-
دخول

عرض كامل الموضوع : كبار صغار


Mira1981
29/08/2007, 23:36
العالم كله قطعة مصران بين دجاجتين كبيرتين ...
ولكل دجاجة في العالم ، قطعة مصران ...

مصران دجاج ، وبئر بترول

لما كنت صغيرا ، كان أبناء القرى ما يزالون يربون دجاجا في بيوتهم . وكانوا إذا جاءهم ضيف كبير ، يذبحون له دجاجة شيخة ، أتت " أيام طمسها " ، وأحيلت إلى التقاعد ، فأصبحت عبئا ثقيلا ، تأكل ولا تجني .
وعالم كعالم الدجاج ،و البغال ، والحمير ، لا قيمة فيه للكائن الحي ، إلا بمقدار ما ينتج ، مع أن أبناء قرانا لم يكونوا قد عرفوا المدنية الغربية . أما الدجاج فقد حظي بنصيب أوفر من نصيب الكائنات الأخرى أ إذ أن العادات قد جعلت من لحمه مأكلا حتى وإن شاخ .
فاحتفاء بالضيف الكبير إذن ، كانوا يذبحون الدجاجة الشيخة ، ويرمون بمصارينها إلى أخواتها المنتجات . فالمنتج يعلف ، ويؤدى له كل تقدير وإكرام . فكن يتهافتن عليها بدون حياء ، كأنها ثروة ضخمة لوالد بخيل مات ولم يقسم الميراث بين أولاده ... وكانت كل واحدة منهما تمسكها بمنقارها من طرف ، وتشد بها . ومن حين إلى آخر ، كانت الواحدة منهما تترك الطرف الذي تمسك به ، وتنقر منافستها في رأسها ، لعلها تجبرها على التخلي عن قطعة المصران ، فتستأثر بها وحدها .
وأنا كنت أتفرج على هذا المشهد ، وأراقب ، لآرى إذا كانت ستستطيع واحدة من الدجاجتين أن تتخلى عن قطعة المصران طوعا . فلم أر شيئا من ذلك . فكانت كل واحدة تقاتل في سبيل الحصول عليها ، كاملة ، كأنها تقاتل عن بئر بترول ، أو منجم نحاس مع أن الدجاجة هي طائر مثل كل الطيور ، لا تستخدم البترول ، ولا تصنع النحاس ، قطعة المصران هي كل عالمها ، ولا تستطيع الارتقاء فوقه ..........

Mira1981
29/08/2007, 23:38
ورقة كدش ، ودولار

لما كنا صغارا في القرية ، كنا نحب تقليد الكبار في أعمالهم ، وتصرفاتهم ، شأن كل صغار الأرض ....
نقلدهم في شق الطرقات ، وصنع السيارات ، و" دق " العملة ، والتجارة ، وكنا جديين . نفتح دكاكين ، " نبيع " فيها كل أنواع الفواكه ، والخضار التي نعرف أسماءها . وفي عالم صغير ، ضيق كالذي عشنا فيه ، ما كنا نعرف الكثير منها ، ولم نكن نسمع بالاستيراد بعد . و إلا لكنا
" عملنا الصفقات " مع دول أفريقية ، لاستحضار فواكه نادرة . ولكننا ما كنا نسمع إلا بفرنسا
" أمنا الحنون " ، وبأمريكا ، وروسيا ، وبريطانيا العظمى . فالدول الافريقية كانت صغيرة ، وضعيفة . والضعيف لا يسمع به أحد .
فقرون الوزال ، كانت لوبياء ، وأوراق التوت والكرمة ، كانت خسا ، وهندباء ، ونوى المشمش ، كانت بندورة .
وكنا نشق طرقات تربط دكاكيننا في " المناطق الزراعية " . وكم قامت بيننا مشاحنات ، وخلافات ، ومفاوضات ، بسبب شق الطرقات . فهذا يريد أن تمر الطريق من قدام دكانه . وذاك يقيم الدنيا ويقعدها إذا " أكلت " الطريق أرضه فيأتي دور الوساطات ، والمداخلات مع زعمائنا المتنفذين ، لتحوير الطرقات .
والزعيم كان أقوانا ساعدا . وكانت أحلافنا مقسمة وفقا للعائلات ، والطبقات الاجتماعية .
وكان عندنا البنك وكان صاحبه أكثر حنكة ودرية .
وعند اشتداد المضاربة بين " الكبار " كان يعلو الصياح ، فيفلس أصحاب الدكاكين الصغيرة . والتاجر الماهر ، هو الذي يعين سعرا لبضاعته ، مرتفعا ، ويبيع في الخفاء ، بسعر متدن ، ويطلب من زبائنه الا يبوحوا بالسر ، كان يخشى أن " تدري يساره بما صنعت يمينه " .
والذكي ، هو الذي " يخترع " اسم صنف جديد من الفواكه ، والخضار لا يعرفه زملائه . فهذا كان يتحكم بالزبائن ، لأنه يبيع بضاعة نادرة . فكنا ندفع له أسعارا مغرية ، ونكدس مشترياتنا ، خوفا من ان تنفذ البضاعة من السوق . وكان صاحبنا يبيعنا وهو جزل ، فرحان ، يروح ويجيء " معجوقا " ، وليس بدون خيلاء . وبعد أن " ينفق " بضاعته ، كان يحلس يعد دراهمه من ورق " الكدش " ويذهب فيودعها البنك .
وكنا في كل ذلك جديين ، كأننا نتعامل بالدولار ، أو بالمارك ، أو بالذهب .
ولكن لحسن الحظ ، لم تكن دراهمنا إلا أوراق " كدش " . و إلا قد فقدنا سعادتنا ، صغارا .

Mira1981
29/08/2007, 23:38
مقدرة الكلاب وعفوها

لما كنت صغيرا ، كان أبناء قريتي ما يزالون يربون كلابا . فالرعاة منهم ، يربون كلابا شرسة ، لحماية قطعانهم . ويطعمونها في صغرها شحما وصوفا محروقا ، لتزداد شراسة ، كما يقولون . وهواة الصيد يقتنون كلابا سلوقية ، يحرمون عليها لحم الطيور في صغرها ، حتى لا تأكل الطرائد في كبرها . إنها تربية صارمة ، كتربية أولاد لا يريد أهلهم أن يروهم يمدون أيديهم إلى أموال الآخرين .
وكان والدي يعهد إلينا بتربية الكلب وتدريبه ، لأن المدرب والمربى يعطيان من ذاتهما . والصغير لا يملك إلا البراءة والبساطة . وكنا ، نحن الصغار نفرح لذلك .
ولكن والدي رغم محبته لكلبه ، وتعلقه به ، كان يحقره . فيطعمه من فضلات البيت . و فضلات عائلة قروية فقيرة ، حيث لا يتعدى بعض الكسر اليابسة وقليلا من الطعام الزائد . ويفرش له في الليل كيسا ممزقا لا يصلح لشيئ .
تختلف معاملتنا للكلب عن الغربيين ، الذين يقدمون له أحسن الطعام ، ويكون لهم غرف مخصصة للنوم ، حيث أنهم لا يعاملون الكلاب ككلاب ، بل كما يعامل الآدميون .
انهم يقصرون عدد أولادهم على واحد أو أثنين . فيتسنى لهم أن يقوموا بواجباتهم كاملة تجاه كلابهم العزيزة . ومنهم من يحرم نفسه انجاب الأولاد اطلاقا ، حتى لا تتوزع عاطفته بين الكلب والولد . ناهيك عن المقابر الفخمة التي يخصصونها لكلابهم . لأنه لا يجوز أن تطرح جثة الكلب ، بعد موته ، كما تطرح النفايات ز
ويجب أن أقر بكل تواضع ، بأن والدي لم يبلغ هذا المبلغ من الحضارة والرقي . ولكنه كان يحب كلبه " راكس " ، ويصعب عليه أن يعيره إلى أحد أصدقائه في رحلة صيد . شأنه في ذلك شأن كل إنسان يعلق قلبه في مقتنياته .
و" راكس " لفظة لاتينية ، معناها " الملك " . ولكن الاسم ما كان يمنعه من السطو على اخمام الدجاج والاستيلاء على بيضها . انه الملك ، وكان يستغل اسمه ليدخل أحينا إلى " اليوك" فيقلب ابريق الزيت ويشربه . و كم جائتنا شكاوى من نساء القرية عليه . فكانت جدتي تتذمر لكنها لا تستطيع شيئا ، لأن "راكس " عزيز على والدي ، ووالدي يضع كل رصيده لحمايته ، لأنه ماهر في الصيد .
وكان يرافقنا "راكس " إلى الكرم ، وعندما كنا نمر من أمام بيت ضوميط خليل العلم ، كان يهجم كلبه "غضاب " على "راكس " . فيلوذ "راكس " بالفرار .
وأحيانا كان "غضاب " يمر أمام بيتنا فكان " راكس " ينبح عليه اثباتا لوجوده ، وهو يتراجع إلى الوراء . أما " غضاب " فما كان ليعبأ به .
انها كانت بالفعل حماقة منا نحنا الصغار . فمرات كثيرة كان "غضاب " يهجم على " رااكس " وينهشه ، فيصرخ " راكس " صرخة الضعيف القاصر . وحالما تسمع كلاب البلدة صوته كانت تبادر النباح من بعيد ، احتجاجا على اعتداء كلب شرس على كلب سلوقي ، لكن النباح لم يكن إلا تصريحات فارغة ، رفعا للعتب . لقد كانت تدرك ضعفها أمام قوة " غضاب " وأصدقائه .
ولكن يبدو أن " راكس " كان يعرف نقطة ضعف " غضاب " ، فينقلب على ظهره ، ويرفع يديه ورجليه إلى العلاء ، كأنه يطلب الرحمة . فيقف غضاب القوي بجانبه مزمجرا ، تلجمه شهامته عن ممارسة قوته على ضعيف مستسلم يطلب الرحمة .
لم يكن راكس يحمل بطاقة معينة ، ولا ينقل سلاحا خطرا ، ولم يرسل في مهمة سرية . فكل ذنبه أنه سلوقي ضعيف ، اجتاز حمى غضب الجعاري ، برفقتنا من الكرم .
ولكن شهامة غضاب القوي ، كانت تعفو عنه ، عندما كان يستسلم مسترحما.

Mira1981
29/08/2007, 23:41
" سكفة " عساف
وكان يطل عساف بابا على شفق البلدة ، في رأس العتبة ، فيطل العيد معه . وكنا ، نحن الصغار ، ننتظر الاثنين معا ، كما تنتظر العروس مجئ عريسها . فعساف بابا والعيد كانا تؤمين ، فعساف بابا يجلب العيد وأفراحه ،و العيد يأتينا بعساف بابا .
ولكن المفرح_ المؤسف معا ، أننا ما كنا نعرف ساعة مجيئه . لأن التوقيت لم يكن من عالم عساف بابا ، لذلك كنا نزين قلوبنا قبل العيد بثلاثة أيام ، منتظرين اطلالته على الشفق . فحالما يطل عساف بابا ، يطل العيد .
كان عساف بابا يأتي إلأى قريتنا مرتين : قبل العيد بشهرين ، أو أكثر ، وعلى عتبة العيد . يصل في الصباح ويرحل عند المغيب . واحيانا كان يبيت في القرية عند أحد الأصدقاء ، ويرحل في الصباح التالي حاملا في جعبته قياسات مختلفة ، واسرار كثيرة . وهموم يبوح بها أبناء القرية بسهولة ، أمام " غريب " أصبح واحدا من كل بيت . لأن أبناء القرى لم يكونوا قد تمدنوا بعد . فكانوا يقاسمون الغريب طعامهم ، ومعه همومهم وأفراحهم ، حتى تأتي المقاسمة كاملة ، وصادقة .
كان عساف إذن ، اسكافي البلدة . فكان يأتي بدلا من يذهب أبناء القرية إليه . حتى لو كان هناك إضاعة للوقت . فالوقت لم يكن قد تغرب ، ولم يكن قد أصبح من ذهب ، بل كان وسيلة للألتقاء ، ومقاسمة للحياة .
وكان مجيئه لا يقل عن اغراء السوبر ماركت . فمن بحاجة لحذاء ، ومن لا يحتاج ، يوصيه على " مشاية " وخاصة أن العيد آت ،و أن "نق " الأولاد والحاحهم ، لا يرحمان . ولكن المؤسف في هذ الشراء ، أن واحدا من أبناء القرية ما كان يستطيع أن يتفاخر على جاره . فكل الأحذية كانت متشابهة ، ومن مصنع واحد .
ويرحل عساف بابا ، ونبدأ بعد الأيام , وأيدينا على قلوبنا . لأن عساف قد أصبح مثالا في التخلف عن المواعيد ، شأنه في ذلك شأن كل حرفي يلتزم بأعمال تفوق طاقته . فكان يأتينا وقد نسي حذاء أو حذاءين ، أو أكثر ، ويستشهد بالله والقديسين على صدقه . ويعد بارسالها مع أول مسافر . ومرور المسافرين لم يكن نادرا . لكن عساف لم يكن يلتقيهم ... وكانت أمهاتنا يتمنين ألا تصل مشاياته في الشتاء ، لأنها كانت مصابة بالحساسية ضد الماء ... والحساسية ، سواء أكانت نعل الحذاء أم جلد الأنسان ، أم نفسه ، فهي مرض مستعص ، لم يجد لها أطباء العصر دواء ، إلا واحد ، وهو الصدق في المعاملة . لكن الناس ، سبحانه وتعالى ، لايحبون الرخيص . " فكل رخيص غال " . وهذا لنوع يكلف تضحيات غالية .
ولشدة حساسيتها ، أصبحت مشايات عساف ، مضرب مثل في المنطقة . فكل شيء لايخدم طويلا ، نقول فيه : " بيهدي قد سكفة عساف " .
وأحيانا كانت تأتي المشاية ضيقة على رجلنا . ويرى عساف أنها ضيقة ، لأن عين الحرفي دقيقة . ونشعر نحنبضيقها ، ونكتم الازعاج ، وأهلنا يلاحظون صغرها فيسألوننا ، وننكر ذلك ، ويوافق عساف على كذبنا . فنفرح . ومن لايفرح بمن يوافق على كذبه ؟ وعساف كان يفرح أيضا لمعارضة أهلنا ، وتكمشنا بالمشاية . لأن عليه إعادة صنعها بدون زيادة ف الثمن .
وبعد انتظار دام شهرين يأتي عساف ، فبدأ أخي الأكبر يزيح الشعنينة .
وما ان وصل عساف لبيتنا ، ورأى فرحة أخي ، حتى بدأ يسب على زوجته ، لأنها نسيت أن تضب له مشاية أخي الحلوة في جعبته .
وفي اليوم التالي ، كان عيد الشعانين حزينا في بيتنا لأن عساف بابا لم يجلب معه بهجة العيد إلى أخي .

Mira1981
29/08/2007, 23:42
حروب الصغار

لما كنت صغيرا في البلدة ، كنت ورفاقي الصغار نحب تقليد الكبار في كل شيء ، ظنا منا أن ذلك يجعله كبيرا . مع أن العكس يجب أن يكون . ولكن دعوة الكبار إلى التمثل بالصغار ، تستدعي بطولة ، لا يحققها إلا القلائل . أما تقليد الكبار فلا يطلب أية بطولة .
كنا نقلد الكبار في تهريب الدخان ، وشن الحروب . ففي تهريب الدخان ، كنا نقسم أنفسنا ثلاث فئات : المهربون ، والمستهلكون ،و رجال الجمارك . واتفقنا على أن يكون ورق العريش دخانا ، فيبدأ التهريب ، وتبدأ المداهمات . ومعها تبدأ الحيل والتمويهات : لأن تهريب الدخان كتهريب الأفكار ، يطلب تمويها وتضليلا . فهذا يحمل في كيسه قشا أو أوراق تين ، ويمر أمام رجل الجمارك ليخدعه . وكم تكون فرحتنا كبيرة عندما ننجح في تهريب " برتية " الدخان سالمة . ونضلل حماة القانون . وإذا ضبط أحدنا ، كنا نستدرج رجل الجمارك و نرشيه منفردا . لأن الرشوة لا تليق علنا .
أما الحروب فكانت أوسع أفقا . لأن واحدا منا كان قد نزل إلى المدينة يتعلم في مدارسها . ذهب باسم قروي ، وثقافة محدودة ، كثقافتنا ، فرجع إلينا باسم أفرنجي ، وخبرة في التقليد واسعة .
وقد شاهد أفلاما سينمائية ، ورأى الناس المتحضرين ، عندما يقررون القتال ، لا يتقاتلون مثل الهمجيين المتخلفين . بالفراعة والعصا والسكين ، وإنما بالبندقية والمدفع والطائرة ، وتدليلا منهم على إيمانهم بالله ، وحفاظا على كرامة الإنسان وحياته ، يصحبون معهم إلى المعارك كهنة ، يصلون على الجنود قبل القتال وبعده . ويتبعهم إلى ساحة المعركة ، جهاز إنساني ، يجمع القتلى والجرحى . لأنه لا يليق بالمتمدن أن يترك ، في العراء إنسانا بعد أن يقتله . لأن ذلك يعد همجية كبيرة .
كنا نقسم أنفسنا إلى فريقين اثنين ، تتبعهما فرقة أنقاذ ، وحكم . ويقف الفريق الأول في الأعلى ، والفريق الثاني ، في وسطه ، على رمية حجر من أعلى إلى أسفل ، لأن رمي الحجر من أعلى إلى أسفل ، سهل كرمي الاحكام ، والعظات ، والتوجيهات ، يسهل قذفها من فوق إلى تحت . لذلك كان الفريق الثاني يختار موقعا ليستطيع أن ينال الفريق الأول بحجارته . وكان يتقدم تحت رشقات الحجارة ليحتل موقع الفريق الأول .
وتبدأ المعركة : حجارة من فوق وحجارة من تحت ، وصياح يملأ المكان .... وعندما يصاب أحدنا أصابة بالغة ، كانت صفارة الحكم تعلن الهدنة ،ريثما يتسنى لفرقة الأنقاذ أن تدخل حقل المعركة ، وتسحب " القتيل " أو الجريح . وكنا قد أولينا الحكم سلطانا ، يمنع به أي فريق من التقدم أثناء وقف القتال . وإذا تقدم تفكس اللعبة .
وبعد ذلك نرجع فرحين وكأن شيئا لم يكن ، رغم الدماء التي تسيل من جبهة الواحد .
فتقليد الكبار يولد فخرا واعتزازا ، حتى وإن كان يدمي ، ويشقي .

Mira1981
29/08/2007, 23:44
زواج الصغار ، وقضاؤهم

ومن الأمور التي قلدنا بها الكبار : الزواج و القضاء ، ولقد برعنا في الزواج أكثر من القضاء ، لأن تقليد الزواج أسهل بكثير من تقليد القضاء . فقد رأينا زواجات كثيرة ، بينما القضاء لم نشهد قط . بل سمعنا الكبار يرددون عنه في بعض النوادر ، ويحكون عن بعض الأحكام والمرافعات ، بقدسية وإكبار .
في الزواج ، كنا نختار كوخا أو بيتا مهجورا ، لا تصل إليه عيون الكبار . فالكبار يحبون البيوت الفخمة ، ويحنون إلى القصور .
نجتمع في البيت ونجلس العريس و العروس على حجرين اثنين متحاذيين . فالصغير يسعد على حجر تحت رأسه ، أو تحت قفاه ، ولا يطلب أكثر . وبجنبهما يجلس أشبين و أشبينة ، يشهدان على " صحة" الزواج . ولكن هذه الشهادة ما كانت تفيد شيئا ، لأن الزواج ما كان يدوم طويلا : ساعة ، أو ساعتين على الأكثر . وبعد ساعة تطرد العروس عريسها ، أو العكس ، ويأخذ مكانه عريس آخر . فكنا بذلك نقلد الغرب المتحضر و لا ندري ، ونظن أنفسنا نقلد الشرق المتخلف الذي مازال يؤمن بديمومة الزواج .
ولم نكن نرى في ذلك مغبة . ولم المغبة ؟ فبعد ساعتين من الجلوس معا على حجرين متلازمين ، كان يضجر الواحد من الآخر ، فيطلب التغيير . وتغيير الوجوه مستحب في عالم الصغار ، وخاصة أن مفهوم الالتزام غائب ، ومعنى المسؤولية غير موجود .
و يبدأ العرس من جديد بموافقة الحاضرين جميعا ، ووسط زغاريدهم . والحاضرون يوافقون ، ولا يحتج واحد منهم ، لأنهم كلهم متشابهون ، صغارا وليس فيهم من يسن قانونا يلزم الجميع . والصغار لا يحبون القوانين التي تقيد وتلزم . فيلبس كاهننا ، مرة ثانية ، فستان جدته الأسود ، ويربطه من جديد ، على وسطه بخيط من القنب ، ليرفعه عن الأرض ، فيغطيه حتى أخمص قدميه . ويأخذ واحدا من كتبنا العتيقة ويسأل العريس :
- " يا يوسف ، أتريد حنة زوجة لك ؟ " .
فيجيب يوسف " نعم ! " .
ثم يسأل العروس :
- " يا حنة ، أتريدين يوسف زوجا لك ؟ "
فتجيب بحياء ، وخفر : " نعم ! " .
فيعلو صياحنا ، ويزغرد أقوانا صوتا . ونهتف كلنا بصوت واحد : " صارت لك يا عريسنا صارت لك " .وتبدأ التهاني ، وتقديم النقوط : خرنوبا وتينا جافا ... وترش العروس علينا التراب ، كما تنثر بعض العرائس على الحضور ملبسا أو فرنكات معدنية ، وهي في طريقها من الكنيسة إلى البيت . لأن العروسين لم يكونا يعرفان بعد بهذه " البدعة " التي يسمونها شهر العسل في الأوتيل ، كأنهما يرتكبان عملا مشينا . بل كانا يرجعان إلى بيتهما الزوجي ، فيشهد حبهما الأول ، ويفرح بهما أهلهما . وكنا نتلقى التراب على رؤوسنا بفرح يوازي فرح الكبار بالفرنكات ، ويزيده ، لأن الاتساخ بالتراب يغسل . أما الاتساخ بالفرنكات فلا يغسل .
وكانت العروس تعرض جهازها المؤلف من خرق حمراء ، وصفراء ، ومن أقراط نبات العليق الذي نسميه " حلق الست " . وكانت واحدة من رفيقاتها تمثل دور العجوز ، فتجلس بقرب الجهاز وتقلبه من حين لآخر ، متباهية به ، والعروس التي لا تعرض جهازها كنا نعدها فقيرة ، أو بخيلة الأهل .
أما القضاء فلم ننجح في تقليده لأننا لأم نشهد محاكمات ومرافعات ، ولم نر قاضيا على القوس . وإنما كنا نعرف أن القاضي يلبس أثناء الحكم ثوبا أكبر منه ....
فكل الناس يفصلون الثياب على حجمهم كما يفعلون مع الديانة ومع صورة الله ، إلا القضاء ورجال الدين ، فيلبسون ثيابا فضفاضة لأن وظيفتهم تقوم بتمييز الحق من الباطل .
لذلك كان القاضي بيننا ، يسرق معطف أحد أقربائه ، ولبادة جده ، ويلبسهما وقت المحاكمة .
ولكن غابا ما كنا نلجأ إلى القضاء ، لأنه في عالم الصغار الأبرياء ، كان ما يزال للمصلحين دور مهم ، وكلمة مسموعة . إلا إذا تدخل الكبار فإنهم يضخمون القضية ويعقدونها ، فيصعب حلها إلا بخلق قضية أكبر منها .
وأذكر خلافا وقع بين اثنين من رفاقنا على بلبل ، فتبلبل الجو . بكى واحدهما ، فسمعت أمه بكاءه ، فانتصرت له ، وبدـ " تنشر " ابن جيرانها وأمه ، فردت عليها جارتها من العيار الثقيل . وسمع الزوجان ، فانتفض كل منهما يدافع عن كرامة زوجته ، لأن الكرامة تحتاج إلى شتائم لتنقذها . وتطورت القصة حتى وصلت إلى محكمة الكبار ، وبدأت الواسطات مع زعماء المنطقة .
وفي اليوم التالي رجع رفيقنا إلى اللعب معنا ، بكل بساطة وبراءة . فأطلت واحدة من النسوة وأستدعت ابنها إلى البيت بحجة أنها ستغسله قبل أن يبرد الماء . ويبدو أنها غسلته بكامله ، حتى دماغه ، ولم نعد نرى وجهه بيننا . لأن الماء كان يظل ساخنا في بيت أمه .

Mira1981
29/08/2007, 23:45
وإلى اللقاء مع التتمة