-
عرض كامل الموضوع : أحمد عبدالمعطي حجازي
verocchio
24/12/2007, 14:47
أحمد عبدالمعطي حجازي (مصر).
ولد عام 1935 بمدينة تلا - محافظة المنوفية - مصر.
حفظ القرآن الكريم, وتدرج في مراحل التعليم حتي حصل على دبلوم دار المعلمين 1955 , ثم حصل على ليسانس الاجتماع من جامعة السوربون الجديدة 1978, ودبلوم الدراسات المعمقة في الأدب العربي 1979 .
عمل مدير تحرير مجلة صباح الخير ثم سافر إلى فرنسا حيث عمل أستاذاً للشعر العربي بجامعاتها ثم عاد إلى القاهرة لينضم إلى أسرة تحرير (الأهرام). ويرأس تحرير مجلة (إبداع).
عضو نقابة الصحفيين المصرية ولجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة, والمنظمة العربية لحقوق الإنسان.
دعي لإلقاء شعره في المهرجانات الأدبية, كما أسهم في العديد من المؤتمرات الأدبية في كثير من العواصم العربية, ويعد من رواد حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر.
دواوينه الشعرية: مدينة بلا قلب 1959 - أوراس 1959 - لم يبق إلا الاعتراف 1965 - مرثية العمر الجميل 1972 - كائنات مملكة الليل 1978 - أشجار الإسمنت 1989 .
مؤلفاته: منها: محمد وهؤلاء - إبراهيم ناجي - خليل مطران - حديث الثلاثاء - الشعر رفيقي - مدن الآخرين - عروبة مصر - أحفاد شوقي.
حصل على جائزة كفافيس اليونانية المصرية 1989 .
ترجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسية والإنجليزية والروسية والإسبانية والإيطالية والألمانية وغيرها.
عنوانه: 95 شارع الحجاز ـ مصر الجديدة ـ القاهرة.
verocchio
24/12/2007, 14:48
سلّة ليمون
سلّة ليمون !
تحت شعاع الشمس المسنون
و الولد ينادي بالصوت المحزون
" عشرون بقرش
" بالقرش الواحد عشرون ! "
***
سلّة ليمون ، غادرت القرية في الفجر
كانت حتّى هذا الوقت الملعون ،
خضراء ، منداة بالطلّ
سابحة في أمواج الظلّ
كانت في غفوتها الخضراء عروس الطير
أوّاه !
من روّعها ؟
أيّ يد جاعت ، قطفتها هذا الفجر !
حملتها في غبش الإصباح
لشوارع مختنقات ، مزدحمات ،
أقدام لا تتوقّف ، سيّارات ؟
تمشي بحريق البنزين !
مسكين !
لا أحد يشمّك يا ليمون !
و الشمس تجفف طلّك يا ليمون !
و الولد الأسمر يجري ، لا يلحق بالسيّارات
عشرون بقرش
" بالقرش الواحد عشرون ! "
***
سلّة ليمون !
تحت شعاع الشمس المسنون
و قعت فيها عيني ،
فتذكّرت القرية !
------
( أواخر 1957)
verocchio
24/12/2007, 14:49
لمن تغنّي ؟ !
من أجل أن تتتفجّر الأرض الحزينة بالغضب ،
و تطلّ من جوف المآذن أغنيات كاللّهب ،
و تضيء في ليل القرى ، ليل القرى كلماتنا ،
ولدت هنا كلماتنا
ولدت هنا في اللّيل يا عود الذرة
يا نجمة مسجونة في خيط ماء
يا ثدي أمّ ، لم يعد فيه لبن
يا أيّها الذي ما زال عند العاشره
لكنّ عينيه تجوّلتا كثيرا في الزمن
يا أيّها الانسان في الريف البعيد
يا من تعاشر أنفسنا بكماء لا تنطق
و تقودها ، و كلاكما يتأمّل الاشياء
و كلاكما تحت السماء ، و نخلة ، و غراب ،
و صدى نداء
يا أيّها الانسان في الريف البعيد
يا من يصمّ السمع عن كلماتنا
أدعوك أن تمشي على كلماتنا بالعين ، لو صادفتنا
كيلا تموت على الورق
أسقط عليها قطرتين من العرق ،
كيلا تموت
فالصوت إن لم يلق أذنا ، ضاع في الصمت الأفق
و مشى على آثاره صوت الغراب !
***
كلماتنا مصلوبة فوق الورق
لمّا تزل طينا ضريرا ، ليس في جنبيه روح
و أنا أريد لها الحياة ،
و أنا أريد لها الحياة على الشفاه
تمضي بها إلى شفه ، فتولد من جديد !
***
يا أيّها الانسان في الريف البعيد !
أدعوك أن تمشي على كلماتنا بالعين ، لو صادفتها ،
أن تقرأ الشوق الملحّ إلى الفرح
شوقا إلى فرح يدوم
فرح يشيع بداخل الأعماق ، يضحك في الضلوع
كي تنبت الأزهار في نفس الجميع
كي لا يحبّ الموت إنسان على هذا الوجود
***
ولدت هنا كلماتنا
لك يا تقاطيع الرجال النائمين على التراب
المائلين على دروب الشمس ، و البط المبرقش ،
و السحاب
فوراء سمرتك الحيّية يلتوي نهر الألم
و بجانب العينين طير ، ناصع الزرقه
مدّ الجناح على اصفرار كالعدم
و هفا ليرتشف الدموع
إنّي أحبّك أيّها الانسان في الريف البعيد !
و إليك جئت ، و في فمي هذا النشيد
يا من تمرّ و لا تقف
عند الذي لم يلق بالا للسكرارى و الستائر و الغرف
و أتى إليك ، إلى فضائك بالنغم
نغم تلوّعفي فؤادي قبلما غنّيت لك
فأنا الذي عالجت نفسي بالهوى ،
كي تخرج الكلمات دافئة الحروف
و أنا الذي هرولت أيامنا بلا مأوى ، بدون رغيف ،
كي تخرج الكلمات راجفة ، مروّعة بكلّ مخيف ،
و أنا ابن ريف
ودّعت أهلي وانتجعت هنا ،
لكنّ قبر أبي بقريتنا هناك ، يحفّه الصبّار
و هناك ، ما زلت لنا في الأفق دار ؟
***
أين الطريق إلى فؤادك أيّها المنفيّ في صمت الحقول
لو أنّني ناي بكفّك تحت صفصافه !
أوراقها في الأفق مروحة ،
خضراء هفهافه
لأخذت سمعك لحظة في هذه الخلوه ،
و تلوت في هذا السكون الشاعري حكاية الدنيا ،
و معارك الانسان ، و الأحزان في الدنيا
ونفضت كلّ النار ، كلّ النار في نفسك
و صنعت من نغمي كلاما واضحا كالشمس
عن حقلنا المفروش للأقدام ،
و متى نقيم العرس ؟
و نودّع الآلام !
------
( أغسطس 1957)
verocchio
24/12/2007, 14:49
الطريق إلى السيّدة
يا عمّ ..
من أين الطريق ؟
أين طريق " السيّدة "؟
- أيمن قليلا ، ثمّ أيسر يا بنيّ
قال ,, و لم ينظر إليّ !
***
و سرت يا ليل المدينة
أرقرق الآه الحزينة
أجرّ ساقي المجهده ،
للسيّدة
بلا نقود ، جائع حتّى العياء ،
بلا رفيق
كأنّني طفل رمته خاطئة
فلم يعره العابرون في الطريق ،
حتّى الرثاء !
***
إلى رفاق السيّده
أجرّ ساقي المجهده
و النور حولي في فرح
قوس قزح
و أحرف مكتوبة نم الضياء
" حاتي الجلاء "
و بعض ريح هيّن ، بدء خريف
تزيح عقصة مغيّمة ،
مهمومة
على كتف
من العقيق و الصدف
تهفهف الثوب الشفيف
و فارس شدّ قواما فارغا ، كالمنتصر
ذراعه ، يرتاح في ذراع أنثى ، كالقمر
و في ذراعي سلّة ، فيها ثياب !
***
و الناس يمضون سراعا ،
لا يحلفون ،
أشباحهم تمضي تباعا ،
لا يتظرون
حتّى إذا مرّ الترام ،
بين الزحام ،
لا يفزعون
لكنّني أخشى الترام
كلّ غريب ههنا يخشى الترام !
و أقبلت سيّارة مجنّحة
كأنّها صدر القدر
تقلّ ناسا يضحكون في صفاء
أسنانهم بيضاء في لون الضياء
رؤوسهم مرنّحة
وجوههم مجلوّة مثل الزهر
كانت بعيدا ، ثمّ مرّت ، واختفت
لعلّها الآن أمام السيّده
و لم أزل أجرّ ساقي المجهده !
***
و الناس حولي ساهمون
لا يعرفون بعضهم .. هذا الكئيب
لعلّه مثلي غريب
أليس مثلي غريب
أليس يعرف الكلام ؟
يقول لي .. حتّى .. سلام !
يا للصديق !
يكاد يلعن الطريق !
ما وجهته ؟
ما قصّته ؟
لو كان في جيبي نقود !
لا . لن أعود
لا لن أعود ثانيا بلا نقود
يا قاهره !
أيا قبابا متخمات قاعده
يا مئذنات ملحده
يا كافره
أنا هنا لا شيء ، كالموتى ، كرؤيا عابره
أجرّ ساقي المجهدة
للسيّده !
للسيّده !
--------
( نوفمبر 1955)
verocchio
24/12/2007, 14:50
كان لي قلب !
على المرآة بعض غبار
و فوق المخدع البالي ، روائح نوم
و مصباح .. صغير النار
و كلّ ملامح الغرفة
كما كانت ، مساء القبلة الأولى
و حتّى الثوب ، حتّى الثوب
و كنت بحافّة المخدع
تردّين انبثاقة نهدك المترع
وراء الثوب
و كنت ترين في عيني حديثا .. كان مجهولا
و تبتسمين في طيبة
و كان وداع ،
جمعت اللّيل في سمتي ،
و لفّقت الوجوم الرحب في صمتي ،
و في صوتي ،
و قلت .. وداع !
و أقسم ، لم أكن صادق
و كان خداع !
و لكنّي قرأت رواية عن شاعر عاشق
أذلّته عشيقته ، فقال .. وداع !
و لكن أنت صدقت !
***
و جاء مساء
و كنت عل الطريق الملتوي أمشي
و قريتنا .. بحضن المغرب الشفقي ،
رؤى أفق
مخادع التلوين و النقش
تنام على مشارفها ظلال نخيل
و مئذنة .. تلوّي ظلّها في صفحة الترعه
رؤى مسحورة تمشي
و كنت أرى عناق الزهر للزهر
و أسمع غمغمات الطير للطير
و أصوات البهائم تختفي في مدخل القرية
و في روائح خصب ،
عبير عناق ،
و رغبة كائنين اثنين أن يلدا
و نازعني إليك حنين
و ناداني إلى عشّك ،
إلى عشّي ،
طريق ضمّ أقدامي ثلاث سنين
و مصباح ينوّر بابك المغلق
و صفصافه
على شبّاكك الحرّان هفهافه
و لكنّي ذكرت حكاية الأمس ،
سمعت الريح يجهشّ في ذرى الصفصاف ،
يقول .. وداع !
***
ملاكي ! طيري الغائب !
حزمت متاعي الخاوي إلى اللّقمة
وفت سنيني العشرين في دربك
و حنّ عليّ ملّاح ، و قال .. أركب !
فألقيت المتاع ، و نمت في المركب
و سبعة أبحر بيني و بين الدار
أواجه ليلي القاسي بلا حبّ ،
و أحسد من لهم أحباب ،
و أمضي .. في فراغ ، بارد ، مهجور
غريب في بلاد تأكل الغرباء
و ذات مساء ،
و عمر وداعنا عامان ،
طرقت نوادي الأصحاب ، لم أعثر على صاحب !
و عدت .. تدعني الأبواب ، و البوّاب ، و الحاجب !
يدحرجني امتداد طريق
طريق مقفر شاحب ،
لآخر مقفر شاحب ،
تقوم على يديه قصور
و كان الحائط العملاق يسحقني ،
و يخنقني
و في عيني ... سؤال طاف يستجدي
خيال صديق ،
تراب صديق
و يصرخ .. إنّني وحدي
و يا مصباح ! مثلك ساهر وحدي
و بعت صديقتي .. بوداع !
***
ملاكي ! طيري الغائب !
تعالي .. قد نجوع هنا ،
و لكنّا هنا اثنان !
و نعرى في الشتاء هنا ،
و لكنّا هنا اثنان
تعالي يا طعام العمر !
ودفء العمر !
تعالي لي !
verocchio
24/12/2007, 14:50
العام السادس عشر
أصدقائي !
نحن قد نغفو قليلا ،
بينما الساعة في الميدان تمضي
ثمّ نصحو .. فاذا الركب يمرّ
و إذا نحن تغيّرنا كثيرا ،
و تركنا عامنا السادس عشر
***
عامي السادس عشر
يوم فتحت على المرأة عيني
يومها .. و اصفرّ لوني
يومها .. درت بدوّامة سحر !
كان حبّي شرفة دكناء أمشي تحتها
لأراها
لم أكن أسمع منها صوتها
إنّما كانت تحيّيني يداها
كان حسبي أن تحيّيني يداها
ثمّ أمضي ، أسهر اللّيل إلى ديوان شعر
" يا فؤادي رحم الله الهوى
كان صرحا من خيال .. فهوى
اسقني ، و أشرب على أطلاله
وارو عيني ، طالما الدمع روى "
كنت أهوى هؤلاء الشعراء
أرتوي من دمعهم كل مساء
اتغنّى معهم بالمستحيل
و بألوان الذبول
و بأوراق الخريف
و هي تعدو في يد الريح إلى غور مخيف
و بطير أسود في اللانهاية
راح يستفتي نواقيس الهداية
باحثا في الأرض عن دود ، و عن رب جديد !
***
كنت أهوى هؤلاء الشعراء
أتسامى فوق غيم نسجوه
أتمطّى في بخور أطلقوه
و أرى الحبّ ... شرودا ، و تهاويم ، و حزنا
و المحبّ الحقّ .. من يهوى و يفنى !
و عميق الحبّ ... حبّ لم يتم
ليقولوا .. يا للحن لم يتم !
***
و ليالي عامي السادس عشر
كان حلمي أن أظلّ اللّيل ساهر
جنب قنينة خمر
تاركا شعري مهدول الخصل
مطلقا فكري في كلّ السبل
أتلقّى الوحي من شيطان شعري
و على خدّي دمعة
و على مكتبي الصامت شمعة
ترسم الظلّ على وجهي الكئيب
و هي تذوي في اللّهيب
بينما التبغة تكوي اصبعي
و حنين غامض في أضلعي
لبحار ، يلعب القرصان فيها !
***
و لكم عذّبني وقت الغروب
لونه الجهم الخصيب
صمته ، سرب الطيور العائده
و الزروع الهاجده
و الثغاء المترامي من بعيد
لشياه راقده
و غصون التوت تمشي في الشفق
عاريات . لا ورق
و نعوش النور تمشي
و هنا كم قلت آه !
كنت أهوى أن أموت
أنتهي في عامي السادس عشر !
***
أصدقائي !
نحن قد نغفو قليلا ،
بينما في الميدان تمضي
ثمّ نصحو ، فاذا الركب يمرّ
و إذا نحن تغيّرنا كثيرا ،
و تركنا الاقبيه
و خرجنا ، نقطع الميدان في كلّ اتّجاه
حيث تسري نشوة الدفء بأكتاف العراه
و عدونا ، نحضن الأطفال في كلّ طريق
و نناغي كلّ حلوة
كسكارى ، أخذتهم بعض نشوة
و بأنشودة نصر
و بلحن مشرق النبره عانقنا الحياه
و بلغنا عامنا التاسع عشر
***
أصدقائي !
ها هي الساعة تمضي
فإذا كنتم صغارا ، فاحلفوا ألاّ تموتوا
واحذروا عامكم السادس عشر !
verocchio
24/12/2007, 14:51
كائنات مملكة الليل
أنا إلهُ الجنسِ والخوفِ..
وآخرُ الذكور
(أظنها التقوى وليس الخوفَ
أو أني أرد الخوف بالذكرى
فأستحضر في الظلمة آبائي
وأستعرض في المرآة أعضائي
وألقي رأسيَ المخمور في
شقشقة الماء الطهور).
تركت مخبئي لألقي نظرة على بلادي
ليس هذا عطشاً للجنس,
إنني أؤدي واجباً مقدساً
وأنتِ لستِ غيرَ رمزي فاتبعيني.
لم يعد من مجد هذه البلاد غير حانةٍ
ولم يبق من الدولة إلا رجل الشرطة
يستعرض في الضوء الأخير
ظله الطويل تارة
وظله القصير!
****
أنسج ظلي حفرة
أنسج ظلي شبكه
أقبع في بؤرتها المُحْلَوْلكه
بعد قليل ينطفي الضوء,
وتمتد خيوط الشبكه
تمسك رِجلَ الملكه!
في الليل كان الصيف نائماً.
لماذا لم نعد نشهد في حديقة الأرملة الشابة زواراً?
لماذا لم تعد تهبُّ في أجسادنا رائحة الفل,
ويمشي عطرها الفاتر في مسامِّنا?!
في الليل
كان الصيف, في حديقةٍ ما, نائماً عريان
كان رائعاً بمعزلٍ عنا
بعيداً كصبي صار في غيبتنا شاباً جميلا
يعبر الآن بنا ولا يرانا
آه !
كان الصيف يملأ الشهور
من غير أن يلمسنا!
تلك عناقيد الندى
ترشح في أرنبة الأنف
وفي تُويْجة النهد الصغير
والجسدُ الورديُّ يستلقي على عشب السرير
والفراشاتُ على الأغصان زهرٌ عالقٌ
وعتمة البستان لون نائم
فأمكنيني منكِ يا مليكتي
إنّ أكُفَّ شجر الصبار برعمت
وكاد الليل ينتهي
وما زلنا نطير!
أنسج ظلي برعما
وكائنات شبقه
أبحث عن مليكتي
في غيمة أو صاعقهْ
أطبع قبلتي على..
خدودها المحترقهْ
منتظراً نهايتي
منتظراً قيامتي
فراشة, أو يرقهْ!
****
آهٍ من الفل الذي يعبق في واجهة الدار
من الضوء الذي يشع كالماسات في مفارق النخل
من الظل الذي يلعق في الماء تجاويف الصخور!
من اليمامات التي تهدل في الذكرى
وتستوحي جمالنا المحجّب الأسير!
من قطرة الماء التي ترشح في آنية الماء
كوجهٍ من نقاءٍ خالصٍ
يطلع في الصمت, وفي الظل القرير
يعشق في المرآة ذاته سويعات الهجير!
آهٍ من الموت الذي يظهر في رابعة النهار لصاً فاتناً
فتخرج النساء ينظرن إليه والهاتٍ..
****
ويعرّين له في وهج الشمس الصدور والنحور!
الليل أنثى في انتظاري.
هذه مدينة عطشى إلى الحب
أشم عطرها كأنه مُواء قطة
أرى رقدتها في اللؤلؤ المنثور
في حدائق الديجور
آهٍ !
كيف صار كل هذا الحسن مهجوراً
وملقى في الطريق العام
يستبيحه الشرطي والزاني!
كأني صرت عِنِّيناً فلم أجب نداءها الحميم المستجير
تلك هي الريح العقور
أحسها تقوم سداً بين كل ذكر وأنثى
إنها السم الذي يسقط بين الأرض والغيم
وبين الدم والوردة
بين الشِّعر والسيف
وبين الله والأمة
بين شهوة الموت
وشهوة الحضور!
verocchio
24/12/2007, 14:52
إلى اللّقاء
( باسم الصديق رجاء النقّاش ..، أبريل 1956 )
-------------
1
يا أصدقاء !
لشدّ ما أخشى نهاية الطريق
وشدّ ما أخشى تحيّة المساء
" إلى اللّقاء "
أليمة " إلى اللّقاء " و " اصبحوا بخير ! "
و كلّ ألفاظ الوداع مرّه
و الموت مرّ
و كلّ شيء يسرق الإنسان من إنسان !
2
شوارع المدينة الكبيره
قيعان نار
يجترّ في الظهيره
ما شربته في الضحى من اللّهيب
يا ويله من لم يصادف غير شمسها
غير البناء و السياج ، و البناء و السياج
غير الربّعات ، و المثلّثات ، و الزجاج
يا ويله من ليلة فضاء
و يوم عطلته
خال من اللّقاء
يا ويله من لم يحب
كلّ الزمان حول قلبه شتاء !
3
يا أصدقاء !
يا أيّها الأحياء تحت حائط أصمّ
يا جدوة في اللّيل لم تنم
لشدّ ما أخشى نهاية الطريق
أودّ ألاّ ينتهي ،
و لا يضيق
و يفرش الرؤى المخصّله السعيده
أمامنا .. في لا نهاية مديده
كأفق قرية في لحظة الشروق
و الأفق رحب في القرى حنون
و ناعم و قرمزي يحضن البيوت
و تسبح الأشجار فيه كالهوادج المسافره
يا ليتنا هناك !
نسير تحت صمته العميق
و نوره المضبّب الرقيق
جزيرة من الحياه
ينساب دفء زرعها على المياه
و لا تملّ سيرها .. يا أصدقاء !
4
اللّيل في المدينة الكبيره
عيد قصير
النور و الأنعام و الشباب
و السرعة الحمقاء و الشراب
عيد قصير
شيئا .. فشيئا .. يسكت النغم
و يهدأ الرقص و تتعب القدم
و تكنس الرياح كلّ مائدة
فتسقط الزهور
و ترفع الأحزان في أعماقنا رؤسها الصغيره
و ننثني إلى الطريق
صفّان من مسارج مضبّبه
كأنّها عندان قرية مخربه
تنام تحتها الظلال
وقد تمرّ مركبة
ترمي علينا بعض عطرها السجين
و ساعة الميدان من بعيد
دقاتها ترثي المساء
و تلتوي أمامنا مفارق ثلاثة ،
تمتدّ في بطن الظلام و السكون
و تهمسون :
" إلى اللّقاء ! "
***
اللّيل وحده يهون
وداعه يهون فالنهار ذو عيون ،
تجمّع العقد الذي انفرط
لكنّ دربنا طويل
و ربّما جزناه أشهرا و أشهرا معا
لكنّنا يوما سنرفع الشراع
كلّ إلى سبيل
فطهّروا بالحبّ ساعة الوداع !
verocchio
24/12/2007, 14:52
قصّة الأميرة و الفتى الذي يكلّم الماء
أعرفها ، و أعرفه
تلك التي مضت ، و لم تقل له الوداع ، لم تشأ
و ذلك الذي على إبائه اتّكأ
يجاهد الحنين يوقفه
كان الحنين يحرفه
فهو أنا و أنت ، و الذين يحفرون تحت حائط سميك
لتصبح الحياه عشّ حبّ
به رغيف واحد ، و طفلة ضحوك !
***
أعرفها ، و أعرفه
أميرة شرقيّة تهوى الغناء
تهواه لا تحترفه
و تعشق اللّيالي الماسيّة الضياء
- صاحبة السمو أقبلت !
... و يصبح البهو المليء ضفتين
و تهمس الشفاه كلمتين .. كلمتين
- عشقتها هذا المساء شاعر أنيق
- نعم ... فإنّها تضيق بالعشيق
إذا أتى الصباح و هو في ذراعها
و تهمس امرأة
- دولابها يضمّ ألف ثوب
و تهمس امرأه
- و قلبها يضمّ ألف حبّ
- نعم نعم ... فانهات أميره لا تكتفي بحب
و يخفت الحديث ثمّ يهتف المضيف
- يا أصدقاء
صاحبة السمو تبدأ الغناء !
... و يخفت الضياء غير كوّة تنير وجهها
و تبدأ الغناء ... " أوف ! "
" قلبي على طفل بجانب الجدار
لا يملك الرغيف ! "
.. و تلهث الأكفّ .. فلتحيا نصيرة الجياع
ثمّ تدور عينها لتلمح الذي أصابه الكلام
و عندما يرفّ نور الشمس تهمس " الوداع "
و في ذراعها عشيقها الجديد !
***
أعرفها ، و أعرفه
لأنّني كنت كثيرا ما اصادفه
على شجيرة المساء ، قابعا بنصف ثوب
يقول للمساء
" يا أيّها الحزن الأثيري الرحيب !
يا صاحب الغريب
أنا كلام الأرض .. هل أنصت لي ؟ !
أنا ملايين العيون ... هل نظرت لي ؟ !
لي مطلب صغير
أن تصبح الحياة عش حب
به رغيف واحد و طفلة ضحوك ! "
... و في ليالي الخوف طالما رأيته يجول في الطريق
يستقبل الفارّين من وجه الظلام
و يوقد الشموع من كلامه الوديع
ففي كلامه ضياء شمعة لا تنطفيء
و يترك اليدين تمشيان بالدعاء ،
على الرؤوس و الوجوه
و تمسحان ما يسيل من دموع
" الصبح في الطريق
يا أصدقائي ! انّني أراه
فلا تخافوا ... بعد عام يقبل الضياء ! "
و عندما يمشون تمشي فوق خدّيه الدموع
و يفلت الكلام منه ، يفلت الكلام
" هل يقبل الضياء حقّا بعد عام ؟ "
***
ذات مساء كان صاحبي يكلّم المساء
فانساب مقطع مع الرياح ثمّ وشوش الأميره
فقرّبت مرآتها و صفّقت
" يا أيّها الغلام !
بجانب القصر فتى يخاطب الظلام
اذهب اليه ، قل له سيّدتي تريد أن تكلّمك
و لا تقل _ أميرتي "
... ثمّ تهادت نحو شرفة جدرانها زهور
ورددت في الصمت " أوف ! "
قلبي على طفل بجانب الجدار
لا يملك الرغيف ! "
و أقبل الغلام يسبق الفتى
- أميرتي .. سيّدتي ... أتيت به !
- " أهلا و سهلا .... ليلتنا سعيده
ادخل ... تفضّل ".. و انقضى المساء !
.. و في الصباح ساءلته ... " ما الذي رأيت ؟ "
_ " سيّدتي .. إنّي رأيت كلّ خير "
" سيّدتي ... أنا سعيده ! "
قالت له ، و عينها في عينه المسهّده
- " أراك قد عشقتنا ! "
فلم يردّ صاحبي
قالت له : " فما الذي تعطيه لي لو أنّنا عشنا معا ! ؟
فدمّعا
ثمّ أجابها و صوته منغّم حزين
سيّدتي ... أنا فتى فقير
لا أملك الماس و لا الحرير
و أنت في غنى عمّا تضمّ أشهر البحار من لآل
فقلبك الكبير جوهرة
جوهرة نادرة في تاج عصرنا
و لو قضيت عمري الطويل أقطع البحار ،
و أنشر القلاع ،
و أبسط الشباك ، أقبض الشباك
لما وجدت مثلها
لكنّني و جدتها هنا
وجدتها لمّا سمعت لحنك المنساب كالخرير
يبكي لطفل نام جائعا ! "
.. فابتسمت قائلة : " لا أنت شاعر كبير !
يا سيّدي أنا بحاجة إلى أمير
إلى أمير ! "
و انسدّ في السكون باب !!
***
أعرفها ، أعرفه
تلك التي مضت و لم تقل له الوداع .. لم تشأ
و ذلك الذي على إبائه اتّكأ
يجاهد الحنين يوقفه
كان الحنين يجرفه !!
-----------
( ابريل 1957)
verocchio
24/12/2007, 14:53
حب في الظلام
أحبّك ؟ عيني تقول أحبّك
ورنّة صوتي تقول ،
وصمتي الطويل
وكل الرفاق الذين رأوني ، قالوا .. أحب !
وانت إلى الآن لا تعلمين !
***
أحبّك .. حين أزفّ ابتسامي ،
كعابر درب ، يمر لأول مره
وحين أسلّم ، ثم أمر سريعا ،
لأدخل حجره
وحين تقولين لي .. إرو شعرا
فأرويه لا أتلفت ، خوف لقاء العيون
فإن لقاء العيون على الشعر ، يفتح بابا لطير سجين
أخاف عليه إذا صار حرا ،
أخاف عليه إذا حطّ فوق يديك ،
فأقصيته عنهما !
***
ولكنني في المساء أبوح
أسير على ردهات السكينه
وأفتح أبواب صدري ،
وأطلق طيري ،
أناجي ضياء المدينه
إذا ما تراقص تحت الجسور
أقول له .. يا ضياء ، ارو قلبي فإني أحب !
أقول له .. يا أنيس المراكب والراحلين أجب
لماذا يسير المحب وحيدا ؟
لماذا تظل ذراعي تضرب في الشجيرات بغير ذراع ؟!
ويبهرني الضوء والظل حتى ،
أحس كأني بعض ظلال ، وبعض ضياء
أحس كأن المدينة تدخل قلبي
كأن كلاما يقال ، وناسا يسيرون جنبي
فاحكي لهم عن حبيبي
***
حبيبي من الريف جاء
كما جئت يوما ، حبيبي جاء
وألقت بنا الريح في الشطّ جوعى عرايا
فأطعمته قطعة من فؤادي ،
ومشّطت شعره،
جعلت عيوني مرايا
وألبسته حلما ذهبيا ، وقلنا نسير ،
فخير الحياة كثير
ويأخذ دربا ، وآخذ دربا ،
ولكننا في المسا نتلاقى
فانظر وجه حبيبي ،
ولا أتكلم
***
حبيبي من الريف جاء
واحكي لهم عنك حتى ،
ينام على الغرب وجه القمر
ويستوطن الريح قلب الشجر
وحين أعود ، أقول لنفسي
غدا سأقول لها كل شيء !
-----------
مايو ـ 1957م
verocchio
24/12/2007, 14:55
أنا .. والمدينة
هذا أنا ،
وهذه مدينتي ،
عند انتصاف الليل
رحابة الميدان ، والجدران تل
تبين ثم تختفي وراء تلّ
وريقة في الريح دارت ، ثم حطت ، ثم
ضاعت في الدروب ،
ظل يذوب
يمتد ظل
وعين مصباح فضولي ممل
دست على شعاعه لّما مررت
وجاش وجداني بمقطع حزين
بدأته ، ثم سكت
من أنت يا .. من أنت ؟
الحارس الغبيّ لا يعي حكايتي
لقد طردت اليوم
من غرفتي
وصرت ضائعا بدون اسم
هذا أنا ،
وهذه مدينتي !
------------
( يونيو ـ 1957م )
verocchio
24/12/2007, 14:55
بغداد والموت
من قبل أن يذبح ، كان ميتا
يبكي ببغداد زمانا ميّتا
يبحث عن حجابه
عن شاعر ببابه ،
يسمعه .. أنت الفتى
فلا يرى إلا عيونا من لظىّ
تملأ جوف القصر رعبا صامتا
إلا قتيلا ، لم يمت ، ولم يزل
يسأل بغداد .. متى الثأر ، متى ؟
بغداد درب صامت ، وقبّة على ضريح
ذبابة في الصيف ، لا يهزها تيّار ريح
نهر مضت عليه أعوام طوال لم يفض
وأغنيات محزنه ،
الحزن فيها راكد ، لا ينتفض !
وميّت ، هيكل إنسان قديم ،
سيف على صدر الجدار ، خنجر من النضار ،
أردية ملوّنه ،
غطّت ضلوعا من هشيم !
وامرأة تغلق في وجه المساء بابها
نبكي على أخشابه أحبابها
وأوجه منقبات ، لا تبوح
بغداد سور ، ما له باب
بغداد تحت السطح سرداب
الفجر فيه ، في سواد أحرف على الورق
والشمس فيه ، واستدارة الأفق
وشمعة تراقصت من حولها سود الظلال
وسبعة من الرجال
جباههم مجرى عرق
وجوههم معتمات لا تبوح
عيونهم لا تستريح
تنفذ في السرداب ، تعلو .. حيث بغداد تنوح
تمشي على نقش قديم في الخشب
(( عاش العرب))!
. . . . . . .
وأزّ في نهاية السرداب باب
وشدت العيون نحوه ، كأنها حراب
صدى خطى ، أفسد وقعها الكلال
القلب دق
(( النسر حط في دمشق ))
(( عدنان طير لا ينال )) !
***
من قاع حفرتي أغني ، يا أوائل النهار
أحلم كالبذور في الثرى بعيد الاخضرار
وكلما يئست من بعثي ، ومن صدق المدار
ندى ثراي دمع بغداد الانتظار
***
من قاع حفرتي رأيت الشمس تأتي كلّ يوم
تأتي ، ولا ترحم نائما سعيدا طيّ حلم
تأتي ، ولو لم يدعها كف ، ولم يصل فم
تأتي ، فكم طفل مشى ، وكم طوى الثرى هرم
من قاع حفرتي ، سمعت قصتي تطوي البلاد
كالطائر الليلي تبكيني ، وتبذر السهاد
بغداد !
طفلك القتيل ساهر تحت الرماد
منتظر أن تكتبي بالفأس تاريخ المعاد!
***
الموت ليس أن توارى في الثرى
ولا الحياة أن تسير فوقه
الزرع يبدأ الحياة في الثرى
ويبدأ الموت إذا ما شقّه
فامنح هواك للذي يحيا ،
وأعط للتراب ما استباحوا خنقه
فلن تموت يا مسيح ! إنما
على الصليب ينتهي من دّقة !
***
بغداد طفلها على باب الدفاع
لم يغتمض جفناه ، لم يسكن بجنبه ذراع
مرتفع ، وثائر الشعر ، وطلول الجراح
كأنه يخطب في جنوده يوم الصراع
كأنه ما زال هاربا يعاكس الرياح
يا .. يا صلاح !
يا .. يا صلاح !
أطفال بغداد بجانب الجدار يهمسون
رد علينا ! ان صمتك الطويل ، يقطع الصبر الجميل
رد علينا ! ما الذي فعلت في عام الرحيل
يا قائد الثوار ! يا حيران بالحلم النبيل !
هل يجمع العرب الشتات ؟
هل يدفنون قاتلا ، من قبل أن يموت .. مات ؟!
يا .. يا صلاح !
إلى اللقاء ، لن نقول .. الوداع !
***
بغداد ليل ما به نجم
بغداد فجر لاهب جهم
يا أهل بغداد اخرجوا .. لا تتركوه !
بغداد أرض قلب المحراث في دروبها ،
فأنبتت مليون ساق
تزاحمت ، والنوم في عيونها ،
وفي ثيابها روائح الزقاق
تزاحمت ، ما ويله عبد الإله ،
من ثورة القتلى ، ومن ثأر الحياه !
الميّت المسكين يرمي الموت في وجه الجنود
يبحث عن باب النجاه
لا تتركوه !
لا تتركوه !
لا ترجعوا من قصره سود الودوه
سدوا عيونه التي أغلقها دون الصباح
شلّوا يمينه التي كم حفرت حمر الجراح
يا .. يا صلاح
باسم جديد عدت يا شعب العراق
يا أيها الطفل القتيل ، قد بعثت من جديد
يا أهل بغداد اخرجوا .. اليوم عيد
عدوكم ظلّ على باب الدفاع
ظلّ بلا ملامح ، بلا ذراع
ظلّ تعانقه الطيور ، فادفنوه !
------
( سبتمبر ـ 1958)
verocchio
24/12/2007, 14:56
حلم ليلة فارغة
أيتها المقاعد الصامته ..
تحركي .. ليلتنا جديدة ،
لا تشبه الليالي الفائته
ليلتنا واسعة مضيئة
وهذه الجدران
تراجعت لنجمة تدور
لريح صيف ، أقبلت بشهقة الزهور
أحس أن .. زائرا ما ، يقطع الطريق لي ..
وبعد ساعة ، إن لم يجيء
سأترك المكان
بالأمس طائر الغرام زارني ،
جناحه أخضر
أليس حقا ما أقول ؟
جناحه أخضر ،
وبالندى ، جناحه مبلول !
أليس حقا ما أقول ؟
هنا وقف ،
دار على منازل الحي ، ودار وانعطف
تابعته .. كان فؤادي يرتجف
حتى وقف
هنا على الغصن الذي يميل نحونا
وبعد أن مرغ في الأنسام منقاره
واسترجع السر الذي يود إسراره
قال بصوت ، سره أني الوحيد سامعه
(( يا أيها السعيد
عندي كلام لك ،
حملته من منزل بعيد
سيدتي .. صبية ، تسقي الزهور بالنهار
وفي المساء تستريح في جوارها
وجامعوا الثمار حين يتعبون ،
يهوون في ظلّ الجدار
ألم تمرّ من هناك ؟
قلت .. بلى ،
أمر مرتين ، في الضحى ، وفي الغروب !
قال .. رأتك سيدي ، يا أيها السعيد
وابتسمت ، فنهل لمحت ثغرها الجميل يبتسم ؟
قلت .. نعم !
قال .. أقول والكلام سر ؟!
قلت .. تكلم ، انني وحيد
مالي صديق ، غير هذه الكتب
قال .. انتظر غدا !!
***
وبعد صمت لم يطل
الطائر الأخضر طار
الغصن ما زال بسحره يميل
كأنه ما غادر الغصن ، ولا أختفى
كأن نجمة خفيّة تدور
كأنني أحسّ رحلة العصير
وهو يسير في شرايين الزهر
كأنني شجيرة من الشجر
مرّت بها الامطار
فسار في أعماقها حلم الثمر
وانحلّت الأسرار
بعد طفولة طويلة ، بعد انتظار !
***
أيتها المقاعد الصامته
ما زلت صامته !
ما زالت الكتب ،
تلا على الرفوف ، قاحلا بلا زهور !
العالم الجميل فيها ، كومة من السطور !
الليل فيها ، ميت بلا شعور !
لكننا نقطعه بها ،
وعندما نملّها ، تأتي الطيور في المنام
هامسة .. غدا ، غدا !
لكنّ صبحا ينقضي ، ويقبل المساء
ولا ندى .
ولا لقاء !!
عبد الناصر يوليو 1956
فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا
أمر تحت قوس نصر
مع الجماهير التي تعانق السّنى
تشد شعر الشمس ، تلمس السماء
كأنها أسراب طير
تفتّحت أمامها نوافذ الضياء
***
فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا
أزاحم الجموع
أخوض بحرا أسمر المياه
أخوض بحرا من جباه
بحر الحياة ـ ما أشد عمقه ! ـ بحر الحياه
طوفانه يا شعراء سيد مهيب
يمضي فتنحني السدود
ويفتح الضياء ألف كوة عليه
ويطلق البوق النحاسي النشيد
***
فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا
أشاهد الزعيم يجمع العرب .
ويهتف (( الحرية .. العدالة .. السلام
فتلمع الدموع في مقاطع الكلام
وتختفي وراءه الحوائط الحجر
حتى العمودان الرخاميان يضمران ،
والشرفات تختفي ،
وتمحي تعرّجات الزخرف
ليظهر الإنسان فوق قمة المكان ،
ويفتح الكوى لصحبنا
يا شعراء يا مؤرخي الزمان
فلتكتبوا عن شاعر كان هنا
في عهد عبد الناصر العظيم !!
-----------
(نوفمبر 1957)
verocchio
24/12/2007, 14:57
ميلاد الكلمات
كلمة !
اخضرت في قلب الظلمه
وأضاءت أرواح الشعراء
كلمه !
زرعتها شفتي ذات مساء
أحببت العالم ذات مساء ، مخنوق الأضواء
لما كان الشارع ليلا ، عرشا للحراس
وعلى البعد مدافن ، كانت تطوي خطو الناس
والكلب يفتش عن لقمه ،
وأنا أبحث تحت الشرفات عن البسمه !
لم يعثر ، وأنا لم أعثر ،
فرجعنا ! نبح الكلب ، وضمّتنا الطرقات
واجهنا الجدران الجهمه
واجهنا أسوارا .. أسلاكا ،
واجهنا أشواكا ،
ورأيت أسيرا ، قسماتي ، قسماتك في وجهه
قسمات الكل ارتسمت في وجهه
ومشت أحذية الحراس ،
كمطارق تملأ إحساسي
تدفعني في قلب الظلمه
تدفعني حتى انهرت ، ركعت
تحت النجمه
قبّلت الأرض ، وتمتمت حروفا
يا أرض استمعي لحروفي
حرفا ، حرفا .. زرعت شفتي الكلمه
ورواها دمعي ، فاخضرّت حرفا ، حرفا
ورأيت البرعم يبزغ مرتجفا
كتبت أوراق البرعم ما تمتمت بأذن الأرض
كلمة (( إنسان ))!
يا للروعه!
الكلمة تنمو بالدمعه
وأخذت الكلمة جنب القلب
قربت الكلمة من شوقي ،
شوق الإنسان إلى الخضرة والحب !
ونما حرف ، عانق حرفا ،
كتب (( الجنّه !))
***
الكلمة تنمو بالدمعه
فليسحقني الألم إذا الكلمة عطشت
كي أسقيها بدل الدمعة عشر دموع
وليزرعها كل شقي مثلي ، عرف الجوع ،
وعذابات الحب الخاسر
ولتمتد جذور الكلمة نحو قرانا ،
نحو قرانا ذات الدمع الوافر
كي تورق في القلب قرانا تلك الكلمات
وليقرأها الرجل الطيب
ولتنضج ، ولتصبح رايات
تتقدم خطوات الإنسان ،
ليقيم على الأرض الجنه !
---------
سبتمبر 1957
verocchio
24/12/2007, 14:57
مذبحة القلعة
الدجى يحضن أسوار المدينة
و سحابات رزينه
خرقتها مئذنة ....
و رياح واهنة
ورذاذ ، و بقايا من شتاء
***
.... و تلاشى الصمت في وقع حوافر
و ترامى الصوت من تلّ لآخر
في المقطّم
و بدا في الظلمة الدكناء فارس
يتقدّم .. !
و بدا في البرج حارس
و جهة في المشغل الراقص أقتم
متجهّم !
ثمّ نّت في فراغ البرج صيحه
ثمّ دار الباب في صوت شديد
باب قلعة
فيه آثار و ماء و صدأ
و اختفى الفارس في أنحائها ،
صاعدا يحمل " للباشا " النبأ
" المماليك جميعا في المدينة ! "
***
ثمّ يمتدّ السكون ،
و الدجى يحضن أسوار المدينة
و سحابات رزينه
خرقتها مئذنه ...
و رياح واهنة
تتلوّى في تجاويف الحواري
حيث ما زال المنادي ،
يتلوّى في الحواري ،
راجفا في الصمت .. " يا أهل المدينة :
في البكور
سوف يمضي جيش " طزسن "
ابن والينا الكبير
للحجاز
لقتال الكافرين الخارجين
عن موالاة أمير المؤمنين
ساكن البسفور ، حامي الأستانه
وطلول شركسية
ودمن ..
ضيعت أنسابها أيدي الزمن
وعفن ،
وبيوت ، وصخور ، وتراب
نام فيها الجوع واسترخى الذباب
وصلاة خافته
وكلاب ، وفراخ ميّته
والحواري ساكته
غير شحاذ يغني للقلوب المؤمنه
ورياح واهنه
تتلوّى في الحواري الحجريه
ثم تمضي في دروب الأزبكيه
في مياه البركة الخضراء تهوي
حيث يبدو قصر مملوك جميل
روع الافرنج في يوم طويل
عندما شدوا الخيول
لتبول
فوق صحن الأزهر المعمور ! لا كانت تعود
عندما شدوا الخيول
وأمين بك
آه هذا الفارس الشهم النبيل
قال : (( هيا يا جنود الله يا أهل المدينه
أنا منكم ودمي من قمحكم،
وجراحي قطرة من جرحكم،
وقراكم موطني . اني غريب
قد رعاني ذلك الوادي الخصيب
فانهضوا وامضوا معي
نغسل العار يكأس مترع
من دمائي ودماكم !))
آه .. ما أروع أصوات الجموع
عندما سارت اليه كالدموع
(( يا أمين بك ! أنت منا وتربيت هنا !
وانبرى بائع أثواب قديمه
قائلا (( هيا بنا !))
.. أوه .. لا كانت تعود !
الدجى ما زال يجتاح المدينه
ونباح من بعيد ،
وزعيق الحارس المقرور يدوي
ورياح الليل تمضي بالهشيم ،
حيث يهوي .
في مياه البركة الخضراء يهوي
ونباح من بعيد ،
من بعد
يختفي .
في الصباح الراجف
وتدق الشمس ابواب المدينه
(( يا كريم .. ))
verocchio
24/12/2007, 14:58
قالها السّقا على بيت قديم
ويموج السوق بالذكر الحكيم
ويحيّي الناس درويش صبوح
تحت يمناه تدّلت مبخره
تنفخ السوق غيوما عاطره
ثم يمضي ويصيح
(( يا كريم ! ))
ومشت في المشربيّات العتاق
ضحكات ناعمات
لجوار حالمات
بحرير ، وعطور ، وانطلاق
وضجيج ونكات .
كل لمحه
كل صيحه
ولو الصيحة فرحه
خلفها حزن عريق
صوت بوق !
ـ (( عسكر الباشا ! )) وينسد الطريق ،
بخليط ،
من بلاد الأرتاؤوط
وبلاد الصرب ، والأتراك .. من كل البلاد
ـ (( وسعوا يا ناس للركب ! )) وينسد الطريق
ويثيرون الغبار
عالم يركب بغله
تتهادى في وقار
نقلة في إثر نقله
تقصد القلعة للمحتفلين
والمماليك بدوا فوق الخيول العربيه
بالثياب الموصليّه
والفراء السيبريّه
ببقايا عزّهم .. مثل الشهب
يغصبون الابتسام
ويدارون الغضب
وجموع الناس ترنو وتشير
ـ (( آه يا عيني .. لقد أضحوا يتامى مثلنا ! ))
ـ (( ما لهم في الأمر شيء مثلنا ! ))
وأشار الناس في وجه أمين بك ثم قالوا ،
ـ ((ذلك الوجه القمر
ذلك الشهم النبيل
روّع الافرنج في يوم طويل ! ))
***
وتهادى الركب للقلعة هونا
يصعد التل إلى القلعة هونا
صوت بوق !
ثم رنت في فراغ البرج صيحه
ثم دار الباب في صوت شديد
باب قلعه !
فيه آثار دماء وصدأ
ومضى كل المماليك يغذون الخطى
ويثيرون الصدى
بين أسوار وابراج رهيبة
دخلوا القلعة ثم التفتوا في بعض ريبه
فاذا بالباب يرتد هناك !!!
واذا صوت الجموع
صادر من خلف باب .. من هناك
(( اطلقوا ! ))
قالها قائد جند الارناؤوط
(( اطلقوا !))
فالنار تهوي كالخيوط
كالمطر
زغردات مستريبه
تتردى بين أسوار وأبراج رهيبه
(( آه يا نذل لقد خنت … )) ويهوي كالحجر
ورصاص كالمطر
وجنود الاناؤوط
من قريب وبعيد
من عل .. من تحت .. أيدي اخطبوط !
تطلق النار ، فكم خرّ حصان
ملقيا سيده فوق الدماء
فترش السقطة الجدران دم
وألم
(( آه يا نذل .. )) ويهوي كالحجر
والخيول
حمحمات وصهيل
ترفس الصخر فينطق الشرر
والصّخب
(( أنت محصور فخذها ))
(( لا تفكّر في الهرب))
(( أنت ودعت الحياة! ))
ثم يهوون كسنبل
تحت منجل
(( آه يا ما أصعب الميتة من كف الجبان ! ))
وأمين بك جانب السور وفي يمناه سيفه
هل يفيد السيف .. آه لن يفيد
(( يا مماليك أيا أبهة العصر المجيد
قد مضيتم ! ))
قالها واغرورقت عيناه بالدمع الوئيد
والتقت عيناه في عيني شهيد
ثم يعدو بحصانه ،
يعتلي السور ويرنو فاذا الأرض بعيد
ثم تلقي عينه دمعا على وجه الحصان
في حنان
(( يا حصاني طر بنا ))
وإذا الفارس في السحب عقاب
يتهادى شاهرا في الجو سيفه
معطيا للشمس أنفه
تاركا للريح أطراف الثياب
كإله وثني يتمشى في السحاب
فاذا ما قارب الأرض قفز
والحصان
صار أشلاء على ظهر التلال
(( قد نجا منهم أمين بك يا رجال !))
قالها الناس على ظهر التلال
ومضوا كالدافنين
ثم يمتد السكون
وحصان يهبط القلعة وحده
مطرقا يمضغ في صمت حزين
أغنية في الليل اكتوبر ـ 1957
لو أننا تحت المساء زهرتان ،
عاريتان ،
أحستا بالبرد فجأة ، بنقلة الزمان
فاهتزتا ، ومالتا ،
حتى تلاقى الشوك والندى ،
وغيم الشذى على المكان !
***
الليل يا حبيبتي …
أغنية ،
دافئة المعان ،
رقصة مهرجان ،
تجمع ريح الشرق ، والشمال .. في مكان ،
تثير في كل حياة شوقها لغيرها ،
فتلعق الأرض أصابع الزروع ،
وتحبل الرياح ،
وينعس المنقار في الجناح ،
وينزل المطر !
***
حبيبتي ..
ماذا علينا لو رأى القمر ؟
----------
( ديسمبر1955)
verocchio
24/12/2007, 14:58
مقتل صبي
الموت في الميدان طنّ
الصمت حطّ كالكفن
و أقبلت ذبابة خضراء
جاءت من المقابر الريفيّة الحزينة
ولو لبت جناحها على صبيّ مات في المدينه
فما بكت عليه عين !
***
الموت في الميدان طنّ
العجلات صفّرت ، توقّفت
قالوا : ابن من ؟
و لم يجب أحد
فليس يعرف اسمه هنا سواه !
يا ولداه !
قيلت ، و غاب القائل الحزين ،
و التفت العيون بالعيون ،
و لم يجب أحد
فالناس في المدائن الكبرى عدد
جاء ولد
مات ولد !
الصدر كان قد همد
وارتدّ كفّ عضّ في التراب
و حملقت عينان في ارتعاب
و ظلّتا بغير جفن !
***
قد آن للساق التي تشرّدت أن تستكن !
و عندما ألقوه في سيّارة بيضاء
حامت على مكانه المخضوب بالدماء
ذبابة خضراء !!
---------
( يناير 1958)
اسبيرانزا
25/12/2007, 19:57
هذا المساء يا عزيزتي جميل
لا تسأليني إن أتيت في مساء غدْ
وفي مساء بعد غدْ
ماذا تريد؟
لأنني سأدعي أني نسيت عندكم كتاب
أني نسيت علبة الدخانِ ليلةَ الأحد
أني، نعم أريد. ما الذي أريد
ستلمحين فكريَ الشريد
من خلف عيني حائرا يبحث عن جواب
وأمضغ الأسى، ولا أردٌ
لا توقفيني هكذا،
فقد شبعت وقفة بكل باب
أسأل عن خبزي،
وعن حجبٌِ،
ولا جواب
غير صدي صوتي يضيع في السكون
أرجوكِ قولي لي: استرح!
أو: انتظر!
وابتسمي ابتسامةَ مشجٌعة
لأنني لن أستريَح لو بدا في وجهكِ الضجَر
وإنني أراك سوف تفعلين
أتذكرين؟
ليلة أن كنٌا نسير، ذات ليلة،
وقد تدثٌَر الطريق بالظلام
أنا أكاد أذكر الوقت وأذكر الكلام
لأنها أوَّل مرة نسير وحدنا
وكنت أستطيع أن أقول كجلٌَ شيء
لكنني لست من الذين يتقنون صنعة الغرام
أنا أكاد أذكر الوقت وأذكر الكلام
كنا نسير والطريق مظلم
والناس أشباح تمرّ
تبدو إذا سيَّارة مرت بهم
تمدّ فيهم إصبعين أزرقين من ضياء
وتختفي فيختفون!
أيامَها كنا نعيش في الظلام
كانت سماؤنا بِبومي ينشر الخراب
علي بيوتنا التي بنى سقوفَها العرق
علي حقولنا التي تخضرّ كل فصل
وتفرش الظلال للخرافِ والرعاة
وترضع المساءَ قطرة من الندي،
وخفقة من الورق
أيامها حتى الندي احترق
وقلت في نفسي اعطها يدك
ففي ليالي الحرب تأمن البنات للرجال
وقلت لا، فقد تردّها!
لكنني وددت أن يتوه دربنا
فلا نري خيال دار
ويشربَ الليل الخلودَ كلٌه،
فلا يري النهار
وكان حراس الطريق والجنود يعبرون
وقد تقلصت أكفهم علي السلاح
وكنت أطرد الهواجسَ التي تأتي بفكرة ابتسام
وربَما لولاك ما فكرت أبتسِم
هربت من خواطري
كأنني استيقظت من حلم
ثم استدرت نحو وجهك الذي يفيض بالجمال
والعذاب
وقلت:
هذا المساء يا عزيزتي جميل
الأفق صلبان من الشرر
تقاطعت علي الدجى
والطلقات تنهش السكون
لا تفزعي!
لا تفزعي، نحن معا
نحن معا نخوض في المنون
ولا نموت!
أحسست أنني أحب
أحسست أن إصبعي يفَتٌِت الصخور
وصدري العاري يطيش حوله الرصاص
وفي دقيقةِ يصير لي جناح
أمشي به علي الرياح
إذا شربت جرعة من نبعك النمير
أحسست عندما اقتربنا من طريق منزلك
أن لياليَ السهادِ والغناءِ أقبلتْ!
أني بحاجِة إليك
أني أريد، ما الذي أريد
هربت من خواطري كأنني استيقظت من حلم
ثم التفتح نحو وجهك الذي يفيض بالجمال
والعذاب
وقلت:
هذا المساء يا عزيزتي جميل!
مارس 1957
اسبيرانزا
25/12/2007, 19:59
السجن
لي ليلة فيهِ
وكلّ جيِلنا الشهيد
عاش لياليهِ
فالسجن باب، ليس عنه من محيد!
والسجن ليس دائما سورا، وبابا من حديد
فقد يكون واسعا بلا حدود
كالليل.. كالتيهِ
نظل نعدو في فيافيه
حتى يصيبَنا الهمود؟
وقد يكون السجن جَفنا، قاتم الأهداب نرخيه
وننطوي تحت الجلود
نجتر حلمَ العمرِ في صمتي، ونخفيهِ!
والساق سجن، حين لا تقوي علي غير القعود
يشدها مكانها.. والقلب ترميهِ مراميهِ
لعالم يعطي المني، ولا يزيد!
وأن نعيشَ دون حجبٌ، دونَ إنسانِ ودود
نغلِق أبوابَ البيوتِ خلفنا
لأن أرضا لا تضمّ أهلَنا ليست لنا
والوجه إن لم يحتفل بنا،
بدا مسطحا.. بلا خدود
ضاعت معانيِه
فلم يعد فيهِ
باب يقودنا لدفئه البعيد!
مِنْ أين آتيهِ
حبي الوحيد
من أين آتيهِ
والليل يغلق الحدود!
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:01
فبراير الحزين
قلنا انتهى.. فلن يعود
اغتاله سبتمبر الماضي علي أبوابِنا
فما خرجنا نمنع المسكينَ من أيدي الجنود
لكنه عاد إلينا.. فالزمان
ليس إذن مثلي جبانا
أيها الأخ الجبان!
أين سنخفي حين نلقي وجْهَه وجوهنَا؟
ماذا نقول عندما يسألنا؟
وكلٌ عام حين يأتي.. كلَ عام
ماذا نقول عندما يسألنا؟
وكلٌ عامنا حرام
ومرٌ وجهه الحزين
يرنو إلي أطفالِنا فيجهشون بالبكاء
ويمسحون عن ثيابه مراحل الشتاء
ويتبعون بالعيون سيره إلي دمشق
من يرحم الشهرَ النبيلَ وهو رَاحِل وحيد
بغير جندِ، أو نشيد
بغير أنصاري، وكم غنٌي له الراديو وقال
يا أيها الشهر السعيد!
أين انتهت أصداء أغنيَاتنا
حين أتانا قبل أعوامي قصار
حين تحلقنا عليه مثلَ أطفال صغار
يستطلعون وجهَ مولود جديد!
هل تذكرون يومها ماذا فعلت؟
لقد رقصت
في شارعي لا رقص فيه
إلا لسِكيري تعيسي أو مهرج صفيق
لقد تحديت قوانينَ المرور
وكيف يا علامة حمراء في وجه الطريق
أن توقفي بحرَ السرور؟!
وفي الصباح حين سدت خيلهم بابَ المكان
وجاء يطلب الحصان
أنكرته أنا الجبان
وحين جاء في مساء اليوم يطلب الأمان
هل تذكرين يا دمشق ما فعلت؟
لقد بكيت
واغتاله سبتمبر الماضي أمام منزلي
أنا الجبان!
كيف تركتِهِ وحيدا يا دمشق؟
أنت التي حملته فوقَ السنين
وأين تهربين منه يا دمشق!
مِنْ جرحك الدامي الثخين
لن تتركي أنهاركَ السبعةَ خوفا يا دمشق
منه، من الوجهِ الحزين
فأين منه تهربين؟!
فبراير 1962
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:03
الموت فجأة
حملت رقْمَ هاتفي
واسمي، وعنواني
حتى إذا سقطت فجأة تعرفتم عَلَيٌ
وجاء إخواني!
تصوٌروا لو أنكم لم تحضروا
ماذا يكون؟!
أظلّ في ثلاجة الموتى طِوالَ ليلتين
يهتز سلك الهاتفِ الباردِ في الليل، ويبدأ الرنين
بلا جوابي.. مرة ومرتَيْن!
يذهب إنسان إلي أمي
.. و
ينعاني
أمي تلك المرأة الريفية الحزينة
كيف تسير وحدها في هذه المدينة
تحمل عنواني!
كيف ستقضي ليلَها بجانبي
في الردهِة الشاملة السكينة
تقهرها وحدتها
يريحها انفراجها بحزنها
حيث تظل تستعيد وحدَها
أحزانَها الدفينة
تنسج من دموعها السوداء أكفاني!
يا ليت أمي وشَمتني في اخضرار ساعدي
كيلا أتوه
كيلا أخونَ والدي
كيلا يضيع وجهيَ الأول تحت وجهيَ الثاني!
حين أرى أن الرجالَ والنساءَ يخرجون صامتين
من بعد ما ظلوا أمامي ساعتين، ما تبادلنا النظر
ولا تغيرت أمامنا الصورة
حين أرى أن الحياةَ قد خَلَتْ من الجنون
ورفٌ فوقٌ الكل طائر السكون
أحس أني مِتّ فعلا، واضطجعت صامتا
أرقب هذا العالم الفاني!
1964
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:04
من نشيد الإنشاد
خرجت أطلب في الليل من أحبته نفسي
وضعت وشمي على جبهتي، وضَمَّخت رأسي
قابلني العسس الساري في هواء المدينة
فشق صدري وأبقي قلبي لديه رهينة
بالله يا من ستَلقي
في ذات يوم حبيبي
أخبره أني انتظرت
إلي الصباحِ.. ومِتّ!
1970
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:06
مرثية لاعب سيرك
في العالم المملوءِ أخطاءَ
مطالب وحدكَ ألا تخطئا
لأن جسمكَ النحيلْ
لو مَرة أسرعَ أو أبطأَ
هوي، وغطي الأرضَ أشلاءَ!
في أيٌِ ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ
في هذه الليلة! أو في غيرها من الليال
حين يغيض في مصابيح المكان نورجها وتنطفئ
ويسحب الناسج صياحَهم،
علي مقدمِك المفروش أضواءَ!
حين تلوح مثلَ فارسي يجيل الطرْفَ في مدينته
مودعا. يطلب وجد الناسِ، في صمتي نبيل
ثم تسير نحو أوٌلِ الحبال،
مستقيما مومِئا
وهم يدقون علي إيقاع خطوِك الطبول
ويملأون الملعبَ الواسعَ ضوضاءَ
ثم يقولون: ابتدئ!
في أي ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ!
حين يصير الجسم نهبَ الخوفِ والمغامرة
وتصبح الأقدام والأذرع أحياءَ
تمتد وحدها
وتستعيد من قاع المنون نفسَهَا
كأنَّ حيات تلوتْ،
قططا توحَّشت، سوداءَ بيضاءَ
تعاركتْ وافترقتْ علي محيطِ الدائرة
وأنت تبدي فنَّك المرعبَ الاءَ وألاءَ
تستوقف الناس َ أمامَ اللحظة المدمرة
وأنت في منازل الموت تَلجّج عابثا مجترئا
وأنت تفلت الحبالَ للحيال
تركتَ ملجأ، وما أدركتَ بعد ملجأَ
فيجمد الرعب على الوجوه لذة، وإشفاقا وإصغاءَ
حتى تعود مستقرا هادئا
ترفع كفيك على رأ' الملأ
في أي ليلة تجري يقبع ذلك الخطأ!
ممددا تحتك في الظلمةِ،
يجترٌ انتظارَه الثقيل
كأنه الوحش الخرافي الذي ما روضت كفّج بشر
فهو جميل!
كأنَه الطاووس
جذاب كأفعى،
ورشيق كالنِمر!
وهو جليل!
كالأسد الهادئ ساعةَ ال
خطر
وهو مخاتل
تل، فيبدو نائما
بينا يجعد نفسه لوثبة المستعرة
وهو خفي لا يري
لكنه تحتك يعلك الحجر
منتظرا سقطتكَ المنتظرة
في لحظتي تغفل فيها عن حساب الخطوِ
أو تفقد فيها حكمةَ المبادرة
إذ تعرض الذكري!
تغطي عريَها المفاجئا
وحيدة معتذرة
أو يقف الزهو على رأسكَ طيرا،
شاربا ممتلئا!
منتشيا بالصمتِ، مذهولا عن الأرجوحةِ المنحدرة
حين تدور الدائرة!
تنبض تحتك الحبال مثلما أنبض َ رامي وترَه
تنغرس الصرخة في الليل،
كما طوح لصّ خنجره
حين تدور الدائرة!
يرتبك الضوء علي الجسمِ المهيضِ المرتطم
علي الذراع المتهدل الكسيرِ والقدم
وتبتسم!
كأنَّما عرفتَ أشياء
وصدقتَ النبأْ!
1966
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:07
تعليق علي منظر طبيعي
شمس تسقط في أفقي شتويْ
شمس حمراءْ
والغيم رصاصيٌْ
تنفذ منه حزم الأضواء
وأنا طفل ريفيَ
يدهمني الليل!
كانت سيارتنا تلتهم الخيطَ الإسفلت
الصاعدَ من قريتنا لمدينتنا
حين تمنيتْ
لو أني أقذف نفسي
فوق العشب المبتل!!
شمس تسقط في أفْقي شتويٌ
قصر مسحورْ
بوابة نورْ
تفضي لزماني أسطوريَ
كَفَّ خضبت بالحناء
طاووس يصعد في الجوزاء
بالذيل القزَحٌي المنشورْ!
في الماضي كان الله
يظهر لي حين تغيب الشمسْ
في هيئةِ بتسانَي
يتجول في الأفق الورديَ
ويرش الماءَ علي الدنيا الخضراء
الصورة ماثلة
لكن الطفلَ الرسامْ
طحنته الأيامْ!
1967
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:14
مرثية للعمر الجميل
في ذكري عبدالناصر
ر
هذه آخر الأرض!
لم يبقَ إلا الفراق
سأسوي هنالك قبرا،
وأجعل شاهده مِزقةَ من لوائكَ،
ثم أقول سلاما!
زمن الغزوات مضي، والرفاق
ذهبوا، ورجعنا يتامى
هل سوي زهرتين أضمهما فوق قبرك،
ثم أمزق عن قدمي الوثاق
إنني قد تبعتك من أولِ الحلمِ،
من أول اليأس حتى نهايتهِ،
ووفيت الذماما
ورحلت وراءك من مستحيل إلي مستحيل
لم أكنْ اشتهي أن أري لونَ عينيك،
أو أن أميط اللثاما
كنت أمشي وراء دمي
فأري مدنا تتلألأ مثل البراعم،
حيث يغيم المدى ويضيع الصهيل
والحصونَ تساقط حولي،
أصرخ في الناس! يوم بيومِ،
وقرطبة الملتقي والعناق
آه! هل يخدع الدمج صاحبه
هل تكون الدماء التي عَشقَتْك حراما!
تلك غرناطة سقطت!
ورأيتكَ تسقط دون جراحِ،
كما يسقط النجم دون احتراق!
فحملتك كالطفل بين يدي وهرولت،
أكرم أيامَنا أن تدوس َ عليها الخيول
وتسللت عبر المدينةِ حتى وصلت إلي البحر،
كهلا يسير بجثةِ صاحبهِ،
في ختام السباق!
مَن تجري يحمل الآن عبءَ الهزيمةِ فينا
المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسدِ يرتديه
أم هو الملك المدعي أن حلمَ المغني تجسَّد فيه
هل خدعت بملكك حتى حسبتكَ صاحب المنتظرْ
أم خدعت بأغنيتي،
وانتظرت الذي وعدتْكَ به ثم لم تنتصر
أم خدعنا معا بسرابِ الزمان الجميل؟!
كان بيتي بقرطبة،
والسماء بساط،
وقلبي إبريق خمري،
وبين يدي النجوم
صاح بي صائح: لا تصدٌِق!
ولكنني كنت أضرب أوتارَ قيثارتي،
باحثا عن قراره صوت قديم
لم أكن بالمصدق، أو بالمكذٌِبِ،
كنت أغني، وكان الندامى
يملأون السماء رضا وابتساما!
والسماء صحاري،
وظهر مدينتنا صهوة
والطريق
من القدس للقادسية جد طويِل
قلت لي:
كيف نمضي بغير دليل
قلت:
هاكَ المدينةَ تحتكَ،
فانظر وجوهَ سلاطينها الغابرينَ،
معلقة فوق أبوابها، واتقِ الله فينا!
كنت أحلم حينئذي
كنت في قلعة من قلاع المدينةِ ملقي سجينا
كنت أكتب مظلمة،
وأراقب موكبكَ الذهبيْ
فتأخذني نشوة ، وأمزق مظلمتي،
ثم أكتب فيك قصيدة
آه يا سيدي،
كم عشنا إلي زمن يأخذ القلبَ،
قلنا لك أصنْع كما تشتهي،
وأعدْ للمدينة لؤلؤة العدلِ،
لؤلؤةَ المستحيلِ الفريدة
صاح بي صائح لا تبايعْ!
ولكنني كنت أضرب أوتارَ قيثارتي،
باحثا عن قرارة صوت قديم!
لم أكن أتحدث عن ملِكي،
كنت أبحث عن رجل،
أخبرَ القلب أن بأمته أوشكت،
كيف أعرف أن لدي بايعته المدينة،
ليس الذي وَعَدَتنا السماء؟!
والسماء خلاء
وأهاج المدينةِ غرقي يموتون تحتَ المجاعة
ويصيحون فَوْق المآذن
أن الحوانيتَ مغلقةْ
وصلاة الجماعة
باطلة، والفرنجة قادمة
فالنجاءَ النجاءْ!
ووقفت على شرفات المدينةِ أشهدها،
وهي تشحب بين يديْ كطفل،
ويختلط الرهَج المتصاعد حول مساجِدها
بالبكاء
وأنا العاشق المستحث قوافيَّ من يوم أن وجلِدْتْ،
واستدارت علي جيدِها وسوسات القلادة
تهت فيها، وضاع دليلي
يا تجري هل هو الموت؟
هل هو ميلادها الحق؟
من يستطيع الشهادة
أنا لا!
لم أكن شاهدا أبدا
إنني قاتل أو قتيل!
محتج عشرين موتا،
وأهلكت عشرين عمرا،
وآخيت روح الفصول
تتوارى عصوركم وأظل أغني لمن سوف يأتي،
فترجعك قرطبة وتجوز الشفاعة
صاح بي صائح: أنج أنتَ!
ولكنني كنت في دمِ قرطبة أتمزقْ
عبرَ المخاض الأليم
كنت أضرب أوتار قيثارتي،
باحثا عن قِرارة صوتي قديم
صِحْتَ بي أنتَ..
هل كنتَ أنت؟!
آه! لا تسألوني جوابا،
أنا لم أكن شاهدا أبدا
إنني قاتل أو قتيل
وأنا طالب الدمِ،
طالب لؤلؤةِ المستحيل
كان بيتي بقرطبة
بِعت قيثارتي، ثم جزت المضيق
قاصدا مكة، والطريق
رائِع.. كنت وحدي وكانت بلاد دليلي
وكان محمد فوق المآذن يمسك طرف الهلال
وينير سبيلي
ويوقف خيل الفرنجِة
يمسخها شجرا أخضرا في التلال!
إنني أحلم الآنَ.
بيتي، كان بغرناطة
بعت قيثارتي، واشتريت طعاما
ورحلت إلي بلدي لست أدري اسمها،
جعت فيها
وانضممت لطائفة الفقراء بها،
واتخذت إماما
هل هو الوحي؟
أم أنه الرأي يا سيدي والمكيدة.
هل أمرنا بأن نرفَع السيفَ؟
أم نعطَي الخدْ؟
هل نغصب الملكَ؟ أم نتفرق في الصحراء؟!
ولقيتك، أنتَ الذي قلت لي:
عد لغرناطة، وادع أهل الجزيرةِ أن يتبعوني،
وأحيِ العقيدة!
إنني أحلم الآنَ.
لم تأتِ
بل جاء جيش الفرنجةِ
فاحتملونا إلي البحر نبكي علي الملك.
لا، لست أبكي علي الملك،
لكنْ علي عمر ضائعي لم يكن غيرَ وهمي جميل!
فوداعا هنا يا أميري!
آن لي أن أعودَ لقيثارتي،
وأواصل ملحمتي وعبوري
تلك غرناطة تختفي
ويلف الضباب مآذنَها
وتغطي المياه سفائِنَها
وتعود إلي قبرِكَ الملكي بها،
وأعود إلي قدري ومصيري
من تجري يعلم الآن في أي أرضي أموت؟
وفي أي أرض يكون نشوري؟
إنني ضائع في البلاد
ضائع بين تاريخي المستحيلِ،
وتاريخَي المستعاد
حامل في دمي نكبتي
حامل خطئي وسقوطي
هل تجري أتذكر صوتي القديمَ،
فيبعثني الله من تحت هذا الرماد
أم أغيب كما غبتَ أنتَ،
وتسقط غرناطة في المحيط!
سبتمبر 1971
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:16
غربة
يا مَن يعيدنا إلي بلادنا
بلادنا العميقة الخضرة
نبكي، ولو مرة
من قلبنا!
آيات من سورة اللون
1 إلي الرسام سيف وانلي
يرقد العالم في بلورة يغسلها ماء المطر
ها هي اللحظة تأتي.
أهو اللون، أم الإيقاع ما تصطاده،
أو ربما تسلمه نفسكَ
حتى يغمرَ الموج التجاعيدَ،
ويلهو بصَيْلاتِ الشَّعَرْ!
يهبط اللون
من الياقوتِ
للفضةِ،
لعشبِ،
ويعلو
سلم الصوتِ
فقاقيعَ من الأضواءِ
لا تلبث حتى تنفجر
أهو اللون، أم الإيقاع ما يحملك الآنَ
علي هذا البكاء الفذ؟
أم بعد الصور؟!
يرقد العالم في الزاويةِ الأخرى من المرسمِ
وَعْلا نادرا
ينعم بالألفةِ والدفءِ
ويجترّ الفِكَرْ
تدخل العاشقة الفندقَ في حَزْمِ
وتعطي نهدَها للرجلِ المملوءِ صمتا
قبل أن يدهَمه وقت السفَرْ
ينفر الديك نجيماتِ السَّحَرْ
يرقص البحارة الأغراب في الملهي
ويبكون فرادى
ويعودون زمَرْ
أهوَ اللون الذي كنتَ تراه؟
أهوَ ذات الصوتِ؟
لكنكَ لا تملك أن توقف ركضَ الغيمِ في وجه القمَرْ
فانتظر أن يَرجعَ الصيف
وحاول مرة أخري مع الضوءِ
الذي لا ينتظر
18/1/1974
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:20
إلي الرسام عدلي رزق الله
قطرتانِ من الصحوِ
في قطرتينِ من الظلْ
في قطرة من ندي
قل هو اللون!
في البدء كانَ
وسوف يكون غدا
فاجرح السطحَ
إن غدا مفعَم
ولسوف يسيل الدم!
سنغني لكم أيها السادة الغرباء
غناء رتيبا
على وتري مفردي يتردد بين مداريْهِ
كالقمر العربيٌ
هو الأبيض الأسود، اللؤلؤ المعتم
سنغني أغانيَنا الخضر
لكننا سنفاجئكم بقنابَل موقوتة
كان أسلافنا خبَأوها مع الخبزِ والخمرِ
في خشب المومياتْ
لكي تتفجرَ في غرف الدفْنِ
حين تحين مواعيد عودتهم للحياةْ
وردة أم فمج
هذه الورقات التي تسمح الآنَ صدري
وقبرة تتنفس تحت الأصابعِ
أم برعم
نَهدها؟
قطرتان من الصحوِ
في قطرتين من الظلْ
في قطرة من ندي
هكذا يزرعون البيوتَ
فتكبر مثلَ الكرنبِ
أليس سوي الأخضرِ الطّحلبي
أو الأصفر المعدنيٌ؟
تعالوا نلونْ كما نشتهي هذه الأرضَ
أو نشعلِ النارَ فيها
كما يشعلون الصواريخَ في ليلةِ المولدِ النبوي
فتحملنا وتطير
وتسقطنا مَطرا قزحيا
وتزرعنا شجرا موقدا
ها هو الهرم
رَحِم
فتعالوا نولده ولَدَا!
قطرتان من الصحوِ
في قطرتين من الظل
في قطرة من ندي
تركب الريشة الريحَ في أثَر اللونِ
تلقطه شذرةَ شذرةَ
من مسامير أحذيةِ الجندِ
من رهَجِ الذكرياتِ السحيقة
تدخل في إثره بطنَ أرزْةِ لبنانَ
تشتفّ نطفته المستكنَّةَ نَسْغا فَنَسْغا
وتجمع أشلاءَه حزمة حزمة
ثم تدعوه أن يتنفسَ
لكن سدى!
إن لونا هنا ينقص اللونَ
كي يتنفسَ
لون كَحب اللقاحِ الذي لا يجري
كالأوز الذي غاب في زَبَدِ الأفقِ
قل إنه الطين
فلينظر الطين مِم خلقناه!
قل هو ماء
وما هو ماء، ولكن دمج
نخلة أنتِ
أم سلم
وأنا خنجر طالع
أم هلال تحدرَ بين الترائبِ
حتى اختفي في الذوائبِ
ثم بدا
جسدا
وارتدي جسدا!
قل هو اللون
اي البدءِ كانَ
وسوف يكون غدا
فاجرح السطحَ
إن غدا مفعم
ولسوفَ يسيل الدم
5 يناير 1977
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:21
بطالة
أنا، والثورة العربية
نبحث عن عملي في شوارع باريسَ
نبحث عنْ غرْفة
نتسكع في شمس ابريلَ
إن زمانا مضي
وزمانا يجيء!
قلت للثورةِ العربيةِ:
لابد أن ترجعي أنتِ
أما أنا
فأنا هالك
تحت هذا الرذاذِ الدفيءْ!
ابريل 1974
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:24
غرفة المرأة الوحيدة
ها هي الآنَ تطرد عنها المدينةَ
تغلق من خلفِها بابَها
وتضم الستارْ
ثم تشعل مصباحَها في النهارْ
حيوانات وحَدْتِها
تشرئِب لها في الزوايا
وفوق الجدارْ
ثَمٌ موقد غازي
ومَغسلة
ورفوف لوضع المؤونِة.
منفي صغير
وفي العمق ثَم سرير
ومنضدة
وشموع صغارْ
وحضور
له من خطى الوقتِ خبز وماء
ومن ظلها المتأرجح إعفاءة ودثارْ.
له نكهة الجسدِ المتعودِ وحدتَه
المتأملِ في ذاتِه.
كلّ شيءِ مرايا
لها وجهها
ولها ما لأعضائِها مِنْ حميمية وانكسارْ
ربما عَبَرَتْ في طفولتها بمكاني كهذا
بضوء
وآنية يسقط الظلّ منها على مفرشِ ناصعِ
ربما استحضرَت بالعقودِ المدلاةِ، والشمعداناتِ روحا
تعود بها لبساتينَ هاربةِ
لينابيعَ تجري علي أوجهِ
تترجرج تحت المياه النقيةِ
باسمة في القرارْ!
لم أكن أنا
كانت تكلم غيري
وتنظر في وجهه المستعار
24 إبريل 1978
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:26
طليطلة
كان الحنين مَدى عَذْبا، وكان لنا
من وجهها كوكب في الليل سيار
هذا دخان القرى، مازال يتبعنا
وملء أحلامنا زرع، وأجنحة
وصبْية
وطريق في الحقولِ إلي الموتى
وصبار
فملتقي الأرضِ بالأفقِ الذي اشتعلت
ألوانه شفقا
فالقاطرات التي غابت مولولةَ
في بؤرة الضوءِ،
فالحزن الذي هَطَلَتْ
علي أمطاره يوما
فصِرت إلى طيري،
وسافرت من حزنِ الصبيٌِ إلي
حجزنِ الرجالِ، فكجلّ العمرِ أسفار
يا صاحبِيٌ قِفا!
فالشمس قد رجعت،
ولم تَعِد بغَدِي
كجلّ المقاهي انتظار. ساءَ ما فَعلَتْ
بِنَا السنون التي تمضي،
ونحن علي موائدي في الزوايا،
ضارعين إلي شمسي تخلَّلتِ البللٌورَ واهنة
ولامَستْ جلدَنا المعتل، وانحسرت
عَنٌَا إلي جارنا،
فما نَعِمْنا، ولم يْنَعم بها الجار
يا صاحبيّ!
أخمرْ في كئوسِكما
أَمْ في كئوسكما هَمَّ وتَذكار!
في القلب جرحا، علمْنا لا دواء له
حتى نعودَ،
وما يبدو أن اقتربتْ
أَيَّام عودِتنا، والجرح نَغَّار
ها نحن نفرِط فوق النهرِ وردتَنا
وتلك أوراقها تنأى، ويأخذها
ورادَ أحلامِنا موج وتيار
يا صاحبيَّ!
أحقا أنَها وسِعَتْ
أعداءَها!
وجفَت أبناءَها الدار؟!
لو أنَها حوصرت حتى النهايِة،
حتى الموتِ، لو سحَبَتْ
علي مفاتِنِها غلالة من مياهِ النيلِ،
واضطَجعتْ في قاعِهِ!
لو سفَتْها الريح فانْطمَرَتْ
في الرمِل وانْدلعَتْ
من كل وردةِ جرحي وردة
فالمدى عشب ونوَّار
هذا دخان قراها يقتفي دَمَنا
ومِلء أحلامِنا زرع، وأجنحة
ومِلء أحلامِنا ذئب نَهَشّ له
نسقيه من كأسنا الذاوي،
ونسأله عنها،
وننهار!
باريس 1979
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:27
العودة من المنفي
لَمَّا تحررتِ المدينة عدت من
منفايَ،
أبحث في وجوه الناسِ عن
صحبي،
فلم أَعْثر على أحَدى،
وأدركني الكلالْ
فسألت عن أهلي، وعن دارِ لنا
فاستغرب الناسج السؤالْ
وسألت عن شَجري قديمي،
كان يكتنف الطريقَ إلي التلالْ
فاستغربَ الناسج السؤالْ
وبحثت عن نهرِ المدينةِ دون جدوى،
وانتبهت إلي رمادِ نازِلي
من جمرِة الشَّمس التي كانت تميل إلي الزوالْ
وفَزِعت حين رأيت أهلَ مدينتي
يتحدثون بلكنةِ عجماء متجهين نحوي،
فابتعدت،
وهم أمامي يتبعون تراجعي بخطي ثِقالْ
حتى خرجت من المدينة مثقلا بحقائبي
وانهرت مثل عمودِ ملحي
في الرمالْ
باريس نوفمبر 1979
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:29
أشجار الأسمنت
يقبل الوقت ويمضي
دون أن ينتقل الظلّ
وهذا شجر الأسمنت ينمو
كنبات الفِطْرِ،
يكسو قشرة الأرضِ،
فلا موضعَ للعشبِ،
ولا معنى لهذا المطر الدافقِ،
فوق الحجرِ المصمَتِ،
لا ينبت إلا صدأ
أو طحلبا دون جذورْ
تقبل الريح وتمضي
دون أن تَعْبرَ هذا الصمتَ،
أو تقوي علي حمل استغاثات القرى
والسفن الغرقَى،
وهذا شجر الأسمنت في كل مكانِ
يتمطَى ، ويخورْ
كالشياطينِ،
ويصطاد العصافيرَ التي تسقط كالأحجار،
في أجهزِة الرادارِ،
أو تشنق من أعناقها الزّغب،
علي أَسلاكِ آلات استراقِ السَمعِ،
في تلك السموات التي نعرف من شرفاتنا
أن العصافير تموت الآن فيها
حينما يرتطم السرب،
فتهتز قرون المعِدنِ الوهَاجِ في الضوءِ الأخيرْ
يقبل الليل ويمضي
دون أن نشبع من نومي،
وهذا شجر الأسمنت يلتفّ علينا.
والمواليد الذين اعتاد آباؤهم الصمتَ
يجيئون قصارا
ناقصي الخلقةِ،
لا خرج من أفواههم صوت
ولا تنمو خِصاهم.
والنفايات التي تلفظها الشهوة في كل صباحِ
سأَما، لا شَبَعَا
توضع أكداساَ علي الأبوابِ،
والآلات تلقي غيرها زبدا، وخَمْرا
في النهيرات التي تفضي إلي الباعِة،
والأرض تدورْ!
باريس 20/3/1979
***
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:32
خمرية
الأصدقاء الحميمون أقبلوا
في ثيابي جديدة
من بلادي بعيدة
وقبورِ
ساقوا سماءَ إلي البهو من دخانِ
وشدوا
نجومَها بخيوطي
ورفرفوا كالطيورِ
بعيدة كأسنا الأولي،
والوجوه عليها من النهارِ انطفاءات
والمدينة ضمَت أسواقَها
وتهاوت
تحت الزجاجِ المطيرِ
بعيدة هذه الكأس، والنهار بعيد
وعن يميني بساتيننا التي لا نراها
لما ركِبنا عليهم أسوارَها، ودخلنا
كانت هناك تلال
من خالص التٌبرِ،
كانت من النساء عذارى
كلؤلؤي منثورِ
ورجب ظبيي غريرِ
دعوته لسريرِي!
وكان ثم رفات
يسيل بين محطاتِ أدبَرتْ
ومحطات أقبلتْ
وجسورِ
ولات حين نشورِ!
مَن ينزل الغَيْمَ؟
لي فيه وردة
أزهرت وحدها هناكَ، وأبقت
جذورَها راعياتِ
في جسمي المهجورِ
بعيدة هذه الكأس، مثَل شمسي شتائية
تدور، وتفتر عن سني مقرورِ
ونحن بين المرايا
نعشو لها بمهيضِ،
من الجناحِ، كسيرِ
محاصرين بأشباحنا،
نبادلها الكرٌ والفرِارَ،
إلى أن مضي الزمان فقمنا
وانسلْ كجل لمثواه في الظلامِ الأخير
الأصدقاء الحميمون اقبلوا
في ثيابي جديدةِ
من بلاد بعيدة
وقبورِ
ساقوا سماءَ إلي البهو من دخانِ
وشدوا
نجومها بخيوط
ورفرفوا كالطيورِ
باريس 1984
اسبيرانزا
25/12/2007, 20:34
سفر
بيْننا، يَتَغَير لون الشجرْ
يتوغل طير المسافات في بحرِ هدأتِهِ
عالقا بالخيوطِ التي تتقاطع في خضرة السهلِ
أو تتوازي
ويتصل البحر بالليل، ينقص وجه القمرْ!
زمن من مطرْ
من رذاذي رتيبي
يسح بغير انقطاعي
أفي الليل، أم في النهارِ
تجري، كان هذا السفرْ؟!
مدن للعبورِ فحسب
وأرصفة للصدى المعدني
وفي المدنِ الهامشيةِ ما يوقظ الذكرياتِ
وبين القرى ومدافنها شبَهَ
ثَمٌ في العشبِ درب
ومتسع لمرور الرياحِ
وبين القرى ومدافنها ينفذ الضوء في ورق الشجراتِ
ولا يتجسد!
بينهما شهوة غير مرئية
لفحة من بياض الطلاءِ الذي يتردد بين البيوتِ
وبين المقابرِ
مرتجفا في مياه النهَرْ!
التفاصيل تفقد أسماءَها الآنَ
واللحظات التي سرقتني انتهت
والذي كان يفصل ما بيننا يختفي
مثلَ نافورة سكتَتْ
ثم نبقي علي الطرفْينِ يواجه كل أخاه ولا يتقدم
يا أيهذا الجمال ج الذي ظل محتفظا بالصبا
أيهذا الجمال الذي ظل محتميا بالحجرْ!
29/5/1977
اخوية نت
بدعم من : في بولتـين الحقوق محفوظة ©2000 - 2015, جيلسوفت إنتربـرايس المحدودة