peacefully أي داخل المناطق غير المأهولة بالسكان أو المناطق التي كان سُكانها متناثرين ، وذلك في الوقت الذي لم تُمارس فيه مصر أي سيطرةٍ حازمة على البلاد. وكان هذا الغزو السلمي أو ما يُسمى بأخذ ملكية الأرض كان متبوعاً بفترة التعزيز عندما استقروا ، ثم دخلت هذه القبائل في صراعٍ مع الكنعانيين.
وكان استقرار الإسرائيليين في أرض كنعان قد أخذَ بالفعل مدةٍ طويلة تميّزت بالإزاحات المتنوعة للبشر. وبناءً على ذلك فإن قصة غزو بلاد كنعان كما وردت في سفر يشوع غير صحيحة ، بل إن يشوع نفسه لم يلعبَ أي دورٍ تاريخي بالنسبة لبني إسرائيل.
وبعد الحرب العالمية الثانية كانت قد ظهرت مدرسة جديدة من علماء الآثار التزمت بقراءة الأدلّة بشكلٍ موضوعي ، ظهر منها "كاثلين كينيون" البريطانية و"أميحاي مازار" الإسرائيلي ، حيث توصلا إلى أن الموجة الثانية من الدمارِ الذي تعرضت له مدن الساحل الكنعاني لم تتم إلاّ عند بداية العصر الحديدي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، وقطعاً لم يكن يشوع هو الفاعل ولا حتى قبائل بني إسرائيل ، وإنما على أيدي أعدائهم الفلسطينيين (أقوام البحر).
وقد اتضح أن الإسرائيليين بعدما خرجوا من سيناء في بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، ظلّوا حوالي القرن من الزمان يقيمون في منطقة سعير الجبلية جنوبي البحر الميت وأن دخولهم فيما بعد لأرض كنعان كان على فترات ومراحل متباعدة. وكانت المناطق التي سكنوها في شرق فلسطين هي المناطق المهجورة والجبلية البعيدة عن ممالك المدن ، حيث ابتنوا لأنفسهم الأكواخ والقرى على سفوح جبال شرق فلسطين بعيداً عن الكنعانيين. وذلك في الوقتِ الذي كان الفلسطينيون فيه قد امتزجوا بأهل كنعان وأخذوا في بناء المدن المحصنة على طول الساحل الغربي.
وفيما يخص هذه القضية بقي أن نُشير إلى السبب الذي مهّد للإسرائيليين لغزو بلاد كنعان والمتمثل في الشقاق والحروب فيما بين الممالك الكنعانية بسبب حكّامها الإقطاعيين المستبدين والذين كان همهم الوحيد هو الحفاظ على سيطرتهم. وكذلك ضعف مصر التي لم تكن قادرة على السيطرةِ التامة على ممتلكاتها في كنعان ، فتركوها على حالِها ، وكان جلّ اهتمامهم فقط هو جمع الجزية على أيدي مأمورين متفسّخين.