ما بعرف
25/10/2007, 20:34
إلى فلسطين
امجد سمحان
يتمشى بين الكروم البعيدة. يبحث عن قطعة معدن فقدها هنا قبل سبع سنوات. «كانت عزيزة علي»، يقول بعد ساعة واحدة من خروجه من السجن. ساعة كانت كافية لتعيد إليه ذكرياته كلها وقد افتقدها داخل الزنزانة: «كانت موحشة، وضيقة، وكريهة الرائحة».
يعتقد أن ذكرياته كلها محفورة على تلك القطعة التي لم تكن تفارق يده إلى أن هرب ذات مرة من الجيش الإسرائيلي عندما أراد اعتقاله فأسقطها في أحد الحقول المجاورة. ما أن خرج «وصحوت من غيبوبتي»، حتى بدأ يبحث عنها: «علها تعيد إلي الحظ الذي كانت تجلبه، وأجد فيها ذكرياتي التي غابت عني في الزنزانة. لكني أخاف من أن أجد القطعة، ويكون قد أكلها الصدأ، كما ذكرياتي. لذا، أتمنى ضمنياً ألا أجدها حتى أظل أبحث عنها ويبقى لدي أمل بسلامتها، على عكس ذكرياتي التي لوثها الجلاد، وماضيّ، وحياتي التي سرقتها مني سنوات الزنزانة».
لرفيق من اسمه نصيب. تلهّى عن أهله وذويه عند خروجه من سجنه، إذ توجّه فوراً إلى بيوت أمهات الأسرى في قريته وأوصل لهن الرسائل والأمانات من أولادهن القابعين في الأسر. فهو لطالما أحس بحاجته الماسّة لأمه، وأرسل لها الهدايا، لكنها كلها لم تكن تصلها: «كان السجّان يعاقبني بذلك، ويحرمني من رؤية أمي طيلة فترة سجني، بعض ممن هرّبت أغراضهم في حقيبتي هم حالياً معاقبون، أحاول أن أبعث فيهم القليل من الأمل من خلال إيصال رسائلهم إلى أهلهم».
سبع سنوات قضاها في الأسر وكان خلالها معاقباً طيلة هذه الفترة. كان يتنقل بين الزنزانة الإفرادية وبين القسم الأكبر الذي يحتوي 120 شخصاً «بمئة وعشرين نفسية مختلفة كان عليك التعاطي معها».
يظن أن ذكرياته المعلّقة في قطعة المعدن هي التي ستلمه على ذاته في هذه الغربة: «أنا هنا في الحرية أشعر بأني غريب عن كل شيء، أصحو من نومي وأتخيل أني في الأسر فأقوم ببعض الأعمال التي اعتدت القيام بها هناك. لم يفهم عقلي ولا جسدي بعد معنى الحرية».
تحرر رفيق من أسره ضمن آخر دفعة أفرجت عنها قوّات الاحتلال الإسرائيلية في أواخر شهر رمضان. وصل هذا الشاب إلى البيت صائماً، وظل طيلة يوم خروجه صائماً، ولم يتناول ولو «لقمة واحدة». وقبل خروجه بثمانية أيام، كان يعيش فقط على الماء والخبز: «كيف يمكن أن تفكر في الأكل أو الشرب، بعد أن يقولوا لك إنهم سيخرجونك من السجن، ثم يأتي ضابط إسرائيلي ويقول لك: شطبنا اسمك من قائمة المطلق سراحهم! وبعد أن تعيش أنت في كراهية تامة لذاتك وللعالم الذي تراه يقف بعيداً عنك، يعود الضابط ويقول لك: لم نشطبك سنخرجك. فتعود إليك الهمّة، ثم يعود السجّان ليلعب بأعصابك. وقبل خروجك بساعة، يرسلك إلى زنزانة ضيقة تكاد لا تتسع لجسدك، ويقول لك إنك لن تخرج، وستبقى هنا.
تفقد الحياة معناها وتصير جسداً فارغاً تهيم فيه بقايا روحك. ثم يعيدونك إلى غرفتك الرطبة، ويقولون لك: سنخرجك، لا تقلق. ويرسلونك إلى الحافلة، ويقولون لك إنك ستصبح حراً بعد ساعات. وبعد لحظات، يكذبون عليك ويقولون لك: لقد تم تنفيذ عملية في القدس وأُلغيت الصفقة. ويعيدونك إلى السجن. في ظل هذا كله، بقيتُ صائماً أتناول الماء المالح والخبز الجاف».
بعد خروجه، لم يشعر رفيق بطعم الحرية، فهو يظل شارداً، ومرهقاً، وتائهاً، ومصدوماً.
لدى خروجه من المعتقل، أفطر رفيق على الخبز الجاف والماء المالح فقط: «أجواء الزنازين ظلت تسيطر علي، وجبروت السجّان لم يفارق مخيلتي. وكلما أتذكر ألاعيبه السخيفة، تكاد روحي تخرج مني». رفيق، وبعدما صحا من حالة «الكوما» التي كان فيها، استوعب أن عليه التخلص من مشاعر الكره التي امتطته، ليعود إلى حب الحياة كي يعيشها: «على الرغم من أن الدنيا تغيّرت وأشكال البشر تغيّرت، وعلى الرغم من أن هذا المكان لم يعد ذاك الذي قضيت فيه طفولتي، سأستعيد الإحساس بنفسي، وبمحيطي، وأعود لحب الحياة، وأتخلص من ملامح الزنزانة التي تحبسني».
حب الحياة الذي يريده رفيق ما زال «حظاً غائباً» في جوف قطعة معدن يبحث عنها. عندما يعثر عليها، ويرى حالها، ويقارنها بحاله، سيقرر مستقبله وخاصة أنه بلا عمل، ولا حياة طبيعية. لكن، لن ينعم له بال إلا بخروج صحبه وأهله الذين غادرهم في الأسر إلى الحرية: «عشت معهم الأيام السجينة بحلوها ومرها، وبهم كنت أعزي نفسي، لقد كنا أهلاً، وما زلنا، وأتمنى أن يخرجوا من السجن قريباً».
وفي ظل حالة «اليأس والغيبوبة والكراهية» التي أصابته نتيجة الوضــع العام في فلسطين، يبحث رفيق الآن في ثلاثة مشــاريع قرر تنفــيذها: «ســـأجد عمــلاً مناســباً، وعلى الأرجــح ســيكون في مجال الخياطة فهي مهنتي القديمــة الـتي حرمتني سنوات السجن من تطويرها، ثم سأبحث عن عروس تناسبني وتناسب حالتي، وبعد ذلك سأعود لمواصلة دراستي الجامعية... لكن همي الوحيد هو ألا أكون قد تأخرت عن هذا كله بعدما صار عمري 34 عاماً».
(فلسطين المحتلة)
امجد سمحان
يتمشى بين الكروم البعيدة. يبحث عن قطعة معدن فقدها هنا قبل سبع سنوات. «كانت عزيزة علي»، يقول بعد ساعة واحدة من خروجه من السجن. ساعة كانت كافية لتعيد إليه ذكرياته كلها وقد افتقدها داخل الزنزانة: «كانت موحشة، وضيقة، وكريهة الرائحة».
يعتقد أن ذكرياته كلها محفورة على تلك القطعة التي لم تكن تفارق يده إلى أن هرب ذات مرة من الجيش الإسرائيلي عندما أراد اعتقاله فأسقطها في أحد الحقول المجاورة. ما أن خرج «وصحوت من غيبوبتي»، حتى بدأ يبحث عنها: «علها تعيد إلي الحظ الذي كانت تجلبه، وأجد فيها ذكرياتي التي غابت عني في الزنزانة. لكني أخاف من أن أجد القطعة، ويكون قد أكلها الصدأ، كما ذكرياتي. لذا، أتمنى ضمنياً ألا أجدها حتى أظل أبحث عنها ويبقى لدي أمل بسلامتها، على عكس ذكرياتي التي لوثها الجلاد، وماضيّ، وحياتي التي سرقتها مني سنوات الزنزانة».
لرفيق من اسمه نصيب. تلهّى عن أهله وذويه عند خروجه من سجنه، إذ توجّه فوراً إلى بيوت أمهات الأسرى في قريته وأوصل لهن الرسائل والأمانات من أولادهن القابعين في الأسر. فهو لطالما أحس بحاجته الماسّة لأمه، وأرسل لها الهدايا، لكنها كلها لم تكن تصلها: «كان السجّان يعاقبني بذلك، ويحرمني من رؤية أمي طيلة فترة سجني، بعض ممن هرّبت أغراضهم في حقيبتي هم حالياً معاقبون، أحاول أن أبعث فيهم القليل من الأمل من خلال إيصال رسائلهم إلى أهلهم».
سبع سنوات قضاها في الأسر وكان خلالها معاقباً طيلة هذه الفترة. كان يتنقل بين الزنزانة الإفرادية وبين القسم الأكبر الذي يحتوي 120 شخصاً «بمئة وعشرين نفسية مختلفة كان عليك التعاطي معها».
يظن أن ذكرياته المعلّقة في قطعة المعدن هي التي ستلمه على ذاته في هذه الغربة: «أنا هنا في الحرية أشعر بأني غريب عن كل شيء، أصحو من نومي وأتخيل أني في الأسر فأقوم ببعض الأعمال التي اعتدت القيام بها هناك. لم يفهم عقلي ولا جسدي بعد معنى الحرية».
تحرر رفيق من أسره ضمن آخر دفعة أفرجت عنها قوّات الاحتلال الإسرائيلية في أواخر شهر رمضان. وصل هذا الشاب إلى البيت صائماً، وظل طيلة يوم خروجه صائماً، ولم يتناول ولو «لقمة واحدة». وقبل خروجه بثمانية أيام، كان يعيش فقط على الماء والخبز: «كيف يمكن أن تفكر في الأكل أو الشرب، بعد أن يقولوا لك إنهم سيخرجونك من السجن، ثم يأتي ضابط إسرائيلي ويقول لك: شطبنا اسمك من قائمة المطلق سراحهم! وبعد أن تعيش أنت في كراهية تامة لذاتك وللعالم الذي تراه يقف بعيداً عنك، يعود الضابط ويقول لك: لم نشطبك سنخرجك. فتعود إليك الهمّة، ثم يعود السجّان ليلعب بأعصابك. وقبل خروجك بساعة، يرسلك إلى زنزانة ضيقة تكاد لا تتسع لجسدك، ويقول لك إنك لن تخرج، وستبقى هنا.
تفقد الحياة معناها وتصير جسداً فارغاً تهيم فيه بقايا روحك. ثم يعيدونك إلى غرفتك الرطبة، ويقولون لك: سنخرجك، لا تقلق. ويرسلونك إلى الحافلة، ويقولون لك إنك ستصبح حراً بعد ساعات. وبعد لحظات، يكذبون عليك ويقولون لك: لقد تم تنفيذ عملية في القدس وأُلغيت الصفقة. ويعيدونك إلى السجن. في ظل هذا كله، بقيتُ صائماً أتناول الماء المالح والخبز الجاف».
بعد خروجه، لم يشعر رفيق بطعم الحرية، فهو يظل شارداً، ومرهقاً، وتائهاً، ومصدوماً.
لدى خروجه من المعتقل، أفطر رفيق على الخبز الجاف والماء المالح فقط: «أجواء الزنازين ظلت تسيطر علي، وجبروت السجّان لم يفارق مخيلتي. وكلما أتذكر ألاعيبه السخيفة، تكاد روحي تخرج مني». رفيق، وبعدما صحا من حالة «الكوما» التي كان فيها، استوعب أن عليه التخلص من مشاعر الكره التي امتطته، ليعود إلى حب الحياة كي يعيشها: «على الرغم من أن الدنيا تغيّرت وأشكال البشر تغيّرت، وعلى الرغم من أن هذا المكان لم يعد ذاك الذي قضيت فيه طفولتي، سأستعيد الإحساس بنفسي، وبمحيطي، وأعود لحب الحياة، وأتخلص من ملامح الزنزانة التي تحبسني».
حب الحياة الذي يريده رفيق ما زال «حظاً غائباً» في جوف قطعة معدن يبحث عنها. عندما يعثر عليها، ويرى حالها، ويقارنها بحاله، سيقرر مستقبله وخاصة أنه بلا عمل، ولا حياة طبيعية. لكن، لن ينعم له بال إلا بخروج صحبه وأهله الذين غادرهم في الأسر إلى الحرية: «عشت معهم الأيام السجينة بحلوها ومرها، وبهم كنت أعزي نفسي، لقد كنا أهلاً، وما زلنا، وأتمنى أن يخرجوا من السجن قريباً».
وفي ظل حالة «اليأس والغيبوبة والكراهية» التي أصابته نتيجة الوضــع العام في فلسطين، يبحث رفيق الآن في ثلاثة مشــاريع قرر تنفــيذها: «ســـأجد عمــلاً مناســباً، وعلى الأرجــح ســيكون في مجال الخياطة فهي مهنتي القديمــة الـتي حرمتني سنوات السجن من تطويرها، ثم سأبحث عن عروس تناسبني وتناسب حالتي، وبعد ذلك سأعود لمواصلة دراستي الجامعية... لكن همي الوحيد هو ألا أكون قد تأخرت عن هذا كله بعدما صار عمري 34 عاماً».
(فلسطين المحتلة)