dot
05/09/2007, 17:55
بقلم: محمد الرميحي
يحتار المتابع وهو يلحظ الموقف السياسي السوري في السنوات القليلة الأخيرة، فسوريا ليست بلداً هامشياً ولا يجب أن تكون، كما أن المقامرة باستقرارها لها ثمن باهظ على كل العرب، ربما اكبر من الثمن الذي يدفع الآن في العراق، وقد يصيب قوماً بعيدين كونها قريبة من إسرائيل وتركيا.
سبب الحيرة في الساعة السياسية السورية: أهي ساعة منضبطة التوقيت ودقيقة الاستشعار، أم هي ساعة تستجيب للمؤثرات الخارجية من رطوبة وبلل أو جفاف بشكل عصبي، فتؤخر وتقدم مضللة صاحبها في التوقيت؟
إذا أردنا أن نعرف كيف تسير الساعة السورية علينا أن نلقي نظرة عاجلة على الماضي القريب. فمنذ أن وضعت آخر الحروب العربية الجماعية مع إسرائيل أوزارها بعد السنوات الأولى من السبعينات، تفرقت السبل بين قوى الثقل العربي. مصر أصبح لها مسار نحو التطبيع، ثم تلاها الأردن في وادي عربة وما لبثت أن كرت المسبحة مع دول عربية غير مجاورة لإسرائيل، في إقامة علاقات ودية أو شبه ودية مع إسرائيل التي اطمأنت إلى المقولة الذائعة، أن لا حرب عربية (كبيرة) مع إسرائيل من دون مصر، وهي مقولة يكملها أن لا سلام دائماً ومستقراً من دون سوريا. إلا أن نصف سلام ممكن.
التوقيت هنا مهم، فسوريا بقيت الدولة المجاورة الكبيرة التي لم تُمكن، حتى نستخدم كلمة محايدة، من الوصول إلى سلام، بمعنى عودة أراضي الجولان إليها. من جهة أخرى فالفلسطينيون، وهم الطرف الأكثر حساسية في القضية كلها، يتجهون، أو على الأقل أكثرهم، إلى نوع من السلام، تعثر كثيراً، ولكن أجندته لم تهدأ، ويبدو أن الخريف المقبل سيحمل لأجندة السلام الفلسطينية - الإسرائيلية الكثير من الزخم.
على رغم غوص السياسة السورية في البحيرة اللبنانية والخبرة التي نتجت عن ذلك وهي خبرة غنية، إلا أن الساعة السورية لم تتعرف على التوقيت المناسب للإقدام أو الإحجام هناك، فكان ما كان، من خروج الجيش السوري من لبنان أمام أنظار العالم، وبقيت أصوات لبنانية تستجيب لمصالحها الخاصة في الغالب باللعب على نداء دمشق. إلا أن الساعة السورية هنا أيضا يبدو انه فاتها الضبط في موضوع المحكمة الدولية، فقدمت احدى عقارب الساعة وأخرت أخرى، إلا أن الساعة الدولية تسير بانتظام يقود إلى قيام المحكمة، وما سيخرج منها من معلومات منتظمة ومتدفقة، تشدها الساعة السورية كلما قربت إلى الانتظام وتشغل وقتها باستنزاف.
أحد عباقرة ضبط التوقيت السوري توفي إلى رحمة الله، وقد كان المرحوم حافظ الأسد، فقد قرر أن ينقل البندقية من كتف إلى آخر في الوقت المناسب وبالطريقة المبررة جدا، عندما قبل أن يشترك بجيشه في التحالف الدولي لردع العدوان الصدامي على الكويت، وكان واضحا جليا في الأمر، إلا أن الأهم من ذلك، أن حافظ الأسد رغم اتفاق كامب ديفيد، ووادي عربة، وحرب الفرقاء اللبنانيين، لم يقطع الوصل مع ركن من أركان العمل السياسي العربي والإسلامي، وهو المملكة العربية السعودية، مع ما تمثله من ثقل اقتصادي ودعم توافقي عربي ورمز إسلامي. تلك كانت احدى استراتيجيات حافظ الأسد الثابتة، حتى وصلت إلى أن يصبح المرحوم رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الثابت تقريباً، في معظم سنين التسعينات من القرن الماضي، وهي شراكة واقعية لتعويم لبنان، طبعا من دون تقليل من قدرات الشخص نفسه.
الموقف اليوم في التوقيت السوري كما قلت محير، فالساحة المحيطة تقول انه لا حرب ممكنة وواقعية وقادرة على رد الأرض السورية من إسرائيل، مهما قيل عن الحرب، فإنها مع احتمال خراب جزئي لإسرائيل، إلا أنها مخاطرة غير محسوبة لسوريا. لم يعد إمكان تدفق الأسلحة كما كان إبان الحرب الباردة، ولم تعد الساحة القانونية الدولية قابلة حتى لأخذ مكان ما محايد. فوق ذلك كله فإن العسكرية الإسرائيلية سوف تعشق اشتباكاً كهذا، لأنها حرب جيش في مقابل جيش، وسلاح في مقابل سلاح، وهو مكان تفوقها التاريخي. بل إن مثل هذا السيناريو قد يدفع به صقور تل أبيب من اجل انتشال ما لحق ببعض قوتهم في حرب الصيف الماضي، حيث قابل الجيش الإسرائيلي ميليشيا ذائبة وسط بحر من المدنيين.
إذا استبعدنا ذلك، فإن المراهنة على خراب العراق ليست واردة، وان وردت واستطال وقتها فهي ليست بعيدة عن الإضرار المحتم بمصالح دمشق الاستراتيجية. وفي التاريخ الحديث، أي منذ نشوء الدولة في كل من بغداد ودمشق، شهد تاريخهما انه إذا عطست بغداد تدثرت دمشق باللحاف الثقيل، فهناك نسيج اجتماعي وبشري واقتصادي عميق ومتجذر بين الاثنين، تكفي الإشارة إلى تدفق عدد ضخم من العراقيين اليوم على الشام، وأي فوضى شاملة في العراق ستطال الداخل السوري.
الديبلوماسية الدمشقية لها حضور في مكانين اليوم، حلفاء لهم ذراع عسكري في لبنان، وعلاقة حميمية مع طهران. وكلاهما يواجهان صعوبات منذ ثلاث سنوات على الأقل، اغتيال رفيق الحريري وما تلاه في لبنان، واختبار احمدي نجاد وما تبعه في إيران. هنا التوقيت له حساب، فأي اضطراب شديد في لبنان أكثر مما هو قائم، كقيام حرب أهلية مثلا، لن يعيد التوقيت إلى الوراء، أي بدعوة سوريا للفصل بين الخصوم والبقاء من جديد لفترة في ربوع لبنان. الخيار المحتمل، لو حدث هذا الصدع اللبناني، ان التدخل سيتحول إلى قوات تحالف دولي، مسنود بقرارات واضحة من مجلس الأمن، خاصة أن طلائع التحالف الدولي موجودة اليوم في جنوب لبنان ومؤهلة أن تستقبل عددا اكبر وبوسائلها الخاصة البحرية منها والبرية من القوات الدولية، فلم يعد لبنان ساحة إقليمية، بل أصبحت دولية، يتوافق عليها المعسكر الغربي بكل ألوان الطيف السياسي الذي يمثله، العشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومتراً، وهي مساحة لبنان مكان لاختبار قوة العالم الجديد الذي يتشكل.
بالنسبة لطهران الأمر مختلف، فالضغوط التي تواجهها طهران في الداخل، خاصة الاقتصادية والسياسية، ليست هينة، فهي تنوء تحت طائلة المقاطعة الدولية من جهة، والعوز الاقتصادي من جهة أخرى، مما يتيح للقوى المعارضة من داخل النظام زيادة وتيرة التساؤلات ورفع حواجز الاحتجاج وتسخين الوضع الداخلي، وهو أمر يستطيع أي متابع أن يلحظه كما قال هاشمي رفسنجاني بديبلوماسية إن "إيران تواجه وضعاً خاصاً"، كما أن قدرتها التقنية مبالغ فيها إلى حد كبير، فهي تستطيع أن تقدم شيئا من الدعم المالي ولفترة محدودة، وليس هناك خطأ أكبر من ضبط الساعة الدمشقية على التطورات في طهران.
أمام كل ما تقدم يحتاج التوقيت السوري إلى مراجعة صادقة، وهي مراجعة تبدأ بالقريبين، وهما مصر والمملكة العربية السعودية، وكانت قمة الرياض فرصة مهمة، فهل تعمل سوريا على تفعيل القمة المقبلة التي وافقت على عقدها في دمشق حثاً على ضبط التوقيت السوري؟ هل تصبح فرصة لإعادة ضبط الساعة السورية على التوقيت العالمي، أم تُرى أن الخلل في الساعة أصبح مزمناً؟
المصدر: الحياة
يحتار المتابع وهو يلحظ الموقف السياسي السوري في السنوات القليلة الأخيرة، فسوريا ليست بلداً هامشياً ولا يجب أن تكون، كما أن المقامرة باستقرارها لها ثمن باهظ على كل العرب، ربما اكبر من الثمن الذي يدفع الآن في العراق، وقد يصيب قوماً بعيدين كونها قريبة من إسرائيل وتركيا.
سبب الحيرة في الساعة السياسية السورية: أهي ساعة منضبطة التوقيت ودقيقة الاستشعار، أم هي ساعة تستجيب للمؤثرات الخارجية من رطوبة وبلل أو جفاف بشكل عصبي، فتؤخر وتقدم مضللة صاحبها في التوقيت؟
إذا أردنا أن نعرف كيف تسير الساعة السورية علينا أن نلقي نظرة عاجلة على الماضي القريب. فمنذ أن وضعت آخر الحروب العربية الجماعية مع إسرائيل أوزارها بعد السنوات الأولى من السبعينات، تفرقت السبل بين قوى الثقل العربي. مصر أصبح لها مسار نحو التطبيع، ثم تلاها الأردن في وادي عربة وما لبثت أن كرت المسبحة مع دول عربية غير مجاورة لإسرائيل، في إقامة علاقات ودية أو شبه ودية مع إسرائيل التي اطمأنت إلى المقولة الذائعة، أن لا حرب عربية (كبيرة) مع إسرائيل من دون مصر، وهي مقولة يكملها أن لا سلام دائماً ومستقراً من دون سوريا. إلا أن نصف سلام ممكن.
التوقيت هنا مهم، فسوريا بقيت الدولة المجاورة الكبيرة التي لم تُمكن، حتى نستخدم كلمة محايدة، من الوصول إلى سلام، بمعنى عودة أراضي الجولان إليها. من جهة أخرى فالفلسطينيون، وهم الطرف الأكثر حساسية في القضية كلها، يتجهون، أو على الأقل أكثرهم، إلى نوع من السلام، تعثر كثيراً، ولكن أجندته لم تهدأ، ويبدو أن الخريف المقبل سيحمل لأجندة السلام الفلسطينية - الإسرائيلية الكثير من الزخم.
على رغم غوص السياسة السورية في البحيرة اللبنانية والخبرة التي نتجت عن ذلك وهي خبرة غنية، إلا أن الساعة السورية لم تتعرف على التوقيت المناسب للإقدام أو الإحجام هناك، فكان ما كان، من خروج الجيش السوري من لبنان أمام أنظار العالم، وبقيت أصوات لبنانية تستجيب لمصالحها الخاصة في الغالب باللعب على نداء دمشق. إلا أن الساعة السورية هنا أيضا يبدو انه فاتها الضبط في موضوع المحكمة الدولية، فقدمت احدى عقارب الساعة وأخرت أخرى، إلا أن الساعة الدولية تسير بانتظام يقود إلى قيام المحكمة، وما سيخرج منها من معلومات منتظمة ومتدفقة، تشدها الساعة السورية كلما قربت إلى الانتظام وتشغل وقتها باستنزاف.
أحد عباقرة ضبط التوقيت السوري توفي إلى رحمة الله، وقد كان المرحوم حافظ الأسد، فقد قرر أن ينقل البندقية من كتف إلى آخر في الوقت المناسب وبالطريقة المبررة جدا، عندما قبل أن يشترك بجيشه في التحالف الدولي لردع العدوان الصدامي على الكويت، وكان واضحا جليا في الأمر، إلا أن الأهم من ذلك، أن حافظ الأسد رغم اتفاق كامب ديفيد، ووادي عربة، وحرب الفرقاء اللبنانيين، لم يقطع الوصل مع ركن من أركان العمل السياسي العربي والإسلامي، وهو المملكة العربية السعودية، مع ما تمثله من ثقل اقتصادي ودعم توافقي عربي ورمز إسلامي. تلك كانت احدى استراتيجيات حافظ الأسد الثابتة، حتى وصلت إلى أن يصبح المرحوم رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان الثابت تقريباً، في معظم سنين التسعينات من القرن الماضي، وهي شراكة واقعية لتعويم لبنان، طبعا من دون تقليل من قدرات الشخص نفسه.
الموقف اليوم في التوقيت السوري كما قلت محير، فالساحة المحيطة تقول انه لا حرب ممكنة وواقعية وقادرة على رد الأرض السورية من إسرائيل، مهما قيل عن الحرب، فإنها مع احتمال خراب جزئي لإسرائيل، إلا أنها مخاطرة غير محسوبة لسوريا. لم يعد إمكان تدفق الأسلحة كما كان إبان الحرب الباردة، ولم تعد الساحة القانونية الدولية قابلة حتى لأخذ مكان ما محايد. فوق ذلك كله فإن العسكرية الإسرائيلية سوف تعشق اشتباكاً كهذا، لأنها حرب جيش في مقابل جيش، وسلاح في مقابل سلاح، وهو مكان تفوقها التاريخي. بل إن مثل هذا السيناريو قد يدفع به صقور تل أبيب من اجل انتشال ما لحق ببعض قوتهم في حرب الصيف الماضي، حيث قابل الجيش الإسرائيلي ميليشيا ذائبة وسط بحر من المدنيين.
إذا استبعدنا ذلك، فإن المراهنة على خراب العراق ليست واردة، وان وردت واستطال وقتها فهي ليست بعيدة عن الإضرار المحتم بمصالح دمشق الاستراتيجية. وفي التاريخ الحديث، أي منذ نشوء الدولة في كل من بغداد ودمشق، شهد تاريخهما انه إذا عطست بغداد تدثرت دمشق باللحاف الثقيل، فهناك نسيج اجتماعي وبشري واقتصادي عميق ومتجذر بين الاثنين، تكفي الإشارة إلى تدفق عدد ضخم من العراقيين اليوم على الشام، وأي فوضى شاملة في العراق ستطال الداخل السوري.
الديبلوماسية الدمشقية لها حضور في مكانين اليوم، حلفاء لهم ذراع عسكري في لبنان، وعلاقة حميمية مع طهران. وكلاهما يواجهان صعوبات منذ ثلاث سنوات على الأقل، اغتيال رفيق الحريري وما تلاه في لبنان، واختبار احمدي نجاد وما تبعه في إيران. هنا التوقيت له حساب، فأي اضطراب شديد في لبنان أكثر مما هو قائم، كقيام حرب أهلية مثلا، لن يعيد التوقيت إلى الوراء، أي بدعوة سوريا للفصل بين الخصوم والبقاء من جديد لفترة في ربوع لبنان. الخيار المحتمل، لو حدث هذا الصدع اللبناني، ان التدخل سيتحول إلى قوات تحالف دولي، مسنود بقرارات واضحة من مجلس الأمن، خاصة أن طلائع التحالف الدولي موجودة اليوم في جنوب لبنان ومؤهلة أن تستقبل عددا اكبر وبوسائلها الخاصة البحرية منها والبرية من القوات الدولية، فلم يعد لبنان ساحة إقليمية، بل أصبحت دولية، يتوافق عليها المعسكر الغربي بكل ألوان الطيف السياسي الذي يمثله، العشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومتراً، وهي مساحة لبنان مكان لاختبار قوة العالم الجديد الذي يتشكل.
بالنسبة لطهران الأمر مختلف، فالضغوط التي تواجهها طهران في الداخل، خاصة الاقتصادية والسياسية، ليست هينة، فهي تنوء تحت طائلة المقاطعة الدولية من جهة، والعوز الاقتصادي من جهة أخرى، مما يتيح للقوى المعارضة من داخل النظام زيادة وتيرة التساؤلات ورفع حواجز الاحتجاج وتسخين الوضع الداخلي، وهو أمر يستطيع أي متابع أن يلحظه كما قال هاشمي رفسنجاني بديبلوماسية إن "إيران تواجه وضعاً خاصاً"، كما أن قدرتها التقنية مبالغ فيها إلى حد كبير، فهي تستطيع أن تقدم شيئا من الدعم المالي ولفترة محدودة، وليس هناك خطأ أكبر من ضبط الساعة الدمشقية على التطورات في طهران.
أمام كل ما تقدم يحتاج التوقيت السوري إلى مراجعة صادقة، وهي مراجعة تبدأ بالقريبين، وهما مصر والمملكة العربية السعودية، وكانت قمة الرياض فرصة مهمة، فهل تعمل سوريا على تفعيل القمة المقبلة التي وافقت على عقدها في دمشق حثاً على ضبط التوقيت السوري؟ هل تصبح فرصة لإعادة ضبط الساعة السورية على التوقيت العالمي، أم تُرى أن الخلل في الساعة أصبح مزمناً؟
المصدر: الحياة